حادثة الإفك نموذجاً - دروس من الأزمات والابتلاءات


المِحن والابتلاء منْ سنن الله في خلقه، كما قال -تعالى-: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35)، وقال -تعالى-: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179)، والبلاء له أنواع متعددة، منها بلاء في الأهل، ومنها في الولد، ومنها في المال، وغيرها، وأعظمها ما يبتلى به العبد في دينه، وقد جُمِع للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع البلاء، فابتلى في الأهل والمال والولد والأصحاب، وفراق الوطن، فصَبر واحتسب، وأحسن الظنّ بالله -تعالى-، ورضيَ بحُكمه، وامتثل شرعه، ولمْ يَتجاوز حدوده؛ فصار بحق قدوةً يقتدي به كلُّ مبتلى.
ومن ذلك: حادثة الإفك، فقد حاول المنافقون الطّعن في عِرض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالافتراء على عائشة -رضي الله عنها- واتهامها، بما يُعرف في كتب السيرة بحادثة الإفك، وكان القصدُ منه النيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أهل بيته الأطهار، وتشويه سُمعتهم، والنيل مِنْ مكانتهم الشريفة في قلوب المُؤمنين، لصَرْف الناس عنهم، ولإحْداث الاضطراب والخلل في المجتمع الإسلامي آنذاك، بعد أنْ فشلوا في إثارة النَّعرات الجاهلية، بين المهاجرين والأنصار، لإيقاع الخلاف والفُرقة في صفوف المسلمين، وهدم وحدتهم، وإشعال نار الفتنة بينهم، وقد كادت حادثة الإفك أنْ تُحقّق للمنافقين ما كانوا يسْعون إليه، لعِظم شرّها، ولكنّ الله -تعالى- سلَّم ولطف بالمؤمنين، وتمكّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحكمته في تلك الظروف الحالكة أنْ يجتاز هذا الامتحان الصّعب، وأن يَصل بالمسلمين إلى شاطئ الأمان.
دروس من المحنة
وهذه الحادثة -مع ما فيها من آلامٍ شديدة، لبيت النبوة وللصحابة جميعًا- تركتْ وراءها العديد من الحِكم الجليلة، والفوائد الكثيرة، التي ينبغي الاسْتفادة منها في واقعنا بوصفنا أفراداً ومجتمعات، منها:
1- إثبات بشريّة النبي - صلى الله عليه وسلم
فلم يَخْرج -بأبي هو وأمي- بنبوّته ورسالته، وفضله وعلو منزلته، عن كونه بَشراً، فلا يَجوز لمَن آمن به واتّبعه أنْ يتصوّر أنَّ النبوة قد تجاوزت به حدود البشرية؛ فيَصفه بما لا يجوز نسبته إلا لله وحده، قال -تعالى- على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110).
2- الوحي ليس إلْهاماً ذاتيا
كما أظهرت هذه الحادثة أنّ الوحيَ ليس إلْهاماً ذاتيا، وليس شيئاً خاضِعاً لإرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورغبته، ممّا يدّعيه دعاة التَّشكيك في الإسْلام والقرآن والسُّنّة، والتلبيس على المسلمين، منْ أعْداء الإسلام قديماً وحديثاً ممّن سار وراءهم؛ إذْ لو كان الأمر كذلك، لكان مِنَ السهل عليه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُنْهي هذه المحنة التي آذته وآذت زوجته والمُسْلمين، من يوم وقوعها، وفي ساعتها، لكنّه لم يفعل - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه لا يملك ذلك، وماذا كان يمنعه لو أنّ أمر القرآن بيده أنْ ينطق بهذه الآيات مِنْ بداية هذا الإفك، وهذه الإشاعة الكاذبة، ليَحمي بها عِرْضه، ويقطع ألسنة الكاذبين؟! ولكنّه - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليترك الكذب على الناس، ويكذب على الله، قال الله -تعالى-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44-47).
وكان فيما قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة -رضي الله عنها-: «إِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ»، فقالت -رضي الله عنها-: إني والله لا أجدُ مثلا، إلا أبا يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18)، وهكذا شاء الله أنْ تكون هذه المحنة دليلاً كبيراً على بشريّة الرّسول - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، في وقتٍ واحد.
