أنواع المد:
إذا حدث وأن وقع مركز الأرض والقمر والشمس في خط مستقيم واحد فإن منسوب المياه يرتفع إلى أعلى مستوى , وحسب حسابات النظرية فإن أقصى ارتفاع للماء وقت المد يساوى 51.6 سم , وسواء كان القمر والشمس على جانب واحد بالنسبة للأرض أو كانا على جانبين مختلفين فإن ارتفاع الماء يصل إلى أعلى منسوب , والسبب في ذلك كما أسلفنا .. أن النقاط المتقابلة على سطح الأرض والواقعة على الخط الواصل بين المركزين تتعرضان إلى قوتين متساويتين في المقدار ومختلفتين في الاتجاه , ويعرف المد في هذه الحالة باسم المد الربيعى Spring Tide ويصل منسوب المياه إلى أعلى ارتفاعاته , وحيث يدور القمر حول الأرض مرة في كل شهر قمري فإن مراكز الأجسام الثلاثة (الأرض ، الشمس ، القمر) تقع في خط مستقيم واحد مرتين في كل شهر وتبعا لذلك يصل منسوب المياه إلى أعلى ارتفاعاته مرتين في كل شهر قمري , أما حين لا تقع مراكز الأجسام الثلاثة على خط مستقيم فإن ارتفاع منسوب المياه يقل عن مستوى منسوب المد الربيعي , وأقل منسوب ترتفع إليه المياه يحصل حين يكون الخط الواصل بين مركزي الأرض والقمر متعامدا مع الخط الواصل بين مركز الأرض والشمس , ويكون ارتفاع منسوب المياه حسب نظرية المد التوازني 25.9 سم ويعرف المد في هذه الحالة باسم المد المحاقي ويكون في العادة في نهاية الأسبوعين الأول والثالث من الشهر القمري بعكس المد الربيعي الذي يحصل في بداية الشهر ومنتصفه.
وبالإضافة إلى المد الربيعي والمد المحاقي هناك ظاهرة المد الدافق Tidal Bore وهي عبارة عن كتلة من ماء المد تدخل فم الأنهار عبر موجة أو موجتين أو ثلاث موجات على الأكثر , تصحبها جبهة عالية عظيمة الانحدار , ولا يمكن أن يتكون المد الدافق إلا في الأنهار التي تحمى أفواهها مكسرات الموج الرملية أو على طول الشواطئ التي يكتنفها مدى كبير للمد والجزر فتعمل العوائق الرملية على بقاء كتلة الماء متخلفة حتى تراكمها بالقدر الكافي لاندفاعها من فوق تلك العوائق واكتساحها النهر , وقد يتم ذلك على طول مئات الكيلومترات , ولنهر الأمازون مثلا مد دافق ينطلق عبر عدة مئات من الكيلومترات إلى الداخل , كما قد يتجاوز ارتفاعه 5 أمتار في بعض الأحيان. (19)
ثالثا المياه الجوفية:
قال تعالى: "وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون".
قال تعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض".
