تجربة وسيرة في عالم أدب الأطفال
د. طارق البكري
(نشرته مجلة الطفولة العربية في عدد مارس 2018)
بقلم: د. طارق البكري
لبناني مقيم في الكويت
مقدمة لا بد منها:
الكتابة للطفل ليست غاية في حد ذاتها أو سبيلاً لغاية، بل هي غواية عند الأديب المحب المجد، يقصدها الجامحون المولعون بلا تطلعات أو أهداف ذاتية، هم يتلذذون إذا كتبوا، ويستمتعون إذا انتهوا، لا يمنعهم بلاء ولا وباء، ولا قلة نشر أو انتشار، ولا مانع من الموانع من المضي قدماً كالثوار، مؤملين النفس بجيل من الأحرار، يمشون بصبر وإصرار، ولا يملون الانتظار، حتى وإن لم يكن الحصاد الطيب سريعاً وفيراً، وكانت الظلمة السخية على الدرب جاثمة والأنوار الساطعة ضعيفة باهتة.
والكلمة التي أكتبها أسعى لكي تكون منبر عطاء وبناء، لا آلة هدم وإفناء، فكم من شيء قدم للأطفال أساء وكم من نوايا صالحة أضرت أكثر من النوايا الطالحة. وأؤمن بأن على كاتب الطفولة المبدع أن يحصِّن نفسه ويعدها الإعداد الأمثل، ويتزوَّد بكثير من الأدوات حتى يقدر على ولوج الزمن واختراق المدى، وصولاً إلى عالم الطفل الصغير. وتزداد خطورة وأهمية أدب الطفل حيث يقدم له عصارة فكره، ويلهم خياله بكرم وسخاء، ويبني مجد مستقبله بعيداً عن آفة الغلو والتعصب والكراهية والعنف والفساد.
وتشرفت خلال رحلتي الطويلة نسبياً في عالم أدب الطفل وإعلامه بلقاء عدد كبير من الكتَّاب المجيدين الذين تحمسوا كثيراً في بداية مشوارهم لأدب الطفل، بَيدَ أنَّ معظمهم كما تحمسوا؛ انحسروا مرة واحدة. ومنهم من آثر الابتعاد بهدوء دون صخب، ومنهم من هجر الأدب والإعلام كلية، ومنهم من يئس وتوجه لوجه أدبي وإعلامي آخر، لأسبابه الخاصة، أما أنا، فما زلت - كما بدأت - أحني رأسي تأدباً وإجلالاً أمام سمو الطفولة ومكانتها، وكأني أسيرها.
وقد صادفت على الدرب العديد من الأحبة؛ تساقط كثير منهم، ولم يتابعوا المشوار، أما الذين صمدوا فقليل ما هم، وأعتقد إلى حد بعيد أن الكتابة للطفل جزء من شخصية الكاتب.. والقصة الطفلية يجب أن تكون محور روح المؤلف، أما أن أكتب وأرص الحروف والكلمات خلف بعضها بعضاً، وأزين وألون دون غوص في أعماق نفسي فلن أكون جزءاً من قصتي ولن تكون قصتي جزءاً مني.
فالقصة عندي إن أعجبت كثيراً من الأطفال، ونالت ما نالت من الجوائز؛ تبقى قاصرة إذا لم تخرج من أحشائي. فالقصة عندي تشبهني كما يشبه الولد أباه وأمه. وكما أن الولد سر أبيه فإنَّ القصة هي أيضاً سرُّ كاتبها. وأنا لا أعوِّل كثيراً على تنامي اهتمام المتابعين العابرين بالنص الأدبي، ولا بكثرة مديحهم وثنائهم، فكم من برامج ونصوص "هامشية" تعرض على المحطات الفضائية ويلتم حولها الملايين، وكم من كتابات على الإنترنت وفي الصحف والمجلات وهي في الحقيقة لا ترقى لتكون فناً ولا أدباً. فالعبرة عندي ليست بكثرة المتابعين؛ بل بجودة ما أقدمه. سواء قبلته دور النشر أم لم تقبله، وسواء فاز بجائزة أم لم يفز، لأن النص الطفولي الحي لا يحيا حقيقة ويخلد إلا إذا خرج من القلب ولم يدخل إلى الجيب.
وخلال دراستي لأدب الطفل في الجامعة في مراحلها المختلفة، وكذلك خلال قراءتي لكثير من كتب أدب الطفل وكتب التربية وكتب إعلام الطفل، لم أقتنع بكثير مما تورده هذه الكتب، وبالرغم من أني علمت في الجامعة مادة أدب الطفل، فإني لم أقتنع أيضاً بكثير مما كنت أعلمه، ومنها التقسيم العمري للطفل، تربوياً وتعليمياً، وما تضمنته هذه المضامين من أفكار.
وأعجب أشد العجب ممن ما يزال يتمسك حتى اليوم بتقسيمات الطفولة ومراحلها التقليدية، ويرددها في كل كتاب وبحث ولقاء ومحاضرة بثقة، كمسلَّمة لا شِية فيها، علماً أنه مضى على هذه الآراء زمن طويل، وتغيرت مفاهيم الطفولة وأمزجتها، ولم يعد طفل القرن الواحد والعشرين يشبه بحال طفل القرن الماضي، وبات زمانهم غير زماننا. وحتى أنت اليوم لا تشبه أنت الأم. لذا أعتقد أنه يجب التخلص من هذه التقسيمات في أدب الطفل وإعادة النظر فيها، بل في كل ما يوجه للطفل، وخاصة في الدراسات التربوية والإعلامية والتعلمية، واعتبارها شيئاً من الماضي المنقرض، تعلم على أساس أنها كانت أشياء معتمدة وانتهت، مثلها مثل كثير من الأدوية التي كانت تستخدم لأمراض معينة، فيكتشف العلم مع تطور الدراسات والأدوات ما يجعلها من الماضي. فكلنا نعرف مثلاً أن الريشة كانت أداة للكتابة؛ فأين هي اليوم؟ وكلنا نعلم ما هي الأقراص المرنة (فلوبي)، لكن لا أحد بات يستعمل ريشة الطيور للكتابة، كما أن أجهزة الحاسوب الحديثة لم تعد تستقبل الأقراص المرنة، وبات الـ(فلاش ميموري) سيد الحافظين.
وأرى أنَّ النص الطفولي مثل أي نص آخر، لكن بما أنه يقصد جمهوراً خاصاً، فإنه يحتاج لكاتب خاص، يمتلك حسَّاً طفولياً صادقاً، ونفساً طفولية متَّقدة متجذرة، يعيش الطفولة بتفاصيلها، وليس مجرد هاو مجرب، يقتحم هذا المجال بكلمات يكتبها ويرى لها بعض الرواج، فيظن واهماً أن الكتابة للطفل سهلة الانقياد هينة طيعة، كما يعتقد كثير من الناس، وخاصة في بلادنا، لأننا لا نعطي الطفولة مكانتها، ولا نعي أهميتها المستقبلية كما يجب، فنبحث عن الرخيص من البرامج والنصوص، ونذهب هنا وهناك لكي نملأ مكتبة الطفل ومحطاته التلفزيونية ومجلاته الورقية أو الإلكترونية، ونعدو خلف ألعابه الإلكترونية، فينشأ الطفل على غير الشاكلة التي نريدها، ومن هنا يأتي دورك الكبير أيها الكاتب الناشئ؛ فدورك ليس مجرد رص الكلمات خلف بعضها، أو صوغ نصوص مضحكة مسلية، أو تلحين أنغام تطرب الطفل وتنومه، أو تصوير برامج أو دبلجة أفلام ومسلسلات تلقى في عقول الصغار حتى تفقدهم كيانه..
إنَّ فن النص الطفولي ليس بهذه البساطة التي يتوهمها البعض، فهذا الفن عالي القمة شديد الهمة، وعر السبيل يحتاج إلى دليل، لا يسلكه بجدارة غير فنان تصحبه المهارة، قادر على فهم الشخصية الطفولية بكل جوانبها، لكي يضطلع بمهمة صياغة البنى التحتية البشرية.
