تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 13 من 23 الأولىالأولى ... 345678910111213141516171819202122 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 241 إلى 260 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #241
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1435 الى صـ 1442
    الحلقة (241)





    [ ص: 1435 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا [88]

    فما لكم في المنافقين أي: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين فئتين أي: فرقتين ولم تتفقوا على التبرؤ منهم، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ منهم؛ لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية، فليس لكم أن تختلفوا في شأنهم، وقد قيل: إن المراد بهم هنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا، كما تقدم في آل عمران، كما أوضحه ما رواه الشيخان والإمام أحمد والترمذي ، عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا هم [ ص: 1436 ] المؤمنون، فأنزل الله عز وجل: فما لكم في المنافقين فئتين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد هذا لفظ أحمد.

    وقد ذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أحد : أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش: رجع بثلاثمائة وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائة.

    وثمة في نزول الآية رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الرحمن بن عوف : أن قوما من العرب أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا، فخرجوا من المدينة ، فاستقبلهم نفر من أصحابه - يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة. فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟! فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا. فأنزل الله عز وجل: فما لكم في المنافقين فئتين الآية.

    وهذه الرواية هي الأقرب لنظم الآية كما سنبينه في التنبيه الثاني.

    والله أركسهم أي: نكسهم وردهم إلى الكفر بما كسبوا أي: بسبب ما كسبوه من لحوقهم بالكفار أتريدون أن تهدوا من أضل الله أي: تعدوهم من جملة المهتدين.

    قال أبو السعود : تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانه من الفئتين، [ ص: 1437 ] وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم - وهم بمعزل عن ذلك - سعي في هدايتهم وإرادة لها، ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها - بأن يقال: أتهدون ... إلخ - للمبالغة في إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادته، فضلا عن إمكان نفسه.

    ومن يضلل الله عن دينه فلن تجد له سبيلا أي: طريقا إلى الهدى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [89]

    ودوا لو تكفرون كما كفروا كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم أي: تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان فتكونون سواء أي: في الكفر والضلال فلا تتخذوا منهم أولياء في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم، وإن أظهروا لكم الإيمان طلبا لموالاتكم حتى يهاجروا من دار الكفر في سبيل الله فتتحققوا إيمانهم فإن تولوا أي: عن الهجرة فهم، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار؛ لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر.

    فخذوهم أي: اتسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل والحرم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا أي: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.

    [ ص: 1438 ] تنبيهان:

    الأول: قال الرازي : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد ، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [الممتحنة: من الآية 1] والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين؛ لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه، والله أعلم.

    الثاني: يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى: فما لكم في المنافقين إلخ ... رواية عبد الرحمن بن عوف، كما يدل عليه سير هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان، وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايمي في تفسيره، فاقتصر على هذا الوجه فقال: وهم الذين استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين. انتهى.

    وقول السيوطي: في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع - لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة؛ لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف، وحينئذ فقول زيد بن ثابت : فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أحد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم، لا أن ما وقع كان سببا لنزولها، واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة، وإلا لأشكل قوله تعالى: " إلا أن يهاجروا " إذ لم تطلب المهاجرة إلا من النائين عن المدينة، أولئك - أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد - كانوا بها، فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، صابرين محتسبين مخلصين، كما قاله بعض المفسرين.

    وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة، ولأشكل أيضا قوله تعالى: فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي [ ص: 1439 ] أهل المدينة ، وإنه يتوقع الظفر بهم، وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلا ونهارا، فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف ، وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم، والله أعلم.

    ثم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقولهم:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [89]

    ودوا لو تكفرون كما كفروا كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم أي: تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان فتكونون سواء أي: في الكفر والضلال فلا تتخذوا منهم أولياء في العون والنصرة لئلا يفضي إلى كفركم، وإن أظهروا لكم الإيمان طلبا لموالاتكم حتى يهاجروا من دار الكفر في سبيل الله فتتحققوا إيمانهم فإن تولوا أي: عن الهجرة فهم، وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة فافعلوا بهم ما تفعلون بالكفار؛ لأنه زال عنهم حكم النفاق بلحوق دار الكفر.

    فخذوهم أي: اتسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل والحرم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا أي: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.

    [ ص: 1438 ] تنبيهان:

    الأول: قال الرازي : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد ، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [الممتحنة: من الآية 1] والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين؛ لأن ذلك هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به إلى طلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه، والله أعلم.

    الثاني: يظهر لي أن الأقرب في سبب نزول هذه الآيات أعني قوله تعالى: فما لكم في المنافقين إلخ ... رواية عبد الرحمن بن عوف، كما يدل عليه سير هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان، وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايمي في تفسيره، فاقتصر على هذا الوجه فقال: وهم الذين استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين. انتهى.

    وقول السيوطي: في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع - لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة؛ لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف، وحينئذ فقول زيد بن ثابت : فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أحد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم، لا أن ما وقع كان سببا لنزولها، واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة، وإلا لأشكل قوله تعالى: " إلا أن يهاجروا " إذ لم تطلب المهاجرة إلا من النائين عن المدينة، أولئك - أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد - كانوا بها، فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، صابرين محتسبين مخلصين، كما قاله بعض المفسرين.

    وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة، ولأشكل أيضا قوله تعالى: فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي [ ص: 1439 ] أهل المدينة ، وإنه يتوقع الظفر بهم، وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلا ونهارا، فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف ، وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم، والله أعلم.

    ثم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقولهم:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا [90]

    إلا الذين يصلون يلجئون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أي: عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق.

    أو جاءوكم عطف على الصلة أي: والذين جاءوكم حصرت صدورهم حال بإضمار (قد) أي: ضاقت وانقبضت نفوسهم أن يقاتلوكم لإرادتهم المسالمة أو يقاتلوا قومهم أي: معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم، فهم لا لكم ولا عليكم.

    قال أبو السعود : استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان:

    أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين.

    والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين.

    وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم، قال: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج ، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد خالد فقال: اذهب فافعل ما يريد [ ص: 1440 ] فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم ، وفي قوله تعالى: ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن في التعرض لقتلهم إظهارا لقوتهم الخفية في الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل.

    فإن اعتزلوكم أي: تركوكم فلم يقاتلوكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل وألقوا إليكم السلم أي: الانقياد والاستسلام فما جعل الله لكم عليهم سبيلا أي: طريقا بالأسر أو القتل، إذ لا ضرر منهم في الإسلام، وقتالهم يظهر كمال قوتهم.

    لطيفة:

    قال الخفاجي (السلم) بفتحتين: الانقياد، وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها، وكأن إلقاء السلم استعارة؛ لأن من سلم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلم له، وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم؛ لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له؟
    تنبيه:

    ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار، وحاول أبو مسلم الأصفهاني كونهما من المسلمين حيث قال: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر ، فقال: (إلا الذين يصلون) وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه؛ لأنه يخاف الله تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا؛ لأنهم أقاربه، أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولادهم وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم، وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار. انتهى.
    [ ص: 1441 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا [91]

    ستجدون أقواما آخرين يريدون بإظهار الإسلام لكم أن يأمنوكم أي: على أنفسهم ويأمنوا قومهم بإظهار الكفر كل ما ردوا إلى الفتنة أي: دعوا إلى الارتداد والشرك أركسوا فيها أي: رجعوا إليها منكوسين على رؤوسهم.

    فإن لم يعتزلوكم أي: يتنحوا عنكم جانبا بأن لم يكونوا معكم ولا عليكم ويلقوا إليكم السلم أي: ولم يلقوا الانقياد ويكفوا أيديهم أي: عن قتالكم فخذوهم أي: اتسروهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي: وجدتموهم في داركم أو دارهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا أي: حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلا وسبيا؛ لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام، أو تسلطا ظاهرا، حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم.

    تنبيهان:

    الأول: قال ابن كثير : هؤلاء الآخرون - في الصورة الظاهرة - كمن تقدمهم ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون؛ ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: [ ص: 1442 ] وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم [البقرة: من الآية 14] الآية.

    وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.

    الثاني: قال الرازي : قال الأكثرون: في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا - لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم [الممتحنة: من الآية 8] وقوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم [البقرة: من الآية 190] فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #242
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1443 الى صـ 1450
    الحلقة (242)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما [92]

    وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ أي: ما جاز ولا صح ولا لاق لمؤمن [ ص: 1443 ] قتل أخيه المؤمن، فإن الإيمان زاجر عن ذلك، إلا على وجه الخطأ، فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية.

    قال الزمخشري : فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالا، بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، وأن يكون صفة للمصدر: إلا قتلا خطأ.

    والمعنى: إن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما، أو يرمي شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. انتهى.

    ومن قتل مؤمنا خطأ أي: بما ذكرنا، فهو - وإن عفي عنه - لكنه لا يخلو عن تقصير في حق الله، ولا يهدر دم المؤمن بالكلية فتحرير رقبة مؤمنة أي: فالواجب عليه - لحق الله - إعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان، ولو صغيرة؛ ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءا من النار.

    وقد روى الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر ، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء، فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشهدين أن لا إله إلا الله. قالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله قالت: نعم. قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. قال أعتقها وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره.

    وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي، عن [ ص: 1444 ] معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أعتقها فإنها مؤمنة أفاده ابن كثير .

    لطيفتان:

    الأولى: قال الزمخشري : التحرير: الإعتاق، والحر والعتيق: الكريم؛ لأن الكرم في الأحرار، كما أن اللؤم في العبيد، ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير لكرامها، وحر الوجه أكرم موضع منه، وقولهم للئيم: عبد، وفلان عبد الفعل أي: لئيم الفعل، والرقبة عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق.

    [ ص: 1445 ] الثانية: قيل في حكمة الإعتاق: إنه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات؛ إذ الرق من آثار الكفر، والكفر موت حكما أومن كان ميتا فأحييناه [الأنعام: من الآية 122] ولهذا منع من تصرف الأحرار، وهذا مشكل؛ إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضا، لكن يحتمل أن يقال: إنما وجب عليه ذلك؛ لأن الله تعالى أبقى للقتال نفسا مؤمنة حيث لم يوجب القصاص فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة، أفاده النسفي.

    ودية مسلمة إلى أهله أي: والواجب عليه أيضا لحق ورثة المقتول عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم - دية مؤداة إلى ورثته، يقتسمونها اقتسام الميراث.

    وقد بينت السنة مقدارها، وذلك فيما رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابا، وفيه: إن في النفس الدية، مائة من الإبل وفيه: وعلى أهل الذهب ألف دينار .

    وروى أبو داود ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتى بقرة، وعلى أهل الشاء ألفى شاة، وعلى أهل الحلل مائتى حلة .

    وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وهذه الدية إنا تجب على عاقلة القاتل، لا في ماله.

    [ ص: 1446 ] قال الشافعي - رحمه الله -: لم أعلم مخالفا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة .

    وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى أن دية جنينها غرة، عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها.

    ورواه أبو داود عن جابر بلفظ: أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها.

    قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا، ميراثها لزوجها وولدها
    .

    و(العاقلة): القرابات من قبل الأب وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول، وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر؛ لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إبلا، وتضمين العاقلة مخالف لظاهر قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى [فاطر: من الآية 18] فتكون الأحاديث القاضية بتضمين العاقلة مخصصة لعموم الآية؛ لما في ذلك من المصلحة؛ لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، كذا في "نيل الأوطار".

    قال المهايمي : تجب الدية على كل عاقلة القاتل، وهم عصبته غير الأصول والفروع؛ لأنه لما عفي عن القاتل فلا وجه للأخذ منه، وأصوله وفروعه أجزاؤه، فالأخذ منهم أخذ منه، [ ص: 1447 ] ولا وجه لإهدار دم المؤمن، فيؤخذ من عاقلته الذين يرثونه بأقوى الجهات وهي العصبية؛ لأن الغرم بالغنم، فإن لم يكن له عاقلة أو كانوا فقراء فعلى بيت المال. انتهى.

    وقد خالف أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج فأوجبوا الدية على القاتل لا على عاقلته، واحتجوا بوجوه خمسة عقلية، ساقها الفخر الرازي هنا، وكلها مما لا يساوي فلسا، إذ هي من معارضة النص النبوي بالرأي المحض.

    اللهم: إنا نبرأ إليك من ذلك، وقد غفلوا عن حكمة المشروعية على العاقلة التي بيناها.


    دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر


    تنبيه:

    يشتمل قوله تعالى: فدية مسلمة تسليمها حالة ومؤجلة، إلا أن الإجماع قد وقع على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة ، ولكن اختلفوا في مقدار الأجل، فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين، وقال ربيعة: إلى خمس.

    وحكى في "البحر" عن بعض الناس بعد حكايته للإجماع السابق أنها تكون حالة؛ إذ لم يرو عنه - صلى الله عليه وسلم - تأجيلها، قال في "البحر" قلنا: روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقاله عمر وابن عباس ، ولم ينكر. انتهى.

    قال الشافعي في "المختصر": لا أعلم مخالفا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين.

    قال الرافعي : تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك، فمنهم من قال: ورد، ونسبه إلى رواية علي - عليه السلام - ومنهم من قال: ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة ، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر، وأخذ ذلك من إجماع الصحابة.

    وقال ابن المنذر : ما ذكره الشافعي لا نعرفه أصلا من كتاب ولا سنة، وقد سئل عن ذلك أحمد بن حنبل فقال: لا نعرف فيه شيئا، فقيل: إن أبا عبد الله - يعني الشافعي - رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لعله سمعه من ذلك المدني، فإنه كان حسن الظن به [ ص: 1448 ] يعني إبراهيم بن أبي يحيى، وتعقبه ابن الرفعة: بأن من عرف حجة على من لم يعرف.

    وروى البيهقي من طريق ابن لهيعة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب، قال: من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين، وقد وافق الشافعي على نقل الإجماع الترمذي في "جامعه" وابن المنذر ، فحكى كل واحد منهما الإجماع. كذا في "نيل الأوطار".

    وقوله تعالى: إلا أن يصدقوا أي: إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلا تجب عليه، وسمي العفو عنها صدقة؛ حثا عليه وتنبيها على فضله.

    قال السيوطي في "الإكليل": فيها (أي: هذه الآية) تعظيم قتل المؤمن والإثم فيه، ونفيه عن الخطأ، وأن في قتل الخطأ كفارة ودية لا قصاص، وأن الدية مسلمة إلى أهل المقتول، إلا أن يصدقوا بها، أي: يبرؤوا منها، ففيه جواز الإبراء من أهل الدية، مع أنها مجهولة.

    وفي قوله (مسلمة) دون (يسلمها) إشارة إلى أنها على عاقلة القاتل، ذكره سعيد بن جبير ، أخرجه ابن أبي حاتم ، واستدل بقوله: إلى أهله على أن الزوجة ترث منها؛ لأنها من جملة الأهل خلافا للظاهرية، واحتج بها من أجاز إرث القاتل منها؛ لأنه من أهله، واحتج الظاهرية بقوله: إلا أن يصدقوا على أن المقتول ليس له العفو عن الدية؛ لأن الله جعل ذلك لأهله خاصة، وعموم الآية شامل للإمام إذا قتل خطأ، خلافا لمن قال: لا شيء عليه ولا على عاقلته، واستدل بعمومها أيضا من قال: إن في قتل العبد الدية والكفارة، وإن على الصبي والمجنون إذا قتلا الكفارة، وإن المشارك في القتل عليه كفارة كاملة. انتهى.

    فإن كان أي: المقتول خطأ من قوم عدو لكم أي: محاربين وهو مؤمن فلم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، أو بأن أتاهم بعدما فارقهم لمهم من المهمات.

    فتحرير رقبة مؤمنة أي: فعلى قاتله الكفارة، لحق الله دون الدية، فإنها ساقطة، إذ لا إرث بينه وبين أهله؛ لأنهم محاربون.

    وقال الإمام زيد بن علي بن الحسين - عليهم السلام -: لا تؤدى الدية إليهم؛ لأنهم يتقوون بها، ومعلوم أن سقوط الدية لمن هذه حاله أخذا من إيجاب الله تعالى على قاتله الكفارة، ولم يذكر الدية كما ذكرها في أول الآية [ ص: 1449 ] وآخرها.

    وقد روى الحاكم وغيره، عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى قومه وهم مشركون: فيصيبه المسلمون في سرية أو غزاة، فيعتق الذي يصيبه رقبة.

    وإن كان أي: المقتول خطأ من قوم أي: كفرة بينكم وبينهم ميثاق أي: عهد من هدنة أو أمان، أي: كان على دينهم ومذهبهم فدية أي: فعلى قاتله دية مسلمة إلى أهله إذ هم كالمسلمين في الحقوق.

    وتحرير رقبة مؤمنة لحق الله تعالى، وتقديم الدية ههنا مع تأخيرها فيما سلف؛ للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية؛ تحاشيا عن توهم نقض الميثاق.

    قال السيوطي : روى الحاكم وغيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: وإن كان من قوم بينكم إلخ: هو الرجل يكون معاهدا ويكون قومه أهل عهد، فتسلم إليهم الدية، ويعتق الذي أصابه رقبة.

    قال السيوطي : ففيه أن المقتول إذا كان من أهل الذمة والعهد ففيه دية مسلمة إلى أهله مع الكفارة، وفيه رد على من قال: لا كفارة في قتل الذمي ، والذين قالوا ذلك قالوا: إن الآية في المؤمن الذي أهله أهل عهد، وقالوا: إنهم أحق بديته لأجل عهدهم، ويرده تفسير ابن عباس المذكور، وأنه تعالى لم يقل فيه: وهو مؤمن، كما قال في الذي قبله. انتهى.
    تنبيه:

    استدل بالآية من قال: إن دية المعاهد - حربيا أو كتابيا - كالمسلم؛ لأنه تعالى ذكر في كل منهما الكفارة والدية، فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء، إذ إطلاق الدية يفيد أنها الدية المعهودة، وهي دية المسلم.

    وقد أخرج الترمذي ، عن ابن عباس - وقال: غريب - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية [ ص: 1450 ] الضمري، وكان لهما عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر به عمرو بدية المسلمين.

    وأخرجه البيهقي ، عن الزهري أنها كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل دية المسلم، وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بيت المال، قال: ثم قضى عمر بن عبد العزيز بالنصف، وألقى ما كان جعل معاوية .

