حكم مرتكب الكبيرة في ضوء
معتقد أهل السنة والجماعة
دراسة تحليلية نقدية
د. حسين جليعب السعيدي [(*)]
ملخص البحث:
تناولت الدراسة مسألة مهمة من المسائل العقدية التي أولاها العلماء عنايتهم وجهدهم " لما لها من أبعاد سلوكية خطيرة على الأفراد والمجتمعات، وهي مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، ومذاهب الناس فيها، مع بيان مذهب أهل السنة والجماعة فيها، ولبيان هذه المسألة رأيت أن يتكون البحث من مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، تناولت في المبحث الأول منه: اختلاف العلماء حول تقسيم الذنوب " هل تنقسم إلى صغائر -وكبائر كما يراه الجمهور من السلف وغيرهم -أم أن سائر الذنوب كبائر إلى جلال الله وعظمته.
وفي المبحث الثاني: تعرضت لاختلاف أهل العلم في تعريف الكبيرة إلى أقوال كثيرة " لعل أرجحها هو: أن " الكبيرة هي: ما وجبت فيها الحدود، أو توجه إليها الوعيد" على الصحيح من أقوال أهل العلم، ثم ذكرت أقوال العلماء في التحذير من الاستخفاف بالصغائر ومحقرات الذنوب، فالصغائر مع الإصرار عليها أو المداومة عليها تصبح كبيرة، وهي تهلك صاحبها.
وفي المبحث الثالث: تعرضت لمذاهب الفرق في مرتكب الكبيرة، مع بيان مذهب السلف في ذلك، وردودهم على مخالفيهم، وبيانهم أن من الأصول الاعتقادية المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة: عدم تكفير مرتكب الكبيرة، وعدم القول بخلوده في النار، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وحكمه في الآخرة واقع تحت مشيئة الله جل وعلا" إن شاء عفا عنه، وان شاء عذبه.
ثم ختمت البحث بأهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور انفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، الحمد لله الذي أوجب الإيمان على القلوب فقال في محكم تنزيله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ([1])، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) ([2])، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) ([3])، وصلى الله وبارك وسلم على من بعثه رحمة ونورا وهداية للعالمين، سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من المسائل العقدية المهمة: مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، وهي من المسائل القديمة والمتجددة في كل العصور، والخطأ فيها له أبعاد خطيرة على الأفراد والمجتمعات، وقد فطن العلماء والمصلحون في كل زمان إلى خطورة ذلك " ولذلك أولوها عنايتهم بالبحث والدراسة والتأليف، فأول نزاع حدث في الأمة هو: النزاع في التكفير، وحكم مرتكب الكبيرة الذي حمل لواءه الخوارج بعد حادثة التحكيم المشهورة، ومنذ ذلك الوقت بدأ الخلاف والتفرق في الأمة، وامتد إلى وقتنا الحاضر، بل إن الانحراف قد ازداد مع مرور الأيام، والخلاف قائم حول حقيقة الإيمان والكفر، وما يتبع ذلك من القول في الحكم على مرتكب الكبيرة، هل هو كافر كما تقول الخوارج، أم أنه في منزلة بين منزلتين كما تقوله المعتزلة، أم أنه مؤمن كامل الإيمان كما تقوله المرجئة. وقد هدى الله أهل السنة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وبينوا لمخالفيهم بالأدلة الشرعية أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، وليس هو خالد في النار؛ بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وحكمه في الآخرة تحت المشيئة الإلهية، إن شاء عفا عنه بمنه وكرمه، وان شاء عذبه بقسطه وعدله سبحانه وتعالى.
وقد قسمت البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، وتفصيل ذلك على النحو التالي:
المقدمة: تناولت فيها فاتحة البحث وأهميته وخطته.
المبحث الأول: تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر.
المبحث الثاني: تعريف الكبائر والصغائر.
المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة.
الخاتمة: وتناولت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث، وألحقت بالبحث فهرسا للمراجع والمصادر، وفهرسا للموضوعات.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول
تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر
اختلف أهل العلم في انقسام الذنوب إلى قولين:
القول الأول: ذهب جمهور السلف إلى انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، وحكى الإمام ابن القيم الإجماع على ذلك فقال: " والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف بالاعتبار" ([4]).
الأدلة على ذلك:
1 -قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ([5]).
قال القرطبي ([6]): "لما نهى الله تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، دل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء" ([7]).
2-قوله عز وجل: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) ([8])
لآية صريحة الدلالة على تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر على خلاف بين العلماء في المقصود باللمم، فقد اختلف السلف في معنى "اللمم" على قولين مشهورين، حيث روي عن جماعة من السلف أنه الإلمام بالذنب مرة ثم لا يعود إليه، وان كان كبيرا، والجمهور على أن اللمم ما دون الكبائر من الذنوب، قال الإمام ابن القيم ([9]) -رحمه الله -: " والصحيح: قول الجمهور: إن اللمم صغائر الذنوب " كالنظرة ونحو ذلك. وهذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وابن عباس ومسروق ([10]) والشعبي ([11]).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ([12]) الآيات الدالة على انقسام الذنوب، ومنها: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) ([13])، وقوله عز وجل: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ([14])، وقوله تعالى: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) ([15])، وهذه نصوص صريحة في أن ما يعمل الإنسان يدون عليه صغيرا كان أو كبيرا ([16]).
