الطفل واللغة الفصيحة



د. فاتن كوكة



الطفل غرسةٌ جميلةٌ تحتاج إلى رعاية لتزهر، وتُنتج ثمرًا طيبًا.
اللغة كما وصفها علامة بلاد الشام الأستاذ الدكتور مازن المبارك.
(صفة الأمّة في الفرد، وآية الانتساب إلى القوم، وحكاية التاريخ على اللسان).
• الواقع اللغوي للطفل السوري:
1- لغة الطفل والتحديات الراهنة
أ- الحرب.
ب- ضعف المستوى التدريسي.
ج- إهمال التخاطب مع الأطفال باللغة الفصيحة في مرحلتي رياض الأطفال والتعليم الأساسي.
د- تشتت ذهن الطفل بين العامية والفصيحة.
• الرصيد اللغوي للطفل السوري:
أ- تعليم اللغة الفصيحة بالفطرة والممارسة.
ب- العناية الفائقة بمستوى المدرسين في مرحلتي رياض الأطفال والتعليم الأساسي.
ج- تعزيز دور الوسائل التربوية والتعليمية في حياة الطفل.
لغتنا وأطفالنا أمانة في أعناقنا فلنحافظ عليها.
♦ ♦ ♦
الطفل واللغة الفصيحة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعد الله أوقاتكم بالخير والمحبة، مرحبًا بكم في هذا اللقاء الذي أرى فيه لغتنا العربية تزهو بألقها، وترفل بعزّها ووقارها، في يومها يوم اللغة العربية الأم.
أيها الحضور الكريم
ما وقفت أمامكم اليوم لألقي محاضرةً مطولةً في قضيّة من قضايا اللغة العربية، فهذا المقام لا يناسب هذا المقال، فهو برأيي شأن المؤتمرات والندوات.
وما كتبت هذه السطور لأعيدَ على أسماعكم كلامًا مكرورًا عن جمال لغتنا وسحر بيانها، أو لأقول: أنقذوا لغتنا العربية!! إنها على شفا حفرةٍ من الضعف والانكسار، لأنني مطمئنةٌ كلّ الاطمئنان على لغةٍ كانت وما زالت وستبقى بردًا على الأكباد، ورابطةً تؤلف بين أبنائها، وبحرًا زاخرًا تستقر اللآلئ في أعماقه.
فلغتنا التي اصطفاها ربُّ العزّة جلّ جلاله لتكون لغة القرآن الكريم قويةٌ مصونةٌ باقيةٌ حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وما يعزّز قوتها أيضًا حرصُ العلماء والمختصين على تمكينها وترسيخها في العقول والأفئدة بتعليم القرآن الكريم والحديث الشريف وتراث السلف الصالح في الأدب واللغة وعلوم الآلة.
لكن السؤال الذي يبرز هنا، لِمَ تطوق جِيدَ العربيةِ المخاطر كظبيةٍ بين الوحوش الكواسر، وهي في أيدٍ أمينةٍ حريصةٍ عليها؟
لعلّ الجواب مرتبطٌ بسبل التصدّي لهذه المخاطر، والتزام الجدية التامة في استخدام وسائل الدفاع عنها.
فثمة مشكلاتٌ تحدق بلغتنا - مع قوتها- وقف عليها المختصون ووضعوها وناقشوها وقدموا الحلولَ والتوصيات لها. منها على سبيل المثال لا الحصر، الضعفُ اللغويَّ عند الطلبة، انتشارُ العاميّة، لغةُ وسائل الإعلام، واقع المصطلحِ العلمي في الجامعات السورية، وغيرُ ذلك.
وقد آثرتُ اليومَ أن أشارككم بعضَ ما أفكر فيه، وأشعر به تجاه مشكلةٍ أراها جديرةً بالنقاش، وهي المستوى اللغويُّ عند أطفالنا في الوضع الراهن، فاخترتُ عنوان (الطفلُ واللغة الفصيحة) لأنتقل من العموم إلى الخصوص، أعني أنني سأبدأ بالطفل عامة لأنتقل إلى الطفل العربي السوري خاصة.
فالطفل أيها الحضورُ الكريم غرسةٌ جميلةٌ تحتاج إلى رعاية لتزهر، وتنتج ثمرًا طيبًا.
هذا الطفل سيغدو تلميذًا في المدرسة، وطالبًا في الجامعة. ليصبح فردًا نافعًا في المجتمع، فإذا صَلُحت لغته صَلُحت أمورٌ كثيرةٌ مرتبطةٌ بها، وإذا استقامت لغته في مرحلة الطفولة أزهرت ثمرًا يانعًا في مرحلة الشباب.
فاللغةُ كما وصفها علاّمة بلاد الشام أستاذُنا الدكتور مازن المبارك:
(صفةُ الأمّة في الفرد، وآية الانتساب إلى القوم، وحكايةُ التاريخ على اللسان)
فما أجمل هذا الكلام! وما أجمل أن يتشرّبه أطفالنا منذ نعومة أظفارهم! ليشبّوا وهم فخورون بلغتهم، عاشقون لها، حريصون عليها، متفاعلون مع واقع لغوي مزدهر بها.