تتجلى نعمة الله على عباده في كمية الماء الوفيرة المختزنة تحت سطح الأرض والتي تبلغ ستين ضعفا من الماء العذب في الأنهار والبحيرات ، وقد تكونت خزائن الماء الجوفي منذ مئات الملايين من السنين , وتعد خزائن الماء الجوفي آية من آيات الله من حيث وفرة الماء فيها وعذوبته أو القدرة التخزينية الهائلة لها نظرا لبطء حركة الماء الجوفي أو لانتشار خزائنه في تكوينات أرضية مختلفة وهي ما تعرف بخزائن أو مكامن الماء الجوفي .. إن جزءا من الماء الذي ينزل من السماء يتحرك لأسفل لكن يسكن تحت الثرى فهو يمر أولا بحزام التربة فيتشبع بالماء ثم يترك هذا الحزام مخترقا الصخر المشقق المسمى بنطاق التهوية وهو نطاق غير مشبع بالماء , ثم يتحرك بعد ذلك ليسكن نطاق التشبع الذي يكوَن خزائن الماء الجوفي. (20)
الماء في السنة النبوية الشريفة
التعامل مع الماء في السنة النبوية:
إن أكثر أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) المبسوطة في كتب الصحاح والمصنفات الفقهية تتناول الماء من زاوية أكثر أهمية وواقعية ، إذ تتصل بالسلوك الإنساني وهي زاوية آداب التعامل والاستعمال , وتتحدث السنة النبوية عن الماء في هذا المجال حديثا فائق الرقي والتحضر - يعكس تقديرا وفهما عظيما لدور هذا الكائن الحيوي وعظيم ضرورته لسائر الكائنات والمخلوقات , وحين نتناول بعض هذه الجوانب الحضارية في سنة رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) – تعاملا مع الماء وإدراكا لحيويته نقول:
أولا: جعلت السنة النبوية وعلي هدى من القرآن العظيم – الماء الطهور أداة الطهارة الأولى والرئيسية في التشريع الإسلامي , وأعلت من شأن الطهارة وحثت عليها إلى الدرجة التي ترقى إلى معادلة نصف الإيمان , قال صلى الله عليه و سلم: "الطهور شطر الإيمان".
فالماء إذن يصبح متداخلا بقوة وبصورة أساسية في مسألة الإيمان وهي في الإسلام مسألة عقيدة.
ثانيا: ربطت السنة النبوية بين التعامل مع الماء كقضية قيم سلوكية إنسانية وما تجسده هذه القيم من (إيجاب) أو (سلب) (نافعة أو ضارة) بمردوداتها الإيمانية من ثواب أو عقاب في الدار الآخرة.
ثالثا: أكدت السنة النبوية على الحق الإنساني المبدئي في الماء , وصرحت بهذا الحق العام والمشاع وشددت على تحريم احتكاره أو إفساده أو إهداره , ونستطيع أن ندرك ما في هذا الجانب الأخير من أهمية , إذا علمنا أن ثمة العديد من المحاولات والخطط ذات الآليات الفاعلة وخاصة لدى الدول الكبرى للهيمنة على منابع الماء والاتجاه بقوة نحو عولمته ، تلك بعض الجوانب الحضارية البارزة التي نلاحظها حين نستعرض ما ورد في سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) عن التعامل مع قضية الماء قوام الحياة وسر الأحياء. (21)
طهارة الماء الذاتية بين السنة والعلم:
ورد عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) في دعائه بين التكبير والقراءة عند الصلاة: "للهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد" – رواه الجماعة إلا الترمذي , وحين سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الوضوء بماء البحر قال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته – رواه الخمسة.
والحديثان الشريفان يتفقان على إثبات الطهارة الذاتية لكل من: ماء السماء وثلجها وبردها وكذلك ماء البحر , ويشير الحديث الأول بصفة خاصة إلى التفرقة بين الثلج والماء والبرد والمعروف أن القرآن الكريم تحدث عن طهارة ماء السماء في ذاته في قوله تعالى: "وأنزلنا من السماء ماء طهورا" ووصفه القرآن أيضا بأنه مبارك: "وأنزلنا من السماء ماء مباركا ويأتي العلم بعد ذلك بمئات السنين ليحلل قطرة الماء النازلة من السماء ويحتفي بها احتفاء عظيما ليدرك بعض معاني القرآن السامية والأحاديث النبوية الحكيمة في وصف ماء السماء بأنه طهور ومبارك ومطهر.
ويأتي أيضا العلماء يتحدثون عن الدورة المائية ودورة قاع المحيطات وحركة الألواح والقشرة المحيطة وغيرها من الظواهر المتعلقة بالماء ويدركون حكمة القرآن العظيم والسنة النبوية وإعجازهما حين يقرران أن طهارة ماء السماء والبحر في ذاتهما.