    وأخرج أيضا عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى ذميا دية مسلم.

    وفي أثري البيهقي المذكورين مقال، إذ علل الأول بالإرسال، والثاني بأن في إسناده أبا كرز ، وهو متروك.

    وروى أحمد والنسائي والترمذي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عقل الكافر نصف دية المسلم .

    وأخرج أبو داود عنه بلفظ: دية المعاهد نصف دية الحر وفي لفظ: قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى، رواه أحمد والنسائي وابن ماجه .

    وعندي: لا تنافي بين هذه الروايات المذكورة؛ لأن الظاهر أن الفرض في دية الكافر إنما هو النصف، ولا حرج في الزيادة عليه إلى أن يبلغ دية المسلم تبرعا وتفضلا، وبه يحصل الجمع بين الروايات، والاستدلال بالآية على تماثل ديتي المسلم والكافر المتقدم غير ظاهر؛ لما في الدية من الإجمال المرجوع في بيانه إلى السنة، وقد بينته وصح فيها أنه النصف فرضا، والله أعلم.

    فمن لم يجد أي: رقبة ليحررها، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها فصيام شهرين متتابعين أي: فعليه صيام شهرين متواصلين لا إفطار بينهما، بحيث لو صام تسعة وخمسين وتعمد بإفطار يوم استأنف الجميع؛ لأن الخطأ إنما نشأ من كدورة النفس، وهذا القدر يزيلها ويفيد التزكية.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #243
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1451 الى صـ 1458
    الحلقة (243)



    قال المهايمي : توبة من الله أي: قبولا من الله ورحمة منه [ ص: 1451 ] من (تاب عليه) إذا قبل توبته (فتوبة) منصوب على أنه مفعول له، أي: شرع لكم ذلك توبة منه، أو مصدر مؤكد لمحذوف، أي: تاب عليكم توبة منه.

    وكان الله عليما بجميع الأشياء التي منها مقدار كدورة هذا الخطأ العظيم حكيما في دواء إزالتها.

    قال المهايمي : وإذا كان للخطأ هذه الكدورة مع العفو عنه، فأين كدورة العمد؟! أي: وهي التي ذكرت في قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [93]

    ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه إذ قتل وليه عمدا ولعنه أي: أبعده عن الرحمة وأعد له وراء ذلك عذابا عظيما أي: فوق عذاب سائر الكبائر، سوى الشرك.

    قال الإمام ابن كثير : هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول سبحانه في سورة (الفرقان): والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان: من الآية 68] الآية، وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا [الأنعام: من الآية 151] الآية، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا.

    فمن ذلك ما ثبت [ ص: 1452 ] في الصحيحين، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء .

    وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلح .

    وفي حديث آخر: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم قلت: رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو

    وفي الحديث الآخر: لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لكبهم الله في النار .

    قلت: رواه الترمذي ، عن أبي سعيد ، وأبي هريرة بلفظ: لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله عز وجل في النار .

    وفي الحديث الآخر: من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله .

    قلت: رواه ابن ماجه عن أبي هريرة .

    وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا .

    [ ص: 1453 ] وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت ابن جبير ، قال: اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.

    وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به.

    ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم فقال: ما نسخها شيء.

    وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد ، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزى: سئل ابن عباس عن قوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية؟ فقال: لم ينسخها شيء، وقال في هذه الآية: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى آخرها، قال: نزلت في أهل الشرك.

    وروى ابن جرير - أيضا - عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم.

    وروى الإمام أحمد، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال: أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا؟ فقال: فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية، قال: لقد نزلت من آخر ما نزل، ما نسخها [ ص: 1454 ] شيء حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وما نزل وحي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له بالتوبة؟ وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثكلته أمه، رجل قتل رجلا متعمدا يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما قبل العرش يقول: يا رب سل عبدك فيم قتلني ورواه النسائي وابن ماجه .

    وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة.

    وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمير، والحسن، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم .

    وفي الباب أحاديث كثيرة، فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى، فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لك فيقول: فإنها لي.

    قال: ويجيء آخر متعلقا بقاتله، فيقول: رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال فيهوى به في النار سبعين خريفا
    ورواه النسائي .

    وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا .

    وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد، قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي، فقال لنا: هلما فأنتما أشب سنا مني، وأوعى للحديث مني، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم، فقال له أبو العالية: حدث هؤلاء حديثك، فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية فأغارت على قوم فشد مع القوم رجل [ ص: 1455 ] فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه، فقال الشاد من القوم: إني مسلم، فلم ينظر فيما قال، فضربه فقتله، فنمى الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولا شديدا، فبلغ القاتل، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يخطب إذ قال القاتل: والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، قال فأعرض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته، ثم قال أيضا: يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته، ثم لم يصبر حتى قال الثالثة: والله يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعرف المساءة في وجهه، فقال: إن الله أبى على من قتل مؤمنا (ثلاث مرات) ورواه النسائي .

    ثم قال ابن كثير : والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قال الله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها إلى قوله: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا [الفرقان: 68 - 70] الآية، وهذا خبر لا يجوز نسخه، وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم.

    وقال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [الزمر: من الآية 53] الآية، وهذا عام في جميع الذنوب، من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه، قال الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 48 و 116] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها؛ لتقوية الرجاء، والله أعلم.

    [ ص: 1456 ] وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة.

    وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف: هذا جزاؤه إن جازاه.

    وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعا، ولكن لا يصح، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد لا يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب.

    وبتقدير دخول القاتل في النار، إما على قول ابن عباس - ومن وافقه - أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به - فليس بمخلد فيها أبدا، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان.

    [ ص: 1457 ] ثم قال ابن كثير : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين، وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول، أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك، والله أعلم. انتهى.

    وقال النووي في "شرح مسلم " في شرح حديث الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس: استدل به على قبول توبة القاتل عمدا ، وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلال هذا فمراد قائله الزجر والتوبة، لا أنه يعتقد بطلان توبته.

    وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف - فليس هذا موضع الخلاف، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك، وهذا قد ورد شرعنا به، وذلك قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس إلى قوله: إلا من تاب [الفرقان: 68] الآية.

    وأما قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية، فالصواب في معناها: أن جزاءه جهنم، فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد، يخلد في جهنم بالإجماع، وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص، مرتكب كبيرة، جزاؤها جهنم خالدا فيها، لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها، فلا يخلد هذا، ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا، وقد لا يعفى عنه [ ص: 1458 ] بل يعذب كسائر عصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة، ولا يخلد في النار.

    قال: فهذا هو الصواب في معنى الآية، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، وإنما فيها أنها جزاؤه، أي: يستحق أن يجازى بذلك، وقيل: وردت الآية في رجل بعينه، وقيل: المراد بالخلود طول المدة لا الدوام، وقيل: معناها: هذا جزاؤه إن جازاه، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة؛ لمخالفتها حقيقة لفظ الآية، فالصواب ما قدمناه. انتهى.

    وقال علاء الدين الخازن : اختلف العلماء في حكم هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا؟ وهل لمن قتل متعمدا توبة أم لا؟ فروي عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس : ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا، فتلوت عليه الآية التي في الفرقان: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان: من الآية 68] إلى آخر الآية، قال: هذه آية مكية، نسختها آية مدنية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #244
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1459 الى صـ 1466
    الحلقة (244)

    وفي رواية قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت إلى ابن عباس [ ص: 1459 ] فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شيء.

    وفي رواية أخرى: قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله: مهانا فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام، وقد عدلنا بالله، وقد قتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملا [الفرقان: من الآية 70] إلى آخر الآية.

    زاد في رواية: فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له، أخرجاه في الصحيحين.

    وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال: من أين لك أنها محكمة؟ فقال ابن عباس: تكاثف الوعيد فيها.

    وقال ابن مسعود: إنها محكمة، وما تزداد إلا شدة، وعن خارجة بن زيد قال: سمعت زيد بن ثابت يقول: أنزلت هذه الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها بعد التي في الفرقان: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق بستة أشهر، أخرجه أبو داود والنسائي، وزاد النسائي في رواية: بثمانية أشهر.

    وقال زيد بن ثابت: لما نزلت هذه الآية في الفرقان: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ص: 1460 ] عجبنا من لينها، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء، وباللينة آية الفرقان.

    وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها، فقال بعضهم: نسختها التي في الفرقان، وليس هذا بالقوي؛ لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء، والمتقدم لا ينسخ المتأخر، وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضا، وهي قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 48].

    وأجاب من ذهب إلى أنها منسوخة عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في الصحيحين: بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية، والنسخ لا يدخل الأخبار، ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان، فيكون المعنى: فجزاؤه جهنم إلا من تاب.

    وقال بعضهم: ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل، فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: إن لم يقتل يقال له: لا توبة لك، وإن قتل ثم ندم وجاء تائبا يقال له: لك توبة.

    وقيل: إنه قد روي عن ابن عباس مثله، وروي عنه أيضا أن توبته تقبل، وهو قول أهل السنة، ويدل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى [طه: 82] وقوله: إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر: من الآية 53].

    وأما السنة فما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله [ ص: 1461 ] ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك به شيئا دخل النار أخرجه مسلم.

    وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق .

    وفي رواية: ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه فبايعناه على ذلك. انتهى.

    وقال العلامة أبو السعود : تمسكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمدا في النار ، ولا متمسك لهم فيها، لا لما قيل من أنها في حق المستحل - كما هو رأي عكرمة وأضرابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكناني المرتد، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام؛ لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم.

    وما روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا، وكذا ما روي عن سفيان : أن أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له - محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ، وعليه يحمل ما روي عن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة وقال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح : المعنى هو جزاؤه إن جازاه، قالوا: قد يقول لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا.

    [ ص: 1462 ] قال الواحدي : والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد، وإن امتنع أن يخلف الوعد، والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور؛ لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك، لا بأنه يجزيه بذلك، كيف لا؟ وقد قال الله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى: من الآية 40] ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله تعالى: ويعفو عن كثير [الشورى: من الآية 30] انتهى.

    وقال العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار": وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول: لا نزاع أن قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب، بل للمسلم والكافر، والاستثناء المذكور في آية الفرقان - أعني قوله تعالى: إلا من تاب [الفرقان: من الآية 60] بعد قوله تعالى: ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [الفرقان: من الآية 68] - مختص بالتائبين، فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا

    أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقا تقدم أو تأخر أو قارن - فظاهر، وأما على مذهب من قال: إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا على آية الفرقان - فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله، كقوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر: من الآية 53] وقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 116].

    [ ص: 1463 ] ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه .

    وما أخرجه الترمذي وصححه من حديث صفوان بن عسال ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: باب [ ص: 1464 ] من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة - خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض - مفتوح للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها .

    وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر .

    وأخرج مسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده.

    لا يقال: إن هذه العمومات مخصصة بقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية؛ لأنا نقول: الآية أعم من وجه وهو شمولها للتائب وغيره، وأخص من وجه وهو كونها في القاتل، وهذه العمومات أعم من وجه وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل، وأخص من وجه وهو كونها في التائب، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح، ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها.

    وهكذا أيضا يقال: إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى - كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث - تدل على خروج كل موحد، سواء كان ذنبه القتل أو غيره، والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل موحدا أو غير موحد، فيتعارض عمومان، وكلاهما ظني الدلالة، ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته، بخلاف أحاديث خروج الموحدين، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقا، كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم، ولا حكم لهذه المعارضة، أو بما هو أخص منها مطلقا، كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي، نحو: (من قتل نفسه) وهو يبني العام على الخاص، وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب، [ ص: 1465 ] وعدم خلوده في النار إذا لم يتب ويتبين لك أيضا أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية، كما أخرج ذلك عنه البخاري ومسلم وغيرهما، وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي والترمذي عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما يقول يا رب قتلني هذا حتى يدنيه من العرش وفي رواية للنسائي فيقول: سل هذا فيم قتلني؟ لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل، وذلك لا يستلزم أخذ التائب بذلك الذنب، ولا تخليده في النار، على فرض عدم التوبة.

    والتوبة النافعة ههنا هي الاعتراف بالقتل عند الوارث إن كان له وارث، أو السلطان إن لم يكن له وارث، والندم على ذلك الفعل، والعزم على ترك العود إلى مثله - لا مجرد الندم والعزم بدون اعتراف - وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها؛ لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله، وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به.

    فإن قلت: فعلام تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوبا بين عينيه: الإياس من الرحمة، والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله؟

    قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل، والدليل على هذا التأويل ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموما وخصوصا، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة، الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله، فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر حديث عبادة ، [ ص: 1466 ] ومع كون الحديثين في الصحيحين بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية ، وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل، فإنه جعل الرجل القاتل عمدا مقترنا بالرجل الذي يموت كافرا، ولا شك أن الذي يموت كافرا مصرا على ذنبه غير تائب منه من المخلدين في النار، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر ، فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها.

    وقد قال العلامة الزمخشري في "الكشاف": إن هذه الآية فيها من التهديد والإبعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ، قال: ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي، من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة، وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة، وناهيك بمحو الشرك دليلا.

    ثم ذكر حديث: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم وهو عند النسائي من حديث ابن عمرو ، أخرجه أيضا الترمذي ، انتهى كلام الشوكاني .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #245
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1467 الى صـ 1474
    الحلقة (245)



    وقال الإمام ابن القيم في "الجواب الكافي": لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله - عليهم الصلاة والسلام - وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط - كان (أي: الظلم) من أكبر الكبائر عند الله، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه، وكان قتل الإنسان المؤمن من أقبح الظلم وأشده، ثم قال: ولما [ ص: 1467 ] كانت مفسدة القتل هذه المفسدة قال الله تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [المائدة: من الآية 32].

    ثم قال: وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال: أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل.

    وفي جامع الترمذي عن نافع ، قال: نظر عبد الله [ ص: 1468 ] بن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك ، قال الترمذي : هذا حديث حسن.

    وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما وذكر البخاري أيضا عن ابن عمر قال: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله.

    وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر .

    وفيهما أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم -: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .

    وفي صحيح البخاري عنه - صلى الله عليه وسلم -: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما .

    هذه عقوبة قاتل عدو الله، إذا كان معاهدا في عهده وأمانه، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن؟!

    [ ص: 1469 ] وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعشطا، فرآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها، فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم؟!

    وفي بعض السنن عنه - صلى الله عليه وسلم -: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق .

    وقال ابن القيم أيضا قبل ذلك: وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا الخلود في النار، وغضب الجبار ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له، هذا موجب قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع.

    ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل - طوعا واختيارا - مانع من نفوذ ذلك الجزاء، وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد .

    والذين قالوا: لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا وخرج منه بظلامته فلا بد أن يستوفى له في دار العدل، قالوا: فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله، من استيفائه والعفو عنه، وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟! وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟ وهذا أصح القولين في المسألة أن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث، وهي وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث، فإن التوبة تهدم ما قبلها ، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده.

    قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر - وهما أعظم إثما من القتل - فكيف تقصر عن محو أثر القتل؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم، وجعلهم من خيار عباده، ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة.

    [ ص: 1470 ] وقال تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا وهذا في حق القاتل، وهي تتناول الكفر فما دونه، قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه، قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول، فأقام الشارع وليه مقامه، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه، فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث.

    والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق:

    حق لله، وحق للمظلوم المقتول، وحق للولي، فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي؛ ندما على ما فعل، وخوفا من الله، وتوبة نصوحا - فقطع حق الله بالتوبة، وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.
    فصل

    ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام، منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني ، فإنه قال في كتابه: "إيثار الحق" في (بحث الوعد والوعيد) ما نصه: لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول، إما على جهة الجمع - ولا شك في جوازه وصحته وحسنه - والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها، بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح، فإن تعذر الجمع فالترجيح، فإن وضح عمل به، فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36].

    ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن بعد الانتصاف منه للمظلوم [ ص: 1471 ] والقطع على أنه فاسق ملعون، واجب قتله والبراءة منه، والقطع أن جزاءه جهنم خالدا فيها، كما قال تعالى على ما أراد، وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في "العواصم" لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء؟ أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول؟ والله سبحانه أعلم.

    فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: من الآية 48] وسائر آيات الرجاء وأحاديثه - قال بالأول، ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن بقطع الرجاء - كما أوضحته في "العواصم" - رجح وعيد القاتل، ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبا ولا إليه ضرورة - رجح الوقف، والله عند لسان كل قائل ونيته، ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة.

    وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي، متى كان أهل الصغائر من المسلمين، ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها، فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى، وذلك باب واحد.

    ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين، ولم ينكرها أحد، بل رواتها أكابرهم وأئمتهم، وفي "العواصم" من ذلك عن علي - عليه السلام - بضعة عشر أثرا، بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية، وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد، على أن الخلف [ ص: 1472 ] عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير، وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه، وأجمعوا على أنه يسمى عفوا، كما قال كعب بن زهير .


    أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول


    وإنما اختلفوا - مع تسميته عفوا - هل يسمى خلفا أم لا؟ ومن منع من ذلك منع صحة النقل له لغة، واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد. انتهى.
    فصل

    تشرع الكفارة في قتل العمد ؛ لما رواه الإمام أحمد ، عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من بني سليم ، فقالوا: إن صاحبا لنا قد أوجب، قال: فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها [ ص: 1473 ] عضوا منه من النار .

    ورواه أيضا بسند آخر عنه، قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صاحب لنا قد أوجب، قال: أعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار .

    وهذا رواه أبو داود والنسائي، ولفظ أبي داود : قد أوجب (يعني النار) بالقتل .

    قال الشوكاني في "نيل الأوطار": في حديث واثلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية، وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته؛ لحديث عبادة المذكور في الباب، ولما أخرجه أبو نعيم في "المعرفة": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: القتل كفارة وهو من حديث خزيمة بن ثابت ، وفي إسناده ابن لهيعة .

    قال الحافظ: لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنا، ورواه الطبراني في الكبير، عن الحسن بن علي موقوفا عليه.

    ثم حذر تعالى عما يؤدي إلى القتل العمد من قلة المبالاة في الأمور بقوله:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #246
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1475 الى صـ 1482
    الحلقة (246)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا [94]

    [ ص: 1474 ] يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم أي: ذهبتم في سبيل الله إلى أرض العدو للغزو فتبينوا أي: اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية.

    ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين، أي: لا تقولوا (لمن أظهر الانقياد لدعوتكم فقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم فحياكم بتحية الإسلام): لست مؤمنا في الباطن، وإنما قلته باللسان لطلب الأمان، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه.

    تبتغون أي: تطلبون بقتله عرض الحياة الدنيا أي: ماله الذي هو سريع النفاد، والجملة حال من فاعل (لا تقولوا) منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأني.

    وقوله تعالى: فعند الله مغانم كثيرة تعليل للنهي عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمني، كأنه قيل: لا تبتغوا ماله، فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه، أفاده أبو السعود .

    ثم قال: وقوله تعالى: كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم تعليل للنهي عن القول المذكور، أي: مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام كنتم أنتم أيضا في مبادئ إسلامكم، لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم، من تحية الإسلام ونحوها، فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم.

    والفاء في قوله تعالى: فتبينوا فصيحة، أي: إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال، من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن إن الله كان بما تعملون خبيرا فلا تتهافتوا في القتل، وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.

    قال ابن كثير (في سبب نزولها):

    أخرج الإمام أحمد ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يرعى غنما له، فسلم عليهم، فقالوا: ما يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1475 ] فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا إلى آخرها، ورواه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أسامة بن زيد .

    ورواه الحاكم وصححه، وروى البخاري عن عطاء ، عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك .... إلى قوله: (عرض الحياة الدنيا): (تلك الغنيمة).

    وقال البخاري : قال حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمقداد : إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل هكذا رواه البخاري معلقا مختصرا.

    ورواه الحافظ أبو بكر البزار مطولا موصولا، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه [ ص: 1476 ] المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله! إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد ، فقال: ادعوا لي المقداد، يا مقداد! أقتلت رجلا يقول: لا إله إلا الله؟! فكيف لك بـ(لا إله إلا الله) غدا ؟ قال: فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا إلى قوله: كذلك كنتم من قبل الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل .

    قال ابن كثير : فقوله تعالى: كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع، وكما قال تعالى: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض [الأنفال: من الآية 26] الآية، وهذا وجه آخر في مرجع الإشارة، غير ما سلف، وهو الأدق، وبالقبول أحق.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": يستفاد من هذه الرواية (أي: رواية البزار ) تسمية القاتل، وأما المقتول فروى الثعلبي من طريق الكلبي ، عن أبي صالح، عن ابن عباس ، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه، واللفظ للكلبي : أن اسم المقتول مرداس بن نهيك ، من أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد ، وأن اسم أمير السرية غالب بن فضالة الليثي ، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده، وكان ألجأ غنمه بجبل، فلما لحقوه قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد ، فلما رجعوا نزلت الآية.

    وكذا أخرج الطبري من طريق السدي نحوه، وفي آخر رواية قتادة : لأن تحية [ ص: 1477 ] المسلمين السلام، بها يتعارفون.

    وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال: أنزلت هذه الآية في مرداس، وهذا شاهد حسن، وأسند ابن أبي حاتم أن أسامة حلف لا يقتل رجلا يقول: (لا إله إلا الله) بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه.

    قال بعض المفسرين من أئمة الزيدية: وبهذا اعتذر إلى علي - عليه السلام - حتى تخلف عنه، وإن كان عذرا غير مقبول؛ لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة، ويكفر يمينه.

    قال الحاكم : إلا أن أمير المؤمنين أذن له. انتهى.

    وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن أبي حدرد - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له (تصغير متاع وهو السلعة) ووطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله؛ لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرناه الخبر، نزل القرآن: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله إلى قوله تعالى: خبيرا

    ورواه ابن جرير ، عن ابن عمر ، وزاد: فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر له فقال رسول الله: لا غفر الله لك فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات، ودفنوه في الأرض فلفظته الأرض، فجاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فقال: إن [ ص: 1478 ] الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم ثم طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه الحجارة، ونزلت.

    وروى أئمة السير أنه لما كان عام خيبر جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر وهو سيد قيس، وكان الأقرع بن حابس يرد عن محلم وهو سيد خندف ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوم عامر: هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ فقال عيينة بن بدر : والله! لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي، فلم يزل به حتى رضي بالدية.

    قال ابن إسحاق : حدثني سالم بن النضر قال: لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم: فقال: يا معشر قيس! سألكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيغضب عليكم الله لغضبه؟ أو يلعنكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلعنكم الله بلعنته؟ والله! لتسلمنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط، فلأبطلن دمه، فلما قال ذلك أخذوا الدية.

    وأخرج ابن منده ، عن جزء بن الحدرجان قال: وفد أخي قداد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن فلقيته سرية النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: أنا مؤمن، فلم يقبلوا منه وقتلوه، فبلغني ذلك، فخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم الآية، فأعطاني النبي - صلى الله عليه وسلم - دية أخي.

    قال القفال : ولا منافاة بين هذه الروايات، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته. انتهى.

    وتقدم لنا في مقدمة التفسير في سبب النزول ما يدفع التنافي في نحو هذا، فارجع إليه.
    تنبيه:

    قال الرازي : اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين ، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه؛ لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف.

    وفي "الإكليل": استدل بظاهرها [ ص: 1479 ] على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الاستسلام، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده، على قراءة (السلام) وفي الآية وجوب التثبت في الأمور، خصوصا القتل، ووجوب الدعوة قبل القتال. انتهى.

    وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": في الآية دليل على أن من أظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره؛ لأن السلام تحية المسلمين، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة.

    وأما على قراءة (السلم) بفتحتين، أو بكسر فسكون، فالمراد به الانقياد، وهو علامة الإسلام. انتهى.

    وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الكريمة وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة، لقوله: فتبينوا (بالنون) وهذه قراءة الأكثر، وحمزة والكسائي قراءتهما: (فتثبتوا) من (الثبات).

    ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأفعال من الأحكام وسائر الأعمال، فهذا حكم، والحكم الثاني أنه يجب الأخذ بالظاهر، فمن أظهر الإسلام أو شيئا من شعائر الإسلام لا يكذب بل يقبل منه، ويدخل في هذا الملحد والمنافق، وهذا هو مذهبنا والأكثر، ويدخل في هذا قبول توبة المرتد، خلافا لأحمد، وقبول توبة الزنديق، وهذا قول عامة الأئمة.

    وقال مالك: لا تقبل؛ لأن هذا عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.

    قال الراضي بالله والإمام يحيى: إن أظهروا ما يعتادون إخفاءه قبلت توبتهم، وإلا فلا.

    قال علي خليل: تقبل توبتهم، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا، كما قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين، وقد أخبر الله تعالى بكفرهم.

    وقال أبو مضر : تقبل ما لم يعرف كذبهم، وهذا الخلاف في الظاهر، وأما عند الله إذا صدق فهي مقبولة وفاقا.

    قال الحاكم : وتدل على أن التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز، وقد ذكر العلماء صورا في التوصل إلى المباح بالمحظور مختلفة، ذكرت في غير هذا [ ص: 1480 ] الموضع، والحجة هنا من قوله تعالى: تبتغون عرض الحياة الدنيا لأن الذي قصد هنا أخذه محظور؛ لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال، فذلك توصل بمحظور إلى محظور.

    وقوله تعالى: لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا قرئ (السلم) وهذه قراءة نافع وحمزة وابن عامر بغير ألف وهو الاستسلام، وقيل: إظهار الإسلام، وقرأ الباقون: (السلام) بألف وهو التحية. انتهى.

    وقال أبو منصور في "التأويلات": فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله: فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا وقال في الخبر: إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [الحجرات: من الآية 6] أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة، كما أمر في الأفعال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: من الآية 36].

    وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة؛ لأنه نهاهم أن يقولوا (لمن قال: إني مسلم): لست مؤمنا، وهم يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهو يقول ألف مرة (على المثل): إني مسلم، فإذا نهى أن يقولوا: ليس بمؤمن، أمرهم أن يقولوا: هو مؤمن، فيقال لهم: أنتم أعلم أم الله؟! على ما قيل لأولئك. انتهى.

    وقال الرازي : قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي والنصراني: أنا مؤمن، أو قال: أنا مسلم، لا يحكم بهذا القدر بإسلامه، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان، ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعند قوم لا يحكم بإسلامه؛ لأن فيهم من يقول: إنه رسول الله إلى العرب، لا إلى الكل، ومنهم من يقول: إن محمدا الذي هو الرسول الحق [ ص: 1481 ] بعد ما جاء، وسيجيء بعد ذلك، بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق، والله أعلم. انتهى.

    أقول: كل من قال: أنا مؤمن أو أنا مسلم من المحاربين، مظهرا الانقياد لنا، وأنه من ملتنا، فإنه يحكم بإسلامه، ويكف عن قتله وأخذ ماله، كتابيا كان أو مشركا، وهذا هو المقصود من الآية.

    وأما مسألة من أراد الدخول في الإسلام وهو على عقيدة فاسدة، وأنه لا بد في صحة إسلامه من تبرئه عنها، ونبذها ظهريا، وأنه لا يكتفى بقوله: أنا مسلم - فذاك بحث آخر مسلم، لكن ليس مما تشمله الآية، كما أن من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين ولم يدن بشرائع الإسلام وإقامة شعائره، كبعض القبائل البادية الجافية - فإنه يجب على الإمام قتالهم، ولا يقال: إن الآية تشملهم؛ لما ذكرنا، وظاهر أن مدار النهي في الآية إنما هو على سفك الدماء ابتغاء عرض الدنيا؛ لقوله: (تبتغون) وهو حال كما أسلفنا، والحال قيد لعاملها، فما ذكره الرازي عن الفقهاء ليس مما تشمله الآية؛ لأن البحث ليس في القدر الذي يصير به الكافر مسلما، بل في الكف عن قتل المنقاد لنا، فافهم، وقوله تعالى:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #247
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1483 الى صـ 1490
    الحلقة (247)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما [95]

    لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد، بعد ما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه؛ ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته، فيهتز له رغبة في ارتفاع طبقته، قاله أبو السعود .

    [ ص: 1482 ] وأصله للزمخشري حيث قال: فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفي الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد؛ ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه، وفي ارتفاع طبقته، ونحوه: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: من الآية 9] أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به إلى التعلم ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم. انتهى.

    والمراد بهم - وقت النزول - القاعدون عن غزوة بدر والخارجون إليها، كما رواه البخاري والترمذي ، عن ابن عباس .

    وقوله: غير أولي الضرر مخرج لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد: من العمى والعرج والمرض، عن مساواتهم للقاعدين، فإنهم مساوون المجاهدين بالنية، ولا يعتد بزيادة أجر العمل لهم لعظم أمر النية.

    كما روى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله! قال: نعم، حبسهم العذر وفي هذا المعنى قال الشاعر:


    يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر
    ومن أقام على عذر كمن راحا



    [ ص: 1483 ] وروى البخاري عن البراء قال: لما نزلت: لا يستوي القاعدون من المؤمنين دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل الله: غير أولي الضرر

    وفي رواية للبخاري عن زيد: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي، قال: يا رسول الله! والله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان فخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه فأنزل الله: غير أولي الضرر

    وقوله تعالى: بأموالهم أي: التي ينفقونها على أنفسهم في الجهاد أو على مجاهد آخر وأنفسهم أي: التي هي أعز عليهم من كل شيء، وإن أنفق عليهم غيرهم إذا لم يكن عندهم مال.

    قال أبو السعود : وإيرادهم - يعني الغزاة - بعنوان المجاهدين، دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، كما وقع في عبارة ابن عباس - رضي الله عنهما - وكذا تقييد المجاهدة بكونها في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم - لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة، مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود. انتهى.

    وظاهر أن نفي المساواة يستلزم التفضيل، إلا أنه للاعتناء به، وليتمكن أشد تمكن - لم يكتف بما فهم ضمنا، بل صرح به فقال: فضل الله المجاهدين لأنهم رجحوا جانبه بأموالهم وأنفسهم على القاعدين أي: غير أولي الضرر درجة في القرب ممن رجحوا جانبه وكلا أي: كل واحد من القاعدين والمجاهدين وعد الله الحسنى أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة، لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم، والجملة اعتراض جيء به تداركا [ ص: 1484 ] لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وفضل الله المجاهدين بالجهاد على القاعدين أي: بغير عذر أجرا عظيما أي: ثوابا وافرا في الجنة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما [96]

    درجات منه بدل من (أجرا) بدل الكل، مبين لكمية التفضيل و(منه) متعلق بمحذوف وقع صفة لـ(درجات) دالة على فخامتها وجلالة قدرها، قاله أبو السعود .

    وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض .

    وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رمى بسهم فله أجره درجة فقال رجل: يا رسول الله! وما الدرجة؟ فقال: أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام ومغفرة أي: لذنوبهم ورحمة [ ص: 1485 ] فوق الأجر ودرجاته.

    وكان الله غفورا رحيما تذييل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة، وههنا فوائد:

    الأولى: دلت الآية على أن الجهاد ليس بفرض عين ، إذ لو كان فرضا من فروض الأعيان لم يكن للقاعد فضل، ولكن تفاوت الفضل بينه وبين المجاهد، وقال: (وكلا وعد الله الحسنى).

    الثانية: دلت أيضا على أن الجهاد أفضل من القرب التي يفعلها القاعد ؛ لأنه فضله على القاعد مطلقا، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: الجهاد سنام الدين .

    وقد فرع العلماء على هذا أن رجلا لو وقف ماله على أحسن وجوه البر، أو أوصى أن يصرف في أحسن وجوه البر، فإنه يصرف في الجهاد، خلاف ما ذكر أبو علي أنه يصرف في طلب العلم، كذا في بعض التفاسير.

    الثالثة: قال السيوطي في "الإكليل": في الآية تفضيل المجاهدين على غيرهم ، وأن المعذورين في درجة المجاهدين، واستدل بقوله (بأموالهم) على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديون أو نحوه.

    الرابعة: قال الرازي : لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم فقدم ذكر النفس على المال، وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله: المجاهدين بأموالهم وأنفسهم قدم ذكر المال على النفس، فما السبب؟ وجوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس؛ تنبيها على أن الرغبة فيها أشد، والبائع أخر ذكرها؛ تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب.

    الخامسة: قال أبو السعود : لعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة، وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات، مع اتحاد المفضل والمفضل عليه، حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام - إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات [ ص: 1486 ] منزلة الاختلاف الذاتي؛ تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير؛ روما لمزيد التحقيق والتقرير، كما في قوله تعالى: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ [هود: 58] كأنه قيل: فضل المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها، ولا يبلغ كنهها، وحيث كان تحقق هذا البون البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين قيل: وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام، بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقيل ما قيل، ولله در شأن التنزيل.

    وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر، كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثاني، وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود، أعني الوعد بالجنة؛ توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول، والله سبحانه أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا [97]

    إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم روى البخاري ، عن ابن عباس [ ص: 1487 ] أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: إن الذين توفاهم الآية.

    وأخرجه ابن مردويه، وسمى منهم (في روايته) قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، وعمرو بن أمية بن سفيان، وعلي بن أمية بن خلف، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا ببدر.

    وأخرجه ابن أبي حاتم ، وزاد: منهم الحارث بن زمعة بن الأسود، والعاص بن منبه بن الحجاج.

    وأخرج الطبراني ، عن ابن عباس قال: كان قوم بمكة قد أسلموا، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرهوا أن يهاجروا وخافوا، فأنزل الله: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله: إلا المستضعفين .

    وأخرج ابن المنذر وابن جرير ، عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين، فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: إن الذين توفاهم الملائكة الآية، فكتبوا بها إلى من بقي منهم، وإنه لا عذر لهم فخرجوا، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت: ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [العنكبوت: من الآية 10] فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا، فنزلت: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا [النحل: من الآية 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا، فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.

    [ ص: 1488 ] وأخرج ابن جرير من طرق كثيرة نحوه، كذا في "لباب النقول".

    قال المهايمي : ولما أوهم ما فهم مما تقدم من تساوي القاعدين أولي الضرر والمجاهدين أن من قعد عن الجهاد لكونه في دار الكفر محسوب منهم، وإن عجز عن إظهار دينه، فإن لم يحسب فلا أقل من أن يحسب من القاعدين غير أولي الضرر، الموعود لهم الحسنى - أزيل ذلك الوهم بأنهم بترك الهجرة من مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم، مع إمكان الخروج عنه، صاروا ظالمين مستحقين لتوبيخ الملائكة، بل لعذاب جهنم، فقال: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم أي: في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة عن مكان لا يمكنهم فيه إظهار دينهم مع القدرة عليها وبموافقة الكفار.

    و(توفاهم) يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: (توفتهم) ومضارعا بمعنى تتوفاهم، بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، كذا في "الكشاف".

    و(الظلم) قد يراد به الكفر كقوله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان: 13] وقد يراد به المعصية كقوله: فمنهم ظالم لنفسه [فاطر: 32] ويصح إرادة المعنيين هنا كما أشرنا.

    روى أبو داود، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله .

    قالوا أي: الملائكة للمتوفين؛ تقريرا بتقصيرهم وتوبيخا لهم فيم كنتم أي: في أي شيء كنتم من أمور دينكم قالوا كنا مستضعفين في الأرض أي: أرض الأعداء.

    قال الزمخشري : كيف صح وقوع قوله: كنا مستضعفين في الأرض جوابا عن قولهم: فيم كنتم وكان حق الجواب: كنا في كذا [ ص: 1489 ] أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى: فيم كنتم التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم: قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها أرادوا: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة ، وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب - والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر - أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة - حقت عليه المهاجرة. انتهى.

    فأولئك أي: النفر المذكور مأواهم أي: مصيرهم جهنم لأنهم الذين ضعفوا أنفسهم إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنة ديارهم وساءت مصيرا أي: جهنم، بدل المصير إلى دار الهجرة، ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله تعالى:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #248
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1491 الى صـ 1498
    الحلقة (248)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا [98]

    إلا المستضعفين من الرجال لعمى أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر والنساء والولدان أي: الصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة؛ لأنهم: لا يستطيعون حيلة في الخروج، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة.

