قال ابن القيم رحمه الله
كثير في القرآن يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره،
إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه،
وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه
وهو غافل عنه معرض عن التفكر فيه،
ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره،
قال الله تعالى:
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17 – 22]. فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب ولا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك،
بل لأمر وراء ذلك كله هو المقصود بالخطاب،
وإليه جرى ذلك الحديث،
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة،
وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت
كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب،
منقادة لقدرته، مطيعة لمشيئته، مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها،
إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها؟
وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما؟
وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه؟
وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بُعد كل منهما عن صاحبه وساقهما من أعماق العروق والأعضاء وجمعهما في موضع واحد ،
جعل لهما قرارًا مكينًا لا يناله هواء يفسده،
ولا برد يجمده،
ولا عارض يصل إليه،
ولا آفة تتسلط عليه؟
ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد ؟
ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها؟
ثم جعله عظامًا مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها؟ وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين وبين ذلك؟
ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوي رباط وأشده وأبعده عن الانحلال؟
وكيف كساها لحمًا ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا،
وجعلها حاملة له مقيمة له؟
اللحم قائم بها وهي محفوظة به، وكيف صورها فأحسن صورها وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ؟