( 51 )
يتلخص عملنا في هذا الكتاب في جمع كل ما يتعلق بترجمة شيخ الإسلام في المصادر القديمة؛ من القرن الثامن إلى نهاية القرن الثالث عشر، سواء أكانت ترجمة ضمن كتاب، أو رسالة في مدح الشيخ والثناء عليه والوصاية به والتشوق إلى لقائه، أو مذكرات عن حياته، أو فهرسا لمؤلفاته.
وكان اعتمادنا في هذا الجمع على الاستقراء والتتبع لكتب التواريخ والتراجم، وفهارس المخطوطات، وتقليب أجلاد وأجلاد من الكتب المطبوعة والمخطوطة بغية الحصول على ما تقدم مما له علاقة بترجمته، وبذلنا في هذا السبيل غاية الوسع رجاء اكتمال مادته، وحصول ما رمناه من فوائد وعوائد،
.....
(ص55 )
كما أن هذا "الجامع" يصوب خطأ قديما تتابع الباحثون عليه، وهو أنه منذ أن نشر الدكتور صلاح الدين المنجد "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" المنسوب لابن قيم الجوزية (751) -رحمه الله- في "مجلة المجمع العلمي العربي" بدمشق (28/ 1953 / 371 - 395) (2) = لم يشك أحد من الباحثين في صحة هذه النسخة إلى ابن القيم، بل اعتمدوه في دراساتهم عن شيخ الإسلام، أو عن تلميذه ابن القيم، وذلك على مدار نحو نصف قرن من الزمان!!.
وقد اعتمد المنجد في نشرته تلك على نسخة خطية موجودة في دار الكتب الظاهرية برقم (4675 - عام)، وهي بخط الشيخ جميل العظم (3) صاحب كتاب: "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون مصنفا فمئة فأكثر"، نسخها سنة (1315)
وهذه النسخة لا تعدو أن تكون تهذيبا وترتيبا للكتاب الأصل في "مؤلفات شيخ الإسلام"، ويترجح لنا أن الشيخ جميل العظم قد هذبها لتكون مادة يقتبس منها في كتابه السالف الذكر.
وتحققنا أنها تهذيب بعد وقوفنا على نسخة أخرى من الكتاب، في دار الكتب الظاهرية -أيضا- برقم (11479)، وهي عبارة عن "دفتر منوعات" بخط الشيخ العلامة طاهر الجزائري -رحمه الله- كتبه سنة (1318)،أوله: "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام" (ق / 1 - 8)،وكتب الشيخ طاهر بعد البسملة: "الظاهر أن هذه الرسالة لتلميذه ابن القيم" (
الأمر الثاني: أنا وجدنا الإمام ابن عبد الهادي (744) في كتابه "العقود الدرية" (3) قد اقتبس نصوصا من هذه الرسالة، ونسبها إلى أبي
......
( ص 58)
عبد الله بن رشيق،فقال: "قال الشيخ أبو عبد الله بن رشيق -وكان من أخص أصحاب شيخنا وأكثرهم كتابة لكلامه وحرصا على جمعه-: كتب الشيخ -رحمه الله- نقول السلف مجردة عن الاستدلال على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال. ورأيت له سورا وآيات يفسرها،ويقول في بعضها: كتبته للتذكر، ونحو ذلك.
ثم لما حبس في آخر عمره؛ كتبت له أن يكتب على جميع القرآن [مرتبا] على السور،فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بين بنفسه، وفيه ما قد بينه المفسرون في غير كتاب؛ ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتب المصنف الواحد في الآية تفسيرا، ويفسر [نظيرها بغيره]، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظائرها.
وقال: قد فتح الله علي في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا، وأرسل إلينا شيئا [كثيرا] مما كتبه في هذا الحبس، وبقي شيء كثير في [سلة] الحكم عند الحكام لما أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت نحو أربع عشرة رزمة.
ثم ذكر الشيخ أبو عبد الله ما رآه ووقف عليه من تفسير الشيخ" اهـ.
نقول: هذا النص برمته في "مؤلفات ابن تيمية" المنسوب لابن القيم! فتبين من هذا أنه لابن رشيق لا لابن القيم.
.........
( ص 59 )
بن رشيق هذا هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد سبط ابن رشيق المالكي (1)، المتوفى سنة (749).
وكان ابن رشيق -كما يقول ابن كثير (2) -: "أبصر بخط شيخ الإسلام منه، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة، لا بأس به، دينا عابدا كثير التلاوة حسن الصلاة، له عيال وعليه ديون، رحمه الله وغفر له آمين" اهـ
ولا تسعفنا المصادر التي ذكرت ابن رشيق (3) بمعلومات كافية عنه، أكثر مما لخصه ابن كثير، إلا أن المصادر تجمع على أن ابن رشيق هذا كان ملازما لشيخ الإسلام، عارفا بخطه، بل أعرف من الشيخ نفسه، مكثرا من كتابة كلامه، لا يختلف عليه أصحاب الشيخ أنفسهم في هذه الأمور, وقد تقدم كلام ابن عبد الهادي وابن كثير
ن "مؤلفات ابن تيمية" لأبي عبد الله بن رشيق لا لابن القيم، فيجب على الباحثين تصويب هذا الخطأ، ونسبة الكتاب في بحوثهم وتحقيقاتهم -عن ابن القيم أو شيخه- إلى مؤلفه الحقيقي.
لكن مما يؤسف له: أن النسخة الثانية من هذا الكتاب وهي التي بخط الشيخ طاهر الجزائري، لا تمير إلا النصف الأول من هذه الرسالة المهمة، وليس فيه سوى ما يتعلق بالقرآن فقط،وقد كتب الشيخ طاهر الجزائري في آخر هذه النسخة: "انتهى ما يتعلق بالكتاب العزيز، وهذا الذي أردنا نقله الآن لغرض. حرر في ليلة 26 رمضان سنة 1318 ".
.........
فقال لهم الشيخ: تدعونني أن أكتب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام؟! ودق بعمامته الأرض، وقام واقفا ورفع برأسه إلى السماء،وقال: اللهم إني أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك، وأن هذا شيء ما أعمله ... " ثم دعا عليهم.
ولما قالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك،فقال لهم: "أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة ... ". فيئسوا منه وانصرفوا (2).
فلو كان لهم كتاب بخطه في تلك المسائل -كما زعموا- لم يطلبوا
..................
( ص 71)
1 - الفترة الزمنية لهذه الترجمات تبدأ من حياة شيخ الإسلام، حيث كانت أول ترجمة وقفنا عليها هي لابن شيخ الحزامين (711) -أي في حياة الشيخ- وتنتهي بنهاية القرن الثالث عشر الهجري سنة (1300)، وكانت آخر التراجم لنعمان خير الدين الآلوسي (1317) وذلك في كتابه "جلاء العينين"، وقد ألفه قبل نهاية القرن سنة 1297.