أما عن دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم): "للهم اغسلني بالماء والثلج والبرد" – ففيه إشارة دقيقة وواضحة تفرق بين كل منهم وهي من الأمور التي لم تتكشف للبشرية إلا بعد دراسة السحب.
فالسحب نوعان , البساطية والركامية , ويشير القرآن الكريم إلى السحب البساطية بقوله تعالى: "الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الوتق يخرج من خلاله".
وأيضا في قوله تعالى: "ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما".
وتتكون السحب الركامية من ثلاث طبقات:
1- الطبقة العليا وتتكون من بللورات الثلج والبرد.
2- الوسطى من خليط من نقط الماء فوق البرد وبللورات الثلج.
3- السفلى وتتكون من نقط الماء النامية.
والبرد قطع يتراوح حجمها من حبات في حجم بيض الحمام إلى قبضة اليد ، وأما الثلج فيشبه القطن المندوف. (22)
الماء والطهارة في الفقه الإسلامي:
المعروف أن الماء في الفقه الإسلامي ثلاثة أقسام:
أولا: الماء الطهور ، وهو الطاهر في ذاته المطهر لغيره ، كماء المطر والثلج والبرد وماء البحر.
ثانيا: الماء الطاهر ، وهو الطاهر في ذاته غير المطهر لغيره ، كسوائل العصيرات والشاي والقهوة والحليب.
ثالثا: الماء النجس ، وهو ما اختلط بنجاسة ، كالبول أو الغائط ولا تحصل به طهارة بل يحصل نجس وقذر وأذى.
والطهارة الحقيقية في الشريعة الإسلامية تكون بالماء الطهور وهناك الطهارة الحكمية التي تكون بالتيمم إذا لم يتوفر الماء , أو كان نادرا لا يزيد عن حاجة الشرب , ويشرع الإسلام الوضوء لكل صلاة والغسل بعد الجنابة وحال إسلام المرء ، بالإضافة إلى غسل الجمعة والعيدين وغيرهما من العبادات وجميعها تكون بالماء الطهور وفي حالة انعدامه أو ندرته يجزئ التيمم بالتراب. (23)
كفالة (الأمن المائي) في السنة النبوية:
جاء في فقه السنة للسيد سابق: ماء الأنهار والبحار وماء العيون والأمطار هذه الأنواع كلها ملك للناس جميعا ليس أحد أولى بها من أحد وهي لا تباع ولا تشترى ما دامت في موضعها.
يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه أبو داود: "المسلمون شركاء في ثلاث الماء ، والكلأ والنار." ، وروى إياس المزني أنه رأى ناسا يبيعون الماء فقال: "لا تبيعوا الماء فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى أن يباع الماء."
أما إذا أحرز الإنسان الماء وحازه أصبح ملكا له وحينئذ يجوز بيعه ويكون في هذه الحال مثل الحطب المباح أخذه الذي يحل إحرازه وفي الحديث يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "لئن يتحطب أحدكم حزمة من حطب فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" وكذا إذا حفر بئرا في ملكه أوضع آلة لاستخراجه فإنه يجوز بيعه في هذه الحالات , فقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قدم المدينة وفيها بئر تسمى بئر رومة يملكها يهودي ويبيع الماء منها للناس فأقره على بيعه وأقر المسلمين على شرائهم منه , واستمر الأمر على هذا حتى اشتراها عثمان رضي الله عنه ووقفها على المسلمين. (24)
ونظرا لارتفاع تكاليف ونفقات نقل المياه وإنشاء المحطات الضخمة لتنقيتها أو تحلية ماء البحر ، فقد ذهبت معظم دول وحكومات العالم إلى فرض رسوم استهلاك على مواطنيها ، تكون أحيانا مكلفة في الدول الفقيرة وتصل إلى أدنى مستوياتها في الدول الغنية ، ويمكن أن تصل إلى حد المجانية والحق الطبيعي المشاع وذلك هو الأصل في الشرع الإسلامي ويتفق مع هدى الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذا الشأن الإنساني الحيوي.