3 – قوله صلي الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" ([17]).
قال النووي ([18]): "وتنقسم (أي المعاصي) باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك، مما ثبت في الصحيح " ما لم تغش الكبائر" ([19])، فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر" ([20]).
4 -حديث أنس -رضي الله عنه -قال: " ذكر رسول الله -صلي الله عليه وسلم -الكبائر، أو سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين. ..." الحديث ([21]).
" فخص الكبائر ببعض الذنوب، ولو كانت الذنوب كلها كبائر لم يسغ ذلك" ([22]). فهذه الأدلة وغيرها كثير تدل دلالة صريحة على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر.
القول الثاني: أنكر طائفة من أهل العلم أن يكون في المعاصي كبائر وصغائر، وقالوا: إن سائر المعاصي كبائر.
منهم: أبو إسحاق الإسفرائيني، والباقلاني ([23])، وإمام الحرمين ([24])، والقشيري ([25])، والتقي السبكي ([26])، وحكاه ابن فورك ([27]) عن الأشاعرة، واختاره في تفسيره ([28]). ونسبه ابن بطال ([29]) إلى الأشعرية، وحكاه القاضي عياض ([30]) عن المحققين ([31])، واستدلوا على قولهم هذا بأن كل مخالفة بالنسبة لجلال الله وعظمته كبيرة، فكرهوا تسمية أي معصية صغيرة " لأنها إلى كبرياء الله تعالى وعظمته كبيرة، ويبين هذا ويؤيده: ما ورد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -أنه قال: " إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا نعدها على عهد رسول الله -صلي الله عليه وسلم -من الموبقات " ([32]). وقد لخص ابن بطال – وهو من الأشاعرة -أدلتهم فقال: " انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال: بعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر، وقالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر" لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)([33])
وقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ([34]) أن المراد الشرك، وقد قال الفراء ([35]): من قرأ (كبائر) فالمراد بها كبيرة، وكبير الإثم هو الشرك. وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ([36])، لم يرسل إليهم غير نوح، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة لجوازه على الكبيرة " ([37]).
واستدلوا أيضا بقول ابن عباس: "كل ما نهى الله عنه كبيرة " ([38])، وأجاب الجمهور على هذه الاستدلالات بما يلي:
قال ابن أبي العز ([39]): " ومن قال: إنها سميت كبائر لما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر. وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر" ([40]).
قولهم: لا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبير، غير الشرك، وتأويلهم لقوله تعالى:
(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ([41])، أن المراد الشرك لقراءة "كبير" فيقال لهم: وماذا عن قوله -صلي الله عليه وسلم -: "ما اجتنبت الكبائر" "ما لم تغش الكبائر"، وماذا يجاب عن النصوص الصريحة في التفريق بين الصغائر والكبائر مثل قوله عز وجل: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) ([42]).
أما استدلالهم بقول ابن عباس -رضي الله عنه-فيجاب عنه بأنه قد ورد أيضا عن ابن عباس أنه قال: "كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة " ([43])، فالأولى أن يكون المراد بقوله: "نهى الله عنه" محمولا على نهي خاص، وهو الذي قرن به وعيد، فيحمل مطلق كلامه -رضي الله عنه-على مقيده جمعا بين قوليه ([44]).
وقال البيهقي -في تعليقه على رواية ابن عباس -"كل ما نهى الله عنه كبيرة ": " فيحتمل أن يكون هذا في تعظيم حرمات الله، والترهيب عن ارتكابها، فأما الفرق بين الصغائر والكبائر: فلا بد منه في أحكام الدنيا والآخرة " ([45]). وطعن القرطبي في الرواية من جهة المتن، فقال: "ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عنه كبيرة " لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر. .." إلى أن قال: " فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن " ([46]).
ومما سبق من الأقوال وأدلة كل فريق يتضح أن القول الأول -وهو ما أجمع عليه السلف في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر -هو أصح الأقوال في هذا الباب، قال الحافظ بن حجر: "وقد اختلف السلف، فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر وصغائر، وشذت طائفة، منهم: الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني فقال: ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة...." ([47]). وقال أبو حامد الغزالي في كتابه الوسيط في المذهب: " إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه، وقد فهما من مدارك الشرع " ([48]).
المبحث الثاني
تعريف الكبائر والصغائر
تعريف الكبائر: وكما حصل الاختلاف بين أهل العلم في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، اختلفوا أيضا في تعريف الكبيرة إلى أقوال كثيرة، منها:
قال الرافعي ([49]) في الشرح الكبير: "الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب، وهم إلى ترجيح الأول أميل، ولكن الثاني أوفق " لما ذكروه من تفصيل الكبائر" ([50])، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وكيف يقول عالم: إن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور وغير ذلك" ([51]). وقال بعدما جمع ما ورد التصريح فيه بأنه من الكبائر -: " إذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد؛ لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد" ([52]) أما من عرفها بأنها: ما ورد فيها الوعيد: فهو أقرب إلى الصحة، قال الحافظ في الفتح: "ولا يرد عليه إخلاله بما فيه الحد" لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله ([53])".
