الدعوة في ساعة الأزمات

د. ياسين الغضبان


( 1 )


تعالى الله رب العرش العظيم، وجلّ جلاله في عليائه وملكوته. لقد اختار من البشر رسلاً لتبليغ دعوته للعالمين، وصلى عليهم جل شأنه، وأمرنا بالسلام والصلاة عليهم أجمعين، وعلى آلهم وأتباعهم ومن قبل دعوتهم إلى يوم الدين.
الدعوة لله التي ورثها المخلصون من عباد الله عن أنبيائه قائمة تؤدى في جميع الظروف والأحوال، معتمدين في كل زمان ومكان على هدي الأنبياء وسيرتهم، وما قدموه من تضحيات وجهود لتبليغ رسالات السماء إلى الأرض، وقد حفظ القرآن الكريم لهؤلاء الرسل سيرًا عطرة وأسوة حسنة، بعد أن حرّف الأتباع تاريخهم من النور إلى الظلام، ومن العدل إلى الظلم، ومن العلم إلى الجهل، حتى كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد كلف في رسالته بإحقاق الحق، ودفع الباطل، والأمر إلى المسلمين بالصلاة والسلام والإيمان بهم، دون تفريق، "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة: 285].
فحفظ الله تعالى لهؤلاء كرامتهم وجهدهم وتبليغهم رسالة الله المكلفين بها إلى عصرهم، أو من جاء بعدهم، وحفظ القرآن ذكرهم عن التحريف أو التزوير أو التبديل أو التغيير. وجاء وصف حالهم وجهادهم وصبرهم مغايرًا تمامًا لما حرّفه أتباعهم، وتقوّلهم عليهم، وسلوكياتهم.
ولا يغيب هذا الوصف والمدح لهؤلاء الأنبياء، عليهم السلام، عن سور القرآن الكريم، وعلى المتتبع أن يقف هنينهة عند أوصاف هؤلاء الرسل الذين عصمهم الله تعالى عن خطأ بني آدم، وعندما يقع الواحد منهم فإنه يعود إلى التوبة وطلب العفو من الله إن قصّر، أو اجتهد من نفسه، وبذلك فإن الله تعالى أعطى ثورة لنبينا من هؤلاء، فقال: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى" [النجم: 3-6].
ومن هذا الباب ندخل للبحث في هذا المجال، عن أولئك الذين حملوا رسالات الأنبياء، وقاموا في هذه الدنيا لإبلاغ رسالاتهم الصادقة، التي تمثلت في رسالة الإسلام، ولتقويم الانحرافات، ودفع الشبهات، وإظهار الحقائق، والسلوك بالإنسان مسالك الخير الذي ارتضى الله له في هذه الدنيا سلوكها.. إنها الدعوة إلى الله -وإلى طريق الخير والفلاح والتوغل فيه للوصول إلى حقيقة وجود الإنسان في هذه الأرض؛ "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ" [الذاريات: 56-57]، فإن هذه الحقيقة الغائبة عن عقول البشرية يجب أن يقوم الدعاة بتوضيحها ونشرها في الأرض- ليعرف الإنسان الذي هو خليفة الله في هذا الكوكب مهمته، ولتحقيق هذه الخلافة التي تم اختياره لها دون بقية خلقه الذين لهم علاقة به ومع غيره من المخلوقات، ومن أعطوا حق التفكير والتدبر، وأمروا بما أمر به الإنسان.
والدعوة إلى الله تختلف في الزمان والمكان.
وتختلف بتقلب الليل والنهار والفصول والأزمان.
وتختلف بين العباد دعاةً ومدعوين، كبارًا وصغارًا، ونساءً ورجالاً.
وتختلف حسب الحالات التي يعيشها الإنسان من الحرب والسلم، والجهد والقوة والمرض.
وتختلف بين تحمل الناس، دعاةً ومدعوين، لتقبل هذه الدعوة والإيمان بالله أولاً ليكون المفتاح الذي ينطلق منه الإنسان لممارستها والقيام بها.
وتختلف حسب القوة والضعف والتحمل والجهد والصبر والجلد.
وبذلك فإن الدعوة ليست درسًا واحدًا يعطى ليحفظ ويردد، ولكنها سلوك بشري كالاختلاف بين البشر، بين الأعمال والألوان والأشكال والمقام والوبر والمدر والعمر والجنس. ونحاول في هذه العجالة أن نسلك في بداية الطريق، أن نحدد الجوانب التي يجب أن نتحرك بها، لأن المردود يأتي نتيجة وعي الحال الذي تتم به الدعوة إلى الله.
وكثيرًا –حتى من الأنبياء- لم تتطابق المعطيات فكان الخلاف والصدام، والتناحر والحروب، وطغيان الظلم أحيانًا، وانبثاق الخير أحيانًا أخرى. إنها سنة الله تعالى في خلقه، فإذا استطعنا أن نقتطف وقتًا مناسبًا للدعوة، فإن النتائج تُفرح، والمردود الخيّر يبهج النفس ويريحها، والعكس بعد ذلك قد يصل إلى حدّ التناحر بين الذات والنفس والجسد وصفات الصبر ، أو الصد، أو الهروب إلى المجهول.

( 2 )


الأزمة: هي حال انفعال بين طرفين متساويين أو مختلفين، ينظر إليها كل طرف من زاويته المختلفة، وقد يفضي لقاء الطرفين في الأزمة إلى التوافق أو يؤدي إلى الاختلاف. ولعل تغلب فريق على فريق، صادقًا كان أو كاذبًا، يؤدي إلى مزيد من التأزم، أو إلى حل فيه رضا.
والدعوة في حالة الأزمات تختلف اختلافًا واسعًا جدًا، تلعب به عدة عوامل، منها:
1. العامل البشري: فردًا كان أو جماعةً، ويأتي في هذا المجال هو الأهم في نتائج اللقاء, يحمل أحد المتقابلين فكرًا خيرًا يريد أن يوصله إلى الآخر، كما يحمل الآخر أفكارًا يريد أيضًا أن يوصلها إلى الآخر، أو يرد على أفكاره إما بتوافق أو ترفع، أو توضيح لأي من الطروحات والأفكار.
2. خلفية المتناظرين إن كانا على حق أو على الباطل من جهة، أو كانا متساويين أو مختلفين بالمعرفة والعمر والمصدر أو المنبت أو المحيط الاجتماعي.
3. الاطلاع على الموضوع المتناظر به أو المدعو له، واطلاع كل من الطرفين على تفصيلاته ومحاوره، وأبعاده، ومدى سيادته في العالم، ومدى معرفة مردوده، ومصلحته للفرد والمجتمع والإنسانية.
4. الإيمان بالموضوع المتناظر به، ومدى قناعة كل من المتناظرين به، ومدى مقدرة كل منهما على الإقناع به، وكثيرًا ما يكون التناظر طريقًا للتنافر إذا لم يكن لدى أي منهما مقدر إقناع الطرف الآخر.
5. مدى تصاعد الأزمة بين المتناظرين، ومدى اشتدادها وانخفاضها، ومدى تأثيرها على النفس، ومدى الانفعال النفسي الذي يمكن أن يجعل الهدوء يسود المتناظرين من الانفعال الذي يؤدي إلى إعلان الحروب.
6. هذه الأمور وسواها كثيرًا ما لا يعطى لها بال الدعاة، فتكون الخسارة -دون الربح- هي النتائج للمحاورة والمناظرة.
من الأمثلة على ذلك: عندما خرج أنصار الإمام علي رضي الله عنه عليه بعد قضية التحكيم، وتمسكهم بآراء متشنجة غير شرعية، وقعت الحرب بينهم وبين الإمام علي كرم الله وجهه، وأدت إلى دماء كثيرة، وفي ذات الموقع تمكن عبد الله بن عباس رضي الله عنه بالتحكم بجو المناظرة، وجرّهم إلى العودة إلى صفوف المسلمين، وتكررت القضية بين جمع الخوارج وبين الدولة الأموية من معاوية إلى الوليد بن عبد الملك، وبحسن السياسة والدعوة كسب الخليفة عمر بن عبد العزيز الكثير منهم ومن سواهم بحسن السياسة والبعض منها بالحوار، والتمكن من معرفة الحق الذي جهله الآخرون، أو سيطرت عليهم الأهواء والنزعات، والتعصب، والميل مع الهوى.
ونسوق من السيرة المطهرة بعض المواقف للدعاة في زمن الأزمة.
في مكة: عدو غلب عليه التعنت والكفر، والشرك والتمسك بالموروث، والقوة أيضًا والغلبة، والاستهانة بالخصوم بل واحتقارهم.