    ولا يهتدون سبيلا أي: لا يعرفون طريقا إلى دار الهجرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا [99]

    فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم أي: يتجاوز عنهم بترك الهجرة.

    قال الرازي : [ ص: 1490 ] ههنا سؤال، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة، والعاجز عن الشيء غير مكلف به، وإذا لم يكن مكلفا به لم يكن عليه في تركه عقوبة - فلم قال: عسى الله أن يعفو عنهم؟ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب، وأيضا (عسى) كلمة الإطماع، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم، والجواب عن الأول: أن المستضعف قد يكون قادرا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة، وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة - شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولا سيما في الهجرة عن الوطن، فإنها شاقة في النفس، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزا، مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام، والجواب عن الثاني: بأن الفائدة في (عسى) الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف الحال في غيره؟ هذا ما ذكره صاحب: "الكشاف".

    والأولى في الجواب ما قدمناه، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة (عسى) لا بالكلمة الدالة على القطع. انتهى.

    وقال أبو السعود : جيء بكلمة (الإطماع) ولفظ (العفو) إيذانا بأن الهجرة من تأكيد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها ممن تحقق عدم وجوبها عليه - ذنبا يجب طلب العفو عنه، رجاء وطمعا، لا جزما وقطعا.

    وقال المهايمي : فيه إشعار بأن ترك الهجرة أمر خطير، حتى إن المضطر حقه أن يترصد الفرصة ويعلق قلبه بها، وإن الصبي إذا قدر فلا محيص له عنه، وإن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم، ثم أكد الإطماع؛ لئلا ييأسوا فقال: وكان الله عفوا غفورا

    وفي إقحام (كان) إشارة إلى اتصافه تعالى بهذه الصفة قبل خلق الخلق، أو أن هذه عادته تعالى، أجراها في حق خلقه، ووعده بالعفو والمغفرة مطلقا مما يدل على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة.
    [ ص: 1491 ] تنبيه:

    قال السيوطي في "الإكليل": استدل بالآية على وجوب الهجرة من دار الكفر ، إلا على من لم يطقها، وعن مالك: الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تغير فيه السنن فينبغي أن يخرج منه. انتهى.

    وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح، ولذلك قال الله تعالى في سورة الأنفال: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء [الأنفال: من الآية 72] قيل: ونسخت بعد الفتح، والصحيح عدم النسخ، وقوله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح معناه من مكة .

    قال جار الله: وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب - لبعض الأسباب - وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله - حقت عليه الهجرة.

    ثم قال رحمه الله: قال في التهذيب: وعن القاسم بن إبراهيم : إذا ظهر الفسق في دار، ولا يمكنه الأمر بالمعروف ، فالهجرة واجبة، وهذا بناء على أن الدور ثلاث: دار إسلام، ودار فسق، ودار حرب، وهذا التقسيم هو مذهب الهادي والقاسم وابن أبي النجم في كتاب [ ص: 1492 ] "الهجرة والدور" عن الراضي بالله وجعفر بن مبشر وأبي علي .

    وذهب الإخوان وعامة الفقهاء وأكثر المعتزلة إلى النفي لدار الفسق، واعلم أن من حمل على معصية أو ترك واجب أو طالبه الإمام بذلك فالمذهب وجوب الهجرة مع حصول الشروط المعتبرة، وقد قال الراضي بالله : إن من سكن دار الحرب مستحلا كفر؛ لأن ذلك رد لصريح القرآن، واحتج بهذه.

    وقد حكى الفقيه حسام الدين حميد بن أحمد ، عن القاسم والهادي والراضي بالله - التكفير لمن ساكن الكفار في ديارهم.

    وفي (مذهب الراضي بالله ) يكفر إذا جاورهم سنة.

    قال الفقيه شرف الدين محمد بن يحيى ، حاكيا عن الراضي بالله : إنه يكفر بسكنى دار الحرب وإن لم يستحل; لأن ذلك منه إظهار الكفر على نفسه، والحكم بالتكفير محتمل هنا، ثم قال: وإنما استثنى تعالى الولدان - وإن كانوا غير داخلين في التكليف - بيانا لعدم حيلتهم، والهجرة إنما تجب على من له حيلة. انتهى.

    وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": الهجرة الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين:

    الأولى: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .

    الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة - إذ ذاك - تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا. انتهى.

    وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، أي: ما دام في الدنيا دار كفر.

    فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه.

    وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، أخرجها مجد الدين بن تيمية في "منتقى الأخبار" في ترجمة (باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وأن لا هجرة من دار [ ص: 1493 ] أسلم أهلها) ثم قال: عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله رواه أبو داود.

    وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: لا تراءى ناراهما رواه أبو داود والترمذي .

    وعن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها رواه أحمد وأبو داود .

    وعن عبد الله بن السعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو رواه أحمد والنسائي .

    [ ص: 1494 ] وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية رواه الجماعة إلا ابن ماجه .

    وعن عائشة - وسئلت عن الهجرة - فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء، رواه البخاري .

    وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا مجالد، جاء يبايعك على الهجرة فقال: لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد ، متفق عليه.

    ولما تضمنت ترجمة المجد - رحمه الله - شقين [ ص: 1495 ] أورد لكل أحاديث، فمن قوله: لا هجرة بعد الفتح.... إلخ، جميعه للشق الثاني، وهو قوله: وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها، إشارة للجمع بين هذه الأحاديث، وهو ظاهر، ثم رغب تعالى في المهاجرة بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما [100]

    ومن يهاجر في سبيل الله في طاعته يجد في الأرض مراغما أي: طريقا يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه كثيرا وسعة أي: في الرزق، أو في إظهار الدين، أو في الصدر؛ لتبدل الخوف بالأمن.

    ومن يخرج من بيته بمكة مهاجرا إلى الله إلى طاعته، أو إلى مكان أمر الله " و " إلى: " رسوله " بالمدينة ثم يدركه الموت أي: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد فقد وقع أي: ثبت أجره على الله أي: فلا يخاف فوات أجره الكامل؛ لأنه نوى مع الشروع في العمل، ولا تقصير منه في عدم إتمامه.

    وكان الله غفورا رحيما فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج، ويرحمه بإكمال ثواب هجرته.
    تنبيهات:

    الأول: فيما روي في نزول الآية:

    أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد، عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل الوحي: ومن يخرج من بيته الآية.

    وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد [ ص: 1496 ] بن جبير، عن أبي ضمرة الزرقي، الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة ، فلما نزلت: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة فقال: إني لغني وإني لذو حيلة، فتجهز يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت هذه الآية: ومن يخرج من بيته إلى آخرها.

    وأخرج ابن جرير نحو ذلك من طرق، عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم، وسمي في بعضها ضمرة بن العيص ، أو العيص بن ضمرة، وفي بعضها جندب بن ضمرة الجندعي ، وفي بعضها الضمري، وفي بعضها رجل من بني ضمرة، وفي بعضها رجل من خزاعة ، وفي بعضها رجل من بني ليث ، وفي بعضها من بني كنانة ، وفي بعضها من بني بكر .

    وأخرج ابن سعد في الطبقات، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أن جندع بن ضمرة الضمري كان بمكة ، فمرض فقال لبنيه: أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها، فقالوا: إلى أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فلما بلغوا أضاة بني غفار مات، فأنزل الله فيه: ومن يخرج الآية.

    وأخرج الأموي في "مغازيه" عن عبد الملك بن عمير قال: لما بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يدعوه، قال: فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب له رجلان، فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله، وأنا عبد الله [ ص: 1497 ] ورسوله، ثم تلا عليهم: إن الله يأمر بالعدل والإحسان [النحل: من الآية 90] الآية فأتيا أكثم فقالا له ذلك، قال: أي قوم! إنه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا، فركب بعيره متوجها إلى المدينة ، فمات في الطريق، فنزلت فيه: ومن يخرج من بيته الآية ، قال السيوطي : مرسل، إسناده ضعيف.

    وأخرج أبو حاتم في كتاب "المعمرين" من طريقين عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في أكثم بن صيفي ، قيل: فأين الليثي ؟ قال: هذا قبل الليثي بزمان، وهي خاصة عامة.

    وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن منده والباوردي في (الصحابة) عن هشام بن عروة، عن أبيه أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة ، فنهشته حية في الطريق فمات، فنزلت فيه: ومن يخرج الآية.

    قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة ، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني؛ لأنه قل أحد هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره.

    قال الحافظ ابن كثير : وهذا الأثر غريب جدا، فإن هذه القصة مكية، ونزول الآية مدني، فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول، والله أعلم.

    الثاني: ثمرة الآية:

    أن من خرج للهجرة ومات في الطريق فقد وجب أجره على الله، قال الحاكم: لكن اختلف العلماء، فقيل: أجر قصده، وقيل: أجر عمله دون أجر الهجرة، وقيل: بل له أجر المهاجرة، وهو ظاهر في سبب نزول الآية.

    [ ص: 1498 ] قال الحاكم: وقد استدل بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق قال: وهو بعيد؛ لأن المراد بالآية أجر الثواب.

    قال الزمخشري - حكاية عن المفسرين -: إن كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد، أو فرارا إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زهدا في الدنيا، وابتغاء رزق طيب - فهي هجرة إلى الله ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله.

    ووقع في كلام الزمخشري على الآية السابقة هذا الدعاء، وهو: اللهم! إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك - بعكوفي عند بيتك - بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة.

    وكلامه - رحمه الله - بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله.

    وقد ذكر البخاري ومسلم حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانسد عليهم بصخرة، وصوبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد دعا كل واحد منهم بصالح عمله، وانفرجت عنهم الصخرة.

    [ ص: 1499 ] وقد اقتضت الآية لزوم الهجرة ولو ببذل مال كالحج، وفيما سبق من حديث الذي حمل من مكة وقد قال: احملوني فإني لست من المستضعفين - إشارة إلى أنها تجب الهجرة إذا تمكن من الركوب ولو مضطجعا في المحمل؛ لأنه حمل على سرير. وقد ذكر المتأخرون (في الحج) أن الصحيح الذي يلزمه أن يمكنه الثبات على المحمل، قاعدا لا مضطجعا؛ لأن أحدا لا يعجز عن ذلك، فيحتمل أن يسوى بين المسألتين، وأنه يجب الحج ولو مضطجعا، [ ص: 1500 ] وأنهما لا يجبان مع الاضطجاع، وفعل ضميرة على سبيل الشذوذ، ويحتمل أن يفرق بينهما وتجعل الهجرة أغلظ؛ لأن فعل المحظور - وهو الإقامة - أغلظ من ترك الواجب، وهذا يحتاج إلى تحقيق، كذا في تفسير بعض الزيدية.

    الثالث: روي في معنى هذه الآية أحاديث وافرة، منها ما في الصحيحين والسنن والمسانيد، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه .

    قال ابن كثير : وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #249
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1499 الى صـ 1508
    الحلقة (249)



    ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم أكمل - بذلك العابد - المائة، ثم سأل عالما: هل له من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك [ ص: 1501 ] وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنه جاء تائبا، وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تقترب من هذه وهذه أن تبعد، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة.

    وفي رواية: أنه لما جاءه الموت نأى بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.


    وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عتيك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله، فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا [101]

    وقوله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض أي: سافرتم: فليس عليكم جناح أي: إثم [ ص: 1502 ] أن تقصروا أي: تنقصوا شيئا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم أي: يقاتلكم الذين كفروا في الصلاة: إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ظاهر العداوة، فلا يراعون حرمة الصلاة لعدواتهم.
    تنبيه: في مسائل تتعلق بالآية:

    الأولى: ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها تشريع صلاة السفر ، وإن معنى قوله تعالى: أن تقصروا من الصلاة هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية، قالوا: وحكمها لمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا.

    روى الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين، فصلى ركعتين.

    وروى البخاري وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمن ما كان بمنى ركعتين .

    وروى البخاري والبقية عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت: أقمتم بمكة شيئا ؟ قال: أقمنا بها عشرا.

    وحينئذ فقوله تعالى: إن خفتم خرج مخرج الغالب حال نزول الآية؛ إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب [ ص: 1503 ] فلا مفهوم له كقوله: ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا [النور: من الآية 33] وكقوله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم [النساء: 23] الآية.

    قالوا: ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب ، قلت له: قوله تعالى: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر - رضي الله عنه -: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .

    وروى أبو بكر بن أبي شيبة ، عن أبي حنظلة الحذاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ [ ص: 1504 ] فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ونحن آمنون فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وروى ابن مردويه، عن أبي الوداك قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر؟ فقال: هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها.

    قالوا: فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وإن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية. قالوا: ومما يدل على أن لفظ (القصر) كان مخصوصا في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى لما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين، قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟

    هذا، وذهب كثير من السلف، منهم مجاهد والضحاك والسدي إلى أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف، وأن المعني بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية؛ لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان، فهي تمام غير قصر، كما قاله عمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - قالوا: ولهذا قال تعالى: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقال تعالى بعدها: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية، فبين المقصود من القصر ههنا، وذكر صفته وكيفيته، ولهذا لما عقد البخاري : (كتاب صلاة الخوف) صدره بقوله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إلى قوله: أعد للكافرين عذابا مهينا

    وهكذا قال جويبر ، عن الضحاك في قوله: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة قال: ذاك عند القتال، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.

    وقال [ ص: 1505 ] أسباط، عن السدي في هذه الآية: إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير، لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة.

    وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة يوم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعسفان ، والمشركون بضجنان فتوافقوا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، روى ذلك ابن أبي حاتم .

    ورواه ابن جرير ، عن مجاهد والسدي ، وعن جابر ، وابن عمر ، واختار ذلك أيضا، فإنه قال - بعدما حكاه من الأقوال في ذلك -: وهو الصواب.

    ثم روي عن أمية أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر: فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يعمل عملا عملنا به ، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة، وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع، لا بنص القرآن.

    وأصرح من هذا ما رواه أيضا عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة، فقلت: وما صلاة المخافة ؟ فقال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.

    هذا ما نقله ابن كثير ، وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة أن الآية واردة في صلاة الخوف، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة، بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتم بركعة، ويصلي منفردا في ركعة. انتهى.

    [ ص: 1506 ] قال العلامة أبو السعود : إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات، وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر، فكل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من القصر في حال الأمن، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف، وبالضرب في المدة المعينة - بيان لإجمال الكتاب.

    المسألة الثانية: إذا حمل القصر على قصر العدد، وأن الرباعية تكون ركعتين، فما حكم هذا القصر ؟ قلنا: في هذا مذاهب أربعة:

    الأول: أن القصر رخصة والإتمام أفضل.

    الثاني: أنه حتم.

    الثالث: أنه سنة غير حتم.

    الرابع: أنه مخير كما يخير في الكفارات، وأنهما - أعني القصر والإتمام - واجبان.

    وهناك بيان متعلق بهذه المذاهب:

    تعلق أهل القول الأول بقوله تعالى: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز، لا فيما هو فرض، نحو: فلا جناح عليهما أن يتراجعا [البقرة: من الآية 230] و لا جناح عليكم إن طلقتم النساء [البقرة: من الآية 236]: فلا جناح عليهما فيما افتدت به [البقرة: من الآية 229] إن قيل: قد يستعمل ذلك في الواجب [ ص: 1507 ] مثل: فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [البقرة: من الآية 158] أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز.

    ومن جهة السنة ما روي عن عائشة قالت: اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة ، قلت: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علي، وكان عثمان يقصر ويتم.

    ومن جهة المعنى أن المعقول والمفهوم من لفظ (القصر) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر، كما رخص له في الإفطار، وفي الحديث: تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .

    تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا: حملنا لفظ الجناح على الفرض - وإن كان مجازا - لما روي عن ابن عباس قال: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين.

    وعن عمر: صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم، وكانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره ركعتين، وأقام بمكة ثمانية عشر يوما يقصر ويقول: أتموا، يا أهل مكة ! فإنا قوم سفر .

    وعن الشعبي : من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم.

    وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود، وقال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، وخلف أبا بكر ركعتين منفصلتين، فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار ، منها أنه قد تأهل، وقيل: أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص، فيكون قولنا: قصرت [ ص: 1508 ] الصلاة مجازا؛ لأنها تامة إذا نقص من الأربع، ويقولون: هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل.

    ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين، فكان واجبا مخيرا، ومن قال: إنه سنة فلأن المشهور عنه - صلى الله عليه وسلم - القصر في الأسفار، كذا في تفسير بعض الزيدية.

    أقول: حديث عائشة المذكور رواه النسائي والدارقطني والبيهقي ، واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في "السنن": إسناده حسن، وقال في "العلل": المرسل أشبه، وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه، وقال ابن النحوي "في البدر المنير": في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة رمضان، والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة، وأطال في ذلك.

    وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد": وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر الرباعية، فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة ، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلامابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

    وقد روي (كان يقصر وتتم) الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك (يفطر وتصوم) أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين.

    قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل: ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجميع أصحابه، فتصلي خلاف صلاتهم، كيف؟ والصحيح عنها أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن بها - مع ذلك - أن تصلي بخلاف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه؟.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #250
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1509 الى صـ 1516
    الحلقة (250)



    [ ص: 1509 ] ثم قال ابن القيم : قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر دائما، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصر وتتم هي، فغلط بعض الرواة فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو.

    والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه، فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر، فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر آمنا، وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على عمر - رضي الله عنه - وغيره، فسأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له.

    وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرا يتناول الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصر، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وابن عباس وغيرهما.

    قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسلم ركعتان.

    وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، متفق على [ ص: 1510 ] حديث عائشة ، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس .

    وقال عمر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد خاب من افترى ، وهذا ثابت عن عمر - رضي الله عنه - وهو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ولا تناقض بين حديثيه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح، منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب في سفره على ركعتين ركعتين، ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.

    وقال أنس: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة ، وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، متفق عليه.

    ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى [ ص: 1511 ] ركعتين، وصليت مع عمر ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. متفق عليه.

    ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بلى الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على ركعتين.