وكفالة الأمن المائي العام مسئولية تقع على عاتق الدول والحكومات وواجب من واجباتها الأساسية.
إستراتيجية الماء في الحروب:
يحرص القادة العسكريون وخبراء الإستراتيجية الحربية على تأمين قواتهم العسكرية والأخذ بزمام المبادأة في تحقيق المزايا الميدانية لهذه القوات , ومما يدخل في هذا الإطار تأمين خطوط الاتصال والإمداد بأنواعها. ونجد في السنة أن أول صدام عسكري للمسلمين ضد قوى الشرك والوثنية في معركة بدر الكبرى – وجد المسلمون أنفسهم قد فرض عليهم القتال فتوجه الرسول القائد (صلى الله عليه وسلم) إلى أصحابه لأخذ الرأي والمشورة , وجاء الحباب من المنذر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: "أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه , أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال بل الرأي والحرب والمكيدة قال: يا رسول الله .. فإن هذا ليس بمنزل , أمض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فنعسكر فيه ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء , ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقد أشرت بالرأي , ثم أمر بإنفاذه , فلم يجئ نصف الليل حتى تحولوا كما رأى الحباب وامتلكوا مواقع الماء. (25)
ولا يخفي في ما في هذا الهدى النبوي العسكري من ضمان المزية الإستراتيجية وتعويض النقص الشديد الذي كان يعانيه المسلمون في العدد والعتاد في هذه المعركة المصيرية الفاصلة والتي وصفها القرآن بيوم الفرقان "يوم التقى الجمعان".
أنسنة الماء والحفاظ على مظاهر الحياة أثناء الغزو:
وإذا كانت الصدامات العسكرية بين الجيوش تتيح التمويه والخداع والمبادرة بكسب المواقع الاستراتيجية وإحراز المزايا الميدانية ، فقد حرصت السنة النبوية في نفس الوقت على فرض المبادئ والقيم الإنسانية خلال الغزو الوقائي وأثناء التعامل مع المدنيين وشددت التوجيهات النبوية الكريمة في هذا المجال ودعت إلى عدم المساس بالحياة الإنسانية والنباتية والحيوانية ومصادرها , ولا نعجب إذ وصفت الحروب الإسلامية من قبل كثير من المؤرخين في الشرق والغرب بأنها الحروب الرحيمة ، تعبيرا عن التزام الجيوش الإسلامية وقادتها بهدى القرآن الكريم وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفلسفة الحروب وأهدافها في الإسلام – وهي في الأساس حروب دفاعية ومن ثم ، فليس من غاياتها على الإطلاق القتل أو التخريب أو التنكيل العشوائي.
وقد أفاض علماء المسلمين ومؤرخوهم في بسط هذا الهدى الإسلامي الكريم في باب الجهاد والحرب وأوردوا في ذلك أمثلة ومواقف كثيرة من سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) ووصاياه وأيضا ما أثر عن السلف الصالح من توجيهات تتمثل رحمة الإسلام وتعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أرسل رحمة للعالمين "وإذا كان الإسلام أباح الحرب كضرورة من الضرورات , فإنه يجعلها مقدرة بقدرها , فلا يقاتل إلا المقاتلين في المعركة , أما من تجنب الحرب فلا يحل قتله أو التعرض له بحال , وحرم الإسلام كذلك قتل النساء والأطفال والمرضى والشيوخ والرهبان والعباد والأجراء في الأراضي الزراعية وغيرها , وحرم المثلة , بل حرم قتل الحيوان وإفساد الزروع , والمياه وتلويث الآبار وهدم البيوت , وحرم الإجهاز على الجريح , وتتبع الفار , وذلك أن الحرب كعملية جراحية لا يجب أن تتجاوز المرض بمكان.
