أجنة ممغنطة
السيد شعبان جادو


لا ندري ما الذي تلبَّسَنا حتى صِرنا - أنا وإخوتي - متلاصقين، كُتلًا بشريَّة، ولنا رأسٌ واحدة، بل نحن أطوالٌ مُوحَّدة، وزنٌ واحد، نتحرَّكُ في تراتبٍ أعمى، ألا يبدو هذا غريبًا؟ أنا أوسطهم حسب شهادة الميلاد المُميكنة، حين ولدتنا أمِّي تِباعًا وكذا فعلت على مدى خمسة أعوام، إنها تُصارع الوقت لتُضيف إلى كُتلتنا المُتلاحمة جزءًا، انضاف كلُّ واحدٍ إلى تلك الحزمة المُترابطة من هؤلاء المُتماثلين جسدًا وسحنة.

عجبَت أمِّي لهذا التطوُّر غير الطبيعيِّ في تدرُّج أعمارنا، انتابتها حالةٌ من الهياج؛ فغير معقول أن تَلِد هذه الكُتلة من الأولاد دفعةً واحدةً، على الأقل تخافُ علينا من أعين الجيران الذين يدسُّون أنوفهم في نوافذنا قبل أن يشرعوا في لوك حكايتنا التي صارت على ألسُنِ الناس يتندرون بها؛ خمسة أطفال يتشابهون في كلِّ شيءٍ، بطبيعة الحال وضعت أمِّي علامةً مميَّزةً في كتف كلِّ واحدٍ منَّا، أشبه بوشمٍ قرمزيٍّ، جاء به رجلُ الصِّحة الذي يقرب لها.

لم أخبرك أن أبي فعل فَعْلَتَه تلك ومن ثمَّ لاذ بالهرب مع أول صيحةٍ من بكاء - ظللنا نعزفه كل مساء - ندت عن أخي الصغير؛ لم تعد لديه قوَّةٌ ليتحمَّل آثار فعله، أو لعلَّه خشيَ من العنكبوت أن يرمي بخيوطه فيتحفَّظ عليه، يبدو هذا محتملًا؛ فنحن في عصرٍ يتلاعب فيه ذو المعاطف البيضاء بالأجِنَّة.

حينما صعدنا درج البيت ونحن على هذه الحالة من التماسُك، وجدناه ينتهي بنا إلى حائطٍ لا باب له، لقد غدت وصلات عقولنا تعمل بطريقة آليَّة، شد ما أتعبنا: كيف لنا أن نحتفظ بهُويَّاتنا كلٌّ على حِدَة؟ كبيرنا كان ذا حيلةٍ ودهاءٍ، أوقف شارات المتابعة التي تمرُّ عبر وصلاتنا العصبية؛ تخلَّص قليلًا من الوقت، لقد تسلَّل إلى الشارع الجانبي حيث يوجد أطفال الروضة التي تقذف بها أرحام أمهاتٍ يعملنَ في سلك الوظيفة العموميَّة، إنهنَّ مثل الدجاجات يبِضْن دونما مراعاة لحبَّات القمح التي يمسك بها العنكبوت الهلامي، وجد زر التشغيل يؤدِّي عمله في مهارةٍ وجودةٍ فائقة، حتى الصغار الذين هم من أعشاشٍ مختلفةٍ صاروا مثلنا؛ كُتلًا بشريَّةً مُتراصَّة، يبدو أن العنكبوت الهلامي بارعٌ في التخلُّص من الغرباء؛ إنه لا يُريد غير ماكيناتٍ مُتماثلةٍ تؤدِّي حركاتٍ بهلوانيةٍ.

لما عاد كبيرُنا، غذَّى أطرافنا العصبية بتلك الكلمات التي تلقفتها أذنه دون إرادة منه، إنه لا يملك إلا أن يفعل، في هذه اللحظة حدث لنا تلاحمٌ غير مبرر، لقد تخلَّص الرجل العنكبوتي من الحيِّز الذي نشغله، لا فائدةَ من تمدُّدنا، إنه يُريد واحدًا منَّا فقط، ربما كانت الكلمات التي تلقَّاها كبيرنا ممسوسة، مَن يدري؟ تناثرت في هذه اللحظة أرقام شهادة ميلادنا الصفراء ذات الرائحة الكريهة في الهواء دون أن تجد من يُمسك بها؛ فهو يرانا زوائد لا قيمةَ لها، غير أنه استنسخ من حكايات الكهنة ما يسمح له أن يبقى متفرِّدًا، لقد ترقَّى في يومٍ وليلةٍ ليصير المتفرِّد في جسده وفيض الحكمة التي تنهال على بطوننا منًّا وسلوى، تحول الجميع لأدوات تجيد العزف على وتر الانتماء لهذا الكائن المُتخفِّي في ذواتهم.

تعلمون أنني أوسط هذه الكتلة البشريَّة، قبل أن يتخفَّى أبي كان قد نزع من ذراعي ذلك الوشم المراوغ الذي أجبرت أمي يوم وضعتني أن تضعه، دَوَّت صافرةٌ نحاسيَّةٌ في أرجاء المكان؛ فالجميع يُعطي الولاء صباحَ كلِّ يومٍ، وحين المساء يسيرون في متاهةٍ تضربهم؛ حتى يستسلموا لأحلام ومُناوشات الرجل العنكبوتي عبر شاشةٍ عملاقةٍ تُدار من زاوية حادَّة تُمسك بأفكار الجميع.

حين تسلَّلْتُ من لحمة إخوتي، بدا لي العالم أكثرَ غرابة؛ لا أحد يعرفني، أنا فقط أُشاهد عيونًا تتسلَّلُ في ظلامٍ يقبع داخل أجسادٍ مرقمةٍ، حاولتُ أن أفسِّر هذا الخليط المُتماسك من تلك الدُّمى، فُوجئت بأنَّني قابعٌ في سردابٍ مُظلمٍ يُجاورني فيه أبي.