    وفي صحيح البخاري، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان في السفر لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان - يعني في صدر خلافة عثمان - وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته، وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه، وقد خرج لفعله تأويلات:

    أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع؛ لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا حديثي عهد بالإسلام، والعهد بالصلاة قريب، ومع هذا فلم يربع بهم النبي، صلى الله عليه وسلم.

    الثاني: أنه كان إماما للناس، والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه: ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو أولى بذلك، وكان هو الإمام المطلق، ولم يربع.

    التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كانت فضاء، ولهذا قيل له: يا رسول الله! ألا تبني لك بمنى بيتا يظلك من الحر؟ فقال: لا منى مناخ من سبق فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر، ورد هذا التأويل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة عشرا يقصر الصلاة.

    التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثا فسماه مقيما، والمقيم غير مسافر، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر، ليست بالإقامة التي هي قسيم [ ص: 1512 ] السفر، وقد أقام - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشرا يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة.

    التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى، واتخاذها دار الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى؛ فإن عثمان - رضي الله عنه - من المهاجرين الأولين، وقد منع - صلى الله عليه وسلم - المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه، ورخص له ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وإنما رخص فيها ثلاثا؛ وذلك لأنهم تركوها لله، وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع، ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من شراء المتصدق لصدقته، وقال لعمر : لا تشترها ولا تعد في صدقتك، فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن.

    التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا قام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فروى عكرمة ، عن إبراهيم الأزدي، عن أبي ذياب ، عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس! لما قدمت تأهلت بها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه الإمام أحمد في "مسنده" وعبد الله بن الزبير الحميدي في "مسنده" أيضا، وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيف عكرمة .

    [ ص: 1513 ] قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان .

    وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين، فحيث نزلت فكان وطنها، وهو أيضا اعتذار ضعيف، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو المؤمنين، وأمومة أزواجه فرع على أبوته، ولم يكن يتم لهذا السبب، وقد روى هشام بن عروة ، عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين ؟ فقالت: يا ابن أختي! لا يشق علي.

    قال الشافعي رحمه الله: لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود ، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم، وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتم وقصر.

    ثم روى عن إبراهيم، عن محمد ، عن طلحة بن عمر ، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: كل ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر الصلاة في السفر وأتم.

    قال البيهقي : وكذلك رواه المغيرة، عن زياد، عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحازمي، عن الدارقطني، عن المحاملي: حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر الصلاة في السفر ويتم، ويفطر ويصوم.

    قال الدارقطني : وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري ، عن عباس الدوري، أنا أبو نعيم ، حدثنا العلاء بن زهير ، حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، عن عائشة أنها اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - قصرت وأتممت وصمت وأفطرت، قال: أحسنت يا عائشة! .

    وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون [ ص: 1514 ] ثم تتم وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله؟ وتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؟

    قال الزهري لعروة (لما حدثه عن أبيه عنها بذلك): فما شأنها؟ كانت تتم الصلاة، فقال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حسن فعلها وأقرها فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟!

    وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فإنها أتمت، كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلا، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم، مع مخالفة غيره له، والله أعلم.

    وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال له ابن عمر : يا أخي! إن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا - صلى الله عليه وسلم – يفعل.

    وقد قال أنس : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة ، وقال ابن عمر : صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وهذه كلها أحاديث صحيحة. انتهى كلام ابن القيم .


    قال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار": وقد استدل بحديثي عائشة القائلون بأن القصر رخصة، ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه؛ لما تقدم من أن لفظ (تتم وتصوم) بالفوقانية لأن فعلها - على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم - لا حجة فيه، فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة؟! وأما الحديث الأول [ ص: 1515 ] فلو كان صحيحا لكان حجة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الجواب عنها: أحسنت ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة، وهذا بعد تسليم أنه حسن، كما قال الدارقطني : فكيف؟! وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة، فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض. انتهى.

    المسألة الثالثة: استدل بعموم الآية من جوز القصر في كل سفر طويلا أو قصيرا ، ووجهه أن قوله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض يصدق على كل ضرب، ولكنه خرج الضرب أي: المشي لغير السفر؛ لما كان يقع منه - صلى الله عليه وسلم - من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ولا يقصر.

    ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا، ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل - يعد في مسيره إليه مسافرا - قصر الصلاة، وإن كان ذلك المحل دون البريد، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك بحجة نيرة، وغاية ما جاؤوا به حديث: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم وفي رواية: يوما وليلة وفي رواية: بريدا .

    وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين، وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة، عن يحيى بن زيد الهنائي قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، والشك من شعبة، أخرجه مسلم وغيره.

    فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم - هو كونه صلى الله عليه وسلم سمى ذلك سفرا، قلت: تسميته سفرا لا تنافي [ ص: 1516 ] تسمية ما دونه سفرا، فقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسافة الثلاث سفرا، كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية، وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا.

    فإن قلت: أخرج الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أهل مكة ! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان - قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة، فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر، وهو متروك، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها، والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة، كذا في "الروضة الندية".

    وفي "المصباح": سفر الرجل سفرا - مثل طلب - خرج للارتحال.

    وفي "القاموس": قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار: ذوو سفر، لضد الحضر.

    هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة.

    ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملا بين كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها، ويكتفى فيما عداها ببيان السنة - فقال تعالى:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #251
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1517 الى صـ 1524
    الحلقة (251)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا [102]

    وإذا كنت فيهم أي: مع أصحابك شهيدا وأنتم تخافون العدو [ ص: 1517 ] فأقمت لهم الصلاة أي: أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي لوفور أجرها يتحمل مشاقها فلتقم طائفة منهم معك في الصلاة، أي: بعد أن جعلتم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم، وإنما لم يصرح به لظهوره.

    وليأخذوا أي: الطائفة التي قامت معك أسلحتهم معهم؛ لأنه أقرب للاحتياط فإذا سجدوا أي: القائمون معك سجدتي الركعة الأولى وأتموا الركعة، فارقوك وأتموا صلاتهم، وتقوم إلى الثانية منتظرا، فإذا فرغوا فليكونوا من ورائكم أي: فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة.

    ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا وهي الطائفة الواقعة تجاه العدو فليصلوا ركعتهم الأولى معك وأنت في الثانية، فإذا جلست منتظرا قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك، ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين؛ اكتفاء ببيانه - صلى الله عليه وسلم - لهم، كما يأتي.

    وليأخذوا حذرهم أي: تيقظهم؛ لأن العدو يتوهمون في الأولى كون المسلمين قائمين في الحرب، فإذا قاموا إلى الثانية ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم، فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال: (وليأخذوا حذرهم) وجعله كالآلة، فأمر بأخذه وعطف عليه وأسلحتهم قال الواحدي: فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة.

    قال أبو السعود : وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر؛ لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها، ومئنة لهجوم العدو، كما ينطق به قوله تعالى: ود الذين كفروا أي: تمنوا لو تغفلون عن أسلحتكم فتضعونها وأمتعتكم أي: حوائجكم التي بها بلاغكم فيميلون عليكم ميلة واحدة أي: يحملون حملة واحدة فيقتلوكم، فهذا علة الأمر بأخذ السلاح، والأمر بذلك للوجوب؛ لقوله تعالى: ولا جناح عليكم أي: لا حرج ولا إثم عليكم إن كان بكم أذى من مطر يثقل معه حمل السلاح أو كنتم مرضى يثقل [ ص: 1518 ] عليكم حمله أن تضعوا أسلحتكم

    أخرج البخاري ، عن ابن عباس قال: نزلت: إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى في عبد الرحمن بن عوف كان جريحا، ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط، فقيل: وخذوا حذركم لئلا يهجم عليكم العدو غيلة.

    إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا أي: يهانون به، ويقال: شديدا.

    قال أبو السعود : هذا تعليل الأمر بأخذ الحذر، أي: أعد لهم عذابا مهينا بأن يخذلهم وينصركم عليهم، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم.

    وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لتوقع غلبته واعتزازه نفي ذلك الإيهام بأن الله تعالى ينصرهم ويهين عدوهم لتقوى قلوبهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [103]

    فإذا قضيتم أي: أتممتم الصلاة أي: صلاة الخوف - على ما فصل - فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم أي: فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه، قاله الرازي .

    وقال ابن كثير : أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى (في الأشهر [ ص: 1519 ] الحرم): فلا تظلموا فيهن أنفسكم [التوبة: 36] وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها.

    فإذا اطمأننتم أي: سكنت قلوبكم بالأمن فأقيموا الصلاة أي: على الحالة التي كنتم تعرفونها، فلا تغيروا شيئا من هئياتها إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي: فرضا موقتا، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها.
    فصل

    في أحكام تتعلق بهذه الآية:

    الأول: في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها ، وأنه لا يجب قضاؤها، وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر.

    الثاني: تعلق بظاهر قوله تعالى: وإذا كنت فيهم من لم ير صلاة الخوف بعده - صلى الله عليه وسلم - زاعما أنها خاصة بعهده - صلى الله عليه وسلم - لاشتراطه كونه فيهم، ولا يخفى أن الأئمة بعده نوابه قوام بما كان يقوم به، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة [التوبة: 103] وقد قال صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي .

    [ ص: 1520 ] وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم، وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم، عن سعيد بن العاص أنه قال (في غزوة ومعه حذيفة ): أيكم شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح، ثم قال: إن هاجمكم هيج فقد حل لكم القتال، فصلى بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرف هؤلاء، فقاموا مقام أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم عليهم، وكانت الغزوة بطبرستان ، قال بعضهم: وكان ذلك بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكره أحد، فحل محل الإجماع.

    وروى أبو داود أن عبد الرحمن بن سمرة صلى بكابل صلاة الخوف.

    الثالث: روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور، وأبو داود، والنسائي وغيرهم (في نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنه) [ ص: 1521 ] قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فحضرت الصلاة، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخذ السلاح، فصفنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم.

    وروى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن هشام مثل هذا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه قال: نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين.

    وروى عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن جرير ، عن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد (في قوله تعالى: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ): نزلت يوم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الظهر أربعا، ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعهم، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم، فأنزل الله عليهم: فلتقم طائفة فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعا فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي - صلى الله عليه وسلم - والصف الأول، ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فقدموا الصف الآخر واستأخروا، فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة، وقصر النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1522 ] صلاة العصر ركعتين.

    وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعا، واشتراكهم في الحراسة، ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود، فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى، ثم تسجد، وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة، وتأخرت المتقدمة.

    (فإن قلت): لا ينطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها، وذلك لأنه قيل في الآية: فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلواالآية، وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعا معه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وإنما ينطبق ما فيها على ما رواه الشيخان، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة.

    وما روياه عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع أن الطائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فقضى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، فأتموا لأنفسهم، فسلم بهم.

    (قلت): بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال.

    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ضجنان وعسفان فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقسم أصحابه [ ص: 1523 ] شطرين، فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتان، أخرجه أصحاب السنن.

    ثم رأيت القرطبي بحث في "تفسيره" نحو ما سبق لي؛ حيث قال: وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين، ثم قال (بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور) قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات، فلعله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة أخرى مفترقين. انتهى.

    الرابع: ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة؛ لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية، وقد روى النسائي ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين: صفا خلفه وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة.

    وكذا روى أبو داود والنسائي أيضا، عن حذيفة أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.

    وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: فرض الله الصلاة على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف الاقتصار على ركعة لكل طائفة.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين، [ ص: 1524 ] ومنهم من قيد بشدة الخوف.

    وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة مع الإمام وليس فيها نفي الثانية، ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : (ولم يقضوا ركعة) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني: (وفي الخوف ركعة).

    وأما تأويلهم قوله: (لم يقضوا) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن - فبعيد جدا، كذا في "نيل الأوطار" نعم.

    وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه: ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : ثم سلم، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.

    وبالتحقيق كل ما روي هو من صورها الجائزة، ولما ذكر الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" هديه - صلى الله عليه وسلم - في أدائها، قال في آخر صورة: وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئا، وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئا، فيكون له - صلى الله عليه وسلم - ركعتان، ولهم ركعة ركعة، وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها.

    قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز. انتهى.

    وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صوبها، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ورجالا وركبانا، ولهم أن يمشوا - والحالة هذه - ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة، ومن العلماء من قال: يصلون - والحالة هذه - ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد بن حنبل .

    قال المنذري : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد ، وإليه ذهب طاوس والضحاك.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #252
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1525 الى صـ 1532
    الحلقة (252)





    وقد حكى أبو عاصم العبادي، عن محمد بن نصر المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف، وإليه ذهب ابن حزم أيضا، وقال إسحاق بن راهويه: أما عند المسايفة [ ص: 1525 ] فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله.

    وقال آخرون: يكفي تكبيرة واحدة، فلعله أراد ركعة واحدة، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، وبه قال جابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، وكعب وغير واحد من الصحابة، والسدي.

    ورواه ابن جرير ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال: فإن لم يقدر على التكبير فلا يتركها في نفسه، يعني بالنية، رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن إسماعيل بن عياش، عن شعيب بن دينار عنه، فالله أعلم.

    ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب الظهر والعصر، فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء، وكما قال بعدها - يوم بني قريظة - حين جهز إليهم الجيش: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تعجيل المسير، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يعنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الفريقين، فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود.

    وأما الجمهور فقالوا: هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي رحمه الله وأهل السنن، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في "صحيحه" حيث قال: (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو).

    وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء، كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا [ ص: 1526 ] على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول.

    وقال أنس بن مالك: حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصلينا ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، وقال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. انتهى.

    ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وكأنه كالمختار لذلك، والله أعلم.

    ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا، وكان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة، والله أعلم.

    قال هؤلاء: وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق؛ لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقدي، ومحمد بن سعد كاتبه، وخليفة بن الخياط، وغيرهم.

    وقال البخاري وغيره: كانت ذات الرقاع بعد الخندق؛ لحديث أبي موسى، وما قدم إلا في خيبر، والله أعلم.

    [ ص: 1527 ] الحكم الخامس: استدل بقوله تعالى: طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة بها في ذلك.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": الطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد، ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة.

    السادس: استدل بالآية على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بموجبها؛ لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها، ولو صلى كل امرئ منفردا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، أفاده الحافظ ابن حجر في "الفتح".

    قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.

    السابع: قال بعض المفسرين: اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى: وليأخذوا أسلحتهم فقيل: هم الطائفة الذين يواجهون العدو، وهذا ظاهر، وقيل: بل هم الطائفة المصلون، وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك، وقيل: للطائفتين، وهو قول القاسم. انتهى.

    قال الناصر في "الانتصاف": والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك، أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة؛ لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة؛ لضرورة الخوف وخشية الغرة، وأيضا فصنيع الآية يعطي ذلك؛ لأنه قال: فلتقم طائفة منهم معك وعقب ذلك بقوله: وليأخذوا أسلحتهم فالظاهر رجوع الضمير إليهم، وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم؛ بدلالة قوة الكلام عليهم، وإن لم يذكروا.

    وناقش [ ص: 1528 ] الناصر أيضا الزمخشري في جعله المراد بقوله تعالى: فإذا سجدوا فليكونوا غير المصلين، فقال: الظاهر أن معنى السجود ههنا الصلاة، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا، والمراد: فإذا صلت الطائفة (أي: أتمت صلاتها) فليكونوا من ورائكم. انتهى.

    الثامن: قال أبو علي الجرجاني صاحب النظم: قوله تعالى: وخذوا حذركم يدل على أنه كان يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا، غير غافل عن كيد العدو، والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر؛ لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم، فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة، وأما حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة، والمسلمون كانوا مستقبلين لها، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة، فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود، فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم، فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا، وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى: خذوا حذركم يدل على جواز كل هذه الوجوه.

    والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكرارا محضا من غير فائدة، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن، وإنه غير جائز، نقله الرازي .

    وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة، فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى.

    وأنواعها مبينة في شروح السنة، ثم حثهم تعالى على الجهاد بقوله:
    [ ص: 1529 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما [104]

    ولا تهنوا في ابتغاء القوم أي: لا تضعفوا في طلب عدوكم بالقتال، بل جدوا فيهم واقعدوا لهم كل مرصد، ثم ألزمهم الحجة بقوله سبحانه: إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون أي: ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، بل هو مشترك بينكم وبينهم، كما قال تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [آل عمران: 140] ثم زاد في تقرير الحجة، وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين بقوله تعالى: وترجون من الله ما لا يرجون يعني: وتأملون من القرب من الله واستحقاق الدرجات من جناته وإظهار دينه، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يأملونه، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأجدر بإقامة كلمة الله.

    وكان الله عليما حكيما أي: فلا يكلفكم إلا بما يعلم أنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم، فجدوا في الامتثال بذلك؛ فإن فيه عواقب حميدة.

    قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية: وجوب الجهاد، وأنه لا يسقط لما يحصل من المضرة بالجراح ونحوه، وأن التجلد وطلب ما يقوي لازم، وما يحصل به الوهن لا يجوز فعله، وتدل على جواز المعارضة والحجاج لقوله: فإنهم يألمون وتدل على أن للمجاهد أن يجاهد لطلب الثواب لقوله: وترجون من الله ما لا يرجون فجعل هذا سببا باعثا على الجهاد، هذا معنى كلام الحاكم.

    ونظير هذا: لو صلى لطلب الثواب أو السلامة من العقاب، وقد ذكر في ذلك خلاف. فعن الراضي بالله: يجزى ذلك، وقواه الفقيه يحيى بن أحمد، وعن أبي مضر: لا يجزى؛ لأنه لم ينو الوجه الذي شرع الواجب له. انتهى.
    [ ص: 1530 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما [105].

    واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما [106].

    ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما [107].

    يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا [108].

    ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا [109]

    إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما

    واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما

    ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما

    يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا

    ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا

    [ ص: 1531 ] روى الحافظ ابن مردويه من طريق العوفي، عن ابن عباس : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن (أي: اتهم) بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده.

    فانطلقوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ليلا فقالوا: يا نبي الله! إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرأه وعذره على رءوس الناس فأنزل الله: إنا أنـزلنا الآية،
    ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين بالكذب: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله يعني الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين يجادلون عن الخائنين.

