قال الإمامُ محمدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ المُجَدِّدُ لِمَا انْدَرَسَ مِنْ مَعَالِمِ الإسلامِ في النصفِ الثاني منَ القرنِ الثاني عشرَ رحمهُ اللَّهُ
اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أرْبَعِ مَسَائِلَ:
الأُولى: العِلْمُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلاَمِ بالأَدِلَّةِ.
الثَّانِيَةُ: العَمَلُ بِهِ.
الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ إلَيْهِ.
الرَّابِعَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ.
والدَّلِيلُ قَولُه تَعَالَى: بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {وَالعَصْرِ (1) إنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر:1-3]
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ الله تَعَالى-: (هَذِهِ السُّورَةُ لَو مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هِيَ لَكَفَتْهُمْ).
وَقَالَ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-: (بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ، والدَّليلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك} [محمد:19] فَبَدَأَ بِالعِلْمِ قَبْلَ القَولِ وَالعَمَلِ).
******
الشرح
قال الامام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله فى شرح ثلاثة الأصول:
اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أرْبَعِ مَسَائِلَ:
هذهِ المسائلُ يجبُ أن يتعلَّمَها المؤمنُ والمؤمنَةُ صغارًا وكبارًا. فعلى الإنسانِ أن يتعلَّمَ ويتبصَّرَ حتَّى يكونَ على بيِّنةٍ، ويَعْرِفَ دينَ اللَّهِ الذي خُلِقَ مِنْ أجلِهِ،
وهذا العلمُ هوَ معرفةُ اللَّهِ ومعرفةُ نَبِيِّه ومعرفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلةِ،
فهذا أولُ شيءٍ، أن يَتَبَصَّرَ العبدُ منْ هوَ ربُّه؟..

فيعرفَ أنَّ ربَّه الخالقَ الذِي خلقَهُ، ورَزَقَهُ، وأَسْدَى إليهِ النعمَ، وخلقَ مَنْ قبلَهُ، ويخلقُ مَنْ بعدَهُ، هوَ ربُّ العالمينَ وأنَّهُ الإلهُ الحقُّ المعبودُ الذِي لا يستحقُّ العبادةَ سواهُ أبدًا، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، ولا جنٌّ، ولا إنسٌ، ولا صنمٌ، ولا غيرُ ذلكَ.
بلِ العبادةُ حقٌّ للَّهِ وَحدَهُ، فهوَ المعبودُ بحقٍّ، وهوَ المستحقُّ بأن يُعبَدَ، وهوَ ربُّ العالمينَ وهوَ ربُّكَ وخالقُكَ وإلـهُكَ الحقُّ سبحانَه وتعالَى.
فَتَعْرِفَ هذهِ المسألةَ الأولى، وهيَ:
أنْ تعرفَ ربَّك ونبيَّكَ ودينَكَ بالأدلةِ؛ قالَ اللَّهُ وقالَ الرسولُ لا بالرأي ولا بقولِ فلانٍ، بلْ بالأدلةِ من الآياتِ والأحاديثِ، وذلكَ هوَ دينُ الإسلامِ الذي أنتَ مأمورٌ بالدخولِ فيهِ، والالتزامِ بهِ، وهوَ عبادةُ اللَّهِ التي قالَ فيها سبحانَهُ وتعالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدونِ}.

هذهِ العِبَادَةُ هيَ الإسلامُ، وهي طاعةُ اللَّهِ ورسولِهِ، والقيامُ بأمرِ اللَّهِ وتركُ محارمِهِ.
هذهِ هي العبادةُ التي خُلِقَ الناسُ لأجلِها وأمرَ اللَّهُ بها الناسَ في قولِهِ:
{يَأَيُّها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} يعنِي:
اعبدوهُ بطاعةِ أوامرِهِ واجتنابِ نواهيهِ،
وإسلامِ الوجهِ لهُ،
وتخصيصِه بالعبادةِ سبحانَهُ وتعالى.

ومِنْ ذلكَ أن تعرفَ نبيَّك وهوَ محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ المطلبِ الهاشميُّ القرشيُّ المكيُّ ثم المَدَنِيُّ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ
فتعرفَ أنَّهُ نبيُّكَ
وأنَّ اللَّهَ أرسلَهُ إليكَ بدينِ الحقِّ يُعَلِّمُكَ ويُرْشِدُكَ
فتؤمنَ بأنَّهُ رسولُ اللَّهِ حقًّا وأنَّ اللَّهَ أرسلَهُ للعالمينَ جميعًا منَ الجنِّ والإنسِ،
وأنَّ الواجبَ اتباعُهُ،
والسيرُ على منهاجِهِ.

وسيأتِي تفصيلُ هذا في الأصلِ الثالثِ منَ الأصولِ الثلاثةِ.
العَمَلُ بِهِ. أيْ: أنْ تَعْمَلَ بهذا الدِّينِ من صلاةٍ وصومٍ وجهادٍ وحجٍّ وإيمانٍ وتَقْوَى فتعملَ بالإسلامِ؛ لأَِنَّك مَخْلُوقٌ لهُ، مخلوقٌ لعبادةِ اللَّهِ.
- فعليكَ أنْ تعلمَ وتعملَ بهِ فتعبدَ اللَّهَ وحدَه.
- وتقيمَ الصلاةَ.
- وتؤديَ الزكاةَ.
- وتصومَ رمضانَ.
- وتحجَّ البيتَ.
- وتؤمنَ باللَّهِ وملائكتِهِ ورسلِهِ وكتبِهِ، وباليومِ الآخرِ، وبالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ.
- وتأمرَ بالمعروفِ وتَنْهَى عنِ المنكرِ.
- وتَبَرَّ والديكَ.
- وتصلَ الأرحامَ.
إلى غيرِ ذلكَ فتعملَ بما أمرَكَ اللَّهُ بِهِ.
وتنتهيَ عمَّا نهاكَ اللَّهُ عنْهُ، وتتركَ المعاصيَ التي أنتَ منهيٌّ عنها،
وتفعلَ الواجباتِ التي أنتَ مأمورٌ بها.

الدَّعْوَةُ إلَيْهِ. أيْ: أنْ تدعوَ إلى هذا الدينِ فتَنْصَحَ الناسَ بأن يَسْتَقِيمُوا عَلَيْهِ، وتُرْشِدَهُم وتأمرَهُم بالمعروفِ وتنهاهُم عن المنكرِ، هذهِ هي الدعوةُ إلى دينِ الإسلامِ.
فعلى كلِّ مسلمٍ أن يَدْعُوَ إلى اللَّهِ حسبَ طاقتِهِ وعلمِهِ،
فكلُّ واحدٍ - رجلٍ أوِ امرأةٍ - عليهِ قسطٌ منْ هذا الواجب، منَ التبليغِ والدعوةِ والإرشادِ والنصيحةِ،
وأنْ يدعوَ إلى توحيدِ اللَّهِ.