قيل: إن الكبائر هي ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، قال شيخ الإسلام عن هذا القول:
" يوجب هذا القول أن تكون الحبة من مال اليتيم، من السرقة، والخيانة، والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة، وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر؛ إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة ([54])".
وعرفها إمام الحرمين بقوله: "كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقاقة الديانة ([55])".
ومثله قول أبي حامد الغزالي: " كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاونا واستجراء عليها فهي كبيرة، وما يحمل على فلتات اللسان ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينغص التلذذ بها فليس بكبيرة ([56])"، " واعترض على هذا التعريف بأنه يشمل صغائر الخسة، وليست بكبائر، وكذلك يرد على هذا التعريف أن من ارتكب كبيرة من الكبائر المنصوص عليها؛ كالزنا مثلا، لا يشمله التعريف إن صاحب فعله الخوف أو الندم ([57])".
قال ابن عبد السلام ([58]): "وإذا أردت الفرق بين الصغائر والكبائر، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدني الكبائر أو ربت عليها فهي من الكبائر، ثم يقول: والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعارا أصغر الكبائر المنصوص عليها ([59])"، واعترض على ذلك بتعذر الإحاطة بمفاسد الكبائر كلها حتى تعلم اقلها مفسدة ([60])
عرفت الكبائر بالعد من غير ضبطها بالحد، فقال الإمام الطبري -رحمه الله -: "وأولى ما قيل في تأويل الكبائر بالصحة: ما صح به الخبر عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم-دون ما قاله غيره... فالكبائر -إذن-الشرك به، وعقوق الوالدين، وقتل النفس ([61])". ومقصود الإمام الطبري حصر الكبائر بما نص عليه -صلي الله عليه وسلم -بأنه كبيرة دون غيره مما عليه حد أو وعيد، ولم ينص على أنه كبيرة، ولازم هذا القول إخراج بعض الذنوب كالسرقة والرشوة مثلا من أن تكون من الكبائر؛ لعدم ورود نص يصرح بأنها من الكبائر، على الرغم من أن مفسدة هذه أكبر من بعض المنصوص عليها. وقد ورد عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم -ما يؤيد قول الطبري –رحمه الله-فهذا ابن عباس -رضي الله عنه-يقول عن الكبائر: "هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع ([62])". إشارة إلى حديث السبع الموبقات، واختلف في عدد هذه الكبائر إلى أقوال عدة، ليس المجال هنا لذكرها.
ومن أشهر ما عرفت به الكبائر: ما نقل عن ابن عباس، وسعيد بن جبير ([63])، والحسن البصري ([64])، وغيرهم: إن الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال ابن الصلاح: لها أمارات، منها: إيجاب الحد، ومنها: الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها: وصف فاعلها بالفسق نصا، ومنها: اللعن ([65])"، وقال الماوردي ([66]) من الشافعية: " الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليه الوعيد ([67])".
ورد مثل ذلك عن الإمام أحمد ([68]) فيما نقله القاضي أبو يعلى ([69])، ورجحه القرطبي ([70])، وشيخ الإسلام والذهبي ([71]) وغيرهم. وقد رجح شيخ الإسلام هذا التعريف، وعده الأشمل والأقرب للصواب لعدة أسباب ؛ منها:
أنه يشمل كل ما ثبت في النصوص أنه كبيرة؛ كالشرك، والقتل، والزنى... وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة، ويشمل أيضا ما ورد فيه الوعيد كالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم... ويشمل كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، وما قال فيه من فعله فليس منا، وما ورد من نفي الإيمان عمن ارتكبه، كقوله -صلي الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... ([72])"، فكل من نفى الله عنه الإيمان والجنة، أو كونه من المؤمنين فهو من أهل الكبائر؛ لأن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة ([73]).
أنه مأثور عن السلف من الصحابة والتابعين بخلاف غيره.
أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الصغائر والكبائر بخلاف غيره.
أن الله تعالى قال: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ([74]).
فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو ناره أو حرمان جنته، أو ما يقتضي ذلك؛ فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب العقوبة عليه.
إن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكر الله ورسوله في الذنوب، فهو حد متلقى من خطاب الشارع، وما سوى ذلك متلقى من رأي القائل وذوقه، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز ([75]).
تعريف الصغائر: وهي خلاف الكبائر مما نهى عنه الشرع، فما خرج عن تعريف أو حد أقل الكبائر فهي الصغائر. والصغائر كما عرفها العلماء ([76]) هي:
ما لم يقترن بالنهي عنها " وعيد أو لعن أو غضب أو عقوبة "، وما اقترن به ذلك، أو نفي الإيمان عن مرتكبه فهو كبيرة.
قيل: إن ما نهى عنه الرسول –صلي الله عليه وسلم -فهو صغيرة، وعلى ما نهى الله عنه في القرآن فهو كبيرة، وهذا يرده الأحاديث الدالة نصا على الكبائر.
وقيل: إنها ما دون الحدين (حد الدنيا، ووعيد الآخرة).