    ثم قال عز وجل: ومن يعمل سوءا الآية، يعني الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين بالكذب، ثم قال: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.

    قال ابن كثير : وهذا سياق غريب، وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم (في هذه الآية) أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربة.

    وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة، ورواها عنه من طريقه أبو عيسى الترمذي في "جامعه" في كتاب التفسير، عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال: [ ص: 1532 ] كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير (قال أبو ذر الخشني: بشير بن أبيرق، كذا وقع هنا: بشير بفتح الباء، وقال الدارقطني: إنما هو بشير بضم الباء) ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ينحله لبعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا ، أو قال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال:


    أوكلما قال الرجال قصيدة أضموا وقالوا: ابن الأبيرق قالها!


    قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار، فقدمت ضافطة من الشام بالدرمك - ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفان وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #253
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1533 الى صـ 1540
    الحلقة (253)





    [ ص: 1533 ] قال: فتحسست في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى - فيما نراه - إلا على بعض طعامكم.

    قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار -: والله! ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجل منا له صلاح وإسلام - فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي! لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له.

    قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول الله! إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.

    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنظر في ذلك فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا - أهل إسلام وصلاح - يرمونهم بالسرقة في غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت - ذكر منهم إسلام وصلاح - ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت؟ قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي [ ص: 1534 ] ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي! ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله المستعان.

    فلم نلبث أن نزل القرآن: إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما يعني: بني أبيرق.

    واستغفر الله أي: مما قلت لقتادة إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي: بني أبيرق إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس إلى قوله: ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا قولهم للبيد: ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك يعني: أسيرا وأصحابه وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة إلى قوله: فسوف نؤتيه أجرا عظيما

    فلما نزل القرآن: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة.

    قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي! هو في سبيل الله، قال: فعرفت أن إسلامه صحيحا.

    [ ص: 1535 ] فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شهيد ، فأنزل الله فيه: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين إلى قوله: ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا

    فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت: أهديت إلي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.


    وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.

    وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده.

    ورواه ابن أبي حاتم ، عن هاشم بن القاسم الحراني، عن محمد بن سلمة به، ببعضه، [ ص: 1536 ] ورواه ابن المنذر في "تفسيره" بسنده عن محمد بن سلمة ، فذكره بطوله.

    ورواه أبو الشيخ الأصفهاني في "تفسيره" بسنده عن محمد بن سلمة به، ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إسرائيل.

    ورواه الحاكم في كتابه "المستدرك" بسنده، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بمعناه، أتم منه، وفيه الشعر، ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، كذا نقله ابن كثير .

    قال السيوطي في "اللباب": وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد ، عم قتادة بن النعمان، فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فدعا بشيرا فسأله فأنكر، ورمى بذلك لبيد بن سهل - رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب - فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد : إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق الآيات، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا، فنزل على سلافة بنت سعد ، فجعل يقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المسلمين، فنزل فيه: ومن يشاقق الرسول [النساء: من الآية 115] الآية، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة. انتهى.

    وأما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها فنقول: قوله تعالى: لتحكم بين الناس بما أراك الله أي: بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك، سمي ذلك العلم بالرؤية؛ لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور.

    قال الزمخشري : وعن عمر - رضي الله عنه -: لا يقولن أحدكم: قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولكن ليجتهد رأيه؛ لأن الرأي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مصيبا؛ لأن الله كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف.

    قلت: روى هذا الأثر البيهقي في "المدخل" وابن عبد البر ، بنحو ما ذكر.

    قال ابن الفرس : في هذه الآية إثبات الرأي والقياس، وتعقبه السيوطي بما أخرجه [ ص: 1537 ] ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أنه قال: إياكم والرأي، فإن الله تعالى قال لنبيه: لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل: بما رأيت.

    ثم قال السيوطي : وقال غيره: يحتمل قوله: بما أراك الله الوحي والاجتهاد معا. انتهى.

    وقال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان - صلى الله عليه وسلم - له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها .

    ورواه الإمام أحمد عنها أيضا بلفظ: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته (أو قد قال: لحجته) من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إذ قلتما، فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه .

    وقد رواه أبو داود وزاد: إني إنما أقضي بينكما برأيي، فيما لم ينزل علي فيه انتهى.

    [ ص: 1538 ] قال السيوطي : وفي الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم؛ لأن الله تعالى فوض الحكم إلى الاجتهاد ، ومن لا علم عنده كيف يجتهد؟! انتهى.

    وقوله تعالى: ولا تكن للخائنين أي: لأجلهم والذب عنهم، وهم طعمة ومن يعينه من قومه على ما تقدم خصيما أي: مخاصما، وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.

    وقوله تعالى: واستغفر الله أي: مما قلت لقتادة، كما تقدم مفسرا.

    قال الرازي : تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء ، وقالوا: لو لم يقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذنب لما أمر بالاستغفار، ثم أجاب عن ذلك بوجوه.

    وقال القاضي عياض في "الشفا": إن تصرف الأنبياء - عليهم السلام - بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها، ثم عوتبوا بسببها، أو أتوها على وجه التأويل - إنما هي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم وإلى كمال طاعتهم، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وأطال في هذا المقام وأطاب.

    ثم قال: وأيضا، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفا أشار إليه بعض العلماء، وهو استدعاء محبة الله، قال الله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة: من الآية 222] انتهى.

    وقوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي: يخونونها بالمعصية، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم، كما جعلت ظلما لها لرجوع ضررها إليهم.

    قال الرازي : واعلم أن في الآية تهديدا شديدا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة - وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا - فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالما، ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب؟!! اهـ.

    وإنما قيل: للخائنين [ ص: 1539 ] (ويختانون) مع أن الخائن واحد؛ لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خان خيانته، كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى: إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم، ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتد، كما أسلفنا.

    قيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنها لها أخوات، وعن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال: كذبت؛ إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.

    وقوله تعالى: يستخفون من الناس أي: يستترون؛ حياء منهم وخوفا من ضررهم ولا يستخفون من الله فلا يستحيون منه وهو معهم أي: وهو عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عليه خاف من سرهم.

    قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم - إن كانوا مؤمنين - أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح.

    وقوله تعالى: إذ يبيتون ما لا يرضى من القول أي: يدبرون ويزورون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور.

    وقوله تعالى: ها أنتم هؤلاء الآية، المجادلة: أشد المخاصمة، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه؟!

    وقوله تعالى: أم من يكون عليهم وكيلا حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه.

    قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة هذه الآيات: وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص، ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم على إباحة المجادلة. انتهى.

    واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه.
    [ ص: 1540 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [110]

    ومن يعمل سوءا أي: قبيحا متعديا، يسوء به غيره، كما في القصة أو يظلم نفسه فيخصها بالمعصية ثم يستغفر الله بالتوبة الصادقة يجد الله غفورا لذنوبه كائنة ما كانت رحيما أي: متفضلا عليه.

    قال أبو السعود : وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار؛ لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما [111]

    ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه أي: فليتحرز عن تعريضها للعقاب وكان الله عليما حكيما
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا [112]

    ومن يكسب خطيئة أو إثما الخطيئة الذنب، أو ما تعمد منه، والإثم الذنب أيضا، وأن يعمل ما لا يحل له، كذا في "القاموس".

    قال الراغب: الإثم أعم من العدوان، وقال غيره: هو فعل مبطئ عن الثواب.

    ثم يرم به أي: يقذف به بريئا أي: مما رماه به، كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح، وهو لبيد بن سهل - كما تقدم - وقد كان بريئا فقد احتمل بهتانا وهو الكذب على الغير بما يبهت منه وإثما مبينا أي: بينا فاحشا؛ لأنه بكسب الإثم آثم، وبرمي البريء باهت، فهو جامع بين الأمرين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #254
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1541 الى صـ 1548
    الحلقة (254)




    [ ص: 1541 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [113]

    ولولا فضل الله عليك ورحمته بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق لهمت طائفة منهم أن يضلوك برمي البريء والمجادلة عن الخائنين، يعني أسير بن عروة وأصحابه، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

    وما يضلون إلا أنفسهم لأن وباله عليهم وما يضرونك من شيء لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك.

    ولما أنزل تعالى فصل القضية وجلاها لرسوله - صلى الله عليه وسلم - امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال بقوله: وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة أي: القرآن والسنة وعلمك من أمور الدين والشرائع ما لم تكن تعلم أي: قبل نزول ذلك عليك، كقوله: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب [الشورى: من الآية 52] الآية، وقال تعالى: وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك [القصص: 86] ولهذا قال تعالى: وكان فضل الله عليك عظيما أي: فيما علمك وأنعم عليك.

    قال الرازي : هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب، ثم أشار تعالى إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول بقوله سبحانه:
    [ ص: 1542 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما [114]

    لا خير في كثير من نجواهم أي: مساررتهم، والسياق - وإن دل على مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض - إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث، ثم استثنى النجوى في أعمال الخير بقوله سبحانه وتعالى: إلا من أمر بصدقة أي: إلا في نجوى من أمر - بخفية عن الحاضرين - بصدقة ليعطيها سرا، يستر به عار المتصدق عليه.

    أو معروف أي: بطاعة الله - وأعمال البر كلها معروف - وسر التناجي فيه أن لا يأنف المأمور عن قبوله لو جهر به.

    أو إصلاح بين الناس يعني الإصلاح بين المتباينين المتخاصمين ليتراجعا إلى ما كانا فيه من الألفة والاجتماع، على ما أذن الله فيه وأمر به، وسر النجوى فيه أنه لو ظهر أولا ربما لم يتم.

    قال المهايمي : قيل في الحصر: الخير إما نفع جسماني وهو في الأمر بالصدقة، أو روحاني وهو في الأمر بالمعروف، وإما دفع وهو في الإصلاح.

    ويمكن أن يقال: الخير إما نفع متعد من المأمور وهو الصدقة، أو لازم له وهو المعروف، أو دفع ضرر متعد أو لازم له وهو الإصلاح، وإنما تتم خيريتها إذا ابتغي بها رضاء الله تعالى كما قال: ومن يفعل ذلك ابتغاء أي: طلب مرضات الله فسوف نؤتيه يعني في الآخرة أجرا عظيما يساوي أجر الفاعل أو يفوقه.

    وقد دلت الآية على /الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، وقد أكد تعالى الترغيب بقوله: عظيما وأن النية فيها شرط لنيل الثواب؛ لقوله تعالى: [ ص: 1543 ] ابتغاء مرضات الله وعلى أن كلام الإنسان عليه لا له، إلا ما كان في هذا ونحوه، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه بسنده إلى محمد بن يزيد بن خنيس قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان، فقال له الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح اردده علي فقال: حدثتني أم صالح ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر .

    فقال سفيان: أوما سمعت الله في كتابه يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو هذا بعينه، أوما سمعت الله يقول: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [النبأ: 38] فهو هذا بعينه، أوما سمعت الله يقول في كتابه: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلخ [العصر: 1 - 2] فهو هذا بعينه.

    وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث ابن خنيس، عن سعيد بن حسان به، ولم يذكر أقوال الثوري إلى آخرها.

    ثم قال الترمذي : حديث غريب لا يعرف إلا من حديث ابن خنيس. قلت: هو مقبول - كما في "التقريب" لابن حجر - فحسن حديثه.

    [ ص: 1544 ] وروى الجماعة عن أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا .

    وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

    وروى الإمام أحمد، وأبو داود ، والترمذي ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين.

    قال: وفساد ذات البين هي الحالقة
    قال الترمذي : حسن صحيح.
    [ ص: 1545 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا [115]

    ومن يشاقق الرسول أي: يخالفه ويعاديه من بعد ما تبين له الهدى أي: اتضح له الحق ويتبع غير سبيل المؤمنين أي: غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل، وهو الدين القيم نوله ما تولى أي: نجعله واليا مرجحا ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فنزينه له تزين الكفر على الكفرة؛ استدراجا له ليكون دليلا على شدة العقوبة في الآخرة، كما قال تعالى: فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [القلم: 44] وقال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [الصف: 5] وقال سبحانه: ونذرهم في طغيانهم يعمهون [الأنعام: 110].

    ونصله جهنم أي: ندخله إياها وساءت مصيرا وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم [سورة الصافات: 22] وقال تعالى: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا [الكهف: 53].

    [ ص: 1546 ] قال الإمام ابن كثير : قوله تعالى: ويتبع غير سبيل المؤمنين هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي - رحمه الله - في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة، بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك. انتهى.

    وقال بعض مفسري الزيدية: الآية دلت على أن مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كبيرة، وقد تبلغ إلى الكفر، ودلت على أن الجهل عذر؛ لقوله: من بعد ما تبين له الهدى ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة، وأنه دليل كالكتاب والسنة، لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيا لا أحاديا. انتهى.

    وقال المهايمي: في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع؛ لأنه - عز وجل - رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل؛ إذ يقبح أن يقال: من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه، أو لحرمة الجمع بينهما وهو أيضا باطل؛ لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها، أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب. انتهى.

    ونقل الخفاجي قصة استدلال الشافعي من هذه الآية عن الإمام المزني قال: كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا، فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا - وكان مستندا لأسطوانة - فاستوى وسوى ثيابه، فقال له: ما الحجة في دين الله؟ قال: كتابه. قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: من أين هذا الأخير؟ أهو في كتاب الله؟ فتدبر ساعة ساكتا، فقال له الشيخ: أجلتك ثلاثة أيام بلياليهن، فإن جئت بآية وإلا فاعتزل الناس.

    [ ص: 1547 ] فمكث ثلاثة أيام لا يخرج، وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد تغير لونه، فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي، فقال: نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: ومن يشاقق الرسول - إلى آخر الآية، لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض، قال: صدقت، وقام وذهب.

    وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في يوم، وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها.

    وأورد الراغب عليه أنه لا حجة فيها على ما ذكره بأن كل موصوف علق به حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف، فإذا قيل: اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته، فكذا سبيل المؤمنين، يعني به سبيلهم في الإيمان لا غير، فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره.

    ورد بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا، فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه، فسبيل المؤمنين - وإن فسر بما هم عليه من الدين - يعم الأصول والفروع، الكل والبعض، على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط، لا على المجموع، للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد معنى، على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين؛ لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة. انتهى.

    ورأيت للإمام تقي الدين ابن تيمية في كتابه "الفرقان بين الحق والباطل" مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع، أجال فيها جواد قلمه وأجاد، وأطال وأطاب، قال رحمه الله: ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان، فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك، وقد قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3].

    [ ص: 1548 ] وقال تعالى: ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [يوسف: 111] وقال تعالى: ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [النحل: 89] وقال تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب [الشورى: 10] وقال تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [التوبة: 115] فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه، كما قال: وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [الأنعام: 119]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #255
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1549 الى صـ 1556
    الحلقة (255)



    وقال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [النساء: 59] وهو الرد إلى كتاب الله، [ ص: 1549 ] أو إلى سنة الرسول بعد موته.

    وقوله: فإن تنازعتم شرط، والفعل نكرة في سياق الشرط، فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه.

    وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كلام نحو هذا.

    والحاصل أن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين، وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق، لا تجتمع الأمة على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق، فإن الله بعث رسله بالعدل، وأنزل [ ص: 1550 ] الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين، وهذا هو القياس الصحيح، وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل، وبين بالقياس الصحيح - وهي الأمثال المضروبة - ما بينه من الحق، لكن القياس الصحيح يطابق النص، فإن الميزان يطابق الكتاب، والله أمر نبيه أن يحكم بالعدل، فهو أنزل الكتاب، وإنما أنزل الكتاب بالعدل، قال تعالى: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله [المائدة: 49] ، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [المائدة: 42].

    وأما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة - ولله الحمد - على ضلالة، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة، فقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران: 110] وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، وقال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة: 143] والوسط العدل الخيار، وقد جعلهم الله شهداء على الناس [ ص: 1551 ] وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.

    وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا، فقال: وجبت قالوا: يا رسول الله! ما قولك وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا، فقلت: وجبت لها النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض .

    فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض.

    وقال تعالى: واتبع سبيل من أناب إلي [لقمان: 15] والأمة منيبة إلى ربها؛ فيجب اتباع سبيلها.

    وقال تعالى: [ ص: 1552 ] والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [التوبة: 100] فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة، فدل على أن متابعهم عامل بما يرضي الله، والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل، وقال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا

    والشافعي - رضي الله عنه - لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع، كما كان يسمع هو وغيره من مالك، ذكر ذلك عن عمر بن عبد العزيز ، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره، وهنا للناس ثلاثة أقوال:

    قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرده مخالفة الرسول المذكورة في الآية.

    وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم.

    وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية.

    لكن هذا لا يقتضي مفارقته للأول بل قد يكون مستلزما له، فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول، وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين، وهذا كما في طاعة الله والرسول، فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم، وهما متلازمان، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.

    وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني .

    [ ص: 1553 ] ثم قال تقي الدين رحمه الله (بعد ثلاثة أوراق):

    ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع، فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين، وهذا لا نزاع فيه، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين - وهي متابعة الرسول - وهذا لا نزاع فيه، أو إن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة، وهذا لا نزاع فيه، فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع.

    وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه، كما قد عرف كلامهم، ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية.

    والقول الثالث الوسط: إنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا، كما تقدم، لكن لا ينفي تلازمهما، كما ذكر في طاعة الله والرسول.

    وحينئذ يقول: الذم إما أن يكون حقا لمشاقة الرسول فقط، أو باتباع غير سبيلهم فقط، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما، بل بهما إذا اجتمعا، أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر، أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر، والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه، ولحوق الذم بكل منها - وإن انفرد عن الآخر - لا تدل عليه الآية، فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع.

    بقي القسم الآخر: وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد؛ لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام، فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار، ومثله قوله: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا فإن الكفر بكل واحد من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل، فكان كافرا بالله، إذ كذب رسله وكتبه.

    [ ص: 1554 ] وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرا، وكذلك قوله: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [آل عمران: 71] ذمهم على الوصفين، وكل منهما مقتض للذم، وهما متلازمان، ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به، فغلط به، لزم أن يكتم الحق الذي تبين أن هذا باطل، إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق، فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، من شاقه فقد اتبع غير سبيلهم، وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك.

    وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول، قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه الرسول قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب، فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص، وقد كان بعض الناس يذكر فيها الإجماع بلا نص كالمضاربة، وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية، لا سيما قريش ، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال.

    [ ص: 1555 ] ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة، ولم ينه عن ذلك، والسنة قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.

    والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ - ويعتمد عليه الفقهاء - لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال لكان علينا، فكيف يكون الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربة، فجعله مضاربة.

    [ ص: 1556 ] وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم، والعهد بالرسول قريب، لم يحدث بعده، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والخرازة، وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم.

    وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا من نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى، كما نقل الأخبار، ولكن استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة.

    وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع، وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [الطلاق: 4] وقال ابن مسعود: سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى، أي: بعد البقرة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #256
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1557 الى صـ 1564
    الحلقة (256)




    وقوله: أجلهن أن يضعن حملهن [ ص: 1557 ] يقتضي انحصار الأجل في ذلك، فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها. وعلي وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين، وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود .

    وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها هل لها مهر المثل، أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل، ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك، وقد خالفه علي وزيد وغيرهما، فقالوا: لا مهر لها.

    فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس، ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه، ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص وأولئك يحتجون بنص، كالمتوفى عنها الحامل هؤلاء احتجوا بشمول الآيتين [ ص: 1558 ] لها، والآخرون قالوا: إنما تدخل في آية الحمل فقط، وإن آية الشهور في غير الحامل، كما أن آية القروء في غير الحامل.

    وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [التحريم: 1 - 2].

    وكذلك تنازعوا في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى، احتج هؤلاء بحديث فاطمة وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية، وأولئك قالوا: بل هي لهما. ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمها بعض الناس، كما قال علي: إلا فهما [ ص: 1559 ] يؤتيه الله عبدا في كتابه.

    وقد يكون النص بينا ويذهل المجتهد عنه، كتيمم الجنب، فإنه بين في القرآن في آيتين، ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر: ما درى عبد الله ما يقول، إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد البرد أن يتيمم.

    وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [الطلاق: 1] وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة؟

    وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله: وأتموا الحج والعمرة لله [البقرة: 196] واحتج بهذه الآية من منع [ ص: 1560 ] الفسخ.

    وآخرون يقولون: إنما أمر بالإتمام فقط، وكذلك أمر الشارع أن يتم، وكذلك في الفسخ قالوا: من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها، أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه؛ فإنه شرع - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عام حجة الوداع.

    وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله: أو لامستم النساء [النساء: 43] ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه.

    وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفي فهذا ما أعرفه.

    والجد لما قال أكثرهم: إنه أب استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله: كما أخرج أبويكم من الجنة [الأعراف: 27] [ ص: 1561 ] وقال ابن عباس : لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدا لما قالت: وأنه تعالى جد ربنا [الجن: 3] نقول: إنما هو أب، لكن أب أبعد من أب .

    وقد روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقا فقط غلط، ومن ادعى أن من المسائل ما لم يتكلم أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها، والدلائل الصحيحة لا تتناقض، لكن قد يخفى وجه اتفاقهما أو ضعف أحدهما على بعض العلماء.

    وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا التنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله ما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك، فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس.

    ومن قال من المتأخرين: إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم: إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هذا من قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام.

    وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه؛ إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم. لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك، وفي رواية: فبما أجمع [ ص: 1562 ] عليه الناس، فقدم عمر الكتاب ثم السنة، وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر ، قدم الكتاب ثم السنة، ثم الإجماع، وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر ؛ لقوله: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر .

    وهذه الآثار ثابتة عن عمر ، وابن مسعود، وابن عباس ، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب.

    ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد ينظر أولا في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم: الإجماع نسخه.

    والصواب طريقة السلف، وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ - فهذا لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه، وهي معصومة عن ذلك.

    ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا، فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين؟ بخلاف النصوص، فإن معرفتها ممكنة متيسرة، وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولا؛ لأن السنة لا تنسخ الكتاب، فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه، فلا يقدم غير القرآن عليه، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره، ولا تعارض السنة بإجماع وأكثر ألفاظ الآثار، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة مع أنه فيها، وكذلك [ ص: 1563 ] في القرآن، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة، وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضا لما في القرآن، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة. انتهى كلامه قدس الله روحه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا [116]

    إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قد مر الكلام على هذه الآية الكريمة في أوائل هذه السورة مطولا، قالوا: تكريرها إما تأكيدا وتشديدا أو لتكميل قصة طعمة، وقد مر موته كافرا.

    أو: إن لها سببا آخر في النزول، على ما رواه الثعلبي ، عن ابن عباس قال: جاء شيخ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جراءة، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى؟ فنزلت.

    واستظهر بعضهم الوجه الأخير قال: لأن التأكيد - مع بعد عهده - لا يقتضي تخصص هذا الموضع، فلا بد له من مخصص.

    وأغرب المهايمي حيث جعلها مشيرة إلى شقي الآية الكريمة، حيث قال: ثم أشار إلى أن وعيد مشاقة الرسول جازم دون مخالفة الإجماع؛ لأن مشاقة الرسول دليل تكذيبه، وهو مستلزم للشرك بالله، إذ خلق المعجزات لا يكون إلا لكامل القدرة، ولا يكون إلا لإله، فإذا نفاها عن الله فقد أثبت له شريكا، وأن الله لا يغفر أن يشرك به. ومخالفة الإجماع يجوز أن تكون مغفورة؛ لأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، إذ لا تنتهي إلى الشرك. وكل هذه المناسبات دالة - دون ذلك قطعا - على دلالة هذه الآية، على أن ما سوى الشرك مغفور قطعا، سواء حصلت التوبة أو لم تحصل.

    [ ص: 1564 ] وقد روى الترمذي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا أي: عن الحق، فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى: فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء، وهو دعوى التبني على الله تعالى بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه قاله القاضي .

    وفي (السمين): ختمت الآية المتقدمة بقوله: فقد افترى وهذه بقوله: فقد ضل لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله، وهذه في شأن قوم مشركين ليس لهم كتاب ولا عندهم علم، فناسب وصفهم بالضلال، وأيضا قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال. انتهى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #257
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1565 الى صـ 1572
    الحلقة (257)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [117]

    إن يدعون من دونه ما يعبد مشركو مكة ونحوهم من دون الله إلا إناثا قال الرازي : (يدعون) بمعنى (يعبدون) لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه. انتهى.

    وقد روى الإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، وأصحاب السنن وغيرهم، عن النعمان بن بشير [ ص: 1565 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الدعاء هو العبادة ورواه أبو يعلى عن البراء، ورواه الترمذي عن أنس بلفظ: الدعاء مخ العبادة .

    وفي قوله تعالى: إلا إناثا وجوه:

    الأول: ما رواه ابن أبي حاتم ، عن عائشة قالت: يعني أوثانا، وعليه فمرجع التسمية بالإناث كون أسماء غالبها مؤنثة، كمناة والعزى واللات ونحوها؛ ولأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحلي ويزينونها على هيئات النسوان.

    وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، ومجاهد ، وأبي مالك، والسدي، ومقاتل نحو ما لعائشة .

    الوجه الثاني: أنه عنى الملائكة؛ لأن بعضهم كان يعبد الملائكة، ويقولون عنها: بنات الله.

    روى ابن جرير ، عن الضحاك في الآية: قال المشركون للملائكة: بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. قال: فاتخذوهن أربابا وصوروهن جواري فحكوا وقلدوا وقالوا: هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة.

    قال ابن كثير : وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى: أفرأيتم اللات والعزى [النجم: 27] الآيات، وقال تعالى: وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [الزخرف: 19].... الآية، وقال: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا [الصافات: 137] انتهى.

    وقال تعالى: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى

    [ ص: 1566 ] الوجه الثالث: ما رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي بن كعب في الآية قال: مع كل صنم جنية.

    الرابع: قال علي بن أبي طلحة والضحاك، عن ابن عباس والحسن: إناثا يعني موتى، قال الحسن: الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

    وفي "القاموس وشرحه": الإناث جمع الأنثى، وهو خلاف الذكر من كل شيء، والموات الذي هو خلاف الحيوان، كالشجر والحجر والخشب، عن اللحياني . وعن الفراء : تقول العرب: اللات والعزى وأشباههما من الآلهة المؤنثة. انتهى.

    وقال الإمام أبو البقاء : قوله تعالى: إلا إناثا هو جمع أنثى على (فعال) ويراد به كل ما لا روح فيه من صخرة وشمس ونحوهما.

    ويقرأ (أنثى) على الإفراد، ودل الواحد على الجمع.

    ويقرأ (أنثا) مثل رسل، يجوز أن تكون صفة مفردة مثل: "امرأة جنب" ويجوز أن يكون جمع أنيث كقليب وقلب، وقد قالوا: "حديد أنيث" من هذا المعنى.

    ويقرأ (أثنا) والواحد وثن وهو الصنم وأصله وثن، في الجمع كما في الواحد، إلا أن الواو قلبت همزة لما انضمت ضما لازما وهو مثل: (أسد وأسد) ويقرأ بالواو على الأصل جمعا، ويقرأ بسكون الثاء مع الهمزة والواو. انتهى.

    قال البيضاوي : ولعله تعالى ذكرها بهذا الاسم؛ تنبيها على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثا؛ لأنه ينفعل ولا يفعل، ومن حق المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل؛ ليكون دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم.

    وإن يدعون أي: ما يعبدون من دون الله إلا شيطانا مريدا وهو إبليس - لعنه الله - لطاعتهم له في عبادتها، وإذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه، كما قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان [يس: 60] وقال تعالى: بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [سبأ: 41] والمريد المتمرد العاتي الطاغي.
    [ ص: 1567 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا [118]

    لعنه الله صفة ثانية لـ (شيطانا) أي: أبعده الله عن رحمته، فأراد إبعاد من أبعد بسببه وقال حين أبعد: لأتخذن من عبادك أي: الذين أبعدتني بسببهم، أي: لأجعلن لي منهم نصيبا أي: حظا مفروضا أي: مقطوعا ومقدرا من عبادتهم بأن يعبدوا غيرك، أو يراءوا فيها، أو يعجبوا بها، أو يتلفوها في المظالم، أو يحبطوها بالكفر بعدها.

    قال العلامة أبو السعود : قوله تعالى: وقال إلخ .. عطف على الجملة المتقدمة: أي: شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن.

    ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بأن ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة، ثم استدل عليه بأن ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة:

    الأول: أنه منهمك في الغي لا يكاد يعلق بشيء من الخير والهدى، فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الحق.

    والثاني: أنه ملعون لضلاله، فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال.

    والثالث: أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالهم، فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال، فضلا عن عبادته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا [119]

    ولأضلنهم أي: عن الهدى ولأمنينهم أي: الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال، قال الرازي : إن الشيطان لما ادعى أنه يضل الخلق قال: ولأمنينهم [ ص: 1568 ] وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الإضلال أقوى من الأماني في قلوب الخلق، وطلب ما يورث شيئين: الحرص والأمل، والحرص والأمل يستلزم أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم: يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص والأمل .

    والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين، فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا، فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.

    ولآمرنهم أي: على خلاف أمرك إضلالا لهم فليبتكن آذان الأنعام أي: فليقطعنها ويشقنها سمة وعلامة للبحائر والسوائب ليحرموها بعدما أحللتها.

    قال الواحدي رحمه الله: التبتيك: ههنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا ثم تسيب، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها، فأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا يردونها عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيى المنقطع به لم يركبها، وسول لهم إبليس أن هذا قربة وهي البحيرة.

    قال ابن سيده : بحر الناقة والشاة يبحرها: شق أذنها بنصفين، وقل بنصفين طولا.

    ولآمرنهم فليغيرن خلق الله أي: دين الله عز وجل، ورواه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس وكثيرين، وهذا كقوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [الروم: 30] على قول من جعل ذلك أمرا، أي: لا تبدلوا فطرة الله، [ ص: 1569 ] ودعوا الناس على فطرتهم.

    كما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون بها من جدعاء؟

    وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم .

    [ ص: 1570 ] وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة .

    وروى الطبراني ، عن ابن عباس مرفوعا: أول من غير دين إبراهيم عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبو خزاعة .

    وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس : أنه عنى بالآية خصي الدواب، وقال أنس: منه الخصا.

    وقد روى ابن عساكر، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإخصاء.

    ورواه الإمام أحمد أيضا عنه بلفظ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خصاء الخيل والبهائم.

    وروى الطبراني ، عن ابن مسعود : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخصى أحد من ولد آدم.

    وروى [ ص: 1571 ] البيهقي ، عن ابن عباس : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صبر الروح وخصاء البهائم.

    وقال الحسن : عنى بالآية الوشم (بالشين المعجمة) أخرجه ابن أبي حاتم .

    روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوشم.

    وفي الصحيح عن ابن مسعود : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله عز وجل يعني قوله: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا

    قال السيوطي في "الإكليل": فيستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما يجري مجراه من الوصل في الشعر ، والتفلج: وهو تفريق الأسنان، والتنميص: وهو نتف الشعر في الوجه. انتهى.

    [ ص: 1572 ] قال بعض الزيدية: ويلحق بالوشر ما يفعل في الخد من الشرط للزينة.

    وحكى الزجاج عن بعضهم في معنى الآية: إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها، فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها، فعبدها المشركون فغيروا خلق الله، ولا يخفى أن عموم الآية يصدق على جميع المعاني؛ إذ كلها من تغيير خلق الله، فلا مانع من حمل الآية عليها.

    قال البيضاوي : قوله: فليغيرن خلق الله أي: عن وجهه وصورته، أو صفته، ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك، وعبادة الشمس والقمر، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا، ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى. انتهى.

    وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا، وما فيها من (اللامات) كلها للقسم، والمأمور به في الموضعين محذوف؛ ثقة بدلالة النظم عليه.

    ثم حذر تعالى عن متابعته فقال: ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله بإيثار ما يدعو إليه، مجاوزا ولاية الله بترك ما يدعو إليه فقد خسر خسرانا مبينا أي: بينا لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #258
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1573 الى صـ 1580
    الحلقة (258)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [120]

    يعدهم بأنهم الفائزون ويمنيهم أي: ما لا ينالونه وما يعدهم الشيطان إلا غرورا باطلا وضلالا، وإيهام نفع مما ليس فيه إلا الضرر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا [121]

    أولئك أي: أولياء الشيطان مأواهم مصيرهم ومآلهم يوم القيامة [ ص: 1573 ] جهنم ولا يجدون عنها محيصا معدلا ومفرا.
    ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومآلهم من الكرامة فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا [122]

    والذين آمنوا أي: صدقت قلوبهم وعملوا الصالحات أي: عملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات سندخلهم جنات تجري من تحتها أي: من تحت غرفها ومساكنها الأنهار أنهار الخمر والماء واللبن والعسل خالدين فيها مقيمين في الجنة، لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا وعد الله حقا صدقا واقعا لا محالة، وكيف لا يكون وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا وعدا وخيرا، وهو استفهام بمعنى النفي، أي: لا أحد أصدق منه قيلا، لا إله إلا هو لا رب سواه.

    وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .

    والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه، والمبالغة في توكيده؛ ترغيبا للعباد في تحصيله، و(القيل) مصدر، كالقال والقول.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا [123]

    ليس بأمانيكم أي: ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام ولا أماني أهل الكتاب ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا: [ ص: 1574 ] نحن أبناء الله وأحباؤه [المائدة: 18] لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة: 80] .

    من يعمل سوءا يجز به أي: من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله: ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا وهذا وعيد للكفار؛ لأنه قال بعده:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [124]

    ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن جملة حالية، و(من) الأولى زائدة عند الأخفش، وصفة عند سيبويه، أي: شيئا من الصالحات فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا أي: لا ينقص من حسناتهم قدر نقير، وهو النقرة التي على ظهر النواة، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم، ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان، والراجع في: " ولا يظلمون " لعمال السوء وعمال الصالحات جميعا، وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلا على ذكره عند الآخر.

    وقوله تعالى: من يعمل سوءا يجز به وقوله: ومن يعمل من الصالحات بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله سبحانه: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته [البقرة: 81] وقوله: والذين آمنوا وعملوا الصالحات عقيب قوله: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
    [ ص: 1575 ] تنبيه:

    ما قدمناه من أن الخطاب في قوله تعالى: ليس بأمانيكم للمشركين وأن قوله تعالى: من يعمل سوءا أي: من أهل الكتاب والمشركين - هو الذي يدل عليه سياق الآية ونظمها الكريم كما بينا.

    ورواه الطبري ، عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير، والحسن، قال الأولان - رضي الله عنهما -: (السوء) ههنا هو الشرك. وقال الحسن: من يعمل سوءا هو الكافر، ثم قرأ: وهل نجازي إلا الكفور

    ولما كان لعموم هذا الخطاب روعة، وأي روعة، أشفق كثير من الصحابة لأجله.

    قال ابن كثير : وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة.

    قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير قال: أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به فكل سوء عملنا جزينا به؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض ؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء قال: بلى، قال: هو مما تجزون به

    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت: من يعمل سوءا يجز به شق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها رواه سعيد بن منصور ، [ ص: 1576 ] وأحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي .

    وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة: إنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه - إلا كفر الله عن سيئاته أخرجاه.

    وروى ابن مردويه، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله: (من يعمل سوءا يجز به) قال: نعم، ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا، فهلك من غلب واحدته عشراته .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [125]

    ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله أي: أخلص نفسه له تعالى فلم يتخذ ربا سواه وهو محسن أي: آت بالحسنات تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد فسر النبي - صلى الله [ ص: 1577 ] عليه وسلم - الإحسان بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

    واتبع ملة إبراهيم الموافقة لدين الإسلام، المتفق على صحتها وقبولها حنيفا أي: مائلا عن الشرك قصدا، أي: تاركا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد.

    قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمنا - شرح الإيمان وبين فضله من وجهين:

    أحدهما: أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى.

    والثاني: أنه الدين الذي كان عليه إبراهيم - عليه السلام - وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام.

    أما الوجه الأول: فاعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين: الاعتقاد، والعمل.

