مقامة المغتربين
عبدالله بن عبده نعمان العواضي
حكى مسلم بن عبد الله قال: برَّح بي شوق إلى البيت الحرام، وطوَّح بي الحنين إلى ذلك المرام، وتطاول بي حبل الوجد من عام إلى عام، وأنا أرى وفود الزائرين من حُجاج ومعتمرين، يغدون ويروحون، حاملين معهم لظى أحزاني وأشواقي عند الوداع ويوم التلاقي، حتى برق في سماء النفس تحققُ مطلبها، وهطل في أرضها نيلُ مأربها، فركبتُ مطايا الحنين، وجمعتُ أشواق السنين، وعلى صهوات طريق التعب وصلتُ إلى مكة المكرمة، ومدينةِ الإسلام المعظَّمة، وعلى أبوابها اتقد الشوق اتقادا، وازداد خفقانُ القلب ازديادا؛ إذ عما قريب تقر العين برؤية ما كانت تهواه، وتلقى النفس ما كانت تتمناه، ويعانق القلب هنالك رجواه، ويصل الحبيب إلى ما أحب لُقياه. فلما سطعتْ للطرْف أنوارُ الكعبة السَّنِيَّة، وبدت أمامه مخايلُ عظمتها العليَّة، سالت دموع العينين على الوجنتين، وبرقت دلائل الفرح على الشفتين، وما كنت قبل هذا أعرف دمعًا غير دمع الوجع والترح، فرأيت مني اليوم دمع السعد والفرح، فلم يمهلني لساني وأنا بين أحضان الحيرة والعجب، وبلوغِ نفسي هذا الأرب، حتى قال:
هنا قبلةُ الإسلام والمجد والسَّنا
ومطلعُ نورِ الحق إذْ هلَّ من هُنا
ومهوى فؤادِ الصَبِّ من كل بلدة
ووجهةُ أهلِ الحق من سائر الدُنى
وموضعُ سكْبِ الدمع حُزنًا لتركه
وسعداً بمرآه العزيزِ على المُنى
فيا قلبُ هذا منزلُ الشوق قد بدا
ويا عينُ هذا مشهد الغيب قد دنا
فأنعمْ بهذا اليوم يومًا حييتُه
وأكرم بهذا البيت للروح موطنا
فجاوزت الصفوف بعد الصفوف، وطفقت حول الكعبة أطوف، وأنا في سعادة شاملة، وخُطى فرحةٍ متواصلة، فلما فرغت من الطواف، مضيت إلى تخوم المطاف، فصليت خلف مقام إبراهيم ركعتين، وفارقتهما وتحللت منهما بتسليمتين، ثم رمقتْ عيناي المسعى عن قرب، فدلفت إلى الطواف بين الصفا والمروة، فسعيت وبكيت، ودعوت عند توجهي إلى البيت، ثم أنهيت عمرتي، ومقصد رحلتي، بحلق شعر راسي، وحلَّ لي خلع إحرامي وارتداء لباسي، فسمعت حينئذ إقامة الصلاة، والدعوةَ إلى اجتماع الصفوف للمناجاة، فانتظمت في سلكهم، ودرت في فُلْكهم، فكانت أول صلاة أصليها في هذا البيت العتيق، وأشاهد هذا الجمع الأنيق، الذي جاء أكثره من كل فج عميق، فما كان أحسنها من صلاة أصليها، وأجملها من مناجاة تلذذت فيها، فلما سلمت من صلاتي، وقضيت استغفاري وتسبيحاتي، عرّفت إلى رجل نفسي بمصافحة وابتسامة، فعرفني نفسه وعلى وجهه قتامة، فعجبت لحزنه ووجومه، فأحببت النفاذ لاستخرج مكتومه، فقلت له: يا فلان، ما لي أرى الغمَّ يطوِّق منظرك، والكآبةَ تحتل مظهرك؟!
فقال: كيف لا أحزن ولا أكتئب، ولا أبكي ولا أنتحب، ولا يقيدني البؤس في أغلاله، ولا يحتويني الهم في غلاله، وأنا مغترب عن أولادي ووطني، وزوجي وسكني، وأحبابي وأصحابي، وإخوتي وجيراني، وأبي وأمي، وأقاربي وبني عمي، فلا أراهم إلا لَمَاما، وكم أجد لذلك آلاما.
فكم مات منهم من قريب، وفارقَ الدنيا من حبيب، وأنا في كفِّ النوى لا أستطيع تشييع جنائزهم، ولا حضور مآتمهم وولائمهم، وكم تركت زوجي حاملاً، فلا أعود إلا وقد صار ذلك الجنين طفلاً يدب، بل يسعى ويخب، فأسرعُ إلى احتضانه مسرورا، فيفر مني مذعورا؛ إذ لم ترني من قبل عيناه، ولم يقابل مرآيَ مرآه، فأتركه زمنًا حتى يعتاد منظري في البيت، وقد برد وهج شوقي بعدما أوريت. وأنا هنا أعاني مرَّ الغربة، ولظى العُزبة، وأتنقل من كربة إلى كربة، فماذا تنفعني الأموال الوفيرة، وأنا أذوق المرارات الكثيرة، وما أفيد من جمع الأموال، وقد فُرِّق بيني وبين الأهل والعيال؟! ثم رفع عقيرته منشدا، وتغنَّى بشعره مرددا:
عشتُ الغمومَ وذقتُ الضر والكمدا
لمَّا تركتُ ورائيْ الأهل والولدا
لقد طلبتُ رخاء العيش من سفري
ورمتُ من فرقة الأحباب أن أجدا
وأن أعيش سعيداً بعد فرقتهم
ولا أرى البؤسَ في أرض النوى أبدا
لقد غنيتُ ولكنْ مسني عوز
إلى السعادة لما صرتُ منفردا
قل للأُلى حسدوا للمال مغتربًا
لو تعلمون الأسى لم تحملوا الحسدا