خطبة الحرم المكي - النهوض بالأوطان ماديا وقِيميا


الفرقان
عناصر الخطبة
- تطلُّع الأمم والشعوب لتحقيق آمالها وطموحاتها.
- تميز الشريعة الإسلامية في نظرتها الشاملة المتوازنة للأمور.
- دور القيم الإسلامية في بناء الشخصية السوية.
- بعض أهم ثمار حب الوطن.
- المجتمع الإسلامي مجتمع متعاون متآزر.
جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 13 من صفر 1444 ه، الموافق 9 من سبتمبر 2022 بعنوان: (النهوض بالأوطان ماديا وقِيميا) ألقاها إمام الحرم المكي الشيخ عبدالرحمن السديس، وتناولت الخطبة عددًا من العناصر كان أهمها: تطلُّع الأمم والشعوب لتحقيق آمالها وطموحاتها، وتميز الشريعة الإسلامية في نظرتها الشاملة المتوازنة للأمور، ودور القيم الإسلامية في بناء الشخصية السوية، وبعض أهم ثمار حب الوطن، والمجتمع الإسلامي مجتمع متعاون متآزر، ودعوة للوقوف مع النفس.
في بداية الخطبة بين الشيخ السديس أنه تحقيقًا للمبادئ والثوابت أمامَ طوفان المتغيِّرات، ومراعاةً للسنن الشرعيَّة والكونيَّة، وفي ظل تنامِي موجات التشكيك والأفكار الدخيلة، والمساوَمة على المبادئ والقِيَم الإسلاميَّة والإنسانيَّة، وأمامَ التحدِّيات الفكريَّة والأمنيَّة والتنمويَّة، وجديد الصراعات والأزمات، تتطلَّع الشعوبُ والمجتمعاتُ إلى ترسيخ أُسُسٍ ومرتَكَزاتٍ، تُحَقِّقُ مِنْ خلالها التقدمَ والازدهارَ، وتُعانِق فيها الأمجادَ، وتُسابق الحضاراتِ، ومدارُها على الدِّين والقِيَم، فهُمَا الفَخرُ والشِّيمُ، وبهما تعلو الهِمَم، وتبلغ القمم، وتسمو الأمم، يكمن ذلك في: إيمانٍ خالصٍ، وأمنٍ وارفٍ، وقِيَمٍ نبيلةٍ، واعتدالٍ لَاحبٍ، وعِلم واجب، وتربية سليمة، وتنمية مُستدامة، ورقمنةٍ مستفادةٍ، وأنسنةٍ مستفاضةٍ، وجودةٍ عاليةٍ، للحياة شاملةٍ، تلك عَشَرَةٌ كاملةٌ، تُحقِّق الإسعادَ للمجتمعات، والازدهارَ في الأمجاد والحضارات.
أسس حضارتنا الإسلاميَّة
ولقد قامت حضارتُنا الإسلاميَّةُ على أُسُسٍ دينيةٍ وقِيَمِيَّةٍ لا مثيلَ لها؛ ذلك أن رسالتنا الإسلاميَّة عالميَّة حضاريَّة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}( الْأَنْبِيَاءِ: 107)، وإن من أَجْلَى خصائصها الزكية، جَمعَها جوهرَ الشرائع السماويَّة، وخلاصةَ الرسالات الإلهيَّة؛ فالإسلام ينظر إلى الإنسان نظرةً شاملةً دقيقةً متوازنةً، يُصلح معها حالَ الإنسان، ويُراعي حقوقَه وكرامتَه، دونَ تنازُل أو مساوَمات، مَهمَا تغيرتِ الأحوالُ أو تبدلت الأزمان.
ارتقاء الأفهام
وعندما تَرْتَقِي الفهومُ إلى مَدَاراتِ الإسلامِ وتشريعاتِه الحُكْمِيَّةِ، وأسْرَارِه الحِكَمِيَّةِ، وإشراقاتِه الإنسانيَّةِ، فستجِدُ أنَّه اعتَمَد على رُكنَي الدين والقِيَم، فالإيمان، والعقيدة، والتوحيد أساسُ الحياة، الذي يَرفَع النفوسَ إلى قِمَم العزّ والشرف والصفاء، وسموها عن بَوَارِ الوثنيةِ والشركِ والشقاءِ، أمامَ الموجات الإلحاديَّة، والنَّيْلِ مِنَ الذات الإلهيَّة، والرسالات السماوية، والتعلُّقات بالأوهام والخُزعبلات، والتشاؤم من الشهور والأبراج والمطالع: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}(الزُ ّمَرِ: 3).
أول واجب على العبيد
واعلم بأن أول واجب على العبيد إفرادُ الله بالتوحيد، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «وما أنعَم اللهُ على عباده نعمةً هي أعظمُ من نعمةِ التوحيدِ، فبه أُرسلتِ الرسلُ، وأُنزلتِ الكتبُ، وقامَتْ سوقُ الجنةِ والنارِ».
