بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد : قال الشيخ المعلمي رحمه الله : وعلى كل حال فلا يحسن بالمنصف أن يلوم مَن قال بتكفير الداعي والمستغيث والمعتقد على الوجه المذكور، وإن لزم على قولهم تكفير أكثر الأمة، كما أنه لا يجترئ مسلم على القدح في الإِمام أحمد بن حنبل في قوله: إن مَن تَرَك صلاةً من الفرائض فقد ارتدّ، وإن كان يعترف بوجوبها مع أنه يلزم على هذا القول أن أكثر الأمة مرتدون؛ لأنه ما من مدينة من المدن التي يسكنها المسلمون إلا وتاركوا الصلاة منهم أكثر من المصلين، وإذا عطفت النظر إلى المصلين وجدت كثيرًا منهم لا يصححون صلاتهم مع إمكان التعلم، فهم مع ذلك غير معذورين، فيلتحقون بالتاركين بدليل قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته: "صلّ فإنك لم تصلِّ"
وقد اختلف الأئمة في أشياء كثيرة عدّها بعضهم رِدّة كالسِّحر وغيره، ولم يطعن فيه مَن خالفَه حيث كان مجتهدًا مستندًا إلى الدليل، وقد رمى عمرُ رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة بالنفاق، ولم ينكر عليه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ذلك، بل نبَّهه على خطأه فقط، ومثل هذا كثير في الصحابة.
وقد قال لي قائل: إن هؤلاء الوهابية كفّار، فقلتُ له: لماذا؟ فقال: لأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: "من كفّر مسلمًا فقد كفر" (1).
[ص 94] فقلت له: فإن الوهابية لا يكفِّرون أحدًا من المسلمين.
قال: كيف وهم يكفّرون مَن قال: يا ستّنا خديجة، ويا ... ويا ... ؟
فقلت له: إن هذا عندهم كافر لا مسلم، فلم يصدق عليهم الحديث، لأن الحديث يقول: "من كفر مسلمًا" وهم يقولون: إنما كفّرنا كافرًا.
فقال: لكن العبرة بالقول الصحيح لا بما في زعمهم.
فقلت: فإنهم يعتقدون أن القولَ الصحيح هو الذي قالوه. وما ترى لو أن رجلاً مرَّ بك فظننته يهوديًا فناديته: يا يهودي، أليس قد كفّرته؟ قال: بلى.
قلت: فإذا بان مسلمًا، هل يحق لنا أن نقول: إنك كافر؟ قال: لا, لأني إنما قلت له ذلك بناءً على ما وقع في ظني.
فقلت له: فإن الوهّابية على فرض خطئهم في التكفير يقولون مثلك، وعذرهم أبلغ من عذرك، وأدلتهم أقوى من مجرد ظنّك.
قال: فما هو معنى الحديث إذًا؟
قلت: هو - والله أعلم - أن تقول لأخيك المسلم: "يا كافر" على جهة السبّ من غير أن يكون هناك دليل يدلّ على كفره، كما يفسِّره حديث "الصحيحين" (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "أيما رجلٍ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". وحديث البخاري (2) عن أبي ذرًّ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك".
قال: فما وجه كفر القائل؟
قلت: هو - والله أعلم - إلزامٌ له بلازم قوله حيث أطلق أن صاحبه كافر، فكان ظاهر ذلك أن الدين الذي عليه صاحبه كُفْر، وحيث كان الدينُ الذي عليه صاحبُه هو الإِسلام، فكأنه قال: إن الإِسلام كُفْرٌ، أي: أنّ الإِسلام دينٌ باطل. وأسْتَغْفِر الله تعالى من حكايه هذا. وهذا بخلاف مَن قال لتارك الصلاة: يا كافر، مستندًا إلى أدلة الإِمام أحمد؛ وذلك أنه لم يُطْلِق عليه: "يا كافر" إلا بالنظر إلى بعض أعماله، وهو ترك الصلاة، فلم يلزم على قوله أن جميع أعمال ذلك الشخص (3) كالنُطق بالشهادتين كفر.
[ص95] ثم الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر في الأدلة حتى يغلب على الظنّ كونه كفرًا. فمن قال في شيءٍ من الأعمال إنه كفر بدون تثبّت ولا نظر في الأدلة، فهو غير معذور لتقصيره، وحينئذٍ فهو حريّ بالدخول في الوعيد المذكور.
وعلى كل حال، فإن هذه الأشياء التي يقول الوهّابيّون إنها كفر ليس منها شيءٌ إلا وقد قام الدليل على المنع منه, فلو سُلّم أن الأدلة لا تدلّ أن ذلك كفر فلا أقلَّ من أن تفيد أن ذلك فسوق وضلالة؛ لأن جميع ذلك من المحدثات، وقد ورد: "كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة" (1) إلى غير ذلك من الأحاديث التي قد مرّ بعضها، بل قد دلّ على ذلك القرآن كما مرّ بيان بعض ذلك.
وحينئذٍ فما لكم وللتعصّب؟ تعالوا بنا نصطلح، ونَصِل ما أمر الله به أن يوصل، ونقطع ما أمر الله به أن يُقطع، ونحرص كل الحرص على جمع كلمة هذه الأمة، والتأليف بين أوصالها المقطعة، وأشلائها الممزّعة، وفقنا الله تعالى لرضاه آمين.