قيل: إن ما اتفقت عليه الشرائع بالتحريم فهو الكبيرة، وما كان في شريعة دون أخرى فهو الصغيرة، وهذا القول مردود؛ لورود خلافه، فقد أبيح الجمع بين الأختين في بعض الشرائع، بخلاف الشريعة الإسلامية التي تعده من الكبائر، وجاء تحريمه بنص القرآن الكريم، فقال تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) ([77])، ومهما يكن من تعدد الآراء حول بيان حد الكبيرة، والتفريق بينها وبين الصغيرة؛ فإن المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه بالنسبة إلى عظمة الباري جل جلاله أمر قبيح لا يرضى، لكن بعض الذنوب أعظم من بعض، وأنها تنقسم بهذا الاعتبار إلى ما تكفره بعض العبادات مما وردت به الأحاديث، وإلى ما لا يمكن تكفيره، لكن هذا لا يخرج الصغائر عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى؛ فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها، فهي أقل قبحا، ويكون تكفيرها سهلا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء من الله، وعدم المبالاة، وترك الخوف ما يلحقها بالكبائر. وقد يقترن بالكبيرة من الحياء والخوف والخشية ما يلحقها بالصغائر. وهذا مرده إلى ما يقوم بالقلب، وقد قال ابن عباس -رضي الله عنه -: " لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار ([78])".
فالصغيرة مع الإصرار عليها أو المداومة على فعلها كبيرة، وهي تهلك صاحبها، يبين هذا ما روى سهل بن سعد ([79]) -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم -: " إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ([80])".
المبحث الثالث
حكم مرتكب الكبيرة
مذاهب الفرق في مرتكب الكبيرة:
الخوارج: يرون أن من ارتكب كبيرة ثم مات عليها ولم يتب منها فهو كافر مخلد في الآخرة في النار، وأنكروا أن تكون هناك صغيرة وكبيرة، وقالوا: إن الكل كبيرة، وبناء على هذا تجرأ الخوارج على الصحابة فكفروا عليا وعثمان ومعاوية وأصحاب الجمل والحكمين وكل من رضي بالتحكيم فهو كافر، وقتلوا بعض الصحابة، واستحلوا دماء المسلمين وأعراضهم ([81])، واستدل الخوارج على تكفير مرتكب الكبيرة بالنصوص الواردة بكفر العصاة، فمن ذلك: قوله تعالى في تارك الحج: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، وقوله تعالى فيمن حكم بغير ما أنزل الله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ([82])، وقوله تعالى فيمن ارتكب كبيرة: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ([83])، وقوله -صلي الله عليه وسلم -: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ([84])، وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ([85])، قالوا: فإذا أطلق على العاصي اسم الكافر، ونفى الإيمان عمن زنى وسب أخاه وقاتله، فمن لم يكن مؤمنا، فهو كافر. ومذهب الخوارج هذا لا يعد مذهب جميع فرقهم، فالنجدات ([86]) من الخوارج لم يوافقوا على إطلاق اسم الكفر على كل مذنب، بل قالوا: إنه كافر كفر نعمة لا كفر شرك، ووافقهم الإباضية في كونه كافرا كفر نعمة لا كفر شرك، إلا أن النجدات على استحلال دمه وماله وعرضه، والإباضية يقولون: بأنه تحل موارثته ومناكحته واكل ذبيحته، وأنه ليس مؤمنا على الإطلاق، ولا كافرا على الإطلاق. أما الصفرية ([87]) منهم، فيرون أن الذنوب التي فيها حد مقرر لا يتجاوز بمرتكبها ما سماه الله به من أنه زاني أو سارق أو قادف، وأنه لا يباح قتل نساء مخالفيهم ولا أطفالهم، وقالوا: إن كل ذنب ليس فيه حد مقرر في الشريعة مثل: الإعراض عن الصلاة مرتكبه كافر، ولا يسمون مرتكب واحد من هذين النوعين جميعا مؤمنا ([88]).
المعتزلة: يرون أن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر كما يرى كثير من الفرق ذلك، وكما دلت عليه النصوص الشرعية كقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ([89]) وقوله تعالى: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) ([90])، فالمعاصي منها: ما يكون كفرا، ومنها: ما يكون فسقا، ومنها: ما يكون عصيانا، والصغيرة عند المعتزلة كما يقول القاضي عبد الجبار: " هي: ما يكون ثواب فاعله أكثر من عقابه؛ إما محققا، وإما مقدرا، والكبيرة هي: ما يكون عقاب فاعلها أكثر من ثوابه؛ إما محققا، وإما مقدرا، واحترز بقوله: إما محققا أو مقدرا عن الكافر، ومن لم يطع أبدا فإنه قد وقع في الصغيرة والكبيرة، على معنى أنه لو كان له ثواب لكن يكون محبطا بما ارتكبه من المعصية، أو يكون عقاب ما أتى به من الصغيرة مكفرا في جنب ما يستحقه من الثواب ([91])".
وأما حكم الصغائر عندهم فيدور على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الله يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر تفضلا.
الثاني: أن الله يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر باستحقاق.
الثالث: أن الله لا يغفر الصغائر إلا بالتوبة ([92]).