فَلِوَاحِدٍ كُنْ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ
أَعْنِي سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ
إعلاء شأن القِيَم والأخلاق
كما يُعلْي الإسلامُ شأنَ القِيَم والأخلاق، التي نَهَل رادةُ الحضاراتِ، ونحاريرُ المبادَراتِ من نبع مكارمها السلسال، وارتشَفُوا من مَعِينِها الذي جرَى وسال، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا بُعِثتُ لأتممَ صالحَ الأخلاقِ»(أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد)، فالقِيمُ الإسْلاميّةُ يا -رعاكم الله-، هِي مِعْراجُ الرُّوحِ لِبنَاء الشَّخْصِيّة السَّوِيّةِ العالية، فبصالح الأخلاق دامتِ الممالكُ الأُوَلُ، وبسفسَافها دَالت كثيرٌ من الدول.
إِنِّي لَتُبْهِجُنِي الْخِلَالُ كَرِيمَةً
بَهَجَ الْغَرِيبِ بِأَوْبَةٍ وَتَلَاقِ
وَيَهُزُّنِي ذِكْرُ الْمَرُوءَةِ وَالنَّدَى
بَيْنَ الشَّمَائِلِ هِزَّةَ الْمُشْتَاقِ
فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَحْمُودَةً
فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الْأَرْزَاقِ
وهنا تُعلى قيم الصدق والأمانة، والرفق والشرف والمروءة واليسر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وحقوق الأخوة، ورعاية الأيتام، والأعمال الخيريَّة والتطوعيَّة، والإغاثيَّة، والإنسانيَّة، في مجافاة للعنف والإيذاء، والعقوق وسلب الحقوق.
الأمن والأمان والاستقرار
يتوج ذلك وَرِيفُ الأمنِ والأمانِ، والاستقرارِ والاطمئناِن، وقد جعَلَه اللهُ -سبحانه- من أجلِّ النِّعَم فقال -سبحانه-: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(قُرَيْشٍ : 4).
وَمَا الدِّينُ إِلَّا أَنْ تُقَامَ شِعَائِرٌ
وَتُؤْمَنُ سُبْلٌ بَيْنَنَا وَشِعَابُ
الأمن الفكريّ
وكذا الأمن الفكريّ أمام اللَّوثات والانحرافات الفكريَّة والسلوكيَّة، ولقد امتن الله -تعالى- على بلاد الحرمين الشريفين بنعمة الأمن والأمان، فسبحان الله -عبادَ اللهِ- ها أنتم أولاءِ ترونَ الناسَ من حولكم وما يعيشونه من خوف واضطراب، في مختلف البقاع والأصقاع، ونحن في هذه البلاد المباركة -حرسها الله-، ننعَم بالأمن والأمان والإيمان والاستقرار والاطمئنان، نعتز بديننا ونفخر بقِيَمِنا، فلِلَّه الحمد والمنة.
الانتماء للوطن
وهنا يُؤكَّد أن الانتماء للوطن ليس مُجرَّدَ عاطِفَةٍ غامرةٍ، أو مشاعرَ جيَّاشةٍ فحسبُ، بل هو مع ذلك إحساسٌ بالمسؤوليَّة، وقيامٌ بالواجبات، فالمواطَنة الحقَّة شَرَاكةٌ بينَ أبناءِ الوطنِ في الحياة والمصير والتحدِّيات، وفي المقدَّراتِ والمكتسَباتِ والمُنْجَزَاتِ، وفي الحُقُوقِ والوَاجِبَاتِ، وذلك من خلال الرُّؤى المستقبليَّة، والخُطط الإستراتيجيَّة، والاستثمارات الحضاريَّة، والمنشآت الرقميَّة التقنيَّة، إلى غير ذلك من الفاعليَّة والإيجابيَّة، والإسهامات الإنتاجيَّة التي تُحفِّز على التنمية القائمة على استثمار التِّقانة، والتحول الرقميّ، والذكاء الاصطناعيّ، لمواكَبة عصر الثورة التقانيَّة، من خلال التنمية المُستَدامة، والمواكَبة العِلميَّة للتطوُّر الحضاريّ العالميّ، في استمساك بالأصول والكليات، وسَعةٍ في الفروع والجزئيَّات.
أهم ثمار حُبّ الأوطان
ومن أهم ثمار حُبّ الأوطان، الوحدة، واللُّحمة، ولزوم الجماعة، وحُسْن السمع للإمام والطاعة، في وسطيَّة واعتدال، فلا غُلوَّ ولا تطرُّفَ، ولا جفاءَ ولا انحلالَ، في وحدة متألِّقة تتسامى عن الشذوذ والفُرْقَةِ والانقسامات، وكَيْل التُّهم، والتصنيفات، والخلافات، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(الْ مُؤْمِنَونَ: 52).
العدلُ والإنصافُ
ومِنْ أجلِّ مظاهرِ القِيَمِ الساميةِ العدلُ والإنصافُ حتى مع المخالِفِ، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(الْ مَائِدَةِ: 8)، فالإسلام لم يَقُمْ على اضطهادِ مُخالِفِيهِ، أو مصادَرة حقوقهم، أو تحويلهم بالإكراه عن عقائدهم، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(الْبَق َرَةِ: 256)، أو المساس الجائر بدمائهم وأعراضهم وأموالهم، بل ضَمِنَ الحرياتِ، لكِنْ بلا تجاوُز وانفلات، إذ الحريةُ قائمةٌ على الضوابط الدينيَّة والقِيَمِيَّة المجتمعيَّة والنظاميَّة، في تسامُح وتعايُش وحوار وسلام لم يَشهَد له العالَمُ مثيلًا.
