مسألتان في قصر الصلاة



بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فهاك مسألتين كتبتهما على عجالة في أمر القصر في الصلاة، فيمن وجبت عليه الصلاة في الحضر، وتذكرها في السفر، أو العكس، وهما كالآتي:
المسألة الأولى: وهي ما إذا وجبت الصلاة في الحضر، ثم أداها أو قضاها في السفر، فإنه يؤديها تامة، وهذا يحكى اتفاقا قال ابن المنذر: " وأجمعوا على أن من نسي صلاة في حضر فذكرها في السفر أن عليه صلاة الحضر". أدلة هذه المسألة:
أولا: أن هذه الصلاة تعيَّن عليه فعلها أربعا فلم يجز له النقصان من عددها.
ثانيا: أنه إنما يقضي ما فاته وقد فاته أربع، فوجب أن يأتي بأربع. أما المسألة الثانية، وهي ما إذا وجبت الصلاة في السفر، ثم قضاها أو أداها في الحضر، فقد وقع في هذه المسألة خلاف على قولين:
القول الأول: اعتبار وقت الوجوب، فكما أن من فاتته صلاة في الحضر صلاها في السفر أربعا، فكذلك من فاتته صلاة في السفر صلاها في الحضر ركعتين؛ لأنها وجبت عليه على هذا النحو، وقد ذهب إلى هذا القول الحنفية والمالكية والشافعية في القديم، واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
ودليل هذا القول: أن القضاء بحسب الأداء، والعبرة بوقت الوجوب، فمتى وجبت في السفر جاز له قصرها ولو في الحضر.
القول الثاني: ذهب الشافعية في الجديد والحنابلة إلى أن من فاتته صلاة في السفر، فصلاها في الحضر أنه لا يجوز له القصر، ويجب عليه أن يتم صلاته.
الأدلة: استدل هؤلاء بالآتي:
الأول: أن القصر رخصة من رخص السفر فيبطل بزواله. المناقشة: يناقش هذا الوجه، بأن رخص السفر إنما انقطعت فيما يستقبل من الأحكام، فلا يجوز له أن يترخص، والمسألة في صلاة وجبت في ذمته حال كونه مسافرا، فلا يتأتى عليها هذا الوجه؛ لأن حقيقة من يصليها إنما هو يأتي بعبادة وجبت في ذمته قصرا.
الثاني: أنها صلاة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر احتياطا. المناقشة: يناقش هذا بأن الصلاة لما وجبت إنما وجبت في حال السفر، وليس في الحضر، حتى يقال: اجتمع فيها الحضر والسفر، بل هي من حيث الوجوب في الذمة متمحضة في السفر، فتصلى كما وجبت.
الثالث: أنه تخفيف تعلق بعذر فزال بزوال العذر. المناقشة: يناقش بما سبق، أن هذا إنما فيما يستقبل من الأحكام، فلا يجوز لمن أقام أن يترخص، ويأخذ بتخفيف الشرع لزوال العذر، لكن البحث في صلاة استقر وجوبها في الذمة حال السفر، وهو يريد أن يؤديها أو يقضيها.
الترجيح: الراجح في هذه المسألة القول الأول؛ وذلك أنها صلاة وجبت في ذمته على وجه القصر، فإذا أراد أن يصليها قضاء أو أداء قصرها، طردا لقاعدة الشريعة في هذا الباب من كون القضاء يحكي الأداء. والله تعالى أعلم. فائدة: إذا دخل المسافر وطنه زال حكم السفر، وتغير فرضه بصيرورته مقيما، وسواء دخل وطنه للإقامة، أو لقضاء حاجة؛ أو للاجتياز على الصحيح. ودخول الوطن الذي ينتهي به حكم السفر هو أن يعود إلى المكان الذي بدأ منه القصر، فإذا قرب من بلده فحضرت الصلاة فهو مسافر ما لم يدخل. وقد روي أن عليًّا رضي الله عنه حين قدم الكوفة من البصرة صلى صلاة السفر, وهو ينظر إلى أبيات الكوفة. وعنه رضي الله عنه أنه لما خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر أربعا، ثم نظر إلى خُصٍّ أَمامَه، وقال: لو جاوزنا هذا الخصَّ صلينا ركعتين.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لمسافر: "صلِّ ركعتين ما لم تدخل منزلك". وعليه فمتى دخل وطنه الذي ابتدأ القصر منه، فإن الواجب عليه أن يتم صلاته، وينقطع عنه أحكام السفر. مما له صلة بهذا الموضوع مسألة: من مرَّ بوطنه، لا يريد الإقامة به، إنما مرَّ عليه مرورا أثناء انتقاله إلى بلد آخر، فهل يتم صلاته أم يقصرها؟ هذه المسألة اختلف أهل العلم فيها على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية وهو المذهب عند الشافعية إلى أن مرور المسافر بوطنه يصيره مقيما بدخوله ويقطع حكم السفر.
القول الثاني: ذهب المالكية والحنابلة إلى أن مرور المسافر بوطنه لا يقطع حكم السفر، إذا مرَّ ببلده مجتازا لا يريد الإقامة بها، وقيد المالكية ذلك بما إذا انضم لذلك دخول أو سنية دخول.
والله تعالى أعلم .
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي