السقوط الأكبر
صلاح الحمداني




في كلِّ صباح أخرُج بكاملٍ أناقتي، وأتهيَّأ لأكون شاعرًا، وأنا على موعد مع الفن؛ أحمل حقائبي من الكلام إلى الكلام، وأنشر قصائدي على حبل الزينة؛ حتى تحطَّ عصفورة على بيت مهجور، أو تُغرِّد على شُرفة آخر بألحان الشوق، أفعل هذا مِن أجلي، من أجل قلبٍ يحاول ألا يموت الساعة، ويستبدل بثوب اليأس الحياةَ.

في كلِّ صباح أضحَكُ حتى تهتزَّ جدران قلبي، فتتحرَّر الجنيَّات الطيبات، يطرُدن عن الليلِ ظلمته، وينشُرْنَ الفرح في حدائقَ جديدةٍ مِن الورد، ويُلهِمن راعيًا كي يكتب بالناي قصيدةً على حافَةِ الأمل بعَوْن الريح، ويوم جميل في حضرة منظر أخَّاذ يُمْلي عليه الطيبة والسعادة.

أعترف الآن أني أعرِف ما يعنيه أن أكون على وِفاقٍ مع العالم، وقبل أن يكونَ لي شأنٌ يا نفسي؛ أنا أعتزُّ بكِ أكثر من ذي قبل.

وأعترف كذلك بأنه لم يَعُد هناك خيبةُ أمل ولا سعادةٌ متميزة، فقط اعتَدْتُ على نفسِ الإحساس، نفس التصرُّف، بعيدًا عن العصبية، بعيدًا عن الفرح، أدُورُ في حَلْقةٍ شروقُها المال وغروبُها الشيء عينُه، ما أنا من هؤلاء المتميِّزين، ولا في عالَمي حياةٌ تتجدَّد مع أناس مُعجَبين، تارة هنا وتارة هناك، وما زلت لم أصنَع ما أطمَح إليه وحلمت به.

إلى قلبي الذي لم يعد يتكلَّم، وإلى عقلي العاجزِ عن الابتكار، وإلى وِجداني الذي مات فرأى العدمَ بعد الوفاة، كبِرتُ عن الحب، وشِخْتُ عن الألم، ولا ساكن تحرَّك منذ مدة، منذ أن اخترتُ الطريق عن طريق أحببتها، وتعلقت بها، فأحزنتني وأسعدتني، ودائمًا نفس النتيجة، أما الآن، فضاع كل ما كان في الحسبان، وتبِعت مسار الخصاص لعلَّه يُعوِّضني عن كل ما فات.

في هذا اليوم الغامض المُتقلِّب المِزاج بين غيمٍ يَنسَى أن يمطر، وشمس تأبى الرحيل، وبين هبوب الرياح الباردة برودة مشاعرنا وجفافها.

أتجوَّل في هذه المدينة[1] الأزلية بتراثها وتاريخها، والتي لا تتبدَّل ولا تتغير ثيابُها مع تعاقب الفصول، شرَد ذهني، وتاه فكري، محاولًا استيعاب عبارة "أختك ماتت"، وما تحمله من حمولةٍ فكرية، ورسائلَ مبطَّنة، مُعْلِنة بذلك إقبارَ المسار ونهاية السبيل.

تذكَّرت أنه كانت لنا مع بداية السبيل حكايةٌ، ولكل حكاية بداية، وكذلك نهاية، فكانت "أختك ماتت" بمثابة إعلان مُدَوٍّ لسقوطٍ صارخ لأغلى عنقود من العناقيد اسمه "البلهوشة"[2].

تذكَّرت كذلك قولنا في إحدى التدوينات: "من أصعب ﺍلأموﺭ على ﺍلنفس أن تفاﺭﻕ من تحب ﻭتغير ما تألف، ﻭﺍلصبر على ﺫلك شاﻕ ﻭمر، كأنه ﺍلعلقم قد صب في كأﺱ، ﻭﺍلنفس مرغمة على أن تشربه، فتتجرعه ﻭلا تكاﺩ تسيغه".

هي من أصعب الأمور، نعم، لكن الواقع سيِّد نفسه، والرضوخ له مَطلَب إنساني حضاري، فلعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا.

ﻭكلما نسيت أﻭ تناسيت تجدﺩﺕ لها ﺍلذكرﻯ، فآلمت النفس، ﻭنقضت تماسكها، ﻭﺍتجهت ﺇلى ﺍلحزن تسلم له نفسها لعلها تجد فيه ﺭﺍحة، فتصطدﻡ بالعقل، ﺫلك ﺍلسيد بأحكامه ﺍلجافة يرﻯ ﺍلأموﺭ من منظوﺭ ﺍلصوﺍﺏ ﻭﺍلخطأ، ﻭﺍلحكمة ﻭعدمها، لا يرﻯ للنفس عذﺭًﺍ في شعوﺭها بعد أن تبين لها ﺍلصوﺍﺏ، ﻭيقف ﺍلعقل للنفس ﻭﺍعظًا، ناهيًا ﺇياها أن تحزن، ﺁمرًﺍ ﺇياها أن تصبر، مخبرًﺍ ﺇياها أنها ﺍلأقدﺍﺭ ﻭمجاﺭيها، ﻭأنها ﺍلدنيا ﻭسنتها، ﻭأن ﺍلحق أحقُّ بالاتباﻉ، حتى ﺇﺫﺍ ﺍنتهى من ﻭعظه، شنع عليها شعوﺭها، ﻭأمرها أن تتوقف عن طفوليتها ﻭجنونها، ﻭﺍلنفس مسكينة، تعرﻑ أن ﺍلعقل سيدها، ﻭأن ما تقتضيه أحكامه أجدﺭ بالاتباﻉ، لكنها في ﺍلوقت ﺫﺍته غير متحكمة في ما يعرﺽ عليها ﻭتشعر به ﻭلا تستطيع تغييرﻩ بين عشية ﻭضحاها.

قد أفلح من كان عقله متفهمًا لطبيعة نفسه، فلا يحملها على ﺍلتغير جملة ﻭﺍحدﺓ، بل يأخذ بيدها فينسيها أحزﺍنها ﻭما ﺍعتاﺩته شيئًا فشيئًا.

أختي ماتت، فرجائي لكم أن ترفَعوا أكفَّكم للسماء داعينَ لها بالرحمة والرضا والقَبول الحسن، وأن يُوسَّع لها في قبرها.



[1] مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، مدينة القرويين.

[2] البلهوشة اسم مجازي يعبر عن الشخصية الرئيسة.