3- تشريع حدّ القذف
ومن الحِكم والفوائد المترتّبة على هذه الحادثة: تشريع حدّ القذف، وأهميته في المحافظة على أعْراض المسلمين، فعندما وقعت حادثة الإفك أرادَ الله -عز وجل- أنْ يشرع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين، ومن المعلوم أنّ الإسلام حرّم الزّنا، وأوجب العقوبة على فاعله، وحرّم أيضاً كلّ الأسباب المؤدية إليه، منْ تَبرج وسُفور، واختلاط ونظَر، ومنها: إشاعة الفاحشة بالتحدّث بها في المجالس، ومنْ ثَمّ حَرّم الله القَذْف للمؤمنين والاتهام بالفاحشة، وأوجب على من اتهم عفيفًا أو عفيفة بالزّنا -وهم منه براء- حَد القذف، وهو الجلد ثمانين جلدة، وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحا، وفي ذلك صيانةٌ وحفظ للمجتمع من أن تشيع فيه ألفاظ الفاحشة؛ لأن كثرة الحديث عن الفاحشة، وتردادها على الألسن يُهون أمرها لدى سامعيها، ويُجرئ ضُعفاء النفوس على ارتكابها، أو رمي الناس بها، وفي ذلك كله تربية للمجتمع الإسلامي الأول، ليكون نموذجا للمجتمعات بعد ذلك.
4- فضل الصّدّيقة عائشة -رضي الله عنها- ومنزلتها
ظهر في هذه الحادثة فضل الصّدّيقة عائشة -رضي الله عنها- ومنزلتها، فقد برّأها الله منَ الإفك بقرآنٍ يتلى إلى يوم القيامة، يتعبد المسلمون بتلاوته في صلواتهم وخلواتهم، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُم} (النور: 11)، فكم ارتفعت منزلتها -رضي الله عنها- بذلك! وقد كانت تقول -كما روى البخاري-: «ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله مُنْزلٌ في شأني وَحْياً يُتْلى»، ومِنْ ثَمّ: فمَن اتهمها بعد ذلك بما برّأها الله -عزّ وجل- منه، فهو مكذّب لله في كتابه، ومن كذب الله، فقد كفر وخرج مِن ملّة الإسلام.
5- وجوب التثبت مِنَ الأقوال
كما أكَّدت هذه المِحْنة: وجوب التثبت مِنَ الأقوال قبل نشرها، والتأكد منْ صحتها، ولا سيما في الأمُور العظيمة المُتعلقة بالإسْلام والمسلمين، وقادتهم وولاة أمرهم، من العلماء والأمراء والكبراء، حتى لا يقع الإنسان في الكذب والظلم والبُهتان، ويكون سبباً في نشر الإشاعات والفواحش، التي تترتب عليها الفتن والخلافات، قال -تعالى-: {وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16).
6- الوقوف عند أمر الله -عز وجل- بالطاعة
ومن الفوائد المهمة من هذه الحادثة: الوقوف عند أمر الله -عز وجل- بالطاعة، وإنْ كانتْ مُخالفة لرغبة الإنسان وهواه، ويتجلّى ذلك في عدم ترك النّفقة على الأقارب والفقراء وإنْ أساؤوا للإنسان، والحثّ على العفو والصفح عمن أساء إليك، وقد ظهر ذلك في موقف الصّدّيق أبي بكر - رضي الله عنه -، الذي كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، فلما أنزل الله براءة عائشة -رضي الله عنها- قال أبو بكر: «والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبدا، بعد الذي قال في عائشة، فأنزل الله -تعالى-: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} (النور: 22)، فقال أبو بكر: «بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي»، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه.
7- الحرص على المشاورة في الأزَمَات
ومن الفوائد المهمة من هذه الحادثة أيضا: الحرص على المشاورة في الأزَمَات، والاستنارة بآراء أهل الرأي والخِبْرة والعلم، كلٌّ في مجال عِلمه وعمله، فقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على جَمع الآراء من أصحابه، وسأل المحيطين بأمّ المؤمنين عائشة عن أخلاقها وسلوكها وواقعها، واسْتشار أهل الفضل من أهله وغيرهم في أمرِ فراقها.
وبعد: فلقد كانت حادثة الإفك حلقة من سلسلة حلقات الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان منْ فضل الله ورحمته أنْ كشف زيفها وبطلانها، وأبقى دُروسها وفوائدها، لتكون عبرةً وعظة للأمة، إلى أنْ يرثَ اللهُ الأرض ومَنْ عليها، وكل ذلك من الخير الذي كشَفَه الله في ثنايا هذا الحادثة، مع ما فيها من ابتلاءٍ وآلام، وكانت كما قال الله -تعالى-: {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (النور: 11).

الشيخ: د. محمد الحمود النجدي