سمات هذا العصر
ولَئِنْ كَانَ هَذَا العَصْرُ، هُوَ العَصْرَ الذي بَلَغَتْ فيه البَشَرِيَّةُ ذُرَا الرُّقِيِّ الفِكْرِيِّ، والحَضَارِيِّ، والتِّقنيّ، فإنَّه -أيضًا- هو أشدُّ العُصور حَاجَةً وعَوَزًا للعِلْم والمعرفة المقرونة بحُسن الوعي والتربية، ولعل أبناءنا وفتياتنا الذين يستقبلون العامَ الدراسيَّ الجديدَ، يدركون ذلك من خلال التكامل الفَيْنان بين الأسرة والمدرسة لتطوير المنظومة التعليميَّة والتربويَّة أمامَ والقضاء على الجهل ومحو الأُمِّيَّة، أمام سَيْلِ التحدياتِ القيميَّة، لاسيَّما المخالَفات القيميَّة في المحتوى الإعلاميّ في وسائل التواصُل الاجتماعيّ، وغُثائيَّة بعض مَنْ يُوسَمون بالمشاهير وضرورة حوكمتها.
مواكَبة لكلّ المتغيِّرات
وفي مواكَبةٍ لكلّ المتغيِّرات، يدعو الإسلامُ إلى الإتقان والجودة، والتميُّز والابتكار والإبداع، فأيّ فخرٍ وأيّ شرَفٍ بعدَ هذا الشرف!، وإن المتأمل لمبادئ الجودة، والأنسنة الشاملة، يُدرِك سبقَ الشريعة لتلك المبادئ التي هي أصلًا من أُسُس الدِّين ومَعالِم الإسـلام، كما يجد أن الإسلام حثَّ عليها وعَمِلَ على ترسيخها، فَحُبُّ العملِ وإتقانُه والمهارةُ في أدائه، والإخلاصُ فيه، ومراقَبة اللهِ -تعالى-، كلُّها مبادئُ رغَّب فيها الإسلامُ، ووعَد فاعِلَها بالثواب والأجر العظيم، فمفهوم الجودة والأنسنة حاضرٌ في كل تعاليم الدِّين بكل مضامينه، ويُسهَم في تجسيد وتحسين الصورة الْمُشرِقة عن الإسلام والمسلمينَ، وما ذلك على الله بعزيز.
ممَّا يُميِّز المجتمعَ الإسلاميَّ عن غيره
وإن ممَّا يُميِّز المجتمعَ الإسلاميَّ عن غيره أنَّه آخِذ بعضُه بيدِ بعضٍ، يُوصي بعضُهم بعضًا بالحقِّ والصبر عليه، ويتعاونون على البِرِّ والتقوى، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عن رعيَّته»
(مُتَّفَق عليه)، فشريعتنا الغرَّاء لا تعرف الانعزاليةَ والانغلاقَ، والتقوقعَ والجمودَ، لكنها تَعرِف الانفتاحَ والتجددَ والمرونةَ وَفْقَ المتغيراتِ والمستجِدَّاتِ، مع المحافَظة على الثوابتِ والمُسَلَّمَاتِ .

وَاجِبَنا الديني والقِيَمِي والوطني
وإنَّ وَاجِبَنا الدينيَّ والقِيَمِيَّ والوطنيَّ لَيُحَتِّمُ على كلِّ فردٍ مِنَّا، وخاصةً القادة والعلماء وذوي الفكر والرأي والإعلام، والرموز والقدرات، والشباب والفتيات والمرأة، أن ينهض كلٌّ بواجباته لنكونَ يدًا واحدةً في وجه المنتهِكِينَ لحُرمةِ الدينِ والأوطانِ، من خلال التَّصَدِّي للشائعات المُغْرِضَة، والأخبارِ الكاذبةِ، والدَّعَواتِ المشبوهةِ، والجماعاتِ المُنْحَرِفَةِ، والأحزاب الضَّالة، والتنظيماتِ الإرهابية المارقةِ، التي تسعى جاهدةً إلى إثارة البلبلة والفتن، والقلاقل والإحن، والخيانات الدينيَّة والوطنيَّة، لننعمَ جميعًا بالأمن والاستقرار، ونحافظَ على الوحدة الدينيَّة، واللُّحمة الوطنيَّة، وتعزيز قِيَم النزاهة والشفافيَّة، ومكافَحة الفساد بشتَّى صُوَرِه، والحفاظِ على المالِ العامِّ، وعدم الاعتداء عليه، وعلى المَرافِق والممتَلَكات العامَّة، والإبلاغ عن جرائم الفساد ومرتكبيها، والجرائم العابرة للحدود والقارَّات.