(رسالة من العلامة محمود شاكر الحُسيني، لأستاذه الإمام السيد محمد عبد الحي الكتاني الفاسي الحسني)

29 مارس 1933.
أستاذنا وووالدنا الجليل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى الأخ العزيز عبد الكبير، والأخ أبي بكر، والأخ إدريس، والأخ أحمد ... هكذا في سمط واحد.
وبعد فما أظنُّ ولا ظننت يومًا أن يكون لأحد من الناس من الأثر في نفسي وفي خُلُقي مثل الذي كان لكم فيه، وما ظننتني يومًا مشغولًا بأحد من خلق الله مثل شغلي بكم، وقد كان ليوم الفراق في نفسي حزَّةٌ كحزة السيف لا يبرأ أثرها حتى تعود إلينا سالمًا مبرور الحجٍّ مُتَقَبَّلَهُ فتبرها أنت، وقد كان الحياء يوم وداعك يمنعني أن أقول كلمة كنت أود أن أبوح بها هي: أني ما قبَّلتُ يد أحد بعد والدي غير يدك، لأنَّ الثورة التي كانت في نفسي طَغَتْ عليَّ طغيان السيل، فما عرفتُ لنفسي قبيلًا من دبير.
ولا أزال إلى هذا اليوم أذكرك وأذْكُرُ تلك اليَدَ الرقيقة التي وَقَعَتْ عليها شَفَتَايْ وأضَاءَتْ بها نفسي كأنما وَلَدَتْهَا قُبْلَةُ اليَدِ وِلَادَةً جديدة.
ولا أُحِبُّ أن أمتدحك في كتابٍ أُرْسِلُهُ إليك، فلذلك فإني أقف في كتابي هذا عند هذه الجملة.
نَشَرَ المُقْتَطَفُ كلمتي فيك( ) ، وقد أرْسَلْتُ لكم أربعة أعداد منها بعنوان السيد محمد نصيف( ) بجدة، وسألته أن يرسلها لكم في أقرب فرصة، فلعلها تصلكم مع كتابي هذا، وإلَّا فأخبروا السيد نصيف ليرسلها لكم إن كانت قد وصلته.
وقد قرأ هذه الكلمة إخوان كانوا معنا في المقتطف وأعجبوا بها، وقد أخذها بعضهم ليحفظها عن ظهر قلب (كما يقول)، وأشهد الله أني كتبتها وأنا لا أشعر حتى فَرَغْتُ منها وَخِفْتُ بعد ذلك أن أعيد النظر فيها لئلا تكون سخيفةً، ومن عادتي أني لا أستطيع أن أقرأ ما أكتب إلَّا بعد مضي زمن طويل حتى أقدِّرَ ما كتبت قدره الذي يستحقه غير مُلْتَفِت إلى قول الناس وتزيُّدِهم في تقدير الأشياء.
وقد أرسل لي المُقطَّم بعد سفركم لأكتب له عندكم كلمة، ولكني اكتفيتُ بكلمتي في المقتطف.
ونشر (أحمد ربيع المصري) حديثه معكم في المُقطَّم بتاريخ هذا اليوم (29 مارس 1933) وهو محفوظ عندي، ولعله وصلكم أيضًا، وكلمتي فيما أتخيل محبوكةٌ فيها معان غامضة ومرام بعيدةٌ لا يفهمها إلَّا من دقق ورجع إلى الأصل.. كما يقول المُؤَلِّفون، ولا أدري كيف يكون وقعها عندكم؟ فإن ارْتَضَيْتُمُوه َا فهي كلمة إخلاص وود ومحبة ثابتة إن شاء الله ... وإلَّا فمعذرة للضعيف، وأنت أهل المعذرة.
أرجو أن لا تنسوني من الدعاء لي بالتوفيق والهدى والرحمة، ولو كنت تعلم سِرَّ قلبي وما انطوى عليه من القلق إلى الخروج من هذا البلد المُمْتلئ بالمآثم والمخازي، لجهدت في دعائك لي واجتهدت اجتهاد من لا غاية له إلَّا ما يدعوا وما يسأل.
واذكرني كما أَذْكُرُكَ، ولا تؤاخذني في مخاطبتك بهذا، فإني أعتقد أنَّ الفارق الذي يفرق بين الناس قد زال فيما بيننا، فإن كنت واهمًا في هذا أيضًا... فلك الرأي.
لعلك رَأَيْتَ الحجاز بالعين المُبْصِرَةِ التي لا تَتَرُكُ صغيرةً ولا كبيرة، وَعَرَفْتَ ما انطْوَتْ عليه البلاد واضطمرت، وأرجو أن تكون أيامك كلها فيه مشرقات كرأْدِ الضحى، منعشات كرويحة الفجر، مباركات كساعات الصلاة، والله يتولاكم ويتولانا بلطفه الخفي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وسلامي إلى العصبة المُباركة التي تليك صغيرهم وكبيرهم<.
نص الرسالة في مرايا وظلال للدكتور إبراهيم الكوفحي (ص 31-33)، رسيس الهوى بقية تراث شيخ العربية محمود شاكر للدكتور عبد الرحمن حسن قائد (ص 255-257).