ولكتابة النص الجيد أسس مذكورة معروفة ومبادئ منصوصة، وأدوات منشورة في كثير من المراجع، ولن أعيد تكرارها وتوصيفها، وإن كان لي فيها رأي موافق في جانب ومخالف في آخر، لكني لأعجب ممن قرر فجأة أن يكون كاتباً للأطفال، دون أي أدوات خاصة، وإرهاصات سابقة، فكيف يقرر هذا القرار الخطير ولم يقرأ من مجلات الأطفال غير عناوين أغلفتها، ولم يحفظ من أغنيات الأطفال غير ما سمعه من أيام الطفولة ولم يلعب مع الأطفال ولم يزر مدارسهم وأنديتهم وأسرة مستشفياتهم، ولم يعرف عن الأطفال وأمزجتهم وصنوفهم ومشاعرهم وكتبهم وتربيتهم سوى القليل القليل.
وبالرغم من أن البعض - وأكرر البعض - قد ينجح لإخلاصه وتسخيره تجاربه السابقة في هذا النجاح، فأني أزعم أن على هذا البعض أن يستكمل أدواته، ولا يتوقف عند ما حققه من نجاح، ويعضده بالفكر المستجد والتهذيب المتواصل، والمذاكرة والمداومة على أدب الطفل الجيد، لكي يذوق الكلمة الحلوة وينعم بأنق اللفظ الجميل المنعش، ويعيش النغم الباعث المتجدد المتوالد، فيذوي في الحرف ويذوب فيه، فينحته نحتاً، حتى يبري بعضه بعضاً ويثري الواحد الآخر، فهذه صنعة ماهر وعصا ساحر.
ولعلي لا أبتعد كثيراً إذا قلت إن كاتب الطفل المتميز، أديباً كان أو إعلامياً أو صحافياً، لا يكتمل عمله بغير صانع محترف مبدع فنان، من رسام ومخرج وممثل ومدير مسرح وخطاط ولغوي وتربوي، وما يتصل بذلك من أدوات تصوير وطباعة وورق وموسيقى وديكور وغير ذلك مما يتصل بالنص حسب نوع العمل المقدم للطفل من غير تحديد وفي كل المجالات. وحبذا لو تسلح كل واحد من هؤلاء بمعلومات نفسية وتربوية ولغوية، وأن يعين هؤلاء متخصصون في مجالاتهم ليخرج العمل على أفضل ما نتمنى.
ومن الخطأ الظن أن شخصاً مثل ديزني نجح لوحده، فهو كان يعمل ضمن فريق كامل يفكر ويبدع وينتج، والنجاح يكون للمجموعة وليس للفرد، ولا أقلل من شأن الكاتب المبدع، لكن الإبداع الجماعي يكون له من الأثر الكبير ما يعجز عنه الكاتب الأديب والصحافي اللامع والإعلامي الأريب والمخرج والممثل والرسام، كل واحد بمفرده.
وأعتقد أننا في العالم العربي ما زلنا في البداية في مجال الطفل وأدبه وإعلامه، لجهل كثير من الناس وخاصة أصحاب السلطة والمال لأهمية هذا النوع التربوي البناء. وأعتقد أن فيلماً واحداً يعد بطريقة صحيحة سليمة مؤثرة قادر على تقديم ما تعجز عنه آلاف المحاضرات والساعات التعليمية. إن ساعة تلفزيونية واحدة منتجة بعناية فائقة وبدقة بالغة وبسخاء نادر؛ يمكنها صناعة ما عجز عنه الكثيرون، لكن من أين تأتي هذه الساعة إذا كنا حتى الساعة نستقي معظم برامجنا من الغرب، نأخذها منهم جاهزة، ونعيد تقديمها لأطفالنا كما هي، سواء بلغتها الأصلية أو مترجمة أو مدبلجة، دون مراعاة أحياناً أنها صيغت أساساً لمجتمع غير مجتمعنا، ولطفل غير طفلنا.