وفي ذلك روى سليمان بن بريه عن أبيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أمرً أميرا على جيش أو سرية ، أوصاه في خاصته بتقوى الله , وبمن معه من المسلمين خيرا , ثم قال: أغزوا باسم الله , في سبيل قاتلوا من كفر بالله ، أغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا , ولا تقتلوا وليدا".
وحدث نافع عن عبد الله بن عمر: "أن امرأة وجدت في بعض مغازي الرسول (صلى الله عليه وسلم) مقتولة ، فأنكر ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان". – رواه مسلم . وروى رباح بن ربيع: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مر على امرأة مقتولة في بعض الغزوات , ولعلها هي المرأة في الحديث المذكور قبل هذا – فوقف عليها , ثم قال: "ما كانت هذه لتقاتل" ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لأحدهم: ألحق بخالد بن الوليد , فلا يقتلن أجيرا ولا امرأة".
وعن عبد الله بن زيد قال: نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن المثلة. – رواه البخارى.
وقال عمران بن حصين كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة وفي وصية أبى بكر (رضي الله عنه) لأسامة حين بعثه إلى الشام: "لا تخونوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرا مثمرا ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة وسوف تمرون بقوم قد فرغوا أنفسهم في الصوامع (عباد ورهبان) فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
وكذلك فعل سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) , فقد جاء في كتاب له: "لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين" وكان من وصاياه لأمراء الجنود: "لا تقتلوا هرما , ولا امرأة , ولا وليدا واتقوا قتلهم إذا التقى الزحفان , وعند شن الغارات." (26)
إن إنسانية الإسلام ورحمته الواضحة في الحروب , وتلك المبادئ النبوية السامية المتبعة أثناء الغزو تؤكد على ما يلي:
أولا: تعظيم الإسلام للحياة وتقديسها لأن صلاح الدين من صلاح الحياة ولأن الدنيا هي مزرعة الآخرة.
ثانيا: حرص الإسلام البالغ ورحمته السابغة على الأحياء والمدنيين والأبرياء وخاصة النساء والأطفال والشيوخ.
ثالثا: صيانة موارد ومظاهر الحياة من زروع ومياه وأنعام بكل أنواعها وتأمينها تحت كل الظروف والأحوال ، خاصة في ظروف الحرب حتى لو كانت تقع في أرض العدو.
هذه المبادئ والقيم من شأنها أن تدعم السلام وترسخ الأمن اللازمين للحياة وتقلل من النزاعات والحروب وتجعلها في أضيق نطاق ممكن وهو الدفاع والحماية عن الأوطان والأعراض والأديان وبالتالي فمبادئ الإسلام وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذا المجال إنما هي إثراء للحياة وصيانة للموارد وحفاظ على البيئة ومقوماتها وهو ما نستعرضه لاحقا بالتفصيل.
النهى عن الإسراف والحث على ترشيد استهلاك الماء:
القصد والاعتدال في الأمور كلها من أخص خصائص الأمة الإسلامية ومن أهم مقاصد شريعتها وبالتالي يصبح النهي عن الإفراط والتفريط مبدأ إسلاميا هاما وخاصة فيما يتعلق بأنشطة الحياة اليومية وسلوكيات الاستهلاك في الأطعمة والأشربة لما يترتب عليها من الحفاظ على الموارد من جهة وصيانة البيئة المحيطة من جهة أخرى. قال تعالى: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين".
ولقد تعددت النماذج التربوية في السنة النبوية الشريفة التي تهدف إلى الحفاظ على الموارد البيئية وخاصة الماء والدعوة المتكررة من خلال القدوة والتوجيه النبوي للحفاظ على الماء وترشيد استهلاكه ، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد". – متفق عليه. (27)
وعن عبد الله بن اليزيد أن رجلا قال لابن عباس رضي الله عنهما: "كم يكفيني عن الوضوء ؟ قال: مد. قال كم يكفيني للغسل ؟ قال صاع , فقال الرجل لا يكفيني , فقال: لا أم لك قد كفي من هو خير منك: رسول الله (صلى الله عليه وسلم)." – رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير بسند رجال ثقات , وروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد ؟ فقال: وهل في الماء من سرف ؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار". – رواه أحمد ابن ماجة وفي سنده ضعف.
