خطبة المسجد النبوي - نسائم العشر واجتهاد الصالحين


الفرقان

جاءت خطبة المسجد النبوي بتاريخ 16 من رمضان 1444هـ، الموافق 7 من أبريل 2023م، بعنوان: (نسائم العشر واجتهاد الصالحين)، للشيخ عبدالباري بن عواض الثبيتي، وقد اشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: شوق الصالحين لخير الأزمان في رمضان، وخصائص ومميزات العشر الأواخر من رمضان، وحال المؤمنين الصادقين في رمضان، وإدانة الأعمال الوحشية في باحات المسجد الأقصى وساحاته.
في بداية الخطبة أشار الشيخ الثبيتي إلى إقبال نسائم العشرِ وأنَّ نفحاتها قد اقتربَتْ، وأنوارها قد لَاحَتْ، ونفوسُ الصالحينَ لفضلِها متشوِّقةٌ، وعندما يجول المرءُ بخاطره، ويعود بذاكرته متأمِّلًا سيرتَه في الأيام الخوالي، مُستحضِرًا ضَعفَه وتقصيرَه وغفلتَه وذنوبَه وتفريطَه، فإنَّه لا يَملِكُ في مثل هذا الموسمِ إلَّا أن يستحثَّ همةَ نفسه، ويجدِّدَ عزمَ فؤادِه، ويُفِيق من رقاده، وينفضَ عن كاهله ثيابَ الكسلِ؛ ليتداركَ ما فات، ويستثمرَ ما هو آتٍ، وهنا تتفاوَت الهِمَمُ، ويتفاضَلُ أهلُ العزائم؛ فهناك مَنْ يجعل كلَّ لحظة غنيمةً، وكلَّ دقيقة فضيلةً، يتقلَّب في نعيم العبادة، ما بين تسبيحٍ وتهليلٍ وحمدٍ وتكبيرٍ وقيامٍ وذِكْرٍ وقراءةٍ للقرآن وتفكُّرٍ، هؤلاء الذين عرفوا قيمةَ هذه العَشْر، يعيشون بها، وفيها، وتحتَ ظلالها لذةَ العبادة، وأُنس القُرب، وجَمال التلاوة، وطَعمَ الإيمان، ونفحاتِ الرحمن، أرواحُهم تُحلِّق، وأنفسُهم تتزكَّى، وقلوبُهم تترقَّى، وهذه أجلُّ حِكَم الصيام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الْب َقَرَةِ: 183).
أنفاسُها محدودةٌ ولحظاتُها معدودةٌ
هذه العشرُ أنفاسُها محدودةٌ، ولحظاتُها معدودةٌ، وساعاتُها سريعةٌ، وأيامُها تمضي ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها، وأُولو البصائر يُعالِجون هذه العشرَ بهمةٍ وقَّادةٍ، ويقظةٍ عاليةٍ، وانعتاقٍ عن مشاغلِ الدنيا وهمومها، حكت أُمُّ المؤمنين عائشةُ -رضي الله عنها- حالَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأواخر من رمضان بكلمات بليغة، وجُمَل قصيرة؛ أحاطت بالمقصود فقالت: «كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دخَل العشرُ شدَّ مِئزَرَه، وأحيا لَيلَه، وأيقَظ أهلَه»(رواه البخاري)؛ ليكون هذا المنهج نبراسًا للأمة، وهديًا للتائبينَ، ومسلكًا للطائعينَ، وملاذًا للمذنبين، ورقيًّا للمؤمنين.
حلاوة المناجاة
في ليالي العشر تحلو المناجاةُ، ويخلو العبدُ بسيده ومولاه، يبثُّ همومَه ويَنثُر أحزانَه، ويَنفُث شكواه، ويَرفَع لخالقه آمالَه، ويَعترِف بذنبه، ويُقِرّ بخطئه، ويُعلِن توبتَه، ويَسكُب الدمعَ مدرارًا، ويملأ قلبَه خشيةً ورجاءً وذُلًّا وانكسارًا، فلا ربَّ لكَ سواه، ولا يَجبُر الكسرَ إلا هو، هنا يُستجاب الدعاءُ، وتتنزَّل النفحاتُ، وتُستمطَر الرحماتُ، قال -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}(الْبَقَ رَةِ: 186)، وفي الحديث: «إنَّ اللهَ حيِيٌّ كريمٌ يَستَحِيي إذا رفَع الرجلُ إليه يديه أَنْ يَرُدَّهُما صفرًا خائبتينِ»(رواه الترمذي)، فاشترِ نفسَكَ والسوقُ قائمةٌ، والثمنُ موجودٌ، ولا تسمعنَّ حديثَ التسويف.