- وإلى الصلاةِ والمحافظةِ عليها.
- وإلى الزكاةِ وأدائِها.
- وإلى صومِ رمضانَ.
- وحجِّ البيتِ معَ الاستطاعةِ.
- وإلى برِّ الوالدينِ.
- وصلةِ الأرحامِ.
- وتركِ المعاصي كلِّها.
****
الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ.أيْ: يصبرُ على الأذى في هذهِ الأشياءِ، فقد يحصلُ للإنسانِ أذًى، قدْ يَتْعَبُ مِنَ المَدْعُوِّ أو غيرِه، منْ أهلِهِ، أو غيرِهِم، فالواجبُ الصبرُ واحتسابُ الأجرِ عندَ اللَّهِ.فالمؤمنُ يصبرُ على إيمانِهِ باللَّهِ، ويصبرُ على العملِ بما أوجبَ اللَّهُ عليهِ، وتركِ ما حَرَّمَ اللَّهُ عليهِ، ويصبرُ في الدعوةِ إلى اللَّهِ، والتعليمِ، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ.
فلا بدَّ منَ الصبرِ في هذهِ الأمورِ كلِّها.
فالدينُ كلُّه يحتاجُ إلى صبرٍ، صبرٍ على دعوةِ اللَّهِ وحدَه، وصبرٍ على أنْ تصلِّيَ، وتُزَكِّيَ، وتصومَ، وتحجَّ، وتأمرَ بالمعروفِ وتنهى عنِ المنكرِ، وصبرٍ عنِ المحارمِ والسيئاتِ فَتَحْذَرَ مِنْ قربِها فالإنسانُ إذا لمْ يصبرْ، وقعَ فيما حرَّمَ اللَّهُ عليهِ أو ترك ما أوجبَ اللَّهُ عليه:
- ولهذا قالَ تعالى لرسولِهِ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزمِ مِنَ الرُّسُلِ}.
- وقالَ سبحانَهُ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}.
- وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ}.
- وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
- وقالَ تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
يعني: اصبرُوا على طاعةِ اللَّهِ وتركِ معصيتِهِ، واحذروا مخالفةَ أمرِهِ وارتكابَ نهيِهِ.
****
وهذا هوَ الدليلُ على هذهِ المسائلِ الأربعِ، ففي هذهِ السورةِ العظيمةِ الحُجَّةُ لهذهِ الأمورِ وهذا هوَ الدينُ كلُّه، فالدينُ كلُّه إيمانٌ وعملٌ ودعوةٌ وصبرٌ، إيمانٌ بالحقِّ وعملٌ بِهِ ودعوةٌ إليهِ وصبرٌ على الأذى فيهِ.
والناسُ كلُّهُم في خَسارةٍ {إلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أيِ: الذينَ استثناهُمُ اللَّهُ فجميعُ بني آدمَ في خُسْرانٍ وعلى طريقِ الهلاكِ إلاَّ الذينَ آمنُوا وعمِلُوا الصالحاتِ، وتواصَوْا بالحقِّ، وتواصَوْا بالصبرِ، فهؤلاءِ هُمُ الرابحونَ، وهُمُ السعداءُ.
وقدْ أقسمَ اللَّهُ على هذا بقولِهِ: {وَالْعَصْرِ} وهوَ الصادقُ سبحانَهُ وتعالى وإنْ لَمْ يُقْسِمْ، ولكنْ أقسمَ لتأكيدِ المقامِ.
واللَّهُ سبحانَهُ وتعالى يقسمُ بما شاءَ منْ خلقِهِ،فلا أحدَ يَتَحَجَّرُ عَلَيْهِ، فَأَقْسَمَ بالسماءِ ذاتِ البروجِ، وأقسمَ بالسماءِ والطارقِ، وبالضحَى، وبالشمسِ وضحاها، وبالليلِ إذا يَغْشَى، وبالنَّازِعَاتِ ، وغيرِ ذلكَ:
- لأَِنَّ المخلوقاتِ تدلُّ على عظمتِهِ،وعلى أنَّهُ سبحانَهُ هوَ المستحقُّ للعبادةِ.
- ولبيانِ عظمِ شأنِ هذهِ المخلوقاتِ التي تدلُّ على وحدانيَّتِهِ وأنَّهُ المستحقُّ للعبادةِ وحدَه.
وأمَّا المخلوقُ فليسَ لَهُ أنْ يُقْسِمَ إلاَّ بربِّهِ،فلا يُقْسِمُ ولاَ يَحْلِفُ إلا باللَّهِ ولا يجوزُ لهُ أن يحلفَ بالأنبياءِ، ولا بالأصنامِ، ولا بالصالحينَ، ولا بالأمانةِ، ولا بالكعبةِ، ولا بغيرِها.
هذا هوَ الواجبُ على المسلمِ؛ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)) أخرجَهُ الإمامُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ.
وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((مَنْ كَانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)).
فالواجِبُ عَلَى كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ الحذرُ من الحلفِ بغيرِ اللَّهِ، وأنْ تكونَ أَيْمانُهم كلُّها باللَّهِ وحدَه سبحانَهُ وتعالى.

****
يقولُ الشافعى رحمَهُ اللَّهُ: (لوْ ما أنزلَ اللَّهُ حجةً على خلقِهِ إلاَّ هذهِ السورةَ لكَفَتْهُم)
وفي رِوَايةٍ:
(لو فكَّر النَّاسُ في هذهِ السورةِ لكَفَتْهُم ) أيْ لوْ نَظَروا فيها وتأمَّلوا فيها لكانتْ كافيةً في إلزامِهِم بالحقِّ، وقيامِهِم بما أوجبَ اللَّهُ عليهِم، وتركِ ما حرَّمَهُ عليهِم؛ لأَِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أنَّ الذينَ آمنُوا وعملُوا الصالحاتِ وتواصَوْا بالحقِّ وتواصَوْا بالصبرِ همُ الرابحونَ، وَمَنْ سواهُم خاسرٌ.

وهذهِ حجةٌ قائمةٌ على وجوبِ التواصي، والتناصُحِ،والإ يمانِ والصبرِ، والصدقِ، وأنَّهُ لا طريقَ للسعادةِ والربحِ إلاَّ بهذهِ الصفاتِ الأربعِ؛ إيمانٌ صادقٌ باللَّهِ ورسولِهِ، وعملٌ صالحٌ، وتواصٍ بالحقِّ، وتواصٍ بالصبرِ.
***
قَالَ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-: (بابٌ: العلمُ قبلَ القولِ والعملِ؛ لقولِ اللَّهِ سبحانَهُ: {فَاعْلَمْ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}فبدأَ بالعلمِ قبلَ القولِ والعملِ) فالإنسانُ عليهِ أن يتعلَّمَ أوَّلاً، ثمَّ يعملَ، فيتعلَّمَ دينَهُ، ويعملَ على بصيرةٍ.
واللهُ أعلمُ.