والإسراف يتحقق باستعمال الماء لغير فائدة شرعية ، كأن يزيد في الغسل على ثلاث ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: جاء أعرابي للنبي (صلى الله عليه وسلم) يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا قال: هذا الوضوء ، من زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم". – رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة بأسانيد صحيحة.
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "أنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". – رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
وقال البخاري: كره أهل العلم في ماء الوضوء أن يتجاوز فعل النبي (صلى الله عليه وسلم). (28)
وربما يكون الإنسان في عصوره الحديثة أكثر احتياجا لهذا الهدي النبوي الكريم الذي ينهى عن الإسراف في استخدام الماء والنزوع إلى تعميم سلوكيات التربية الرشيدة وتعميق هذه الناحية التربوية لدى الأجيال نظرا لما تتسم به حياتنا العصرية من إسراف شديد واستهلاك كميات ذات أرقام فلكية من الماء النظيف وإهدارها إهدارا , وتتضح هذه الظاهرة بصورة أكثر في الدول الصناعية والمتقدمة نظرا لاعتماد النشاط الصناعي اعتمادا كبيرا على الماء ويكفي أن نعلم أن إنتاج طن واحد من الصفيح يلزمه 150.000 لترا من الماء , ويلزم 400.000 لترا من الماء لصنع سيارة واحدة و750.000 لترا من الماء لإنتاج طن من ورق الصحف و 13.000 لترا من الماء لصنع لوحة من السيليسيوم ذات ست بوصات تدخل في تركيب كل جهاز إلكتروني مثل جهاز التلفزيون وفرن المطبخ بالموجات (الميكرويف) , زد على ذلك أن مصنعا متوسطا لصنع الرقائق أو اللوحات الإلكترونية يستعمل كمية من الماء كفيلة بملء 24 بركة سباحة يوميا. (29)
وربما يهمنا أن نعلم أيضا أن استهلاك الفرد في الدول المتقدمة من الماء يصل حوالي 260 لترا يوميا , حيث يلزم استخدام 11 لترا لطرد قاذورات المرحاض في كل مرة , كما يلزمه 105 لترا لغسيل الأطباق و 115 لترا لتشغيل غسالة أوتوماتيكية.
الحرص على سلامة المياه من التلوث وتنمية الذوق الجمالي:
لقد حرصت الشريعة الإسلامية على أن تجعل من بين مقاصدها الحفاظ على سلامة البيئة من كل ما يلوثها , واتخذ هذا الحرص أساليب تربوية ، تغرس في قلب المسلم العناية ببيئته , كما تعددت مجالات البيئة التي تتناولها الشريعة الإسلامية ووجهت العناية بها , وقد سن الإسلام آدابا تجسد هدفه في الحرص على سلامة البيئة ، من ذلك حثه على الارتياد لموضع النجاسة فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: إني كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم فقال: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا" وذلك حتى لا تنتشر النجاسة بين الناس وتلوث بيئتهم , وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "اتقوا اللاعنين. قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله , قال: الذي يختلي في طريق الناس أو في ظلهم" وقوله (اللاعنين). يريد الأمرين الجالبين اللعن , وذلك أن فعلهما لعن وشتم فما كان سببا لذلك أضيف الفعل إليهما فكأنهما اللاعنان.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "اتقوا الملاعن الثلاث ، البراز في الموارد , وقارعة الطريق والظل" والملاعن موضع اللعن والمراد بالظل – كما قال الخطابي – هو الظل الذي اتخذه الناس مقيلا ومنزلا ينزلونه.
