الاستغفار في القرآن وأنواعه
قال ابن الجوزي : " الاستغفار استفعال من طلب الغفران والغفران تغطية الذنب بالعفو عنه والغفر الستر ويقال اصبغ ثوبك فهو أغفر للوسخ وغفر الخد والصوف ما علا فوق الثوب منهما كالزئبر سمي غفرا لأنه يستر الثوب ويقال لجنة الرأس مغفر لأنها تستر الرأس وقال أبو سليمان الخطابي وحكى بعض أهل اللغة أن المغفرة مأخوذة من الغفر وهو نبت يداوى به الجراح يقال إنه إذا ذر عليها دملها وأبرأها ذكر بعض المفسرين أن الاستغفار في القرآن على وجهين - أحدهما الاستغفار نفسه وهو طلب الغفران ومنه قوله تعالى في هود واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه وفي يوسف واستغفري لذنبك وفي نوح استغفروا ربكم إنه كان غفارا وهو كثير في القرآن والثاني الصلاة ومنه قوله تعالى في آل عمران والمستغفرين بالأسحار وفي الأنفال وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وفي الذاريات وبالأسحار هم يستغفرون وقد عد بعضهم الآية التي في يوسف من قسم الاستغفار وجعل التي في هود وفي نوح بمعنى التوحيد فيكون الباب على قوله من أقسام الثلاثة .
نزهة الأعين النواظر لابن الجوزي ص 89 - 91 .
قال ابن القيم :" الاستغفار فهو نوعان مفرد ومقرون بالتوبة فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وكقول صالح لقومه لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون النمل 46 وكقوله تعالى واستغفروا الله إن الله غفور رحيم البقرة 199وقوله وما كان الله يعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون الأنفال 33 والمقرون كقوله تعالى استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله هود 3 وقول هود لقومه استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا هود 52 وقول صالح لقومه هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب هود 61 وقول شعيب واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود هود 90 فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره لا كما ظنه بعض الناس أنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم وحقيقتها وقاية شر الذنب ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى والستر لازم لهذا المعنى وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرا ولا القبع ونحوه مع ستره فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون الأنفال 33 فإن الله لا يعذب مستغفراً وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق ولهذا لا يمنع العذاب فالاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضى والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان ذنب قد مضى فالاستغفار منه طلب وقاية شره وذنب يخاف وقوعه فالتوبة العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله يتناول النوعين رجوع إليه ليقيه شر ما مضى ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله وأيضا فإن المذنب بمنزلة من ركب طريقا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأمور أن يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته والتى توصله إلى مقصوده وفيها فلاحه فههنا أمران لا بد منهما مفارقة شيء والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع و الاستغفار بالمفارقة وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين ولهذا جاء والله أعلم الأمر بهما مرتبا بقوله استغفروا ربكم ثم توبوا إليه فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل وأيضا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة فالمغفرة أن يقيه شر الذنب والتوبة أن يحصل له بعد هذه الوقاية ما يحبه وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم .
مدارج السالكين لابن القيم 1/ 307 – 309 .

تفسير ابن كثير ج2/ص436- 438
وقوله وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله أي وآمركم بالإستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه وأن تستمروا على ذلك يمتعكم متاعا حسنا أي في الدنيا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله أي في الدار الآخرة قاله قتادة كقوله من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك وقال بن جرير حدثني المسيب بن شريك عن أبي بكر عن سعيد بن جبير عن بن مسعود رضي الله عنه في قوله ويؤت كل ذي فضل فضله قال من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول هلك من غلب آحاده على أعشاره .

مجموع فتاوى ابن تيمية ج14/ص415- 421
والمذنبون الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم فخفت موازينهم فاستحقوا النار من كان منهم من أهل لا إله إلا الله فإن النار تصيبه بذنوبه و يميته الله فى النار إماتة فتحرقه النار إلا موضع السجود ثم يخرجه الله من النار بالشفاعة و يدخله الجنة كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة فبين أن مدار الأمر كله على تحقيق كلمة الاخلاص و هي لا إله إلا الله لاعلى الشرك بالتعلق بالموتى و عبادتهم كما ظنه الجاهليون وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع والمقصود هنا أن النبى صلى الله عليه و سلم كان يجمع بين الحمد الذي هو رأس الشكر و بين التوحيد و الاستغفار إذا رفع رأسه من الركوع فيقول ربنا و لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء مابينهما وملء ماشئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لامانع لما أعطيت و لا معطى لما منعت و لا ينفع ذا الجد منك الجد ثم يقول اللهم طهرني بالثلج و البرد و الماء البارد اللهم طهرنى من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس كما رواه مسلم في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض و ملء ماشئت من شيء بعد أهل الثناء و المجد أحق ما قال العبد و كلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت و لا معطى لما منعت و لا ينفع ذا الجد منك الجد وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات و ملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد اللهم طهرنى بالثلج و البرد و الماء البارد اللهم طهرني من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ و قد روى مسلم فى صحيحه أيضا عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول اللهم لك الحمد و قال و ملء الأرض و ملء ما بينهما ولم يذكر فى بعض الروايات لأن السموات و الأرض قد يراد بهما العلو و السفل مطلقا فيدخل فى ذلك الهواء و غيره فانه عال بالنسبة إلى ما تحته و سافل بالنسبة إلى ما فوقه فقد يجعل من السماء كما يجعل السحاب سماء و السقف سماء و كذا قال فى القرآن هو الذي خلق السموات و الأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش و لم يقل و ما بينهما كما يقول إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض و ما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي و لا شفيع فتارة يذكر قوله و ما بينهما فيما خلقه فى ستة أيام و تارة لا يذكره و هو مراد فإن ذكره كان إيضاحا و بيانا و إن لم يذكره دخل في لفظ السموات و الأرض و لهذا كان النبى صلى الله عليه و سلم تارة يقول ملء السموات و ملء الأرض و لا يقول و ما بينهما و تارة يقول و ما بينهما و فيها كلها و ملء ما شئت من شيء بعد وفى رواية أبى سعيد أحق ما قال العبد إلى آخره و في رواية ابن أبي أوفى الدعاء بالطهارة من الذنوب ففي هذا الحمد رأس الشكر و الاستغفار فان ربنا غفور شكور فالحمد بازاء النعمة و الاستغفار بازاء الذنوب وذلك تصديق قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك ففي سيد الاستغفار أبوء لك بنعمتك علي و أبوء بذنبى وفى حديث أبي سعيد الحمد رأس الشكر و التوحيد كما جمع بينهما في أم القرآن فأولها تحميد و أوسطها توحيد و آخرها دعاء و كما في قوله هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين وفى حديث الموطأ أفضل ما قلت أنا و النبيون من قبلى لاإله إلا الله وحده لاشريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير من قالها كتب الله له الف حسنة و حط عنه ألف سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثلها أو زاد عليه و من قال فى يوم مائة مرة سبحان الله و بحمده حطت خطاياه و لو كانت مثل زبد البحر
وفضائل هذه الكلمات فى أحاديث كثيره و فيها التوحيد و التحميد فقوله لا إإله إلا الله وحده لا شريك له توحيد و قوله له الملك و له الحمد تحميد و فيها معان أخرى شريفة وقد جاء الجمع بين التوحيد و التحميد و الاستغفار فى مواضع مثل حديث كفارة المجلس سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك فيه التسبيح و التحميد والتوحيد و الاستغفار من قالها فى مجلس إن كان مجلس لغط كانت كفارة له و إن كان مجلس ذكر كانت كالطابع له و فى حديث أيضا إن هذا يقال عقب الوضوء ففى الحديث الصحيح فى مسلم و غيره من حديث عقبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء و في حديث آخر أنه يقول سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لاإله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك وقد روى عن طائفة من السلف فى الكلمات التى تلقاها آدم من ربه نحو هذه الكلمات روى ابن جرير عن مجاهد أنه قال اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي أنك خير الغافرين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إنى ظلمت نفسي فارحمني فأنت خير الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك انت التواب الرحيم فهذه الكلمات من جنس خاتمة الوضوء و خاتمة الوضوء فيها التسبيح و التحميد و التوحيد و الاستغفار فالتسبيح و التحميد و التوحيد لله فانه لا يأتي بالحسنات الا هو الاستغفار من ذنوب النفس التى منها تأتى السيئات وقد قرن الله فى كتابه بين التوحيد و الاستغفار فى غير موضع كقوله فاعلم انه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات و فى قوله أن لا تعبدوا الا الله اننى لكم منه نذير و بشير و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه و فى قوله قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله وا حد فاستقيموا إليه و استغفروه وفى حديث رواه ابن أبى عاصم و غيره يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب و أهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون لايستغفرون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولا إله إلا الله تقتضي الاخلاص و التوكل و الاخلاص يقتضي الشكر فهي أفضل الكلام و هي أعلى شعب الايمان كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الايمان بضع وستون أو بضع و سبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الايمان لاإله إلاالله هي قطب رحى الايمان و إليها يرجع الأمر كله والكتب المنزلة مجموعة في قوله تعالى إياك نعبد و إياك نستعين و هي معنى لا إله إلا الله ولا حول و لا قوة إلا بالله هي من معنى لا إله إلا الله والحمد لله فى معناها و سبحان الله و الله أكبر من معناها لكن فيها تفصيل بعد إجمال .
مجموع فتاوى ابن تيمية ج14/ص261 - 264
فصل فاذا تدبر العبد علم أن ما هوفيه من الحسنات من فضل الله فشكر الله فزاده الله من فضله عملا صالحا و نعما يفيضها عليه وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه بذنوبه استغفر و تاب فزال عنه سبب الشر فيكون العبد دائما شاكرا مستغفرا فلا يزال الخير يتضاعف له و الشر يندفع عنه كما كان النبى صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته الحمد لله فيشكر الله ثم يقول نستعينه و نستغفره نستعينه على الطاعة و نستغفره من المعصية ثم يقول و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا فيستعيذ به من الشر الذي في النفس و من عقوبة عمله فليس الشر إلا من نفسه و من عمل نفسه فيستعيذ الله من شر النفس أن يعمل بسبب سيئاته الخطايا ثم إذا عمل استعاذ بالله من سيئات عمله و من عقوبات عمله فاستعانه على الطاعة و أسبابها و استعاذ به من المعصية و عقابها فعلم العبد بأن ما أصابه من حسنة فمن الله و ما أصابه من سيئة فمن نفسه يوجب له هذا و هذا فهو سبحانه فرق بينهما هنا بعد أن جمع بينهما في قوله قل كل من عند الله فبين أن الحسنات و السيئات النعم و المصائب و الطاعات و المعاصي على قول من أدخلها فى من عند الله ثم بين الفرق الذي ينتفعون به و هو أن هذا الخير من نعمة الله فاشكروه يزدكم و هذا الشر من ذنوبكم فاستغفروه يدفعه عنكم قال الله تعالى و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون و قال تعالى الركتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير و بشير و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى و يؤت كل ذي فضل فضله والمذنب إذا استغفر ربه من ذنبه فقد تأسى بالسعداء من الأنبياء و المؤمنين كآدم و غيره و إذا أصر و احتج بالقدر فقد تأسى بالأشقياء كابليس و من اتبعه من الغاوين فكان من ذكره أن السيئة من نفس الانسان بذنوبه بعد أن ذكر أن الجميع من عند الله تنبيها على الاستغفار و التوبة و الاستعاذة بالله من شر نفسه و سيئات عمله و الدعاء بذلك فى الصباح و المساء و عند المنام كما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك أبا بكر الصديق أفضل الأمة حيث علمه أن يقول اللهم فاطر السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان و شركه و أن أقترف على نفسي سوءا و أو أجره إلى مسلم فيستغفر مما مضى و يستعيذ مما يستقبل فيكون من حزب السعداء وإذا علم أن الحسنة من الله الجزاء و العمل سأله أن يعينه على فعل الحسنات بقوله إياك نعبد و إياك نستعين و بقوله اهدنا الصراط المستقيم و قوله ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ونحو ذلك .


التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص98
فصل ومن اسرار هذه السورة أنه سبحانه جمع فيها لأوليائه بين جمال الظاهر والباطن فزين وجوههم بالنضرة وبواطنهم بالنظر إليه فلا أجمل لبواطنهم ولا أنعم ولا أحلى من النظر إليه ولا أجمل لظواهرهم من نضرة الوجه وهي إشراقه وتحسينه وبهجته وهذا كما قال في موضع آخر ولقاهم نضرة وسرورا ونظيره قوله يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا فهذا جمال الظاهر وزينته ثم قال ولباس التقوى ذلك خير فهذا جمال الباطن ونظيره قوله إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب فهذا جمال ظاهرها ثم قال وحفظا من كل شيطان مارد فهذا جمال باطنها ونظيره قوله عن امرأة العزيز بعد أن قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم فذكرها لهذا هو من تمام وصفها لمحاسنه وأنه في غاية المحاسن ظاهرا وباطنا وينظر إلى هذا المعنى ويناسبه قوله إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فقابل بين الجوع والعري لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر وقابل بين الظمأ وهو حر الباطن والضحى وهو حر الظاهر بالبروز للشمس وقريب من هذا قوله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى في ذكر الزاد الظاهر الحسي والزاد الباطن المعنوي فهذا زاد سفر الدنيا وهذا زاد سفر الآخرة ويلم به قول هود ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم فالأول القوة الظاهرة المنفصلة عنهم والثاني الباطنة المتصلة بهم ويشبهه قوله فما له من قوة ولا ناصر فنفى عنهم الدافعين الدافع من أنفسهم والدافع من خارج وهو الناصر.
جامع الرسائل ج1/ص219
فصل



قال الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية رحمه الله

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما

قال الله تعالى الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير سورة هود 1 3 وقال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون الآيات سورة الزمر 53 55 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم الآية سورة التحريم 8 وقال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون سورة النور 31 وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم سورة التوبة 117 118 وقال تعالى وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة البقرة 35 37 جامع الرسائل ج1/ص221
وقال تعالى في السورة الأخرى وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين سورة الأعراف 22 23

وقال تعالى وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى سورة طه 121 122

وقال تعالى عن نوح أنه قال لقومه استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا الآية سورة نوح 10 11

وقال عن نوح رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين سورة هود 47 وعن هود ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين سورة هود 52 وعن صالح فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب سورة هود 61 وكذلك قال شعيب واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود سورة هود 90 وقال إبراهيم عليه السلام ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب سورة إبراهيم 41 وقال والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين سورة الشعراء 82 وقال وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم جامع الرسائل ج1/ص222
سورة البقرة 128 وقال عن موسى عليه السلام فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 15 16 وقال موسى رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين سورة الأعراف 151 وقال موسى سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف 143

وقال تعالى لموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم سورة النمل 10 11 وقال موسى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية سورة الأعراف 155 157

وقال لخاتم الرسل فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات سورة محمد 19 وقال إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر سورة الفتح 1 2 جامع الرسائل ج1/ص223
وقال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين سورة البقرة 222

وقال حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير سورة غافر 1 3

وقال تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سورة الشورى 25 26

وقال تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم سورة التوبة 102 106

وفي صحيح مسلم عن أبي بردة عن الأغر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم جامع الرسائل ج1/ص224
مائة مرة وعن أبي بردة عن الأغر المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وقال إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة وقال إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وقال من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه وقال لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده جامع الرسائل ج1/ص225
فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح

وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن مسعود والبراء بن عازب والنعمان بن بشير وأبو هريرة وأنس بن مالك ففي الصحيحين عن ابن معسود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أفرح بتوبة أحدكم من رجل خرج بأرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه فأضلها فخرج في طلبها حتى إذا أدركه الموت ولم يجدها قال أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه فأتى مكانه فغلبته عينه فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وقال إن العبد إذا أذنب جامع الرسائل ج1/ص226
نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين 14

وعن ابن عباس في قوله إلا اللمم سورة النجم 32 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما




وعن ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة رواه أحمد والترمذي وقال حديث صحيح .
جامع الرسائل لابن تيمية ص227 - 235
فصل التوبة نوعان : واجبة ومستحبة فالواجبة هي التوبة من ترك مأمور أو فعل محظور وهذه واجبة على جميع المكلفين كما أمرهم الله بذلك في كتابه وعلى ألسنة رسله والمستحبة هي التوبة من ترك المستحبات وفعل المكروهات فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين إما الكافرين وإما الفاسقين قال الله تعالى وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم سورة الواقعة 7 12 وقال تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم سورة الواقعة 88 94 وقال تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله سورة فاطر 32 وقال تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا سورة الإنسان 3 6 وقال كلا إن كتاب الفجار لفي سجين إلى قوله كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون إلى قوله ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون سورة المطففين 7 28 قال ابن عباس تمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا والتوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها فأكثر الخلق يتركون كثيرا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب وأعمالها وأقوال البدن وأعماله وقد لا يعلمون أن ذلك مما أمروا به أو يعلمون الحق ولا يتبعونه فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع وإما مغضوبا عليهم بمعاندة الحق بعد معرفته وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يدعوه في كل صلاة بقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ولهذا نزه الله نبيه عن هذين فقال تعالى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى سورة النجم 1 4 فالضال الذي لا يعلم الحق بل يظن أنه على الحق وهو جاهل به كما عليه النصارى قال تعالى ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة 77 والغاوي الذي يتبع هواه وشهواته مع علمه بأن ذلك خلاف الحق كما عليه اليهود قال تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين سورة الأعراف 146 وقال تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث الآية سورة الأعراف 175 176 وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن فإن الغي والضلال يجمع جميع سيئات بني آدم فإن الإنسان كما قال تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا سورة الأحزاب 72 فبظلمه يكون غاويا وبجهله يكون ضالا وكثيرا ما يجمع بين الأمرين فيكون ضالا في شيء غاويا في شيء آخر إذ هو ظلوم جهول ويعاقب على كل من الذنبين بالآخر كما قال في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا سورة البقرة 10 وكما قال فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم سورة الصف 5 كما يثاب المؤمن على الحسنة بحسنة أخرى فإذا عمل بعلمه ورثه الله علم ما لم يعلم وإذ عمل بحسنة دعته إلى حسنة أخرى قال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم سورة محمد 17 وقال تعالى ويزيد الله الذين اهتدوا هدى سورة مريم 76 وقال والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا سورة العنكبوت 69 وقال ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما سورة النساء 66 68 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم سورة الحديد 28 29 وهو صلى الله عليه وسلم ذكر شهوات الغي في البطون والفروج كما في الصحيح أنه قال من تكفل لي بما بين لحييه وما بين رجليه تكفلت له بالجنة فإن هذا يعلم عامة الناس أنه من الذنوب لكن يفعلونه اتباعا لشهواتهم وأما مضلات الفتن فأن يفتن العبد فيضل عن سبيل الله وهو يحسب أنه مهتد كما قال ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون سورة الزخرف 36 37 وقال أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء سورة فاطر 8 وقال وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب سورة غافر 37 وقال قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا سورة الكهف 103 104 ولهذا تأول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فيمن يتعبد بغير شريعة الله التي بعث بها رسوله من المشركين وأهل الكتاب كالرهبان وفي أهل الأهواء من هذه الأمة كالخوارج الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة وذلك لأن هؤلاء خرجوا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين حتى كفروا من خالفهم مثل عثمان وعلي وسائر من تولاهما من المؤمنين واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وإذا اجتمع شهوات الغي ومضلات الفتن قوى البلاء وصار صاحبه مغضوبا عليه ضالا وهذا يكون كثيرا بسبب حب الرئاسة والعلو في الأرض كحال فرعون قال تعالى إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين سورة القصص 4 فوصفه بالعلو في الأرض والفساد وقال في آخر السورة تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين سورة القصص 83 ولهذا قال في حق فرعون وكذلك زين لفرعون سوء عمله سورة غافر 37 وذلك أن حب الرئاسة شهوة خفية كما قال شداد بن أوس رضي الله عنه يا بغايا العرب يا بغايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية قيل لأبي داود السجستاني ما الشهوة الخفية قال حب الرئاسة وحبك الشيء يعمى ويصم فيبقى حب ذلك يزين له ما يهواه مما فيه علو نفسه ويبغض إليه ضد ذلك حتى يجتمع فيه الإستكبار والإختيال والحسد الذي فيه بغض نعمة الله على عباده لا سيما من مناظره والكبر والحسد هما داءان أهلكا الأولين والآخرين وهما أعظم الذنوب التي بها عصى الله أولا فإن إبليس استكبر وحسد آدم وكذلك ابن آدم الذي قتل أخاه حسد أخاه ولهذا كان الكبر ينافي الإسلام كما أن الشرك نافي الإسلام فإن الإسلام هو الإستسلام وحده فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك به ومن لم يستسلم فهو مستكبر كحال فرعون وملإه ولذلك قال لهم موسى وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين سورة الدخان 19 وقال تعالى عن فرعون واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون سورة القصص 39 وقال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين سورة النمل 14 ومن أسلم وجهه لله حنيفا فهو المسلم الذي على ملة إبراهيم الذي قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين وهذا الإسلام هو دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم كما وصف الله به في كتابه نوحا وإبراهيم وموسى ويوسف وسليمان وغيرهم من النبيين مثل قول موسى لقومه إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84 وقال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا سورة المائدة 44 وقال نوح عليه السلام فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين سورة يونس 72 وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 101 وقالت بلقيس وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44 وليس الغي مختصا بشهوات البطون والفروج فقط بل هو في شهوات البطون والفروج وشهوات الرئاسة والكبر والعلو وغير ذلك فهو اتباع الهوى وإن لم يعتقد أنه هوى بخلاف الضال فإنه يحسب أنه يحسن صنعا ولهذا كان إبليس أول الغاوين كما قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين سورة الأعراف 16 17 وقال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين سورة الحجر 39 40 وقال تعالى ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون سورة القصص 62 63 وقد قال تعالى فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون سورة الشعراء 94 95 وإنما في الحديث ما يخاف على هذه الأمة من الغي وهو شهوات الغي في البطون والفروج فأما الغي الذي هو الإستكبار عن ابتاع الحق فذاك أصل الكفر فصاحبه ليس من هذه الأمة كإبليس وفرعون وغيرها وأما غي شهوات البطون والفروج فذاك يكون لأهل الإيمان ثم يتوبون كما قال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى سورة طه 121 122 وفي السنن والمسند من حديث ليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن عمرو عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن إبليس قال لربه عز وجل بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بني آدم ما دامت الأرواح فيهم فقال له ربه عز وجل فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني .