عِنْدَمَاْ يَحْزَنُ الشُّعَرَاءُ...

كل واحد منّا ودّع في هذه الدنيا عزيزاً , أو نأى عن وطنه ففارق أماً وأباً وإخوة وأحبة ,أو تراكمت فوق صدره جبالٌ من المآسي وبحارٌ من الآهات والحسرات...فتجلب بجلباب الحزن الموَشَّى بلآلئ الدموع , وتدثَّر بالألم , وسال عقيق مآقيه فانتثر على وجنتيه....
ومَن منا لم يحزن ؟ , والحياة مليئةٌ بما يُشجي النفوس , ويذري الدموع , ويُلظّي الفؤاد , ...
ومن منا لم يحزن ؟ , والحزنُ أحد الأشياء الثمانية التي تجري على جميع الناس كما قال الشاعر :
ثمانيةٌ تجري على الناس كلِّهم
ولا بد للإنسان يلقى الثمانيه
سرور وحزن واجتماع وفرقة
وعسر ويسر ثم سقم وعافية
وإذا كانت أحزاننا تَظل دفينةً في شَغاف القلب , أو بين حنايا الروح أو في أعماق المقل ,وفي وخفايا العيون ....فالشعراء ليسوا كذالك.. لأنهم عندما يحزنون فإنهم يُعبرون عن أحزانهم وأحزاننا, وأتراحهم وأتراحنا, فيمزجون دموعَهم بمدادهم , ويسكبونَها في بحار القوافي, وتزهر أقلامهم فيما بعد ربيعاً شعرياً تخضرُّ منه أوراقُ الزمن , وتتراقص أفنانُه , ويُعَبِّق أريْجُه الدهرَ والخلود....
فالشعراء أحزانُهم لا كأحزاننا , وعبراتهم لا كعبراتنا ... لأن أحزاننا تتلاشى مع مرور الزمن وتغورُ في غياهب النسيان , في حين نرى أن أحزانهم تبقى دموعُها تبلل الأسفار , وعويلها يُصِمُّ أسماعنا بين السطور...وكذلك لأن عَبَراتِنا من المقل والجفون, أما عبرات الشعراء فما هي إلا قلبٌ يذوب , وروحٌ تتدفق , وشعورٌ يهمي على لُجين الضميرِ ...
والشعراءُ في الغالب يملكون إحساساً مرهفاً , وشعوراً رقيقاً , وقلباً يعتصره الحزن , ويُذيبه الأسى , ويُضنيه العويل...وما الدموعُ والنواح والعويل وسحُّ العبرات في شعرهم إلا تعبيرٌ عما يجول في خواطر الناس ويعتلج في صدورهم...فمعظم أشعارهم ـ وإن نظموها لحالاتٍ وجدانية خاصة طغت عليهم ـ أشعارٌ مناسبة للإنسانية كلها, لأن الحزن لا يميز بين صغير ولا كبير, ولا غني ولا فقير , ولا بين ذكر وأنثى , ولا عربي ولا عجمي...
...بل حتى العنادلُ والبلابل واليمام والحمام والكناري نرى أن الشاعر أخذ يرى فيها سميراً في الحزن , ونَجيّاً عند الشكوى , وسُلُوّاً للأحزان , وجَبراً لما يَصرم الضمير , ويَقد الإحساس من سيوف الأنّات , وظُبى الحسرات , ورماحِ الألم والأنين....