وهذا الذي ذهب إليه المعتزلة ناشئ عن قولهم بوجوب الصلاح والأصلح على الله، سواء أكان ذلك بالتفضل أم بالاستحقاق. أما القول الثالث، فإنه يجعل الصغيرة بمنزلة الكبيرة في عدم الغفران إلا بالتوبة.
وأما الكبائر فيرون أن مرتكبها لا مؤمن ولا كافر، بل له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، فلا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقا، وكذلك، فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث. وهذا الحكم هو ما يسمى بالمنزلة بين المنزلتين ([93])؛ وذلك أن الإيمان عندهم عبارة عن خصال خير، إذا اجتمعت في شخص سمي ذلك الشخص مؤمنا، وهو اسم مدح، والذي يفعل الكبيرة لم يستجمع خصال الخير، ولا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنا، وليس هو بكافر أيضا، إنما يعامل في الدنيا معاملة المسلمين، فتجوز مناكحته وموارثته ودفنه في مقابر المسلمين. أما حكمه في الآخرة فهو الخلود في النار؛ لأن من دخل النار لا يخرج منها، والمؤمن لا يدخل النار، يقول القاضي عبد الجبار ([94]): "الذي يدل على أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا هو ما قد ثبت من أنه لا يستحق بارتكاب الكبيرة إلا الذم واللعن والإهانة، وثبت أن اسم المؤمن صار بالشرع اسما لما يستحق المدح والتعظيم والموالاة، فإذا ثبت هذان الأصلان فلا إشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنا، أما الدليل على أن مرتكب الكبيرة لا يسمى كافرا: فهو أنه جعل الكافر في الشرع اسما لمن يستحق العقاب العظيم، ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة، إذا ثبت هذا، ومعلوم أن صاحب الكبيرة من لا يستحق العقاب العظيم، ولا تجري عليه هذه الأحكام، فلم يجز أن يسمى كافرا ([95])".
وقالوا أيضا: " الأمة مجمعة على أن من أتى كبيرة أو ترك طاعة فريضة؛ كالصلاة والزكاة والصيام من أهل الملة فهو فاسق، واختلفوا في كونه مؤمنا، واختلفوا في غير ذلك من أسمائه، فالحق هو ما أجمعوا عليه، والباطل هو ما اختلفوا فيه؛ ففي إجماعهم الحجة والبرهان ([96])"، و"هذا عن حكمه واسمه في الدنيا، أما حكمه في الآخرة، فمن استوعب عمرا في طاعة الله، ثم قارف كبيرة أو لم يوفق إلى التوبة عنها، مات على هذه الحال، فهو مخلد مع المشركين ([97])". وقد استدل المعتزلة على خلود من ارتكب الكبيرة في النار بالمعقول، حيث قالوا: "العاصي لا يخلو حاله من أحد الأمرين: إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه، فإن لم يعف عنه، فقد بقي في النار خالدا، وهو الذي نقوله، وإن عفي عنه فلا يخلو إما أن يدخل الجنة أو لا يدخل الجنة، فإن لم يدخل الجنة لم يصح؛ لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة، وإذا دخل الجنة فلا يخلو إما أن يدخلها مثابا أو متفضلا عليه، ولا يجوز أن يدخل الجنة متفضلا عليه؛ لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلابد أن يكون حاله متميزا عن حال الولدان المخلدين، وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثابا؛ لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح ([98])".
وهم إنما بنوا حكمهم هذا على أن القبح والحسن عقليان، وأن الله تعالى لا يفعل القبيح، فيجب عليه أن يجعله خالدا في النار، ولا يجوز أن يعفو عنه.
الجهمية يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان شيء لمن عمله، كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأنهم لم يكلفوا في الإيمان إلا بالمعرفة المجردة، وجعلوا العصاة في حل مما يفعلون؛ وذلك نتيجة لرأيهم في الجبر، وأنه لا فضل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أعمالهم على سبيل المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، فالإنسان عندهم كالريشة في مهب الريح، فكيف يؤاخذ على أعمال لا قدرة له عليها ([99]).
الكرامية يرون: أن الإيمان الإقرار فقط؛ فعلى مذهبهم لا يوجد عاص لله؛ لأن العمل خارج عن الإيمان، فمن أقر بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان، يقول أبو الحسن الأشعري ([100]) عنهم: " وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله كانوا مؤمنين على الحقيقة، وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان ([101])".
وعلى هذا فإن مرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان غير مستحق للعذاب من الله تعالى.
الأشاعرة: ذهبوا إلى القول: بأن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق؛ لأن من ارتكب الكبيرة لا يذهب إيمانه، وإنما يؤثر فيه بالنقص، فيسلب عنه كمال الإيمان، ويقيد بما اتصف به من معصية وفسق، فيقال مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
يقول الباقلاني: " إن قال قائل: فخبروني عن الفاسق الملي، هل تسمونه مؤمنا بإيمانه الذي هو فيه؟ وهل تقولون: إن فسقه لا يضاد إيمانه؟ قيل له: أجل"، إلى أن قال: " فإن قيل: ولم قلتم: إنه يجب أن يسمى الفاسق الملي بما فيه من الإيمان مؤمنا؟ قيل له: لأن أهل اللغة إنما يشتقون.