وأعتقد أن الإخلاص للطفولة يجب أن يكون أولوية الأولويات بالنسبة للكاتب وللمجتمع عموماً، وقبل أي شيء آخر، وأزعم أن ما نحصده اليوم من مشكلات تعم بلادنا من قيم ومفاهيم دخيلة على مجتمعاتنا ليست سوى نتاج إهمالنا للطفولة ردحاً طويلاً من الزمن، ولكم زرت أماكن وأندية عديدة للأطفال؛ فوجدت كثيراً من العاملين فيها ليسوا أكثر من موظفين يؤدون مهمة وينصرفون.
وأنا لا أحبذ التشدد وركوب الصعب في النص، وأن نجعله درساً في اللغة العربية، أو قاموساً نسعى من خلاله إلى تعليم الطفل المفردات الجديدة بكثافة. وبالرغم من أهمية تعليم الطفل للغته، فإنَّ شحن النص القصير بعدد كبير من المفردات الأعلى من قاموس الطفل الصغير، ينفر الطفل عن القراءة ويبعده عنها. وهنا قد يقال إنَّ القاموس الطفولي اليوم اختلف كثيراً عن قاموس الطفل القديم، وهو يحتاج إلى جرعات إضافية نظراً لبعده عن اللغة ومزاحمة اللغات الأجنبية له، لكني أذكر بأن الطبيب يعطي المريض الدواء شيئاً فشيئاً حتى يقدِّر الله له الشفاء من الداء، ولا يعطيه الجرعات دفعة واحدة، بل قليلاً قليلاً، وهذا ما نبه عليه كثير من العلماء، وأوصوا به، فنحنُ اليوم بحاجة إلى كمية كبيرة من التشويق والإثارة في النصوص والبرامج التي نريد عرضها على الطفل، أكثر مما نحن بحاجة إلى الكلمات الموحشة الشديدة الصعوبة. فلنستخدم الكلمات والعبارات التي يفهمها من أجل توصيل الأفكار التي نريدها. وأعتقد أن الطفل سوف يقبل لاحقاً على معرفة اللغة مع مرور الوقت عندما يحب القراءة ويغرم بها، أما إذا كره القراءة والكتاب منذ البداية، فلن نستطيع بسهولة فيما بعد أن نعيده إلى الطريق المرغوب، فقد يكون الأوان قد فات، والصعوبة عندها سوف تزداد.
وإني لأشعر بهمٍّ وقلق عندما أطلع على بعض المقررات الدراسية لمواد اللغة العربية، وحتى بعض المواد العلمية الأخرى، حيث أجد أن هناك من يقحم بعض النصوص إقحاماً، ويختار شيئاً كتب للكبار ولا يناسب الصغار، يضعه لأبنائنا الأعزاء بالرغم مما فيه من صعوبة، في الشكل والمضمون، وربما وجدت مقالات سياسية أو فلسفية، واختيارات من هنا وهناك تشتت عقول الأطفال، وتبغضهم للدراسة وللكتاب، ولا تخفى أخطار ذلك عليك أيها الكاتب الحبيب.
ومن وجهة نظري أرى أن الخيال شيء رائع ممتع، ومَن مِنَ الأطفال لا يحب الخيال؟ والإبداعات الإنسانية كانت كلها خيالاً في خيال، وكثير من الأشياء تحققت بعد أن كانت خيالاً، فكم جميل هو الخيال الممتع المفيد، وكم نحتاج لكي نعمل بكل جد ونشاط على تنمية خيال الطفل بشكل واسع، أوسع من الأحلام، وأكبر من الواقع، وهذا ما نحتاجه اليوم أكثر مما مضى، مع ربط الخيال بشكل أو بآخر بالواقع، دون أن نحرف الجماليات التي يتحلى بها الطفل عن طريقها، بل نساعده على تنميتها، والاستفادة منها لتطوير ذاته ووصولها إلى أقصى ما يحلم ويتمنى.
وما زال الخيال يراودني ويؤرقني منذ البداية حتى اليوم، لا أصطنعه صناعة ولا ابتدعه ابتداعا فليس هذا من ديدني فهو يأتي كما يريد، وهو الملاحظ عندي فيما أكتب، وإن كان الأمر عسيراً في أحيان فإنه سهل يسير في أحيان أخر.
يتبع