وفريق من المؤمنين بالدين الذي جاء به محمد، ضعفاء، عبيد، خارج قوة المجتمع، لا سلاح لديهم ولا قوة، ولا قبيلة، إلا للبعض، وهم جد قليل.
المرجعية: قوة قبائل الطرف الأول، قوة تحالفاته، قوة مرجعية حمقه القبلي والإيمان بمعتقده، غناه المالي، غناه المعنوي، تمكنه من أدوات القتل والتعذيب، سلطانه على أرضه وسكان الأرض التي يعيش فيها. كل هذه العوامل يضاف إليها حقد، وشرك، وكفر بمبدأ الخصم الآخر.
مرجعية الطرف الآخر: الرسول صلى الله عليه وسلم، وما تنزل عليه من القرآن حتى تلك الفترة، ولم يكن به تشريع أو أحكام أو سياسة أو اجتماع، وإنما قضية رئيسة واحدة هي: التوحيد، الإنذار والتبشير، والتهديد بقوة الله تعالى -الغير مرئية- وتحتاج إلى إيمان سام وعميق وصادق. والأمل في المستقبل الإيماني الأفضل لحياة الناس في الدنيا وحسن عاقبتهم في الآخرة.
مرجعية الرسول بعد ذلك قومه، الذين كانت هي القوة الوحيدة التي يحسب حسابها، ولذلك فقد تحول الصراع بين الأقوياء والضعفاء إلى القوة والظلم والبطش، واستخدام القوة فقط، دون استخدام أية مغريات أخرى لا ترقى بحال إلى إقناع المؤمنين بالتخلي عن إيمانهم، والعودة إلى الفكر والضغط المتزايد على المرجعية القبلية لإقناع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا لوقف دعوته، ولكن لوقف هجومه على آلهتهم وعقائدهم وأفكارهم وتسفيه أحلامهم.
لم يكن في تلك اللحظة الأمر قد وجه للمؤمنين للدعوة، حتى أن هجرتهم إلى الحبشة مرة ومرتين لنشر الدعوة، بل لإثبات مصداقيتها وعظمتها وخلودها، وكان ثبوت أصحاب العقيدة على عقيدتهم هو الدعوة لأمثالهم، أولاً: للثبات على العقيدة، ودعوة لظالميهم بأنهم قائمون على حق، وليس على باطل، مقارنة بما كان لديهم من خيرات في عبوديتهم أو موالاتهم، أو خدماتهم لهم، وقد أدت هذه الطريقة إلى نشر الدعوة إلى أهل وعبيد وأبناء من يمارسون الظلم، فكان الانتشار العجيب للدعوة، وبالحدود المطلوب الانتشار بها وقتها، فثبات بلال، والقول الذي كان يقوله للذين يمارسون التعذيب عليه هو: أحد .. أحد، دون أن يتسرب إلى نفسه الشك أو الريبة، أو التفكير –ليس بالتخلي عن الدعوة- ولكن فقط بالتخفيف من غلوائها.
كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، اجتمع يومًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعتْ قريش هذا القرآن لها به قط، فمن رجلٌ يسمعهم؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا.. فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد لهم رجل عشيرة فتمنعه من القوم إن أرادوه. فقال: دعوني، فإن الله سيعينني..
فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، فقال رافعًا صوته: "بسم الله الرحمن الرحيم * الرحمن * علّم القرآن.." فاستقبلها فقرأ بها، فتأملوا.. فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه يتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدًا. قالوا: حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون. [أسد الغابة: 3/157].
وثبات سمية بنت الخياط حتى الموت.. إنما هو دعوة عملية لأن يقصد ما آمنت به هي وزوجها، وثبات ابنها عمار بن ياسر، إنما هو معجزة حولت الكثير من الكفار إلى الإيمان. ونالت ما تمنت من الشهادة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمه وأبيه، وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة، فيقول: (صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) [الحاكم في المستدرك: 3/383].
والأحداث أكثر من أن تحصى، ولعل أول الدعوة إلى الله تعالى كانت في أزمة الصدام مع الشرك، وبعد قوله تعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين".