وبناء على ما سبق يكون الأشاعرة قد جعلوا دليلهم مكونا من جزأين: عقلي وآخر لغوي. هذا الاسم للمسمى به من وجود الإيمان به، فلما كان الإيمان موجودا بالفاسق الذي وصفنا حاله، وجب أن يسمى مؤمنا ([102])".
أما العقلي: فمبني على أن الفسق لا يضاد الإيمان؛ لأن التضاد بين الشيئين لا يكون إلا إذا وجدا في محل واحد، والمعصية التي بها يكون الفسق محلها الجوارح، والإيمان عندهم محله القلب فقط، وما يحصل من الجوارح لا يجوز أن ينفي ما يوجد بالقلب من الإيمان؛ لأنه غير مضاد له، إذ قد يعصي الله من هو مصدق بقلبه بالله ورسوله، فصح بذلك اجتماع الفسق والإيمان.
أما اللغوي: فملخصه: أن أهل اللغة إنما يشتقون تسمية الشيء من صفة توجد فيه، والإيمان -الذي هو التصديق القلبي -موجود في الفاسق الذي عصى الله بعمل قبيح صدر عن الجوارح، غير مضاد للإيمان.
وهذان الدليلان مبنيان على قولهم في معنى الإيمان، وأنه هو التصديق القلبي بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن أعمال الجوارح إنما هي ثمرات التصديق القلبي، وليست ركنا فيه، ولا جزءا من مفهومه. فهم يوافقون السلف في التسمية، ويخالفونهم في الأصل الذي ينطلقون منه، لكنهم لا يوافقونهم في النتيجة، والحكم الأخروي فهم يوافقون فيه السلف؛ حيث فوضوا أمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه بعدله، وإن شاء غفر له بفضله، وذلك إن مات من غير توبة، يقول البغدادي ([103]): " فأما أصحاب الذنوب من المسلمين إذا ماتوا قبل التوبة فمنهم: من يغفر الله عز وجل له قبل تعذيب أهل التعذيب، ومنهم: من يعذبه في النار مدة، ثم يغفر له ويرده إلى الجنة برحمته ([104])".
الماتردية: يبني الماتريدية رأيهم في هذه المسألة على أصل شبهتهم الأم، وهي حقيقة الإيمان لديهم، وأنه شيء واحد لا يتبعض، فيقول أبو المعين النسفي ([105]) ناقلا كلام أئمته مؤيدا لهم في نقله: " قال أهل الحق: إن من اقترف كبيرة غير مستحل لها ولا مستخف (بها) لغلبة شهوة أو حمية يرجو الله تعالى أن يغفر له، ويخاف أن يعذبه، فهذا اسمه مؤمن، بقي على ما كان عليه من الإيمان لم يزل عنه إيمانه ولم ينقص، ولا يخرج أحد من الإيمان إلا من الباب الذي دخل فيه، فحكمه لو مات من غير توبة فلله فيه المشيئة؛ إن شاء عفا عنه بفضله وكرمه، أو يتركه وما معه من الإيمان والحسنات، أو بشفاعة بعض الأخيار، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم عاقبة أمره الجنة لا محالة، ولا يخلد في النار ([106])". فأساس المذهب عنده في هذه المسألة هو أن الإيمان إنما هو التصديق فقط، ومرتكب الكبيرة إنما هو شخص قد حصل منه التصديق، وهذا التصديق كل متكامل لا يتجزأ، وإنما يوجد كاملا أو يزول بالكلية، ويحل محله التكذيب، فإن زال فقد حصل التكذيب الذي يخرج من الملة، فلا يكون عندها مرتكب الكبيرة من أهل الإسلام ، ولا تجري عليه أحكامهم، وإنما هو كافر مكذب، وبما أن مرتكب الكبيرة لم يزل مصدقا، وإنما قام ببعض ما فيه مخالفة لأمر الله، فهو لا يزال موصوفا عندهم بالإيمان، بل الإيمان الكامل؛ لذا فهو مؤمن بما معه من الإيمان والحسنات. أما في الآخرة –وهي النقطة التي يتفق فيها الماتريدية مع السلف -فأمره موكول إلى الله تعالى.
حكم مرتكب الكبيرة عند السلف:
من الأصول الاعتقادية المجمع عليها عند السلف: عدم تكفير مرتكب الكبيرة، وعدم خلوده في النار إن دخلها ما لم يستحلها، وقد اتفق المتقدمون منهم والمتأخرون على هذا، كما أنهم لا يثبتون له الإيمان كاملا، ولكنهم -أيضا -لا ينفونه عنه أصلا، فهو في الدنيا مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وحكمه في الآخرة تحت المشيئة الإلهية، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، قال الإمام الصابوني ([107]) -رحمه الله -: "ويعتقد أهل السنة أن المؤمن أن أذنب ذنوبا كثيرة، صغائر وكبائر؛ فإنه لا يكفر بها، وإن خرج عن الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل:
إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة، سالما غانما، غير مبتلى بالنار، ولا معاقبا على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه -إلى يوم القيامة -من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مرة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل عتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار ([108])". ويقول الإمام البغوي ([109]) -رحمه الله -: " اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وعمل شيئا منها، فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث، بل هو إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته ([110])". وورد مثل هذا القول عن الإمام ابن بطة ([111]) -رحمه الله -وشيخ الإسلام ابن تيمية ([112]).