فلا غَرو ـ بعد ذلك ـ ولا عَجب أن يتقاسم الإنسان الشاعرُ أحزانَه مع أحزان اليمام , وعويلَه مع تغريد البلابل , ونواحَه مع نواح الحمام....وأغلب ظني أنه قد لاح في فكرك ـ أيها القارئ الكريم ـ ما لاح في فكري عند ذكر الحمام والنواح والحزن شعرُ أبي فراس المشهور , وقد سمع حمامة تنوح بقربه على شجرة عالية:
أقولُ وقــد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا: هل بات حالُك حالي ؟
معاذَ الهوى ما ذقتِ طارقة الهـوى
ولا خطرت منك الهمومُ بـبـال
أ يا جارتنا ما أنصف الدهـرُ بيننا
تعالي أقاسمْك الهمــومَ تعـالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مُقلـةً
ولكن دمعي في الحوادث غالٍ (1)
وكذلك نتذكر معاً ما قاله شقيقُ بن سليك الأسديُّ:
فقد هيَّجتْ منِّي حمامةُ أيكةٍ ... منَ الوجدِ شوقاً كنتُ أكتمهُ جُهدِي (2)
إلا أن الإنسانَ عند الحزن تسحُّ دموعه , وتسيل عبراته , أما الحمام فيبكي مع الشاعر وينوح مع نواحه بل ويُبكي الشاعرَ حتى يبوحَ بأسراره التي كان حريصاً على إخفائها , وقد يُشجيه صوتُ الحمام ويكادُ يُميته...ومع ذلك فالحمام لا تُرى له دموع تسيل , ولا عبرات تغرقه...كما قال الشاعر :
ألا يا حماماتِ اللِّوَى عُدنَ عودةً
فإنِّي إلى أصـواتكنَّ حزينُ
فعُدنَ فلمَّا عـدنَ كدنَ يُمتنَنِي
وكدتُ بأسـرارِي لهنَّ أُبينُ
ولمْ ترَ عينـي قبلهنَّ حمـائماً
بَكينَ ولمْ تدمـعْ لهنَّ عيونُ (3)
وكثيراً ما يدعو ترنُّم الحمام الشاعرَ إلى الشوق والحزن والهوى , ويتساءل الشاعرُ عن سر بكاء الحمام ..هل ـ يا ترى ـ جفاه حبيبٌ أم فارقه إلف عزيز ؟ فينطبق عليه قول الشاعر :
دعاني الهوَى والشَّوقُ لمَّا ترنَّمتْ
علَى الأيكِ من بينِ الغصونِ طروبُ
تُجاوبها وُرقُ يُرعْنَ لصوتـهـا
وكـلٌّ لـكـلٍّ مـسعدٍ ومُجيبُ
ألا يا حمامَ الأيكِ ما لك باكـياً
أفارقتَ إلـفاً أمْ جفاكَ حبـيبُ ؟ (4)
وما أروع قاله ابنُ أبي حجلة في كتابه ديوان الصبابة ! , حيث أطاع الجفنَ الذي قرّحته الدموعُ, وعصى فيمن يُحب كلّ معنِّف وناصح, وكتبت مدامعُه لقلبه محضراً من الدماء...فها هو يقول :
خالفتُ فيكَ معنّفاً ونصيحا
وأطعت جفناً بالدموع قريحاً
فاعمل لقتلي محضراً فمدامعي
كتبت لقلبي بالدما مَشروحاً
صَبٌّ على سفح المقطم دمعُهُ
تَجري العيونُ به دماً مسفوحاً
لـو شاهدت عيناك أحمرَ دمعه
زكَّيت شاهدَ قلبه المجروحا (5)
والإنسانُ في الحقيقة يشعر بارتياح بعد تذرافِ الدموع , فالدموعُ الحبيسة في العيون , والعصية عند البكاء , تُبقي في الفؤاد الحزن والأسى , أما العين الهتّانةُ , والجفن السيّال , فإنهما يساعدان صاحبهما على الراحة والسكينة والسلوان , فدواء الحزن الدموع , لذلك قال ابن عياش :
نزلت بي مصيبة أمضَّتني وأشجتني، فتذكرتُ قول ذي الرّمة:
خليلي عُوجا من صدور الرواحل
على دار مَيٍّ وابكيا في المنازل
لعل انحدارَ الدمع يعقب راحـةً
من الغم أو يَشفي نجيَّ البلابل
فخلوتُ وبكيت، فسلوتُ , وقلت: رحم الله ذا الرمة، فما كان أعرفه بدواء الحزن. (6)