لذلك سأقف عند جانبين مرتبطين بالواقع اللغوي للطفل السوري:
الأول: لغةُ الطفل والتحديات الراهنة.
الثاني: الرَّصيدُ اللغوي للطفل.
فإذا بدأنا بالجانب الأول، أي التحديات والصعوبات التي يواجهها الطفل في واقعه اللغوي يمكن لنا أن نذكر الأمور الآتية:
أ- الحرب وآثارها السلبية التي خلفتها في جميع النواحي، كالسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإنسانية، والنفسية، واللغويةِ أيضًا، وهي ما سنقف عنده، فأطفالٌ كُثُر انقطعوا عن المدرسة، وفقدوا الصلة بلغتهم الفصيحة، وأطفالٌ كُثُر لم يلتحقوا بالمدرسة في الأساس، وأطفالٌ كُثُر تغيّرت مدارسهم بحكم تغيّر مكان السكن، فأدَّى ذلك إلى اختلاف المدرّسين، وتفاوت مستوى التدريس. والبيئة التدريسية أيضًا، وأطفالٌ كُثُر اضطروا إلى الهجرة أو النزوح مع أسرهم إلى بلدانٍ أجنبية لا تعير اهتمامًا للغة العربية.
ب- تفاوتُ الوعي بين أهالي الأطفال بضرورة إتقان اللغة العربية في المدرسة وخارج المدرسة، عن طريق اختيار القصص المناسبة، والبرامج التعليمية الهادفة في التلفاز والشابكة والهاتف النقال، خاصةً أن العامية تسري في حياتنا ولغة أطفالنا كما تسري النار في الهشيم.
ج- ضعفُ المستوى التدريسي في بعض المدارس، ووقوع المدرّسين في أخطاءٍ تعليمية وتربوية أيضًا، مثال ذلك: شكوى أهالي الأطفال من الأخطاء الإعرابية عند بعض المدرّسين، ومن ذلك أيضًا: وقوع أطفالنا في اللحن والخطأ عند استظهار بعض النصوص القرآنية والشعرية، بل إنهم يخطئون في النشيد العربي السوري فيرفعون المنصوب، وينصبون المرفوع، ولا مصحّحَ لهم.
د- عدم اهتمام كثير من المدرّسين في مرحلة رياض الأطفال، وفي مرحلة التعليم الأساسي بمخاطبة التلاميذ باللغة العربية الفصيحة، وإن خاطبوهم فالخطاب في حصة اللغة العربية فقط، وهذا الأمر يترك أثرًا سلبيًا على الشخصية اللغوية للطالب يمتدّ إلى المرحلة الجامعية، إذ نجد كثيرًا من الطلبة الجامعيين لا يتقنون التحدث بلغة عربية فصيحة، ومنهم طلبة في قسم اللغة العربية أيضًا.
هـ- تشتتُ ذهن الطفل بين اللهجة العاميّة واللغة الفصيحة، وعدمُ قدرته على التعبير عن أفكاره شفويًا وأحيانًا كتابيًا بلغة فصيحة سليمة، والمؤسف أيها الأكارم أن بعضَ المسلسلات الكرتونية المخصصة للأطفال مُدَبْلَجةٌ بلهجة عامية كالمصرية والخليجية، ولا تتوانى بعض القنوات الفضائية عن عرضها.
هذا الكلام يقودنا إلى الجانب الثاني، وهو الرصيد اللغوي عند الطفل، فمن الضروري التعاون بين الأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية والثقافية ووزارةِ التربية لتكوين هذا الرصيد، لكي ننشئَ طفلًا واثقًا من لغته، ممسكًا بزمامها، فهذا الطفل هو الأخُ والابنُ والحفيدُ والتلميذُ فهل نتخلى عنه؟!
طفلنا السوري لا يقل ذكاءً عن أقرانه من غير السوريين، بل يتفوّق عليهم، فهو ينجح ويتفوق في المناهج الدراسية مع صعوبتها مقارنةً بمناهج الدول العربية الأخرى، وقد سمعنا كثيرًا عن الأطفال السوريين الذين تفوّقوا علىأترابهم في الدول التي هاجروا إليها فلم لا نستثمر هذا الذكاء، ونساعد طفلنا على تكوين رصيدٍ لغوي يفيده في حياته العلمية والعملية؟
وسأذكر أهم الأسس التي يمكن أن نعتمد عليها لتكوين هذا الرصيد:
1- تعليم اللغة العربية بالفطرة والممارسة، فمن المعروف عند علماء اللغة أن الطفلَ يولد وفي دماغه قدرةٌ هائلة على تعلّم اللغات، هذه القدرةُ تمكنه من كشف القواعد اللغوية كشفًا ذاتيًا، وتساعده على تطبيق هذه القواعد وإتقان المحادثة بلغتين أو ثلاث في آنٍ واحدٍ، وهو ما زال دون السادسة من عمره، فتأملوا!!
وهذا لا يعني أن الطفل بعدد السادسة يفقد هذه القدرةَ، لكنها تتناقص لأنه يبدأ بتعلّم المعارف والاستعداد لكشف القواعد كشفًا تعليميًا بمساعدة المعلّم لا كشفًا ذاتيًا فطريًا.
وقد ذكر ذلك الأستاذ الدكتور عبد الله الدنَّان صاحبُ التجربة الرائدة في تطبيق المحادثة باللغة العربية الفصيحة في عدّة دولٍ عربية منها سورية[2]، (فقد طبّق ذلك في روضة الأزهار العربية في عام 1992) ووضّح المستوى اللغويَّ الباهرَ الذي وصل إليه الأطفال بعد تدريبهم على التحدّث بلغةٍ عربية فصيحة في مرحلة رياض الأطفال.
وقد قرأتُ منشورًا فيسبوكيًا للأستاذ الدكتور شفيق البيطار عن هذا الأمر، وضَّح فيه أن أجدادنا القدماء عرفوا حلَّ المعادلة اللغوية التي يتساوى فيها الطرفان، اللغةُ العربيةُ الفصيحةُ، وتمكُّنُ الفرد منها، وهذا الحلّ يكون بإرسال الأطفال إلى الأعراب الفصحاء في البوادي، حيث اتسمت الألسنةُ بالفصاحة والبعد عن اللحن والخطأ، وهذا ناجمٌ عن فطرةٍ سليمةٍ، وسليقةٍ حيَّةٍ. لا عن تعلّم قواعد اللغة والنحو والصرف في سن مبكرة، والبديلُ الآن عن الأعراب الفصحاء هو الأخذ بيد الطفل ليتقن لغته بالفطرة، واستثمار ذكائه اللغوي في حفظِ النصوصِ القرآنيةِ والشعريةِ الجميلةِ المختارة بعناية، والملائِمةِ لخياله الخصب، وعالمه الطفولي البريء، دون انحطاطٍ في الألفاظ والمعاني، ولا يخفى أثرُ الحفظ في تكوين المخزون اللغوي عند الطفل، ونضيف إلى ذلك مخاطبة الطفل بلغةٍ فصيحةٍ سليمة في جميع الحصص الدرسية، وليس فقط في حصّة اللغة العربية، والعمل على ترغيب الطفل في القراءة، وتلخيص مايقرؤه شفويًا، وتفعيل النشاطات المدرسية المعنية باللغة العربية، والمشتملة على الفائدة والمتعة معًا.
2- العناية الفائقة بمستوى المدرسين في مرحلة الروضة، ومرحلة التعليم الأساسي، فهؤلاء المدرّسون مسؤولون عن جيل كامل، وأنتم أبناءنا الطلبة من ستقع على عاتقكم هذه المسؤوليةُ، لأن قسمًا كبيرًا منكم سيقوم بالتدريس، وأعظم بالتدريس من رسالة سامية!
ولعل أستاذنا الدكتور محمود السَّيّد خيرُ من فصَّل في طرائق التعليم، ولاسيما تعليم اللغة العربية لجميع الفئات العمرية بدءًا من رياض الأطفال مرورًا بالتعليم الأساسي فالثانوي فالجامعي، وتحدّث عن سبل إكساب المتعلمين المهاراتِ اللغوية محادثةً واستماعًا وقراءةً وكتابةً.
3- تعزيز دَوْر الوسائل التربوية والتعليمية في حياة الطفل وشخصيته وعقله ونفسه، ونحن في حاجةٍ ماسَّة إلى زيادة عدد هذه الوسائل لزيادة الرصيد اللغوي لأطفالنا، إذ لا يخفى على أحد الأثرُ الإيجابيُ الطيبُ الذي تتركه مجلاتُ الأطفال كشامةوأسامة، والمسلسلاتُ التلفازيةُ الهادفةُ، والألعابُ الالكترونيةُ التعليميةُ المدروسةُ، والبرامجُ التعليميةُ التربويةُ المحببةُ، والأغاني والقصصُ الجميلةُ التي تغرس في هذا القلب البريء مكارم الأخلاق بلغةٍ فصيحة ميسّرة.
أيها الأحبةُ نحن على ثقةٍ بأن ربيع بلادنا سيزهر من جديد، عندئذٍ يمكننا أن نهيئ لطفلنا البيئةَ اللغويةَ السليمةَ التي تتزاحم فيها تلك الوسائل لإثراء رصيده اللغوي، وهذا الأمرُ لن يتمَّ إلا بتضافر جهود المختصين، نريد لطفلنا أن يكون فخورًا بلغته، وأن يبقى على صلةٍ وطيدةٍ بها.
لغتنا وأطفالنا أمانةٌ في أعناقنا، فلنحافظ على هذه الأمانة.
شكرًا لاستماعكم


[1] ألقيت الكلمة في يوم الاثنين 26/ 3/ 2018 م في المدرج السادس بجامعة دمشق، بمناسبة يوم اللغة العربية الأم.

[2] ورد ذلك في (نظرية تعليم اللغة العربية بالممارسة، تطبيقاتها وانتشارها) ص 9، 10، 16، بحث مقدم في المؤتمر السنوي السادس الذي عُقد في رحاب مجمع اللغة العربية بدمشق من 5-7 تشرين الثاني 2007م.