الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب و الصلاة والسلام على المعصوم من الذنب وعلى ساداتنا آله والصحب..
أما بعد فإن الله جل وعلا قد أمر عباده بتحقيق التوبة من الذنوب وبين أن الإخلال بها من أظلم الظلم وصاحبه في شقاوة دنيا وأخرى، وتظافرت نصوص الوحيين بالندب إلى التوبة وتبيان أهميتها، وأنها أسمى منازل الإيمان وألزمها للسائر إلى الله عز وجل؛ فطاب ليراعي خط ما تجود به القريحة الضنينة من نفحات وفتوحات تتعلق بضرورة حمل هم التوبة والإشفاق من لقيا الباري جل وعلا بقلب غافل ونفس مريضة بالآثام، فتحاملت على التكاسل عن الكتابة وهو داء ألم بي مذ هجرت مواقع التواصل، وكنت من زمن غير بعيد أتربص الدوائر بنفسي علي أجد منها نشاطا للكتابة فقدر الله اليوم .
التوبة أحبتي في الله هي منزلة تلي منزلة اليقظة إذ تكون النفس قبلُ غارقة في متاهات الشقاء وعلل الخطايا، ثم يأذن الله في سمائه أن يتوب على المذنب فتلوح له تباشير التوبة في الأفق ويحس بقشعريرة تسري في نفسه وألم يعتصر قلبه وتوقٍ إلى الانعتاق من سجن الضنك والران؛ كل ذلك يدفعه إلى محاسبة النفس والإفاقة من سبات الإثم ومواقعة الخطيئة؛ ومصداق ذلك قول التواب جلت قدرته وتعالى جده ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا فلا سبيل إلى التوبة ما لم يتبِ الله على العبد، فتحصل أن ثمَّ توبتان متلازمتان:
التوبة للتوبة
فالتوبة من الخطايا.
يتوب الله جل وعلا على من شاء ومن أحب ومن سلك أسباب القرب من الحضرة الربانية، وتبدأ الخطايا تَحاتُّ عن صاحبها وتتبخر، وكلما زاد الندم والإقبال على الطاعة زاد النور وصحا القلب وأبصر، ولا يزال يترقى ويرتقى وهو في ذلك كله يقارع داعي الهوى والشيطان ويلبي داعي الرحمن حتى يوارى الثرى قرير العين بالله مغتبطا بفتح التوبة..
هذه باختصار بعض معاني اليقظة والتوبة ولاريب أن بينهما مفاوز من المجاهدة والامتحانات لا يجتازها إلا من تسلح بالصدق واليقين وتبصر بنور الوحي قرآنا وسنة.
بقي الكلام على شطر من أهم موضوعات هذا المنشور وهو "هموم التوبة"والقصد بها أحبتي في الله: أن يحس العبد من قلبه بخوف شديد أن يلقى الله عز وجل بغير توبة نصوح وقلب سليم، وأن يشفق من الفضيحة يوم العرض الأكبر؛ هذه مسألة يفرط فيها كثير من عباد الله ولا أبرئ نفسي المسكينة والموفق من وفقه الباري ؛ فتراه بمجرد سلوك طريقة التدين والاستقامة يفرغ قلبه من حمل هم تصحيح التوبة، ويتعلق برسومها في الغالب دون تحقيق معانيها؛ فهذا وايم مجانب لما كان عليه الرعيل الأول من الخشية والإشفاق من سلب الإيمان ولقاء الله على غير ملة الإسلام وعلى غير توبة وأوبة تنفع عند الجواز على الصراط وتسلم الصحف.
ذكر الإمام الألمعي المؤرخ الكبير العالم الجليل محمد بن عثمان الذهبي أثرا جليلا يقف له الشعر وتقشعر له الجلود وتوجل منه القلوب عن مولانا أبي الدرداء قال ..عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُرْثَدٍ ، قَالَ:" ذُكِرَ الدَّجَّالُ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ ، فَقَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ : لَغَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ مِنِّي مِنَ الدَّجَّالِ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ إِيمَانِي ، وَأَنَا لا أَشْعُرُ ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ الْكِنْدِيَّةِ، وَهَلْ فِي الأَرْضِ مِئَةٌ يَتَخَوَّفُونَ مَا تَتَخَوَّفُ " . والشواهد كثيرة في هذا الباب وكلها تصب في معنى واحد وهو أن العبد المتحقق بالعبودية كما يريد الله لا يرتاح له بال ولا تهنأ له نفس حتى يضع قدمه في الجنة؛ هكذا كان حال أولئك الصادقين كانت هموم التوبة والثبات عليها تلازمهم في يقظتهم ومنامهم، في حلهم وترحالهم، فأفنوا الأعمار في تحقيقها ظامئين بالهواجر قائمين في دجى الليالي مسبلين لدموع الخوف والإخبات مبتهلين ابتهال المساكين باذلين للمهج في سبيل الله ورغم كل ذلك لسان حالهم والذين يوتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.رحم الله تلك القلوب المطمئنة بذكره المستظلة بظلال التوبة الصادقة واليقين الراسخ.
هذه بعض الخواطر في هذا الباب صادفت مني رغبة في الكتابة واستجابت لنداءٍ قلبيٍّ علها تكون سبب التذكير لنفسي أولا ثم لإخواني بهذا الأمر الجلل، ولي عودة إن شاء الله لطرق هذا الموضوع المهم في منشورات قادمة.
هذا وإنما الموفق من وفقه الله سبحانه والحمد لله رب العالمين..