( 3 )


تبارك الله أحسن الخالقين، وأكرم نبيه صلى الله عليه وسلم بالصلاة والسلام عليه، وأمر ملائكته وعباده الصالحين بالصلاة والسلام عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعه إلى يوم الدين.
إن اختلاف مواقع المتحاورين في الدعوة إلى الله، وفهم هذه المواقع فهمًا يمكن أن يعطي نتائج طيبة لمن هو صاحب الحق وصاحب الفوز بعد ذلك فيما حفظ من الوحي أو وعى. وما زلنا نخطو على خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الملاحظات، لنستفيد منها في هذا الزمان، ونستطيع معها أن نحقق الغاية التي أرادها الله لنا، والتي آمنا بها وسرنا بها على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وطريق أصحابه البررة رضي الله عنهم وأرضاهم، وغفر لهم وبلغهم منا التحية والسلام.
اليوم نحن كيوم الهجرة إلى الحبشة، مضطهدون في أرضهم، فاز عليهم عدوهم وتمكن منهم، واتخذ معهم كل السبل التي يملكها ليمنعهم من الدعوة إلى الله، وملك جميع المقومات المادية والقوة والحقد، والنصرة من الرأي العام، ومن القوى المحيطة بالدعوة في بداياتها، ومن ثم فإن الدعاة لا يملكون إلا الإيمان والثبات على الدعوة، والتضحية من أجلها بالغالي والنفيس، وأهمها التضحية بالنفس. وقد فعل أولئك، وصبروا واحتسبوا، ولم يكن لهم سلاح يدفعون به الأذى عنهم إلا الصبر وطلب الجنة.
وكان في العالم المحيط بمكة –مهد الدعوة ومنبعها وتحركها- القوى المتخلفة من عرب وروم وفرس وأحباش، قوى متصارعة وبشكل وصل به الحال إلى الحروب والاضطهاد، والحكم المطلق، والتحكم بالمقدرات للضعفاء، والمتناحرين من مستويات أخرى..
وكان هناك بريق أمل.. شعاع من مكان بعيد.. وصلت أخباره إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن في الحبشة ملكًا لا يظلم عنده أحد، إذًا فإلى هناك لحماية النفس، والحفاظ على من تلقى الإيمان والقرآن وليس أكثر من ذلك، إذ إن المطلوب في هذا الحال هو فقط حفظ الحياة، إذ إن القائمين على الأمر بمكة قد أخذوا على عاتقهم استئصال هذه الدعوة من جذورها قبل أن يشتد عودها، ويثبت في الأرض جذرها، وتصبح مستعصية على هذه القوى اجتثاثها.. إذًا فليخرج من لم يكن له حماية إلى ذلك الملك –لاجئين- وكانت الهجرة إلى الحبشة، الأولى والثانية، فوجد أولئك الأمان، محافظين على أمن البلد، لا يحاربون معتقدات أهل النصرانية، ديانة سماوية طرأ عليها الانحراف، وتحولت إلى ديانات متقاربة يجمع بينها الاسم فقط، ورجل عادل على رأس الحكم لمعتنقيها، النجاشي، الذي لا يظلم عنده أحد.
وحتى رسول الله والقادرون على دفع الأذى عن أنفسهم، والصابرين في مهد الدعوة، وكان اختيار الله تعالى لها لتكون بعد ذلك النور الذي قدر له أن يضيء العالم، في وقت مثالي ليس في الدنيا من كان مثله، وجلس أولئك آمنين، يتدارسون، وحملوا من الإسلام، ويتلقون من المتتابعين للهجرة ما جد في أمر هذا الدين وهذه الدعوة، وسماع أخبار انتشارها إلى أماكن أخرى وإلى رجال كبار، كانوا إلى وقت قريب أبعد ما يكونوا عن الإيمان بها.
لاقى عمر بن الخطاب امرأة تعدّ نفسها للهجرة، فسألها: ما يدفعكم للهجرة من بلدكم، وترك بيوتكم وأموالكم؟ وبقلب رقيق، لم يُعهد من قبل بهذا الرجل الذي كان أكبر أو من أكبر الضالين في الصد عن الدعوة، ونقلت المرأة الخبر لزوجها، والواقع الذي رأته، والكلام الذي سمعته، فما كان الجواب من زوجها إلا أن قال: والله لو أسلم حمار الخطاب لأسلم عمر بن الخطاب.
ولكن أسلم بعد ذلك عمر بن الخطاب.. فكانت هذه الأخبار تصل إلى المهاجرين في الحبشة، فتشجعهم على الثبات، وترفد إيمانهم بروافد قوية تمكنهم من الصبر وتحمل الغربة وقساوتها، والتي وصفها الله تعالى بقوله: "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " [النساء: 100].
وقد كان حال مهاجري الحبشة في هذا الحال. ومن المراغم أن بعضًا من المهاجرين قد يتركون الدعوة، ويرتدون طلبًا للمساواة بأهل البلد، أو طمعًا في مغنم. وكان حال عبيد الله بن جحش ذلك، فقد تنصر وارتد عن الإسلام، وبقي أخوته أبو أحمد وعبد الله بن جحش على دينهم هم ومن هاجر معهم من أهليهم. ثم جاء الطلب من قريش إلى النجاشي لعداء هؤلاء المهاجرين، وتسليمهم للرسل الذين جاؤوا النجاشي، واعتبروهم عبيدًا فروا من ساداتهم، والنظام العالمي ردهم إلى أصحابهم لاتخاذ القرار المناسب بشأنهم، وأقله الاستعباد ثانية بسجون مدى الحياة، ولكن العقوبة هي الإعدام غالبًا، لما قرأنا من الأحداث المشابهة في تاريخ العالم القديم والحديث –سمعنا- وهذه واحدة من الآلاف المتداولة في العالم، أن دولة تمكنت بوعود كاذبة لدولة أخرى أن تبدال مهاجرين بتلك الوعود، وما إن وصل هؤلاء إلى بلدهم حتى كانت قد نصبت لهم المشانق في مطار الدولة التي استردتهم، وأعدمهم الجلادون، دون أية مظاهر أخرى؛ ولما سئل رئيس الدولة التي سيق لها أولئك قال: إن أحدًا لم يخبره بذلك..!!! والأحداث أكثر من أن تحصى.
دولة أخرى... أصدرت قوانين تنطبق على الدعاة وأبنائهم وأحفادهم بالإعدام لمجرد الانتماء أو حمل همّ دعوة الإسلام.
خرجنا عن الخط الذي سرنا عليه قليلاً لنبين أن الأمر لقضية استرداد اللاجئين حاضرًا وماضيًا مستمر وإلى المستقبل أيضًا.
هنا يقف الدعاة إلى الله موقفًا يختلف تمامًا، عندما يجدون فقط من يسمع لهم، والعادل الذي اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون مأمنًا لأنصاره، سيظهر عدله، فلم يقم مباشرة بتسليم اللاجئين إليه، وردهم إلى القائمين على أمورهم، أو ولي الأمر، بل لا بد من الحوار والوقوف على الرأي، وهذا ما نفتقده في الدعاة اليوم، فإنهم يساقون من أجهزة الأمن، مخابرات، إلى أجهزة أمن، مخابرات أخرى، وكلها تتنافس بأمور واحدة: التضليل والكذب وفقدان الحس الإنساني عمومًا، ويضاف أمور أخرى يعرفها من مارسها أو من يعد نفسه لممارستها؛ بأن يتخذ طريق الدعوة سبيلاً له.
وفي الجو الذي يتسم بالعدالة أبدى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه رأي مجموعة، ودفع الشبهات التي أثيرت في وجهه من قضايا الإيمان بألوهية عيسى وإنسانيته، وبرأي الإسلام بمريم عليها السلام وابنها.. ورأي الإسلام المقوّم للمعتقدات الخاطئة، دون خوف أو تملّق أو انحراف، أبكى المؤمنين، وأثار حفيظة المنحرفين؛ لكنّ صاحب القرار أسكت المقترحين، ورد طلب وهدايا الوفد، يرأسه عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قبل أن يدخل في الإسلام . وتمكن الداعية جعفر بن أبي طالب درء الأذى والإخراج وطرد المسلمين من الحبشة، ومكثوا فيها إلى عام (7 للهجرة)، أي ما يقارب الخمس عشرة سنة. وزوج النجاشي زوج عبيد الله بن جحش المرتد الرسول، إنها أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، أم المؤمنين، زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثبات، والصدق، والجرأة، والتعامل، والإيمان في الأزمات ينجي بفضل الله تعالى، وإلا فإنه يفضي إلى الشهادة، كما سيرد بعون الله لاحقًا.