وعن حذيفة بن السيد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "من أذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" لا يقتصر مفهوم الأذى على ما يؤذى الناس فقط بل أن الإسلام حرص على أن تكون التربية البيئية من مكونات الشخصية المسلمة , وأن تستهدف هذه التربية الفرد كما تستهدف الجماعة , وجعلها شاملة لكل الموارد البيئية , فقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يبال بأبواب المساجد , ونهى عن البول في الماء الراكد وفي رواية أخرى: "لا يبول أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه".
فهذه النواهي تؤكد الدور التربوي والتوجيهي الذي كان يقوم به النبي (صلى الله عليه وسلم) لبيان طرق التعامل مع الموارد البيئية وخاصة مصادر المياه , فهي إذن تربية للفرد حتى يكون معتادا على التخلق بأخلاق الإسلام ونظريته النابعة من القيم الإسلامية التي تعتبر الموارد البيئية جزءا من التوازن الكوني الذي ينبغي أن يحرص المسلم على استمراريته ، اتقاء لشرور الأمراض والأوبئة ومنعا للأذى. ومن هنا اعتبر النبي (صلى الله عليه وسلم) إماطة الأذى عن الطريق صدقة ففي الحديث "وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق صدقة لك" وهي مسائل يقاس عليها كل أذى يضر بالناس , ولذلك نص الفقهاء على عدم جواز إخراج الميازيب في الطريق العام لضرره بالطريق وأهلها. (30)
وفي إطار هذا الدور التربوي والتوجيهي للسنة النبوية تعاملا مع الماء وضعت الشريعة الإسلامية آدابا للشرب وهي آداب تتصل بالوقاية والصحة الفردية والعامة من جهة وبالتهذيب وقواعد السلوك الصحيح من جهة أخرى وأبرزها نهي الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن تجرع الماء أو تناوله على مرة واحدة وتوصيته بالتنفس ثلاثا بين مرات الارتشاف وحظر التنفس في إناء الشرب أو الشرب من فم القرب وقس على ذلك فم جالون المياه الذي يستقي منه أناس متعددون.
هكذا تتعامل السنة النبوية مع الماء: تقديرا وصيانة وتطهيرا ونعمة كمصدر قوة وعافية ولازمة من لوازم الحياة .. هكذا تتعامل السنة النبوية مع الماء كثروة غالية يجب أن تصان من الإهدار وأبعد ما تكون عن السرف والتبذير وهكذا يرتبط استخدام الماء والتمتع بنعمته بآداب السلوك المتحضر وقواعد الآداء المهذب .. وهكذا يبدوا الفهم العميق والتقدير غير المسبوق وفي أروع صورة لقوله جل وعلا: "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
هوامش ومصادر البحث:
1- المعجم الوجيز - مجمع اللغة العربية القاهرة - طبعة خاصة بوزارة التربية و التعليم - القاهرة -1420-1999م ص 595 .
2- انظر : مختار الصحاح لأبي بكر الرازي ص614 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت لبنان 1406هـ -1986م
3- انظر : الموسوعة العربية الميسرة - دار الشعب - 1965 - القاهرة و مجلة " المعرفة " العدد (62) - جمادى الأولى 1421هـ - أغسطس 2000م عن وزارة المعارف السعودية : ص 59 : 60.
4- راجع : المعجم الفهرس لألفاظ القرآن الكريم - محمد فؤاد عبد الباقي - دار الحديث الطبعة الأولى - القاهرة 1417هـ - 1996م ص 779
5- يراجع في ذلك: من علماء التفسير:
- مختصر تفسير ابن كثير - دار المعرفة - بيروت - لبنان الطبعة الثالثة 1407هـ -1987 م
- والمصحف المفسر - لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري - دار الغد العربي - القاهرة 1993م
- التفسير الوسيط للقرآن الكريم - لجنة من علماء الأزهر بإشراف مجمع البحوث الإسلامية الطبعة الأولى 1404هـ -1984 م - القاهرة - الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية.