أدلة السلف على حكم مر ت كب الكبيرة:
استدل السلف على ما ذهبوا إليه بأدلة كثيرة، قسمت إلى أدلة كلية يندرج تحت كل دليل عدد من الأدلة التفصيلية، وتشمل الحكم الدنيوي والأخروي لمرتكب الكبيرة ([113]):
الدليل الأول: النصوص التي تدل على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وعلى أن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، ومنها:
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) ([114])، فحكم بأن الشرك غير مغفور للمشرك، يعني إذا مات غير تائب منه " لقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ([115]) مع آيات غير هذه تدل على أن التائب من الشرك مغفور له شركه، فثبت لذلك أن الشرك الذي أخبر الله أنه لا يغفر: هو الشرك الذي لم يتب منه، وأن التائب مغفور له شركه، وأخبر أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، يعني لما أتى ما دون الشرك، فلقي الله غير تائب منه؛ لأنه لو أراد أنه يغفر ما دون الشرك للتائب دون من لم يتب لكان قد سوى بين الشرك وما دونه، ولو كان كذلك لم يكن لفصله بين الشرك وما دونه معنى، ففصله بينهما دليل على أن الشرك لا يغفره لو مات وهو غير تائب منه، وأنه يغفر ما دون ذلك "الشرك" لمن يشاء، لمن مات وهو غير تائب، ولا جائز أن يغفر له ويدخله الجنة إلا وهو مؤمن ([116]).
قوله -صلي الله عليه وسلم -في رواية أبي هريرة: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ([117])".
الدليل الثاني: النصوص التي فيها التصريح بعدم دخول الموحد النار أو خلوده فيها -إن دخل -مع تصريحها بارتكابه الكبائر، ومنها: حديث أبي ذر -رضي الله عنه-عن النبي -صلي الله عليه وسلم -أنه قال: "أتاني جبريل عليه السلام، فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زني وإن سرق؟ قال: وإن زني وإن سرق ([118])".
الدليل الثالث: النصوص التي فيها التصريح ببقاء الإيمان والأخوة الإيمانية مع ارتكاب الكبائر، ومنها:
قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ([119]).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ([120]). فقد استدل شيخ الإسلام بهذه الآيات على أن أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، ولا يسلبون
الفاسق اسم الإيمان بالكلية ([121]).
الدليل الرابع: شرع الله إقامة الحدود على بعض الكبائر: ويعد هذا الدليل من أقوى الأدلة على فساد مذهب من يكفر مرتكب الكبيرة؛ إذ لو كان السارق والقاذف وشارب الخمر والمرتد سواء في الحكم لما اختلف الحد في كل منها، قال شيخ الإسلام: "بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام، كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزافي، وقطع يد السارق. وهذا متواتر عن النبي -صلي الله عليه وسلم -ولو كانوا مرتدين لقتلهم، فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام ([122])".
وقال ابن أبي العز -رحمه الله -: "ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد ([123])".
الدليل الخامس: النصوص الصريحة في خروج من دخل النار من الموحدين بالشفاعة وبغيرها:
وهو من الأدلة الواضحة على عدم كفر مرتكب الكبائر وعدم خلوده في النار؛ إذ لو كان كافرا لما خرج من النار، والأدلة في هذا بلغت مبلغ التواتر، ونقل التواتر جمع من العلماء، منهم: الإمام البيهقي ([124])، وابن أبي العز الحنفي ([125])، قال ابن الوزير اليماني:
" وأحاديث الشفاعة المصرحة بخروج الموحدين من النار قاطعة في معناها بالإجماع، وهي قاطعة في ألفاظها... لورودها عن عشرين صحابيا أو تزيد في الصحاح والسنن والمسانيد، وأما شواهدها بغير ألفاظها فقاربت خمسمائة حديث "، وقال: " والتواتر يحصل بهذا بل بدون ذلك ([126])".
ومن هذه الأحاديث: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه -عن النبي -صلي الله عليه وسلم -قال: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير" وفي رواية "من الإيمان " مكان "من خير" ([127]).
تبين من الأدلة السابقة قطعية النصوص الدالة على عدم كفر مرتكب الكبيرة، وعدم خلوده في النار، والأدلة على هذه المسألة كثيرة جدا، وقد وردت بعض النصوص التي قد يظن بعضهم أنها تخالف مذهب السلف في هذه المسألة، وأسباب هذا الانحراف في فهم النصوص هو: عدم الأخذ بها جميعا، أي أنهم أخذوا جزءا من النصوص التي تتحدث عن المغفرة والعفو لمرتكب الكبيرة، فغلبوا جانب الوعد والرجاء، وبعضهم نظر إلى أدلة أخرى؛ فغلبوا جانب الخوف والوعيد، بينما مذهب السلف متوازن يجمع بين أطراف النصوص، ولا يضرب بعضها ببعض.