وأصدق الدموع عاطفةً دموعُ الرثاء , وكلما كان الفقيد عزيزاً عليك كلما كانت الدموع أكثرَ حرارةً , وأصدق عاطفةً ,وأشدَّ تأثيراً , وهل بعد رثاء الأم من رثاء , وبعد فراقها من فراق ؟! فالشريف الرضي عند فقد أمه يقول :
أبكيكِ لو نقع الغلـيلَ بكائي
وأقول لو ذهب الـمقالُ بدائي
وأعوذ بالصبر الـجميل تعزياً
لو كان في الصبر الجميل عزائي
طوراً تكاثرني الدموعُ، وتارةً
آوي إلى أُكرومـتـي وحيائي
كم عبـرةٍ مَـوَّهتُها بأناملي
وسترتـهـا مُتجمّلاً بردائي (7)
وكذلك لفقد الأخ وقعٌ عظيم , وأثر بالغ , فلا عجب أنْ نرى أنّ متمم بن نويرة عندما قدم العراق ـ كما قال الأصمعي ـ أقبل لا يرى قبراً إلا بكى عليه، فقيل له: يموت أخوك بالملا , وتبكي أنت على قبرٍ بالعراق! فقال:
لقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذرافِ الـدموع السّوافك
أمِن أجل قـبرٍ بالملا أنت نائحٌ
على كل قبـرٍ أو على كل هالك
فقلت له: إن الشجا يبعثُ الشجا
فدعنـي , فهذا كـلُّه قبرُ مالكِ (8)
وكذلك حزن الشعراءُ كثيراً عند فراق الأحبة , وعندما تجرّعوا غَصص البين في كؤوس من الهجر , والشواهدُ على ذلك كثيرة , ومنها ما قاله الأميرُ شهابُ الملك :
واسمَحْ بدمعِك في مواطئ عِيسِهم
كسَـماح عُرْوَةَ بالدّموع وعدَدِ
واشْجُ الدِيارَ كما شَجَتْك ونُحْ بها
نوحَ الحمامِ على الأرَاكِ بِثَهْمَدِ (9)
والحديث عن الأحزان يطول وتذكرتُ قصيدة لي عنوانها :(وَمَضَيْتُ والأيَّـامُ تـأْكُـلُ مُهْجَتِيْ ) تتحدث عن الحزن والسهاد والنشيج والتباريح , أقتطف منها هذه الأبيات:
دمعي يسافرُ فـي دجى أهـدابـي
ويـزورُ جفنـي بعـد طولِ غيابـي
يهمـي على الـخديـن نهراً دامياً..
فيُحيـل وَجـناتـي كـما العُنَّـاب
أَرِقٌ وآهـاتـي يَطولُ نشيـجُهـا
سُهدي يُكفكفُ أدمُع الأعـصـابِ
أشكـو تباريـحَ الغـرام لأضلعي
لكنْ.. تُـمـزِّق أضلُعـي أوصـابي
ركـبٌ لأحبابـي مضى وكـأنـه
قبـل الـرحـيلِ إلى الأسى أوصى بي
سـاروا , وغابت في القفار جِمالُهُم
ورجـعتُ أحـمـلُ عبـرتي وعذابي (10)
وختاماً: فإنا نعوذ بالله من الهم والحزن ونسأله أن تبقى ديارُنا وقلوبُنا عامرةً بالمسرّات مطمئنة بنعمة الأمان والرخاء.

كاتب المقال : مصطفى قاسم عباس
ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) - ديوان الأمير أبي فراس الحمداني تحقيق وشرح : د محمد ألتونجي , منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق عام : 1408 هـ - 1987 م ص : 246- 147 وانظر : قرى الضيف ,عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس الطبعة الأولى ، 1997تحقيق : عبدالله بن حمد المنصور جـ : 1ص : 92
(2) ـ الزهرة , ابن داود الأصبهاني جـ : 1ص:93
(3) ـ الزهرة , ابن داود الأصبهاني جـ : 1ص:93
(4) نفس المصر السابق ص :93
(5) ـ ديوان الصبابة المؤلف : ابن أبي حجلة ص : 69
(6) ـ خاص الخاص الثعالبي جـ :1 ص : 35
(7) ـ يتيمة الدهر , الثعالبي جـ : 1 ص: 362
(8) ـ الأمالي , أبو علي القالي جـ :1 ص :135
(9) ـ خريدة القصر وجريدة العصر , العماد الأصبهاني جـ 1 ص: 289
(10) ـ جريدة الفداء :بتاريخ :2832012م