ويراجع من علماء الحياة
- د. جاكوب برونوفسكى "ارتقاء الإنسان" ترجمة د. موفق شخاخير وسلسلة عالم المعرفة - الكويت - العدد 19
- د. عبد المحسن صالح "التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان" سلسلة عالم المعرفة - الكويت العدد 48
- د. بيتر فارب "بنو الإنسان" ترجمة زهير الكرمي - سلسلة عالم المعرفة عدد 67 الكويت
- د. سعيد محمد الحفار "البيولوجيا ومصير الإنسان" سلسلة عالم المعرفة - الكويت - عدد 83
6- البداية والنهاية لابن كثير المجلد الأول - دار الغد العربي - القاهرة 1411هـ - 1990 م بتحقيق محمد عبد العزيز النجار الطبعة الثانية : ص14
7- "موسوعة الإشارات العلمية في القرآن الكريم والسنة النبوية " د. عبد الباسط الجمل و د. داليا صديق الجمل - مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب 2000م - ص 68 - 69 .
8- "الأرض بين الآيات القرآنية والعلم الحديث "د. حسنى حمدان الدسوقى - القسم الثانى - وزارة الأوقاف - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - سلسلة قضايا إسلامية - القاهرة 2002م - ص 71 -72.
9- "قصة الخلق من العرش إلى الفرش" - عيد وردانى - الناشرون المتحدون العصرية للنشر والمركز الدولى للنشر - القاهرة - 2000م ص 555 - 556 .
10- المصدر السابق ص 557
11- "الأرض بين الآيات القرآنية والعلم الحديث" القسم الثانى - مصدر سابق - ص 75-76.
12- المصدر السابق ص 84-86
13- "قصة الخلق من العرش إلى الفرش" - مصدر سابق : ص118
14- "الأرض بين الآيات القرآنية والعلم الحديث" ص87
15- المصدر السابق ص 97-98
16- المصدر السابق ص 80
17-"تكنولوجيا الطاقة البديلة" د. سعود يوسف عياش - عالم المعرفة - العدد 38 - الكويت - ربيع الثانى 1401هـ فبراير 1981م : ص 94 - 97
18- "الأرض بين الآيات القرآنية والعلم الحديث"مصدر سابق ص89
19- المصدر السابق ص 91
20- المصدر السابق ص 92
21- راجع في هذه القضية أخبار الأدب – دار أخبار اليوم - العدد 445- " ذاكرة الماء المهددة بالزوال " دراسة الباحث التونسى محمد العربى بوقرة – القاهرة - 20 يناير 2000م
22- "الأرض بين الآيات القرآنية والعلم الحديث" - مصدر سابق ص69
23- راجع "فقه السنة " السيد سابق - المجلد الأول - دار الريان للتراث - طبعة أولى القاهرة 1408 هـ -1987م " باب الطهارة.
24- فقه السنة - السيد سابق -المجلد الثانى : ص 253
25- فقه السيرة - محمد الغزالى - دار الريان للتراث - الطبعة الأولى - 1407هـ -1987م - القاهرة ص 241
26- فقه السنة - السيد سابق -المجلد الثالث : ص 164
27- الصاع : أربعة أمداد , والمد 128 درهما وأربعة أسباع الدرهم ، حوالي 404 سم3.
28- فقه السنة - السيد سابق -المجلد الأول : ص 47-48
29- "ذاكرة الماء المهددة بالزوال" - دراسة- محمد العربى بوقرة - أخبار الأدب ص15 العدد 445 مصدر سابق
30- " مقاصد التربية في الإسلام " مقال د. عبد الله معصر- مجلة " منار الإسلام " العدد الأول - السنة السابعة و العشرين - أبو ظبى - الإمارات - محرم 1422هـ - ابريل 2001م ص 85