ومن هذه الأدلة التي يظن أنها تخالف ما ورد عن السلف في مسألة مرتكب الكبيرة ما يلي:
النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب بعض الكبائر: ومنها: قوله -صلي الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" ([128])، فهم من هذا الحديث أن المنفي هو أصل الإيمان، أما السلف: فأجمعوا على أن المنفي هنا كمال الإيمان؛ جمعا بين هذا النص وغيره من النصوص، قال الإمام ابن عبد البر تعليقا على هذا الحديث: "يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع عن توريث الزاني والسارق وشارب الخمر، إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام، من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم أوضح الدلائل على صحة قولنا: إن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك ([129])".
النصوص التي فيها براءة النبي -صلي الله عليه وسلم -ممن ارتكب كبيرة: قوله -صلي الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح فليس منا ([130])"، وقوله -صلي الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا ([131])".
يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام عن هذا النوع: "لا نرى شيئا منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله -صلي الله عليه وسلم -ولا من ملته، إنما -مذهبه -عندنا أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا ([132])"، فيقال عن هذا الحديث: إنه يدل على نقص اتباع مرتكب هذا العمل وطاعته
بفعله له.
النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على بعض المعاصي، ومنها: قوله -صلي الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ([133])"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت ([134])". ومثل هذه الأحاديث استدل بها الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة وخروجه من الملة، أما السلف فجمعوا بين النصوص وفسروا هذه الأحاديث وأمثالها بعدة تفسيرات؛ منها: أن مرتكب هذه المعاصي قد تشبه بالكافرين والمشركين بأخلاقهم وسيرهم وعمل عملهم، وفي ذلك بيان لمذمة هذه الأفعال بتشبيهها بالكفر، على وجه التغليط لفاعله ليتجنبه فلا يستحله، يضاف إلى ذلك أن أفراد هذه المسائل مثل سباب المسلم والحلف بغير الله والنياحة والطيرة، قد وردت نصوص أخرى تدل على أنها وقعت من بعضهم، ولم يكفر صاحبها، بل حذر الرسول -صلي الله عليه وسلم- منها، ولكنه لم يرتب عليها كفرا، مثل قوله: "لا تحلفوا بآبائكم ([135])"، وقوله عليه الصلاة والسلام: " إنك امرؤ فيك جاهلية ([136])".
النصوص التي ورد فيها تحريم النار على من تكلم بالشهادتين، وأخرى فيها تحريم الجنة على مرتكب الكبائر: مثل قوله تعالى:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ([137])، وقوله -صلي الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ([138])"، وقوله -صلي الله عليه وسلم -: "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ([139])"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار ([140])"، فالخوارج نظروا إلى الأدلة الثلاثة الأولى على أنها أدلة صريحة في تكفير مرتكب الكبيرة، والدليل الرابع استدل به المرجئة على إيمانه، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، لكن السلف -رحمهم الله -نظروا إلى هذه الأدلة جميعا فضموا بعضها إلى بعض كأنها دليل واحد، وحملوا المطلق منها على المقيد؛ ليحصل الاعتقاد والعمل بجميع ما في مضمونها، قال الإمام الطبري -رحمه الله -في تفسير الآية التي فيها ذكر حكم القتل العمد -بعد أن استعرض الأقوال في تفسيرها -: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، ولكنه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه -عز اسمه -إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها " بفضل رحمته "" لما أسلف من وعده عباده المؤمنين بقوله تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ([141]) ([142]).
وأما قوله -صلي الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة "، وقوله " فالجنة عليه حرام "" ففيه جوابان: أحدهما: انه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه؛ فهذا كافر لا يدخلها أصلا.
الثاني: معناه: جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر، ثم قد يجازى وقد يعفى عنه فيدخلها أولا ([143]).
وبهذه الأدلة يتضح رأي السلف في مرتكب الكبيرة، وكيفية توفيقهم بين النصوص في هذه المسألة.
القائلون بأن الخلاف لفظي صوري: قال به الغزالي ([144])، والذهبي ([145])، وابن أبي العز، يقول ابن أبي العز في شرحه للطحاوية: " الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة صوري؛ فإن كون أعمال الجوارح لازم لإيمان القلب، أو جزء من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد" ([146]).
القائلون بأن الخلاف حقيقي: وممن ذهب إلى ذلك: الآلوسي ([147]): " والحق أن الخلاف حقيقي، وان التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه. فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس، والتصديق بحدوث العالم قلة وكثرة، كما في التصديق الإجمالي، والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير، وما على إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة -رضي الله عنه-للأدلة التي لا تكاد تحصى؛ فالحق أحق بالاتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام " ([148]).
وقال الشيخ الألباني: " وليس الخلاف بين المذهبين اختلافا صوريا كما ذهب إليه التاج، بحجة أنهم جميعا اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، فإن الاتفاق وإن كان صحيحا؛ فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلك" ([149]).
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية: فذهب إلى أن الخلاف لفظي في بعض المسائل المتنازع فيها، حقيقي في بعضها، وفي ذلك يقول: " إنه لم يكفر أحدا من السلف مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب " ([150])، وقال: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص قول طائفة من الفقهاء -كحماد بن أبي سليمان ([151]) - وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة، ويقولون أيضا: إن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة " ([152]).
يتبع