ليلة القدر
وفي ليلة القدر يقول الله -تعالى-: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(الْقَ دْرِ: 3-5)، هل يتصوَّر الصائمُ عِظمَ الأجر؟! خيرٌ من ألف شهر، هل تصوَّر القائمُ بينَ يَدَيِ اللهِ هذا المشهدَ المهيبَ والحشدَ العظيمَ، تنزُّل الملائكة وجبريل لعِظَمِ هذه الليلةِ، نزولا يحتضن كلمةَ السِّلْم والأمن والأمان، بل كلَّ معاني السلام؛ هي خيرٌ كلُّها ليس فيها شرٌّ، سالمةٌ من كل آفةٍ وشرٍّ، لكثرةِ خيرِها إلى مطلعِ الفجرِ، والملائكةُ تُسلِّم على أهل المساجد حتى يَطلُع الفجرُ، ليلةٌ سمحةٌ لا حارَّةٌ ولا باردةٌ، ليلةٌ مباركةٌ خيرٌ كلُّها مِنِ ابتدائها حتى نهايتها بطلوع الفجر، هي سلامٌ على أولياءِ اللهِ وأهلِ طاعتِه، هذه الليلة يُظِلُّها ويَشمَلُها السلامُ المستمرُّ والأمانُ الدائمُ لكلِّ مؤمنٍ يُحيِيها في طاعة الله، إلى أن يطلع الفجر، ولا يُناسِب هذا الفضلَ العظيمَ والأجرَ الجزيلَ، سوى التشمير عن ساعد الجِدِّ، والعمل الدؤوب، ومفارَقةِ المألوفِ، مع صبرٍ ومصابَرةٍ، فما هي إلَّا أيام ثم تقطف الثمرة، ويشكر العبد ربه، أن اصطفاه من بين الخلائق؛ ليظفر بهذه الغنيمة، ويضاعف الحسنات ويغنم البركات، وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ *قَدْ *حَضَرَكُمْ، *وَفِيهِ *لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ» (رواه ابن ماجه).
سألَتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها- رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا رَسُولَ اللَّهِ *أَرَأَيْتَ *إِنْ *وَافَقْتُ *لَيْلَةَ *الْقَدْرِ مَا أَدْعُو فِيهَا؟ قَالَ: « قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»، فاللهُ عفوٌّ ويُحِبُّ العفوَ -سبحانه-؛ لم يَزَل بالعفو معروفًا، وبالغفران لذنوب عباده موصوفًا، وإذا حلَّ عفوُ الله بكَ أسعدكَ وأدهشكَ وطهَّر جسدكَ وقلبكَ وروحكَ، ورضي عنكَ وأرضاكَ.
النعيم الذي لا يُجارى
إذا لهج اللسان بهذا الدعاء بقلب صادق، وصعدت تلك الكلمات إلى السماء، تائبةً منيبةً، ووافقَتْ أنوارَ ليلة القدر، وتنزُّل الملائكة، فذلك النعيم الذي لا يُجارى، والفضل الذي لا يُبارى، والسعادة التي لا توصف، عفو الله هو مغفرة الذنب، والتجاوز عن الخطيئة، والستر، ومحو السيئات، ومضاعَفة الحسنات، بل وتبديل السيئات حسنات، قال الله -تعالى-: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(الْفُر ْقَانِ: 70)، وفي الحديث: «*إِنَّ *اللَّهَ *يُدْنِي *الْمُؤْمِنَ، *فَيَضَعُ *عَلَيْهِ *كَنَفَهُ *وَيَسْتُرُهُ، *فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ» (رواه البخاري).
كمال عفوه -سبحانه
ومن كمال عفوه أنه مهما أسرَف العبدُ على نفسه، ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع جُرمِه، كما قال -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزُ ّمَرِ: 53).
الاستجابة لنداء الحق
إنَّ هذه الجموع المبارَكة، التي استجابت لنداء الحق، وملأت جنبات الحرمين وساحاته، هذه القلوب المؤمنة التي اصطفَّتْ في بيوت الله، وأولئك الذين نصبوا أقدامهم قياما في بيوتهم، كل هؤلاء توجهت قلوبهم وأفئدتهم وانطلقت ألسنتُهم تتلو آياتِ الله، وتَسمَعُ بيِّناتِه، وتَخشَع لمواعِظه، ترجو رحمتَه وتخشى عذابه، هؤلاء وأولئك في مشارق الأرض ومغاربها يجدون حلاوة صيام رمضان وقيامه، ويتحرون ليلة القدر، بأنفاس المحبين، وخضوع التائبين، وأنين المذنبين، وقلوب الوجلين، ورجاء الصادقين، والله لا يخيب رجاء من أقبل عليه إيمانا واحتسابا، ولن يضيع أجر من أحسن عملا، فهو -سبحانه- رؤوف رحيم واسع المغفرة، ورحمته وسعت كل شيء، وفي الحديث: «هُمُ القومُ لا يَشقَى بهم جليسُهم»، يقول -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(الش ُّورَى: 25).
إدانة للأعمال الوحشيَّة
ولا يفوتنا أن نُنوِّه هنا بإدانتنا للأعمال الوحشيَّة، التي ارتُكبت في باحات المسجد الأقصى وأروقته، في هذا الشهر العظيم، ضد الركع السجود، وهذا العمل لا يجر على مرتكبيه إلا العار والشنار، وسوء العاقبة، فالمقدسات لها حرمتها، وقدسيتها، والاعتداء عليها جريمة لا تغتفر، حفظ الله المسجد الأقصى وأهله المرابطين فيه، اللهم احفظ المسجد الأقصى وأهله من كل شر وسوء، اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم برعايتك، ورُدَّ كيدَ المعتدينَ ومكرهم في نحورهم، يا قويُّ يا عزيزُ.