ساكنة اليسار (قصة)
محمد صادق عبدالعال







الساكنةُ أعلى اليسار انطلقَت لأول يوم بالروضة، ولها من العمر المديد ما يناظر أصابع يُمناها، قبضَتْ بهن على راحةِ وكفِّ أبيها، وعلى ظهرها حقيبةٌ جديدة تحوي من اللفائف والشطائر - فضلًا عن العصائر - الكثير، ولم تنسَ نصيحة أمها بألا تشارك الوِلدان مشربهم، فضمَّت للحقيبة زجاجة الماء خاصَّتها.



كانت تمشي بخطواتٍ نشيطة يملأ مُقلتَيْها الإشراقُ، ترى كل شيء يحتفل بها، حتى الجمادات، فكانت تُلوِّح للبيوت والشُّرفات.



فأما أبوها، فقد دعاه داعٍ لرحلة "مكُّوكية" للمستقبل غير المعلوم، فأشفق عليها من مرافقته، فآثر أن ينفرد بها ليراها في المرحلة الابتدائية وقد قاربت سن البلوغ، فأيُّ المعلِّمين سوف يَحنُو عليها، وأيُّهم سوف يقسو، يقبض على أصابعها التي احتضنَتْها كفُّه، وهو يرى ذلك الذي يعاملها بجفاء وقسوة؛ لأنها لم تقع تحت طائلة مُرِيديه من طلاب "الدرس الخصوصي"، يتوعَّده بالوشاية والنكاية إن هو ظلمها أو منعها حقَّها.



تتأوَّه: أبي كَفِّي تُؤلمني.

يبسطها منتشيًا حين يرى المعلمة الفُضلى تُكرِّمها ضمن طائفةٍ مِن المثاليات لهذا العام.



يقفز به المكُّوك الزمنيُّ من مرحلة التعليم الإلزاميِّ قفزةً سريعة، ليجد نفسه جنديًّا مجنَّدًا أمام حجرة استذكارها، بعدما حَلَّت بالدار "طارئة البيوت المستقرة" فيجهِّز ويحفِّز، ويرتِّب ويرافق، ويقبض بحماسة فتتأوَّه:

أبي: كفِّي وأصابعي، يبسطها، يبتهج حين يراها وقد حصلت على درجات تؤهِّلها لكلية البنات لتكون رفيقةَ أترابٍ تحبُّهم ويُحْبِبْنها.

يرى ذلك الوغد يتربَّص بها وهي عازمة على الإياب، يقبض قبضة غِلٍّ، فتتألَّم:

أبي: كفِّي، كَفِّي!

يبسطُها حين يبصر الشرطيَّ وقد أمسكه مِن قفاه وأودعه الحافلة.



يتنفَّس الصُّعَداء: اليوم أنهت دراستَها بسلام، لكن غريمَه في حبِّها قد خرج عليهم في زينته، فقبض قبضًا يسيرًا، يلمِزُه لو فرحتها التي قرَّت بها عينُه.




يتذكر جهازها ومشوارها وضيق ذات اليد، وعاصفة الأسعار التي ينفث فيها فُجَّار الأرض؛ فيقبض ويركل صخرةً اعترضت طريقهما فيرتطم ويسقط منكفئًا على الأرض!



أسرعَتْ تنفض التراب عنه وعن ثيابه، فَرَّت دمعةٌ منه فكفكَفَتْها وهي تقول:

أوجعَتْك الصخرة يا أبي؟


يبتسم.

تضربها بخمسٍ رقاق: إنه أبي أيتها الصخرة الحمقاء.

يضمُّها إليه بقوَّة، ينظر للسماء، يتمتم اعتذارًا، وينهض.