    أما الاعتقاد: فإليه الإشارة بقوله: أسلم وجهه لله وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، والوجه أحسن أعضاء الإنسان، فالإنسان إذا عرف بقلبه ربه، وأقر بربوبيته وعبودية نفسه - فقد أسلم وجهه لله.

    وأما العمل: فإليه الإشارة بقوله: وهو محسن ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات، فتأمل في هذه اللفظة [ ص: 1578 ] المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض.

    وأيضا فقوله: أسلم وجهه لله يفيد الحصر، معناه أنه أسلم نفسه لله، وما أسلم لغير الله، وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق، وإظهار التبري من الحول والقوة، وأيضا ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله، فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها.

    واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم: إنهم من أولاد الأنبياء، والنصارى كانوا يقولون: ثالث ثلاثة، فجميع الفرق استعانوا بغير الله.

    وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام فهو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم - عليه السلام - وقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال: وإنني بريء مما تشركون [الأنعام: 19] وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب، ولا سجدة لصنم، ولا استعانة بطبيعة، بل كان ديدنه الدعوة إلى الله والإعراض عن كل ما سوى الله، وهكذا دعوة محمد، صلى الله عليه وسلم.

    ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل، وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم، وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولا عند الكل.

    واتخذ الله إبراهيم خليلا أي: صفيا خالص المحبة له، وإظهاره - عليه السلام- في موضع الإضمار؛ لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح، وسر هذه الجملة الترغيب في اتباع ملته - عليه الصلاة والسلام - فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغا مصححا لتسميته خليلا [ ص: 1579 ] حقيق بأن يكون اتباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم، وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم، فإن درجة الخلة أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: وإبراهيم الذي وفى [النجم: 37].

    قال كثير من علماء السلف: أي: قام بجميع ما أمر به، وفي كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [البقرة: 124] الآية، وقال تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين [النحل: 120] الآية.

    والخليل لغة: الصديق المختص، وقال ابن الأعرابي : الخليل: الصادق.

    وقال الزجاج : هو المحب الذي لا خلل في محبته، وبه فسر الآية، أي: أحبه محبة تامة لا خلل فيها.

    وقال ابن دريد: الخليل من أصفى المودة وأصحها، قال: ولا أزيد فيه شيئا؛ لأنها في القرآن. انتهى.

    قال الرازي : ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها:

    منها أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة، قيل: لما أطلع الله إبراهيم - عليه السلام - على الملكوت الأعلى والأسفل، ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس، ومنعهم عن عبادة الأوثان، ثم سلم للنيران، وولده للقربان، وماله للضيفان - جعله الله إماما للخلق، ورسولا إليهم، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته، فلهذه الاختصاصات سماه خليلا؛ لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه. انتهى.

    وقوله: (لأن محبة الله لعبده ... إلخ منزع كلامي لا سلفي).

    [ ص: 1580 ] ثم قال الرازي : وعندي وجه آخر، وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئا مشرقا علويا قليل التعلق بالذات الجسمانية والأحوال الجسدانية، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية، وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية -صار مثل هذا الإنسان متوغلا في عالم القدس والطهارة، متبرئا عن علائق الجسم والحس، ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا بالله، ولا يسكن إلا بالله، ولا يمشي إلا بالله، فكأن نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية، وتخلل فيها وغاص في جواهرها، وتوغل في ماهياتها، فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقا بأنه خليل؛ لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه، وإليه الإشارة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: اللهم! اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وفي عصبي نورا انتهى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #259
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1581 الى صـ 1588
    الحلقة (259)




    [ ص: 1581 ] قال الإمام العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه "الجواب الكافي": الخلة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، بحيث لا يبقى في القلب سعة لغير محبوبه، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجه ما، وهذا المنصب خاصة للخليلين - صلوات الله وسلامه عليهما - إبراهيم ومحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا .

    وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله .

    وفي حديث آخر: إني أبرأ إلى كل خليل من خلته .

    ولما سأل إبراهيم - عليه السلام - [ ص: 1582 ] الولد، فأعطيه، فتعلق حبه بقلبه، فأخذ منه شعبة، غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره، فأمر بذبحه، وكان الأمر في المنام ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاء وامتحانا، ولم يكن المقصود ذبح الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه؛ ليخلص القلب للرب، فلما بادر الخليل - عليه الصلاة والسلام - إلى الامتثال، وقدم محبة الله على محبة ولده حصل المقصود، فرفع الذبح وفدي بذبح عظيم، فإن الرب تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله رأسا، بل لا بد أن يبقي بعضه أو بدله، كما أبقى شريعة الفداء، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة، وكما أبقى الخمس الصلوات بعد رفع الخمسين، وأبقى ثوابها، وقال: ما يبدل القول لدي [ق: 29]، هي خمس في الفعل وخمسون في الأجر.

    ثم قال ابن القيم قدس سره: وأما ما يظنه بعض الظانين أن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حبيب الله - فمن جهله، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، والخلة نهاية المحبة، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم.

    وأيضا فإن الله سبحانه: يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة: 222] و: يحب الصابرين [آل عمران: 146] و: يحب المحسنين [البقرة: 195] [ ص: 1583 ] و: يحب المتقين [آل عمران: 76] و: يحب المقسطين [الممتحنة: 8] وخلته خاصة بالخليلين - عليهما الصلاة والسلام - والشاب التائب حبيب الله، وإنما هذا عن قلة العلم والفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

    وقد تمسك من زعم أن المحبة أصفى من الخلة بما رواه ابن مردويه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا، فإبراهيم خليله. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم موسى تكليما. وقال الآخر: فعيسى روح الله وكلمته. وقال آخر: آدم اصطفاه الله.

    فخرج عليهم فسلم وقال: قد سمعت كلامكم وتعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله لي ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر
    .

    قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها. انتهى.

    قلت: ورواه الترمذي أيضا في جامعه في فضائله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: هذا حديث غريب.

    [ ص: 1584 ] وظاهر أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ألا وإني حبيب الله - لا يدل على أن درجة المحبة أرفع؛ لأنه لم يورد للتفاضل بينهما، وإنما سيقت هذه الجملة مع ما بعدها للتعريف بقدره الجسيم، وفضله العظيم، وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبل في مخلوق، وما يدان الله تعالى به من حقه الذي هو أرفع الحقوق ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا [المدثر: 31].

    وروى ابن أبي حاتم ، عن إسحاق بن يسار قال: "لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل، حتى إن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء" وهكذا جاء في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل - إذا اشتد غليانها - من البكاء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا [126]

    ولله ما في السماوات وما في الأرض جملة مبتدأة، سيقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السماوات والأرض، ببيان أن جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا، لا يخرج عن ملكوته شيء منها، فيجازي كلا بموجب أعماله خيرا وشرا.

    وقيل: لبيان أن اتخاذه - عز وجل - لإبراهيم - عليه السلام - خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين - فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم - بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام.

    وقيل: لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية.

    [ ص: 1585 ] وقيل: لبيان أن اصطفاءه - عليه السلام – للخلة بمحض مشيئته تعالى، أي: له تعالى ما فيهما جميعا، يختار منهما ما يشاء لمن يشاء، أفاده أبو السعود .

    وكان الله بكل شيء محيطا يعني عالما علم إحاطة، لا تخفى عليه خافية من عباده: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر [يونس: 61].
    القول في تأويل قوله تعالى:

    ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما [127]

    ويستفتونك في النساء أي: ويسألونك الإفتاء في النساء، والإفتاء تبيين المبهم قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ذكروا في (ما) وجوها: المختار منها أنها في موضع رفع بالعطف على المبتدأ، وهو لفظ الجلالة، أي: والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضا، أو بالعطف على ضميره في: " يفتيكم " وساغ لمكان الفصل بالمفعول والجار والمجرور، وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء

    قال الرازي : وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن [ ص: 1586 ] أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها، وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المشهور: إن كتاب الله بين لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: إن كتاب الله أفتى بكذا.

    قال أبو السعود : وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها، و(في الكتاب) إما متعلق بـ(يتلى) أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه، أي: يتلى كائنا فيه.

    في يتامى النساء متعلق بـ(يتلى) أي: ما يتلى عليكم في شأنهن، وهذه الإضافة بمعنى (من) لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وقيل: من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: النساء اليتامى.

    اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن أي: ما وجب لهن من الميراث وغيره وترغبون أن تنكحوهن روى البخاري ومسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها – قالت في هذه الآية: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية.

    وعنها أيضا قالت: وقول الله عز وجل: [ ص: 1587 ] وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.

    وهذا المروي عن عائشة يدل على أن الآية نزلت في المعدمة، وأن الجار المقدر مع (أن) هنا هو (عن) وقد تأولها سعيد بن جبير على المعنيين، أي: تقدير (عن) و(في) فقال نزلت في المعدمة والغنية.

    قال الحافظ ابن حجر : والمروي عن عائشة أوضح في أن الآية الأولى - أي: التي في أول السورة - نزلت في الغنية، وهذه الآية نزلت في المعدمة.

    قال ابن كثير : والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل - وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة - وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده - أو في نفس الأمر - فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية، وهي قوله: في يتامى النساء الآية: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت [ ص: 1588 ] جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه.

    تنبيه: ما ذكرناه عن ابن جبير من حمل الآية على المعنيين، أي: أن حرف الجر المقدر مع (أن) هو (عن) و(في) وأن كلا منهما مراد منها على سبيل البدل لصلاحيتها لهما بالاعتبارين المتقدمين.

    قال الخفاجي: مثله لا يعد لبسا بل إجمالا، كما ذكره بعض المحققين. انتهى.

    قلت: وهذا بناء على أن اللبس هو أن يدل اللفظ على غير المراد، والإجمال أن لا تتضح الدلالة، وبعبارة أخرى: إيراد الكلام على وجه يحتمل أمورا متعددة، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما فقال:


    والفرق بين اللبس والإجمال مما به يهتم في الأقوال فاللفظ إن أفهم غير القصد
    فاحكم على استعماله بالرد لأنه اللبس. وأما المجمل
    فربما يفهمه من يعقل وذاك أن لا تفهم المخالفا
    ولا سواه بل تصير واقفا وحكمه القبول في الموارد
    فاحفظه نظما أعظم الفوائد


    والمستضعفين من الولدان عطف (على يتامى النساء) وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: يوصيكم الله إلخ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم، كما لا يورثون الرجال القوام.

    قال ابن عباس في الآية: كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: لا تؤتونهن ما كتب لهن فنهى الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال: للذكر مثل حظ الأنثيين صغيرا أو كبيرا، وكذا قال سعيد بن جبير .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #260
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1589 الى صـ 1596
    الحلقة (260)




    وأن تقوموا لليتامى بالقسط بالجر، عطف على ما قبله، وما يتلى في حقهم: قوله تعالى: [ ص: 1589 ] ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [النساء: 2] ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر.

    قال سعيد بن جبير : المعنى: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال فانكحها واستأثر بها، والخطاب للولاة أو للأولياء والأوصياء.
    تنبيه:

    استنبط من الآية أحكام:

    الأول: جواز نكاح الصغيرة؛ لأن اليتيم: الصغير الذي لم يبلغ، وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يتم بعد احتلام رواه أبو داود .

    وعن الأصم : أراد البوالغ قبل التزوج، وسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم، والأول أظهر؛ لأنه الحقيقة، قالوا: قد يطلق اليتيم على البالغة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها رواه أهل السنن، والاستئمار لا يكون إلا من البالغة، وقد ورد قول الشاعر:


    إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى


    [ ص: 1590 ] فسمى البالغات يتامى؛ لانفرادهن عن الأزواج، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له يتيم، كقولهم: "درة يتيمة" وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء:

    الأول: جواز نكاح الصغيرة لجميع الأولياء، وهذا مذهب الهادوية ومالك وأبي حنيفة وصاحبيه.

    الثاني: للناصر والشافعي : لا يجوز ذلك إلا للأب والجد.

    والثالث: لا يجوز ذلك إلا للأب فقط، وهذا قول الأوزاعي ، ومروي عن القاسم .

    دليل الأولين ما اقتضاه قوله تعالى: وترغبون أن تنكحوهن وهي نزلت في شأن اليتيمة ينكحها وليها ولا يقسط لها في المهر، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يقسطوا في المهر بقوله في سورة النساء: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء واليتم الحقيقي مع الصغر، وغيره مجاز، وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح ابن العم، فإذا صح فيه صح.

    وحجة القول الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: تستأمر اليتيمة الحديث المتقدم، والإذن لا يكون إلا بعد البلوغ.

    وروى الإمام أحمد والدارقطني أن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه - وكان وصيها - ممن أبته، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها كذا ذكره بعض مفسري الزيدية.

    وتخريج الأحاديث من زيادتي، وما نقله من أن الإذن لا يكون إلا بعد البلوغ يحتاج إلى دليل؛ إذ لا يدل عليه الخبر بمنطوقه ولا مفهومه.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وفي حديث: لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن : ظاهر الحديث اشتراط رضاء المزوجة بكرا كانت أو ثيبا، صغيرة أو كبيرة. انتهى.

    قال الترمذي في "جامعه": وقال بعضهم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ.

    وقال [ ص: 1591 ] أحمد وإسحاق : إذا بلغت اليتيمة سبع سنين فزوجت فرضيت فالنكاح جائز، ولا خيار لها إذا أدركت، واحتجا بحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بها وهي بنت تسع سنين. وقد قالت عائشة : إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. انتهى.

    الحكم الثاني: أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح ؛ لقوله: وترغبون أن تنكحوهن

    وقد روى ابن سعد من طريق ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، أن أم حكيم بنت قارظ قالت لعبد الرحمن بن عوف : إنه قد خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إلي؟ فقالت: نعم، قال: قد تزوجتك، قال ابن أبي ذئب : فجاز نكاحه.

    وروى عبد الرزاق ، ووكيع، والبيهقي أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة وهو وليها، فأمر أبعد منه، فزوجه.

    وروى عبد الرزاق أيضا، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء : امرأة خطبها ابن عم لها، لا رجل لها غيره، قال: فلتشهد أن فلانا خطبها، وإني أشهدكم أني قد نكحته، ولتأمر رجلا من عشيرتها.

    [ ص: 1592 ] أخرج هذه الآثار الثلاثة البخاري في "صحيحه" تعليقا في (باب إذا كان الولي هو الخاطب) أي: هل يزوج نفسه أو يحتاج إلى ولي آخر.

    قال ابن المنير : ذكر في الترجمة ما يدل على الجواز والمنع معا؛ ليكل الأمر في ذلك إلى نظر المجتهد.

    قال الحافظ ابن حجر : لكن الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإن الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوجه - ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه.

    ثم قال: وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور .

    وعن مالك : لو قالت الثيب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج.

    وقال الشافعي : يزوجهما السلطان أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفر وداود ، وحجتهم أن الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا، كما لا يبيع من نفسه. انتهى.

    الحكم الثالث: أنه يجوز للأولياء التصرف في المال؛ لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك .

    وما تفعلوا من خير لا سيما في حق الضعفاء من حفظ أموالهم والقيام بتدبيرهم والإقساط لهم فإن الله كان به عليما فيجزيكم به.
    [ ص: 1593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [128]

    وإن امرأة خافت من بعلها أي: زوجها نشوزا أي: تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها، بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها أو إعراضا أي: تطليقا، أو أن يقل محادثتها ومجالستها؛ كراهة لها أو لطموح عينه إلى أجمل منها.

    فلا جناح أي: لا إثم عليهما حينئذ أن يصلحا بينهما صلحا بحط شيء من المهر أو النفقة، أو هبة شيء من مالها أو قسمها؛ طلبا لبقاء الصحبة إن رضيت بذلك، وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها.

    قال في "الإكليل": الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره، استدل به من أجاز لها بيع ذلك.

    والصلح خير أي: من الفرقة والنشوز والإعراض.

    قال ابن كثير : بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه ، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبغض الحلال إلى الله الطلاق .

    قال بعض مفسري الزيدية: وفي هذه الآية حث على الصبر على نفس الصحبة ؛ لقوله تعالى: والصلح خير أي: من الفرقة وسوء العشرة، أو خير من الخصومة، أو خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور، وقد كان من كرم [ ص: 1594 ] أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها، وعنه صلى الله عليه وسلم: إنه من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه وهذا فيه صبر، وفي الصبر ما لا يحصر من [ ص: 1595 ] المحاسن والفضائل، والصلح فيه من أنواع الترغيب.

    روي عنه صلى الله عليه وسلم: من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد ، وعن أنس : من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . انتهى.

    وفي "الإكليل" قوله تعالى: والصلح خير عام في كل صلح، أصل فيه.

    وفي الحديث: الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار والمجهول.

    وأحضرت الأنفس الشح بيان لما جبل عليه الإنسان، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه، لا تنفك عنه أبدا، فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز والإعراض وحقوقها من الرجل، ولا الرجل في إمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي، إذا كرهها أو أحب غيرها، والجملة الأولى للترغيب في المصالحة، والثانية لتمهيد العذر في المشاحة، وللحث على الصلح، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح.

    وإن تحسنوا في العشرة وتتقوا النشوز والإعراض ونقص الحق فإن الله كان بما تعملون من تحمل المشاق في ذلك خبيرا فيجازيكم ويثيبكم.

    قال أبو السعود : وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ (التقوى) المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم عليه - من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة ما لا يخفى.

    وما قدمنا في تفسير الآية هو زبدة ما نقل عن السلف، صحابة وتابعين في معناها.

    قال ابن كثير : ولا أعلم في ذلك خلافا.

    وفي البخاري عن عائشة في هذه الآية [ ص: 1596 ] قالت: «الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل» فنزلت هذه الآية.

    وروى ابن أبي حاتم ، عن خالد بن عرعرة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - فسأله عن قول الله عز وجل: وإن امرأة الآية، قال علي: يكون الرجل عنده المرأة، فتنبو عينه عنها من دمامتها أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.

    وكذا رواه أبو داود الطيالسي وابن جرير .

    وروى ابن جرير - أيضا - عن عمر - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.

    وروى سعيد بن منصور ، عن عروة قال: أنزل في سودة وأشباهها: وإن امرأة الآية، وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت، ففرقت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة فقبل ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

    وروى نحوه أبو داود الطيالسي والترمذي ، عن ابن عباس .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •