تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 18 من 23 الأولىالأولى ... 891011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 341 إلى 360 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #341
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2506 الى صـ 2520
    الحلقة (341)





    [ ص: 2506 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [130] يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين

    يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم أي: في الدنيا: رسل منكم يقصون عليكم آياتي بالأمر والنهي: وينذرونكم يخوفونكم: لقاء يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال قالوا يعني الجن والإنس شهدنا على أنفسنا أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم، وبتكذيب دعوتهم، كما فصل في قوله تعالى: قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وغرتهم الحياة الدنيا أي: ما فيها من الزهرة والنعيم، وهو بيان لما أداهم في الدنيا إلى الكفر: وشهدوا على أنفسهم أي: في الآخرة. قال المهايمي: بعد شهادة جوارحهم: أنهم كانوا كافرين أي: في الدنيا بما جاءتهم الرسل.

    تنبيهات:

    الأول: استدل بقوله تعالى: ألم يأتكم رسل منكم من قال إن الله بعث إلى الجن رسلا منهم. وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم، والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط. نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف.

    قال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها [ ص: 2507 ] مضافا. أي: من أحدكم، وهم الإنس. أو من إضافة ما للبعض للكل، كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرجان من أحدهما، وهو الملح دون العذب. وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله: مرج البحرين وهو جائز في كل ما اتفق في أصله. فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين، وهم الإنس. وهذا قول الفراء والزجاج.

    وقال أبو السعود: المعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم، لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا، بل من الإنس خاصة. وإنما جعلوا منهما، إما لتأكيد وجوب اتباعهم، والإيذان بتقاربهما ذاتا، واتحادهما تكليفا وخطابا، كأنهما من جنس واحد. ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر. وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل. وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن، وأنذروا به قومهم، حيث نطق به قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله تعالى: ولوا إلى قومهم منذرين انتهى.

    وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من جن عصره فيسمعون كلامهم، ويأتون قومهم من الجن، ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل، وينذرونهم به. وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه فقال: إذ أرسلنا إليهم اثنين وتحقيق القول فيه: أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر، وأزاح العلة، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين. فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا [ ص: 2508 ] الطريق، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر، وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلا. كذا قرره الرازي.

    قال الحافظ ابن كثير: والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إلى قوله تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقوله تعالى عن إبراهيم: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته. ولم يقل أحد: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم، ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب. انتهى.

    الثاني: إن قيل: ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر، وجحدوه في قوله: [ ص: 2509 ] والله ربنا ما كنا مشركين ؟ قلنا: يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فتارة يقرون، وأخرى يجحدون. وذلك يدل على شدة خوفهم، واضطراب أحوالهم، فإن من عظم خوفه، كثر الاضطراب في كلامه - أفاده الرازي.

    زاد الزمخشري: أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.

    الثالث: إن قيل: لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ أجيب: بأن الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون; والثانية ذم لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا، واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه. وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم - كذا في "الكشاف" -.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [131] ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

    وقوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون إعلام بأنه تعالى أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتبيين الآيات، وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد. وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم لا تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه، وينبههم على بطلانه؛ لأنه ينافي الحكمة. وجوز في ذلك أن يكون خبرا لمحذوف. أي: الأمر ذلك. أو مبتدأ وخبره محذوف. أي: كما ذكر. أو خبره: إن لم يكن ... إلخ. والمشار إليه إتيان الرسل، أو ما قص من أمرهم، أو السؤال المفهوم من قوله: ألم يأتكم . واستظهر أبو السعود أن الإشارة إلى شهادتهم على أنفسهم بالكفر، واستيجاب العذاب، وأنه مبتدأ خبره ما بعده، وأن (أن) مصدرية، و (اللام) [ ص: 2510 ] مقدرة قبلها. أو مخففة، واسمها ضمير الشأن، و: بظلم متعلق ب: مهلك . أي: بسبب ظلم، أو بمحذوف حالا من (القرى)، أي: متلبسة بظلم. والمعنى: ذلك ثابت لانتفاء كون ربك، أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول.

    تنبيه:

    في الآية دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة، ولا حكم للعقل. كقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [132] ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون

    ولكل أي: من المكلفين: درجات أي: مراتب. مما عملوا أي: من أعمالهم، يبلغونها ويثابون بها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. واستدل بها، على هذا التأويل، بأن الجن يدخلون الجنة ويثابون.

    قال ابن كثير: ويحتمل أن يعود قوله: ولكل لكافري الجن والإنس. أي: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون

    وما ربك بغافل عما يعملون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [133] وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين

    وربك الغني عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم: [ ص: 2511 ] ذو الرحمة أي: يترحم عليهم بالتكليف، تكميلا لهم، ويمهلهم على المعاصي. وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه سبحانه، بل لترحمه على العباد، وتمهيد لقوله: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء أي: من الخلق يعملون بطاعته: كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ذهب بهم ثم بذريتهم، لكنه أبقاكم ترحما عليكم. وهذا كقوله تعالى: والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [134] إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين

    إن ما توعدون أي: من البعث وأحواله: لآت أي: لكائن لا محالة: وما أنتم بمعجزين أي: بفائتين يعجز عنكم. وهذا رد لقولهم: من مات فقد مات. أي: هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم رفاتا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [135] قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون

    قل يا قوم اعملوا على مكانتكم أي: على غاية تمكنكم واستطاعتكم. يقال: مكن مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن. أو على جهتكم وحالتكم، من قولهم: مكان ومكانة، كمقام ومقامة. والمعنى: اثبتوا على كفركم إني عامل أي: ما أمرت به من الثبات على الإسلام فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار أي: التي بنيت لعبادته [ ص: 2512 ] تعالى وحده، دون غيرهم، - هل تكون للعدل الذي يضع العبادة في موضعها، أو للظالم بوضعها في غير موضعها. والمراد بالدار، الدنيا. وبالعاقبة، العاقبة الحسنى. أي: عاقبة الخير؛ لأنها الأصل، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة، وقنطرة المجاز إليها.

    إنه لا يفلح الظالمون أي: الكافرون. ووضع الظلم موضع الكفر، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أي فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده؟

    لطائف:

    في إيراد التهديد بصيغة الأمر، أعني قوله: اعملوا على مكانتكم مبالغة في الوعيد، كأن المهدد يريد تعذيبه، مجمعا عليه، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه. وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر، كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصى عنه.

    وفي قوله تعالى: فسوف تعلمون مع الإنذار، إنصاف في المقال، وحسن الأدب، حيث لم يقل: (العاقبة لنا) وفوض الأمر إلى الله. وهذا من الكلام المنصف، كقوله تعالى: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين

    وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق.

    وفيه تبشير بأن العاقبة له.

    قال ابن كثير: وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه، فمكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته، في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين. كما [ ص: 2513 ] قال تعالى: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز وقال: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار وقال تعالى: فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد وقال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة.
    ثم بين تعالى نوعا من جهالات مشركي مكة وضلالاتهم، وهو ترجيحهم جانب الأصنام على جانبه سبحانه، بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [136] وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون

    وجعلوا لله مما ذرأ أي: خلق: من الحرث أي: الزرع: والأنعام نصيبا [ ص: 2514 ] يصرفونه إلى الضيفان والمساكين. أي: ولأصنامهم نصيبا يصرفونه إلى التنسك والسدنة. وإنما لم يذكر اكتفاء بما بعده.

    فقالوا هذا لله بزعمهم بالفتح والضم (وقال الشهاب: الزعم مثلث كالود). أي: هذا مستقر له الآن، من غير استقرار له في المستقبل العارض وهذا لشركائنا وهو مستقر لهم، بل يستقر لهم ما ليس لهم أيضا، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه كما قال تعالى: فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله. أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو للأصنام، أو هلاك مالها، فينفقون عليها، بذبح نسائك عندها، والإجراء على سدنتها، ونحو ذلك. وعللوا ذلك بأن الله غني، وهي محتاجة: ساء ما يحكمون أي: ما يقسمون؛ لأنهم أولا عملوا ما لم يشرع لهم، وضلوا في القسم؛ لأنه تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة، لم يحفظوها، بل جاروا فيها؛ إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية سفها.

    وقال المهايمي: ساء ما يحكمون أي: من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله، بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته، وعدم صلاحيتها للإلهية مع الحاجة.

    وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير.

    فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا [ ص: 2515 ] جعلوه لله، جعلوا ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى، فقال تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ الآية.

    قال ابن كثير: وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [137] وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون

    وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم أي: مثل ذلك التزيين، وهو تزيين الشرك في القسمة المتقدمة، زين لهم أولياؤهم من الشياطين ما هو أشد منه قبحا في باب القربان، وهو قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار، وإنما سميت الشياطين شركاء؛ لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل أولادهم، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم،: ليردوهم أي: يهلكوهم بالشرك وقتل الولد. من (الإرداء. وهو، لغة، الإهلاك). وليلبسوا عليهم دينهم أي: ليخلطوا عليهم ما هم عليه، بدين إبراهيم في ذبح إسماعيل عليهما السلام. أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به؛ لأنهم كانوا على دين إسماعيل. فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق ولو شاء الله ما فعلوه أي: فلا تحزن على هلاكهم بما يفعلونه؛ لأنه بمشيئة الله فذرهم وما يفترون أي: لأن له فيما شاءه حكما بالغة: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.

    تنبيه:

    شركاؤهم فاعل زين أخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم، واهتماما به؛ [ ص: 2516 ] لأنه موضع التعجب؛ لأنهم يقدمون الأهم، والذين هم بشأنه أعنى. وقرأ ابن عامر وحده: "زين" على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه، مفصولا بينهما بمفعوله. وقد زيف الزمخشري، عفا الله عنه، هذه القراءة، وعد ذلك من كبائر كشافه: حيث قال: وأما قراءة ابن عامر، فشيء لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجا مردودا، كما سمج ورد:


    زج القلوص أبي مزاده


    [ ص: 2517 ] فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف: "شركائهم" مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء - لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. انتهى.

    قال الناصر في "الانتصاف": لقد ركب الزمخشري متن عمياء، وتاه في تيهاء، وأنا أبرأ إلى الله، وأبرئ حملة كتابه، وحفظة كلامه، مما رماهم به، فإنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة، اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا، لا نقلا وسماعا، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في (شركائهم)، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب (أولادهم) بالقياس؛ إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معا فقرأه منصوبا. قال: وكانت له مندوحة من نصبه إلى جره بالإضافة، وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه. فهذا كله كما ترى ظن من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه، والفصيح سواه. ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها. يعلم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل، كما أنزلها عليه، ثم تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر [ ص: 2518 ] يتناقلونها، ويقرؤون بها، خلفا عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر، فقرأها أيضا كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. فإذا علمت العقيدة الصحيحة، فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشري، ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر، فإن المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعا وضرورة. ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين: أعني علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوي الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين. وإنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة، وزلة منكرة، تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة، فيها ما ليس متواترا، فإن هذا القائل لم يثبتها بغير النقل. وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأي، غير موقوفة على النقل، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين. وما حمله على هذا الخيال إلا التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية، فظنها قطعية، حتى يرد ما خالفها. ثم إذا تنزل معه اطراد القياس الذي ادعاه مطردا، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه. وذلك أن الفصل بين المضاف إليه، وإن كان عسرا، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله، فهو مقدر بالفعل، وبهذا التقدير عمل. وهو وإن لم تكن إضافته غير محضة، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة. حتى قال بعض النحاة: إن إضافته ليست محضة؛ لذلك فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره، وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر، وبين المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره، لما بيناه من انفكاكه في التقدير، وعدم توغله في الاتصال، بأن يفضل بينه وبين المضاف إليه، بما ليس أجنبيا عنه، وكأنه بالتقدير: فكه بالفعل، ثم قدم المفعول على الفاعل، أضافه إلى الفاعل، وبقي المفعول مكانه حين الفك. ويسهل ذلك أيضا تغاير حال المصدر؛ إذ تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة يضاف إلى المفعول. وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل، لوقوعه في غير مرتبته، إذ ينوي به التأخير، فكأنه لم يفصل. كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حل في غير رتبته؛ لأن النية به التأخير، وأنشد أبو عبيدة:

    [ ص: 2519 ]
    فداسهم دوس الحصاد الدائس


    وأنشد أيضا:


    يفركن حب السنبل الكنافج بالقاع فرك القطن المحالج


    ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول. ومما يقوي عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعا ونصبا. فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد، منظرة بشواهد من أقيسة العربية، تجمع شمل القوانين النحوية، لهذه القراءة. وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربية، بل تصحيح قواعد العربية بالقراءة. وهذا قدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما - والله الموفق - وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة، إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته، ولا مستبعد من القياس، ولم نفرده في الدلالة المذكورة. إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل، فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة - والله الموفق - انتهى كلام الناصر رحمه الله تعالى.
    ثم بين تعالى نوعا آخر من مفترياتهم بقوله:

    [ ص: 2520 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [138] وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون

    وقالوا هذه إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم، والتأنيث للخبر: أنعام وحرث حجر أي: حرام (والجمهور على كسر الحاء وسكون الجيم) فعل بمعنى مفعول، كالذبح والطحن، يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات. أي: محرمة علينا، أو محجرة علينا في أموالنا للأوثان. ويقرأ بضم الحاء.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #342
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2521 الى صـ 2535
    الحلقة (342)




    [ ص: 2521 ] لا يطعمها إلا من نشاء قال في "المدارك": كانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآتيناهم قالوا: لا يطعمها إلا من نشاء يعنون: خدم الأوثان، والرجال دون النساء.

    بزعمهم حال من فاعل (قالوا) أي: متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة.

    قال ابن كثير: وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون

    وأنعام أي: وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم: هذه أنعام: حرمت ظهورها يعنون بها البحائر والسوائب والحوامي: وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها أي: حالة الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام: افتراء عليه أي: على الله وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه، فإنه لم يأذن لهم في ذلك، ولا رضيه منهم سيجزيهم بما كانوا يفترون أي: عليه، ويسندون إليه. وفيه وعيد وتهديد.
    ثم بين تعالى فنا آخر من ضلالهم بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [139] وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم

    وقالوا ما في بطون هذه الأنعام يعنون أجنة البحائر والسوائب: خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا يعنون أنه حلال للذكور دون الإناث، إن ولد حيا لقوله سبحانه: وإن يكن أي: ما في بطونها: ميتة فهم فيه شركاء فالذكور والإناث فيه سواء.

    وفي رواية العوفي عن ابن عباس أن المعني ب (ما في بطونها) هو اللبن. كانوا يحرمونه [ ص: 2522 ] على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه. وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء.

    وقال الشعبي: البحيرة، لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. وكذا قال عكرمة وقتادة وابن أسلم.

    سيجزيهم وصفهم أي: بالتحليل والتحريم على سبيل التحكم ونسبته إلى الله تعالى: إنه حكيم عليم أي: حكيم في أفعاله وأقواله وشرعه، عليم بأعمال عباده من خير أو شر، وسيجزيهم عليها.

    تنبيه:

    قال السيوطي في "الإكليل": استدل مالك بقوله: خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون البنات، وأن ذلك الوقف يفسخ، ولو بعد موت الواقف؛ لأن ذلك من فعل الجاهلية. واستدل به بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة. انتهى.

    لطائف:

    (التاء) في: خالصة إما للنقل إلى الاسمية، أو للمبالغة، أو لأن (الخالصة) مصدر كالعافية، وقع موقع (الخالص) مبالغة، أو بحذف المضاف. أي: ذو خالصة، أو للتأنيث بناء على أن (ما) عبارة عن الأجنة. والتذكير في (محرم) باعتبار اللفظ. وقرئ (خالصة) بالنصب على أنه مصدر مؤكد، والخبر: لذكورنا . ووصفهم واقع موقع مصدر: سيجزيهم بتقدير مضاف. أي: جزاء وصفهم بالكذب عليه تعالى في التحريم والتحليل من قوله تعالى: وتصف ألسنتهم الكذب

    [ ص: 2523 ] قال الشهاب: وهذا من بليغ الكلام وبديعه، فإنهم يقولون: وصف كلامه الكذب، إذا كذب، وعينه تصف السحر، أي: ساحرة، وقد يصف الرشاقة، بمعنى رشيق، مبالغة. حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له. قال المعري:


    سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [140] قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين

    قد خسر الذين قتلوا أولادهم يعني: وأد بناتهم خشية السبي أو الفقر: سفها بغير علم لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم، لا هم.

    وحرموا ما رزقهم الله من البحائر والسوائب ونحوهما: افتراء على الله قد ضلوا عن الصراط المستقيم وما كانوا مهتدين أي: إلى الحق والصواب.

    قال الشهاب: وفي قوله: وما كانوا مهتدين بعد قوله: قد ضلوا مبالغة في نفي الهداية عنهم؛ لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال، بعد أن لم يكن. فلذا أردف بهذه الحال، لبيان عراقتهم في الضلال، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض.

    [ ص: 2524 ] تنبيه:

    حمل كثير من المفسرين (الخسران) على ما يشمل الدارين. أما الدنيا فخسروا منافع أولادهم، وثمرة ما خلقوا له. وكذا منافع أنعامهم بما ضيقوا وحجروا فيها ابتداعا. وأما الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل. وهذا التعميم -وإن كان حقا- إلا أن الأظهر حمله على الآخرة، توفيقا بين النظائر، كقوله تعالى: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

    روى الحافظ ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: قد خسر الذين قتلوا أولادهم الآية. - وهكذا رواه البخاري في "مناقب قريش" من "صحيحه".
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [141] وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

    وقوله تعالى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. أي: هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم، لتعبدوه وحده، فخلق لكم بساتين من الكروم وغيرها معروشات، أي: مسموكات بما عملتم لها من الأعمدة. يقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان وغير معروشات متروكات على وجه الأرض لم تعرش "و" أنشأ: النخل المثمر لما هو فاكهة وقوت [ ص: 2525 ] والزرع المحصل لأنواع القوت: مختلفا أكله أي: ثمره وحبه في اللون والطعم والحجم والرائحة والزيتون والرمان متشابها في اللون والشكل، ورقهما: وغير متشابه في الطعم: كلوا من ثمره إذا أثمر أي: كلوا من ثمر كل واحد مما ذكر، إذا أدرك.

    قال الرازي: لما ذكر تعالى كيفية خلقه لهذه الأشياء، ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها، وهو انتفاع المكلفين بها، فقال: كلوا من ثمره واختلفوا ما الفائدة منه؟ فقال بعضهم: الإباحة. وقال آخرون: بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق؛ لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله، لمكان شركة المساكين فيه، بل هذا هو الظاهر. فأباح تعالى هذا الأكل، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعا من هذا التصرف. وقال بعضهم: بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل، وإما التصدق، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق؛ لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير. قال تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك انتهى.

    وآتوا حقه يوم حصاده قرئ بفتح الحاء وكسرها. وهذا أمر بإيتاء من حضر يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة المفروضة - وهكذا قال عطاء - أي: لأن السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة. وكذا قال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه. وفي رواية عنه: عند الحصاد يعطي القبضة، وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم يتبعون آثار الصرام. وهكذا روي عن نافع وإبراهيم النخعي وغيرهم. وعند هؤلاء أن هذا الحق. [ ص: 2526 ] باق لم ينسخ بالزكاة، فيوجبون إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية. ومما يؤيده أنه تعالى ذم الذي يصرمون ولا يتصدقون، حيث قص علينا سوء فعلهم وانتقامه منهم. قال تعالى في سورة (ن): إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم أي: كالليل المدلهم، سوداء محترقة فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين الآيات.

    وذهب بعضهم إلى أن هذا الحق نسخ بآية الزكاة، حكاه ابن جرير عن ابن عباس وثلة من التابعين. قال ابن كثير: في تسمية هذا نسخا نظر؛ لأنه قد كان شيئا واجبا. ثم إنه فسر بيانه وبين مقدار المخرج وكميته. انتهى.

    ولا نظر، لما عرفت في المقدمة من تسمية مثل ذلك نسخا عند السلف، ومر قريبا أيضا، فتذكر!

    وذهب بعضهم إلى أن الآية مدنية، ضمت إلى هذه السورة في نظائر لها، بيناها أول السورة، وأن الحق هو الزكاة المفروضة. روي عن أنس وابن عباس وابن المسيب.

    والأمر بإيتائها يوم الحصاد، للمبالغة في العزم على المبادرة إليه. والمعنى: اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه، واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. قال الحاكم: وقيل: إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفا على الأرباب، فلا يحسب عليهم ما أكل قبله.

    [ ص: 2527 ] وقد روى العوفي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يخرج مما حصد شيئا، فقال تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد، وما يلقط الناس من سنبله.

    وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جاد عشرة أوسق من التمر، بقنو يعلق في المسجد للمساكين» .

    قال ابن كثير: إسناده جيد قوي.

    تنبيه:

    قال في "الإكليل": استدل بالآية من أوجب الزكاة في كل زرع وثمر، خصوصا الزيتون والرمان المنصوص عليهما. ومن خصها بالحبوب، قال: إن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليهما. وفيها دليل على أن الزكاة لا يجب أداؤها قبل الحصاد. واستدل بها أيضا على أن الاقتران لا يفيد التسوية في الأحكام؛ لأنه تعالى قرن الأكل، وهو ليس بواجب اتفاقا، بالإيتاء، وهو واجب اتفاقا. انتهى.

    وقوله تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين النهي عن الإسراف، إما في التصدق، أي: لا تعطوا فوق المعروف. قال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ثم تبادروا فيه وأسرفوا، فنزلت: ولا تسرفوا وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. جد نخلا له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة، فنزلت. ولذا قال السدي: أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وإما في الأكل قبل الحصاد، وهذا عن أبي مسلم قال: ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وإما في كل شيء، قال عطاء: نهوا عن السرف في كل شيء. [ ص: 2528 ] وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله، فهو سرف. اختار ابن جرير قول عطاء. قال ابن كثير: ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية، حيث قال تعالى: كلوا من ثمره إذا أثمر أن يكون عائدا على الأكل. أي: لا تسرفوا في الأكل، لما فيه من مضرة العقل والبدن، كقوله تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا الآية..

    وفي صحيح البخاري تعليقا: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة. وهذا من هذا - والله أعلم - انتهى.
    وقد جنح إلى هذا المهايمي في تفسيره حيث قال: ولا تسرفوا في أكلها لئلا يبطل، باستيفاء الشهوات، معنى المزرعة.
    ثم بين تعالى حال الأنعام، وأبطل ما تقولوا عليه في شأنها بالتحريم والتحليل، بقوله:

    [ ص: 2529 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [142] ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين

    ومن الأنعام حمولة وفرشا أي: وأنشأ لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح (أي: يضجع) أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش.

    وعن ابن عباس: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغير كالفصلان والعجاجيل والغنم; لأنها دانية من الأرض، للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها. فعلى الوجهين الأولين: الفرش بمعنى المفروش، وعلى الثالث: الكلام على التشبيه.

    كلوا مما رزقكم الله أي: من الثمار والزروع والأنعام، لحفظ الروح، واستزادة القوة.

    ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي: أوامره في التحليل والتحريم، كما اتبعها أهل الجاهلية، فحرموا ما رزقهم الله افتراء عليه - كما مر -.

    إنه لكم عدو مبين أي: ظاهر العداوة، يمنعكم مما يحفظ روحكم، ويزيد قوتكم، ويدعوكم إلى الافتراء على الله إن نسبتموه إلى أمره، أو إلى دعوى الإلهية لكم إن استقللتم به.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [143] ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين

    وقوله تعالى: ثمانية أزواج بدل من: حمولة وفرشا أو مفعول (كلوا). [ ص: 2530 ] (ولا تتبعوا) معترض بينهما، أو فعل دل عليه، أو حال من (ما) بمعنى مختلفة أو متعددة. والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه. قال تعالى: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى وقد يقال لمجموعهما، والمراد الأول.

    من الضأن زوجين: اثنين الكبش والنعجة: ومن المعز اثنين التيس والعنز قل أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب: آلذكرين من الضأن والمعز: حرم الله عليكم أيها المشركون: أم الأنثيين منهما: أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أي: أم ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى، كما قالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية.
    نبئوني بعلم أي: بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين، والنوعين الآتيين. قاله المهايمي.
    إن كنتم صادقين أي: في دعوى التحريم.
    وفي قوله تعالى: نبئوني بعلم تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [144] ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين

    ومن الإبل اثنين عطف على قوله تعالى: من الضأن اثنين أي: وأنشأ من [ ص: 2531 ] الإبل اثنين هما الجمل والناقة ومن البقر اثنين ذكرا وأنثى قل أي: إفحاما لهم أيضا في هذين النوعين: آلذكرين منهما: حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أي: من ذينك النوعين. والمعنى إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك. وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها - للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم. فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى. مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه. وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعي الصغار ونوعي الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث - لما في التثنية والتكرير من المبالغة في التبكيت والإلزام. أفاده أبو السعود.

    ثم كرر الإفحام بقوله تعالى: أم كنتم شهداء حاضرين: إذ وصاكم الله بهذا أي: حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله. وهذا من باب التهكم: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم: ليضل الناس بغير علم أي: دليل. إن الله لا يهدي القوم الظالمين قال ابن كثير: أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي. كما ثبت ذلك في الصحيح.

    [ ص: 2532 ] وقال أبو السعود: المراد كبراؤهم المقرون لذلك. أو عمرو بن لحي وهو المؤسس لهذا الشر. أو الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه، سبحانه وتعالى.

    لطيفة:

    قال الزمخشري: فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبي من المعدود. وذلك أن الله عز وجل من على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم. فاعترض بالاحتجاج على من حرمها. والاحتجاج على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل. والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد. انتهى.

    تنبيه:

    دلت الآية على إباحة أكل لحوم الأنعام. وذلك معلوم من الدين ضرورة. وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود. وعلى رد ما كانت الجاهلية تحرمه بغير علم.

    قال المؤيد بالله: ويدخل الإنسي والوحشي في قوله: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ورد بأن قوله تعالى: ثمانية أزواج بيان للأنعام. والأنعام لا تطلق على الوحشي. أفاده بعض مفسري الزيدية.
    ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت - بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه:

    [ ص: 2533 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [145] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم

    قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما أي: طعاما محرما من المطاعم: على طاعم أي: أي: طاعم كان من ذكر أو أنثى. ردا على قولهم: محرم على أزواجنا وقوله: يطعمه لزيادة التقرير: إلا أن يكون أي: ذلك الطعام: ميتة قال المهايمي: والموت سبب الفساد. فهو منجس، إلا أن يمنع من تأثيره مانع من ذكر اسم الله، أو كونه من الماء، أو غيرهما: أو دما مسفوحا أي: سائلا لا كبدا أو طحالا: أو لحم خنـزير فإنه رجس لتعوده أكل النجاسات: أو فسقا أي: خروجا عن الدين الذي هو كالحياة المطهرة: أهل لغير الله به أي: ذبح على اسم الأصنام ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله. وإنما سمي (ما أهل به لغير الله) فسقا، لتوغله في باب الفسق، ومنه قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق فمن اضطر أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر: غير باغ أي: على مضطر مثله، تارك لمواساته: ولا عاد متجاوز قدر حاجته من تناوله: فإن ربك غفور رحيم لا يؤاخذه. وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه كفاية.

    تنبيهات:

    الأول: قال ابن كثير: الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوا من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فأمر تعالى رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم. وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها. [ ص: 2534 ] وما عدا ذلك فلم يحرم. وإنما هو عفو مسكوت عنه. فكيف تزعمون أنه حرام؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه تعالى؟ وعلى هذا، فلا ينفي تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا. كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير - انتهى - وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره. ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر، كالموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة وغيرها. وذلك لأن هذه السورة مكية. فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضا، طارئ. قيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخا لما اقتضته هذه الآية من تحليله. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية. فصح تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير. ومن الناس من يسمي هذا نسخا بالمعنى السلفي. وقد بيناه مرارا.

    قال بعض الزيدية: وقد تعلق ابن عباس بالآية في تحليل لحم الحمر الأهلية. وعائشة في لحوم السباع. وعكرمة في إباحة كل شيء سوى ما في الآية. وعن الشعبي; أنه كان يبيح لحم الفيل ويتلو هذه الآية.

    ولا تعلق لجميعهم بالآية؛ لأنه تعالى بين ما يحرم في تلك الأحوال. انتهى.

    وقال السيوطي في "الإكليل": احتج بها كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها. فمن ذلك الحمر الأهلية، أخرجه البخاري عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن يزيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهلية. فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة. ولكن أبى ذلك البحر (ابن عباس) وقرأ: [ ص: 2535 ] قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية.

    وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ؟ فقرأ: قل لا أجد الآية.. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره. بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؟ تلت: قل لا أجد الآية.

    وأخرج عن ابن عباس أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه قل لا أجد الآية.. انتهى.

    وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا. فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه. فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو معفو. وتلا: قل لا أجد الآية..

    وذكرنا ضعف التعلق بهذه الآية على ما ذهبوا إليه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #343
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2536 الى صـ 2550
    الحلقة (343)





    قال في "فتح البيان": معنى الآية أنه تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرما غير هذه المذكورات. فدل على انحصار المحرمات فيها، لولا أنها مكية. وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع [ ص: 2536 ] وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب، ونحو ذلك.

    بالجملة، فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات، كما يدل عليه السياق ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات. وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة; أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك. وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها، مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول هذه الآية. بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه. وقول جابر: (لكن أبى ذلك البحر ابن عباس) في رواية البخاري المتقدمة، أقول: وإن أبى ذلك البحر؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف. انتهى كلام الفتح.

    وفي "نيل الأوطار": الاستدلال بهذه الآية إنما يتم في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها. وأما الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك. والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل، وعلى القياس. وأيضا الآية مكية. انتهى.

    وقد ثبت عن ابن عمر رجوعه عن التعلق بعمومها.

    روى سعيد بن منصور والإمام أحمد وأبو داود عن نميلة الفزازي قال: كنت [ ص: 2537 ] عند ابن عمر، وإنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ عليه: قل لا أجد .. الآية. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خبيث من الخبائث. فقال ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال.

    أي: والخبائث محرمة بنص القرآن، فهو مخصص لعموم هذه الآية.

    وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه حلالا استحللناه. وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

    ولأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه. وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم (لحم) الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه. فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه. (أي: يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى).

    هذا والزمخشري فسر محرما ب (طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها) وجعل الاستثناء منقطعا. أي: لا أجد ما حرمتموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر حتى ترد المحرمات الأخر؛ إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر. وغير الزمخشري لم يقيده بما ذكر؛ لأن الأصل الاتصال وعدم التقييد وأولوها بما قدمنا قبل. وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا. بمعنى: لا أجد [ ص: 2538 ] شيئا من المطاعم المحرمات في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة؛ فإني أجد حينئذ محرما. فالمصدر للزمان أو الهيئة. وفيه أن المصدر المؤول من (أن والفعل) لا ينصب على الظرفية. ولا يقع حالا؛ لأنه معرفة. والله أعلم.

    الثاني: في قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما إيذان التحريم إنما بالوحي لا بالهوى. قال الشهاب: كنى بعدم الوجدان عن عدم الوجود. ومبنى هذه الكناية على أن طريق التحريم التنصيص منه تعالى. وتفسيره بمطلق الوحي استظهروه. ولذا قال: أوحي ولم يقل: أنزل.

    الثالث: قال السيوطي في "الإكليل": استدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: على طاعم يطعمه على أنه إنما حرم من الميتة أكلها. وأن جلدها يطهر بالدبغ. فأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله! ماتت فلانة (يعني الشاة) فقال: فلولا أخذتم مسكها؟ فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قال الله عز وجل: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنكم لا تطعمونه. إن تدبغوه تنتفعوا به. فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة، حتى تخرقت عندها.

    الرابع: استدل بقوله تعالى: مسفوحا على إباحة غيره؛ وذلك لأن الدم المسفوح هو ما سال من الحيوان في حال الحياة، أو عند الذبح - لا كالكبد والطحال - وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل. قال عمران بن جدير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس بذلك! إنما نهي عن الدم المسفوح.

    [ ص: 2539 ] وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ، إلا المسفوح.

    وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود.
    ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة، تحقيقا لافتراء المشركين فيما حرموه، إذ لم يوافق شيئا مما أنزله تعالى، فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [146] وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون

    وعلى الذين هادوا أي: اليهود خاصة: حرمنا كل ذي ظفر قال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع - كالجمل والوبر والأرنب - فإنها من ذوات الأظفار الغير المشقوقة - أي: المنفرجة - وأما ذو الظفر المشقوق وهو يجتر من البهائم، فلم يحرم عليهم.

    ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما لا لحومهما: إلا ما حملت ظهورهما يعني: ما علق بالظهر من الشحوم: أو الحوايا أي: الأمعاء والمصارين - أي: ما حملته من الشحوم -: أو ما اختلط بعظم كالمخ والعصعص: ذلك أي: تحريم تلك الأطايب عليهم: جزيناهم ببغيهم بسبب ظلمهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق، وأكلهم الربا - وقد نهوا عنه - وأكلهم أموال الناس بالباطل كقوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا

    قال المهايمي: أي: ولم يكن لغيرهم ذلك البغي، فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها أطايب في أنفسها.

    وإنا لصادقون أي: في جميع أخبارنا التي من جملتها هذا الخبر; وهو تخصيص التحريم بهم، لبغيهم. [ ص: 2540 ] قال ابن جرير: لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه.

    قال أبو السعود: ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [147] فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين

    فإن كذبوك الضمير إما لليهود لأنهم أقرب ذكرا، ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك; وإما للمشركين، وإما للفريقين. أي: فإن كذبتك اليهود في التخصيص وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ، وأصروا على ادعاء قدم التحريم; في أو المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم، أو هما فيما ادعيا: فقل ربكم ذو رحمة واسعة يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل: ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين أي: ومع رحمته فهو ذو بأس شديد. وفيه ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة، وذلك في اتباع رضوانه، وترهيب من المخالفة.

    وليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة - ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله - أخبر تعالى عنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا. وفائدة الإخبار بما سوف يقولونه، توطين النفس على الجواب، ومكافحتهم بالرد، وإعداد الحجة قبل أوانها، فقال تعالى:
    [ ص: 2541 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [148] سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون

    سيقول الذين أشركوا يعني مشركي قريش والعرب: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغيرهما: كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي: حتى أنزلنا عليهم العذاب: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا: إن تتبعون إلا الظن أي: فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرمتم: وإن أنتم إلا تخرصون تكذبون.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [149] قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

    قل فلله الحجة البالغة البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات. ومنه: (أيمان بالغة) أي: مؤكدة. أو (البالغة) التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه فهي (كعيشة راضية) فلو شاء لهداكم أجمعين أي: ولكنه لم يشأ ذلك. بل شاء هداية بعض صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق. وضلال آخرين صرفوا كسبهم إلى خلاف ذلك، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه.

    قال الإمام أبو منصور الماتريدي في "تأويلاته": قيل: الآية في مشركي العرب. قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء. وأضافوا [ ص: 2542 ] ذلك إلى الله، وهو صلة قوله: ثمانية أزواج - إلى قوله -: أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول: لو شاء الله ما أشركنا . انتهى.

    والقصد: الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال. أي: ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل، ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق؛ لأنه قادر. فلو لم يكن حقا يرضاه لمنعنا منه. وهو لم يمنعنا منه فهو حق. وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جدا..!

    تنبيه:

    هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها.

    فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر، كما تبجح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في "تفسيره" وقال: إن فيها تكذيبا ظاهرا لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه; وكذا الزمخشري في "تفسيره".

    [ ص: 2543 ] ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية، الإيمان بأن: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد.!

    وقد خالف في ذلك عامة القدرية - الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة - فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد. فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى. ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة. تبرأ منهم الصحابة. وأصل بدعتهم - كما قال ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه. وسنبين تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها - بعونه تعالى - بعدة وجوه فنقول:

    قالوا: إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى. ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا، ولما صدر عنا تحريم المحللات فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم. ثم إنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها وأوعدهم عليها وعيدا شديدا. فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك، على ما تضيفون أنتم، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعدهم؟

    قلنا: إن المشيئة في الآية تتخرج على وجوه:

    أحدها: ما قال الحسن والأصم - إن المشيئة ههنا الرضا - فمرادهم: أن الله رضي بفعلنا وصنيعنا - حيث فعل آباؤنا ما فعلنا - فلم يحل الله بينهم وبين ذلك، ولا أخذ على أيديهم، ولا منعهم عن ذلك; فلو لم يرض بذلك عنهم لكان يمنعهم عنه!

    قال أبو منصور: وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيما كانوا فيه، أنهم كانوا يخوفون بالهلاك والعذاب على صنيعهم، ثم رأوا آباءهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أن الله رضي بذلك.

    [ ص: 2544 ] وبالجملة، أرادوا بقولهم ذلك. أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله. ولما كانت حجتهم داحضة باطلة - لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام - قال تعالى: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: بأن الله راض عليكم فيما أنتم فيه! وهذا من التهكم والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة.

    وفي "الوجيز": الحاصل أن المشركين اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضي والمشيئة، كما اعتقدت المعتزلة، فاحتجوا على حقية الإشراك. وينادي على ذلك قوله: كذلك كذب فإنه لو كان المراد أن ذلك ليس بمشيئة الله تعالى لقال (كذلك كذب) بالتخفيف لا التشديد. وهذه الآية - عند من له أذن واعية - تصيح على المعتزلة بالويل والثبور، لكن في آذانهم وقر، ومن لم يهده الله فلا هادي له. انتهى.

    الوجه الثاني: إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك. أي: يقولون: إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها فرد تعالى عليهم بقوله: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء

    الوجه الثالث: إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دافعا لدعوته صلى الله عليه وسلم، وتعللا لعدم إجابته وانقياده، لا تفويضا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى. فما صدر عنهم كلمة حق أريد بها باطل. ولذلك ذمهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباعه والمتابعة، فقال: كذلك كذب بالتشديد، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك، وإلا لقال (كذلك كذب) بالتخفيف، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق.

    وقال آخر: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم. فالعتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم، إنما كان لاستهزائهم.

    [ ص: 2545 ] كما ذكر في قوله تعالى: ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا وهي كلمة حق. لكن قالها استهزاء فلحقه الذم.

    وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في "المواقف" وقرره أيضا أبو منصور في "تأويلاته".

    قال الحسن بن الفضيل: لو قالوا هذه المقالة تعظيما لله وإجلالا له ومعرفة بحقه وبما يقولون، لما عابهم بذلك. ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيبا وجدلا. من غير معرفة بالله وبما يقولون.

    الوجه الرابع: ما يستفاد من قول الإمام: إن في كلام المشركين مقدمتين:

    إحداهما: أن الكفر بمشيئة الله تعالى.

    والثانية: أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. وما ورد من الذم والتوبيخ إنما هو على الثانية، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام، وإن كان لا يهدي إلا من يشاء.

    الوجه الخامس: إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتو.

    قال البقاعي في قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم أي: بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم: إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثا، فكانت دعوى الأنبياء باطلة. وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام، لا يسأل عما يفعل.

    وقال الإمام القاشاني قدس الله سره، في قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم أي: كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله، عنادا وعتوا، فعذبوا بكفرهم.

    ثم قال في قوله تعالى: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: إن كان لكم [ ص: 2546 ] علم بذلك وحجة، فبينوا. وإنما قال ذلك، إشارة إلى قولهم: لو شاء الله ما أشركنا لأنهم لو قالوا ذلك عن علم لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء لا يقع إلا بإرادة الله. فلم يعادوهم ولم ينكروهم بل والوهم، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف. ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علم، لما كانوا مشركين بل كانوا موحدين، ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك، وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزاما لهم وإثباتا لعدم امتناعهم عن الرسل؛ لأنهم محجوبون في مقام النفس. وأنى لهم اليقين؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله؟ وقوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة أي: إن كان ظنكم صدقا في تعليق شرككم بمشيئة الله، فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين، لكون كل دين حينئذ بمشيئة الله، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم، بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم، بمن لا يقع أمر إلا بإرادته، ما لا أثر لإرادته أصلا. فأنتم أشقياء في الأزل مستحقون للبعد والعقاب. وقوله تعالى: فلو شاء لهداكم أجمعين أي: بلى، صدقتم. ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم، فبأي شيء علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن. انتهى.

    الوجه السادس: ما في "لباب التأويل" من أنه قيل في معنى الآية: أنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة - وهو قولهم: لو شاء الله ما أشركنا - إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم، ويجعلونه حجة لهم في ترك الإيمان، والرد عليهم في ذلك: أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته; فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به، ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمره بالإيمان. وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع. فالحاصل: أنه [ ص: 2547 ] تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسد باطل؛ فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام. انتهى.

    الوجه السابع: ما قرره الناصر في "الانتصاف": إن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وإن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك. فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم - عدم الاختيار لأنفسهم - وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل. وأشرك بالله، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة. ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم، بقوله: فلله الحجة البالغة . ثم أوضح تعالى أن كل واقع بمشيئته، وإنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم. وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله: فلو شاء لهداكم أجمعين : والمقصود من ذلك: أن يتمحض وجه الرد عليهم، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة، وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد; وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم، وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة. بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها. وهم الفرقة المعروفون ب (المجبرة). والزمخشري يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة؛ لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية. فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة، ويجعله لقبا عاما لأهل السنة. وبإجماع الرد على المجبرة - الذين ميزناهم عن أهل السنة - في قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا - إلى قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة وتتمة الآية رد صراح على (طائفة الاعتزال) القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين. فلم تقع من أكثرهم! ووجه الرد: أن (لو) إذا دخلت على فعل [ ص: 2548 ] مثبت نفته; فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال: فلو شاء لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم. ولو شاءها لوقعت. فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم. فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين - المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها - فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها؛ فإن أولها - كما بينا - يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ الله في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، خيرا أو غيره. وذلك عين عقيدتهم؛ فإنهم - كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة - يسلبون تأثيرها، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره. ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده. فهم - كما رأيت- تبع للكتاب العزيز: يثبتون ما أثبت، وينفون ما نفى، مؤيدون بالعقل والنقل. والله الموفق. انتهى.

    وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قيل له: إن ناسا يقولون: ليس الشر بقدر. فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: سيقول الذين أشركوا - إلى قوله: فلو شاء لهداكم أجمعين .

    وبتحقيق هذه الوجوه يسقط قول الطبرسي المعتزلي: لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر - من أن الله تعالى شاء منهم الكفر - لكانت الحجة للكفار على الله، من حيث فعلوا ما شاء الله، ولكانوا بذلك مطيعين له؛ لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد، ولا تكون الحجة لله عليهم على قولهم، من حيث إنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر. فأي حجة له عليهم مع ذلك؟ انتهى.

    وكذا قول الزمخشري: ما حكي عن المشركين كمذهب المجبرة بعينه. ولذا قال النحرير: نعم! هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله. لكن الكفرة يحتجون بذلك على حقية [ ص: 2549 ] الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح. وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر، على ما هو مذهب القدرية: من عدم التفرقة بين المأمور والمراد، وأن كل ما هو مراد لله فهو ليس بمعصية منهي عنها. والمجبرة - اعتقدوا أن الكل بمشيئة الله - لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد، ويعفو عن بعضها بحكم الوعد. فهم - في ذلك - يصدقون الله فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء. والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى. انتهى.

    فصل

    قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي رحمه الله في كتابه: "طريق الهجرتين" بعد أن أطال في سرد أحاديث القدر وآثاره، ما نصه:

    فالجواب أن ههنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك، زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء.

    فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة، فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس. وما لم يشأ لم يكن، وإن شاء الناس. وهذه الآثار - التي كلها تحقق هذا المقام - تبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه. وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله.

    وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على الله، وحمل العبد ذنبه على ربه، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء، حتى يقول قائل هؤلاء:


    ألقاه في اليم مكتوفا وقال له: إياك! إياك! أن تبتل بالماء


    [ ص: 2550 ] ويقول قائلهم:


    دعاني وسد الباب دوني. فهل إلى دخولي سبيل؟ بينوا لي قصتي


    ثم ساق - رحمه الله - قصصا غريبة في ذلك، ثم قال:

    وسمعته - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يقول:

    القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة: نفاة القدر وهم (القدرية المجوسية). والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا وهم (القدرية المشركية). والمخاصمون به للرب سبحانه وتعالى وهم أعداء الله وخصومه وهم (القدرية الإبليسية) وشيخهم إبليس. وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: فبما أغويتني . ولم يعترف بالذنب ويبؤ به كما اعترف به آدم. فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة؛ لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للرب وتعظيما له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب. ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة. بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه. ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة. فأتى بطرار (وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستل ما فيها). أحول. فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر - يعني سوطا - فقال له بعض الحاضرين - ممن ينفي الجبر - بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا: خمسة عشر لطره ومثلها لحوله. فقال الجبري: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك.. فبهت الجبري.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #344
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2551 الى صـ 2565
    الحلقة (344)






    [ ص: 2551 ] وأما (القدرية الإبليسية والمشركية) فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسوله، لا يقر بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخه الذين قال الله فيهم: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ، وقال تعالى: وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين وقال تعالى: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون وقال: وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين فهذه أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.

    وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق:

    الفرقة الأولى: جعلت هذه الحجة حجة صحيحة، وأن للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: (فرقة) كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد، بعد هذا، يكون ظلما، والله لا يظلم من خلقه أحدا! و (فرقة) صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم. والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده. إذ العبد فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا [ ص: 2552 ] هذه المقالة - التي حكاها الله عنهم - استهزاء منهم، ولو قالوا - اعتقادا للقضاء والقدر، وإسنادا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته - لم ينكر عليهم. ومضمون قول هذه الفرقة إن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد - لا على جهة الاستهزاء - فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا.

    الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة؛ إذ لو صحت المشيئة العامة - وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان - لكانوا قد قالوا الحق، وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم. فحيث وصفه بالخرص - الذي هو الكذب - ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه; إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به، ولم يقل لهم: هل عندكم من علم.

    وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، وإنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة، ولا على أفعال الحيوانات. وإنه لا يقدر أن يضل أحدا، ولا يهديه، ولا يوافقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر، ولا يلهمه رشده، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي جعل المصلي مصليا والبر برا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا. بل هم جعلوا أنفسهم كذلك.

    فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر. فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع. والثانية تحيزت إلى الشرع، وكذبت القدر. والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى.

    و (الفرقة الثالثة): آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي. ونزلوا كل واحد منزله: فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهي يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر - عندهم - من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. والقيام بالأمر [ ص: 2553 ] والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر، ويقم بالأمر والنهي فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين: (فرقة) قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك. فجعلوا مشيئته له وتقديره له، دليلا على رضاه به ومحبته له؛ إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم. فإن الحكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه. دفعه ومنع من وقوعه. وإذا لم يمنع من وقوعه، لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته. وكلاهما ممتنع في حق الله. فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به.

    وقد وافق هؤلاء من قال: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها. ولكن خالفهم في أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر.

    وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وإن مشيئة الله تعالى وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره.

    وهؤلاء المشركون - لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه - كذبهم وأنكر عليهم، وأخبر أنه لا علم لهم بذلك، وأنهم خارصون مفترون. فإن محبة الله للشيء ورضاه به، إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله، لا بمجرد خلقه. فإنه خلق إبليس وجنوده - وهم أعداؤه - وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه. فهكذا في الأفعال. خلق خيرها وشرها وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه. ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه. وكلاهما خلقه. ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه، من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته.

    وقالت الفرقة الثانية: إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر، ودفع الأمر بالمشيئة. فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره. فجعلوا القضاء والقدر [ ص: 2554 ] إبطالا لدعوة الرسل، ودفعا لما جاءوا به. وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقولهم، وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي.

    فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم، إما في جميع تركتهم، وإما في كثير منها، وإما في جزء منها. وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها، وأنه يهدي من يشاء بعدله وحكمته، وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه، وأنه حال بين الكفار وقلوبهم - فإنه يحول بين المرء وقلبه - فكفروا به. ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون .

    و (القضاء والقدر) عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى:

    الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.

    الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض.

    الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه.

    الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. [ ص: 2555 ] فالخالق - عندهم - واحد وما سواه فمخلوق. ولا واسطة - عندهم - بين الخالق والمخلوق. ويؤمنون - مع ذلك - بحكمته، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه. وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه. وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره - كما تقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها - بل هي أمر وراء ذلك، هي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدر فهدى، وأمات وأحيا، وأشقى وأضل وهدى، ومنع وأعطى. وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات، وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة. فنفي الوسيلة - وهي الفعل - لازم لنفي الغاية وهي الحكمة. ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة; إذ فعل لا يقوم بفاعله، وحكمة لا تقوم بالحكيم - شيء لا يعقل. وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته. وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه، وإن أبى التزامه. وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل، لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق، كائنا ما كان. والمقصود: أن ورثة الرسل وخلفاءهم - لكمال ميراثهم لنبيهم - آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحدودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا - مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد: فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة. وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب; فصدقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما - كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر - وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي، و: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

    واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة، لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق [ ص: 2556 ] ولب العالم، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال؛ فإن القدرية تؤمن بلفظ (القدر)، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر. وكذلك (الحكمة) فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى، فهي - عندهم - وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة، ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم، ويجعلونها مخلوقا من مخلوقاته، كما قالوا في كلامه وإرادته. فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ (الحكمة) وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك (الأمر) و (الشرع) فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئا ولا يبغض شيئا، وجميع الكائنات محبوبة له، وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية. ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل، ولكن مشى الحال بعض الشيء بتناقضهم، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها.

    والمقصود: أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد، حقيقة الإيمان، إلا أتباع الرسل وورثتهم.

    والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته. ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله. واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر.

    ولهذا، كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم [ ص: 2557 ] الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى، وصرحت بأن الله لا يقدر عليها. فأنكر هؤلاء قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه. وقابلهم الجبرية: فجاءت على إثبات القدرة والعلم، وأنكرت الحكمة والرحمة.

    ولهذا، كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته. ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيرا كقوله: وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم وقال: تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم وقال: حم تنـزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقال في (حم فصلت، بعد ذكر تخليق العالم): ذلك تقدير العزيز العليم ، وذكر نظير هذا في (الأنعام) فقال: فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته. وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه. وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه. وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره، حكيم في خلقه وأمره. ولهذا كان (الحكيم) من أسمائه الحسنى. فالحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول [ ص: 2558 ] المبعوث بها مبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة هي سنة الرسول، وهي تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به. فكل هذا يسمى حكمة. وفي الأثر: الحكمة ضالة المؤمن. وفي الحديث: «إن من الشعر لحكمة» . فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده. وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره. فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة، والله أعلم. انتهى.

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في خلال بعض فتاويه، في حقيقة الاحتجاج بالقضاء والقدر، ما نصه:

    وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية. حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا الآية. فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد - الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له - وهم يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء، ما بقي عندهم من فرق، من جهة الله تعالى، بين مأمور ومحظور فقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء وهذا حق؛ فإن الله لو شاء أن لا يكون هذا لم يكن. ولكن أي فائدة لهم في هذا؟ غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر، ولا يلزم إذا كان مقدرا أن يكون [ ص: 2559 ] محبوبا مرضيا لله. ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه، بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص. انتهى.

    وقال بعض المحققين في حقيقة العقيدة:

    ثبت بالبرهان أن قدرة الله تعالى متصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار. وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة، ووجوه النظام. وأنه خالق كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله. ومن الممكنات التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم، يعمل بقدرته ما تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه، وهو الإنسان. وهذا - عند البعض - هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله وبدائع أسراره فيها، ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه. ولا يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آنا بعد آن، ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا الله تعالى. والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم السلام. ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك. حاشاه.

    قال البيضاوي في "بيان أن كل نبي خليفة": استخلفهم في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وتنفيذ أمره فيهم - لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه - بل لقصور المستخلف عليه من قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط. ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا . انتهى. وكذلك إذا قلنا: إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية.

    فعلم من كل من القولين; أن في الإنسان معنى ليس في غيره. فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس؛ لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه، فكذلك لا تساعد خلقته. وليس من وظيفتها، إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع [ ص: 2560 ] بها. ولو كان إيجاد مخلوق - على ما ذكرنا في خلق الإنسان - غير ممكن لما وجد. ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان، وهما أصل كل برهان. ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما.

    إذن، معنا قضيتان قطعيتا الثبوت:

    إحداهما: كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف، وهي بديهية.

    و (الثانية): هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهي نظرية ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان:

    الأولى: ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته؟ والجواب من وجوه:

    إحداها: أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له لذاته. وصفات الإنسان حادثة بحدوثه وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته.

    ثانيها: إن علم الله محيط بكل شيء: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وأما الإنسان فما أوتي: من العلم إلا قليلا ! وإرادة الله تعالى لا تتغير ولا تقبل الفسخ لأنها عن علم تام. بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء. وتفسخ لظهور الخطأ في العلم الذي بنيت عليه. وتتجدد لتجدد علم لمن لم يكن له من قبل. وقدرة الله تعالى متصرفة في كل ممكن. فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة. وقدرة الإنسان لا تصرف لها ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات. [ ص: 2561 ] فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحته ومنفعة له وهو لا يقدر على القيام به.

    ثالثها: أن صفات الإنسان عرضة للضعف والزوال، وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية. وبالجملة: إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم، لا في الجنس كما زعم بعضهم، فبطل زعم من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته - يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى: سبحان ربك رب العزة عما يصفون

    المسألة الثانية: وهي عضلة العقد ومحك المنتقد - أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل; بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل.

    ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية. فإذا كان قد سبق القضاء المبرم - بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا - فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته؟ ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له؟ كما قال بعضهم.

    والجواب عن هذا: أن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا، لا ينافي أن يفعله باختيار، إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا. ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية، أي: بإرادة فاعليها لا رغما عنهم. وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا.

    وثم وجه آخر في الجواب، وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا، يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله، لكان الواجب، تعالى وتقدس، مجبورا على [ ص: 2562 ] أفعاله كلها؛ لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه.

    فتبين - بهذا - أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار، واشتبهت عليهم الأنظار، فكابروا الحس والوجدان، ودابروا الدليل والبرهان، وعطلوا الشرائع والأديان، وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره، ولا فقهوا سر نهيه وأمره، حيث جرؤا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان. فيا عجبا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء، وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء! أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته، ويظلم الجهل بصيرته، أن يكون أعظم مهذب لنفسه، ومؤدب لعقله وحسه، اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن، ويظهر ويبطن، وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟ بلى! إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأما الذين ضلوا السبيل، [ ص: 2563 ] واتبعوا فاسد التأويل، فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية. فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل، وجعل احتجاجهم بالقدر من أسباب وقوع البأس والبلاء بهم.

    وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قبله، والله عليم حكيم.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [150] قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون

    قوله تعالى: قل هلم شهداءكم أي: أحضروهم: الذين يشهدون أن الله حرم هذا يعني ما تقولون من الأنعام والحرث. والمراد ب (شهدائهم) قدوتهم الذين ينصرون قولهم. وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة، ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم، وأنه لا متمسك لهم، [ ص: 2564 ] كمن يقلدهم فيحق الحق ويبطل الباطل. فإن شهدوا أي: بعد حضورهم بأن الله حرم هذا: فلا تشهد معهم أي: فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لما علمت من افترائهم على الله ومشيهم مع أهويتهم.

    وفي "العناية": فلا تشهد استعارة تبعية. وقيل: مجاز مرسل، من ذكر اللازم وإرادة الملزوم؛ لأن الشهادة من لوازم التسليم. وقيل: كناية. وقيل: مشاكلة.

    ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون من وضع المظهر موضع المضمر، للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره، أي: سوى به الأصنام، فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات، موحدا لله تعالى.

    ولما بين تعالى فساد ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه، بأمر الله ومشيئته، بظهور عجزهم عن إبراز ما يتمسك به في ذلك، وإحضار شهداء يشهدون بذلك، بعد ما كلفوه مرارا - أمر الرسول بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [151] قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون

    فقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا من الأوثان: وبالوالدين إحسانا أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. قال الحاكم: [ ص: 2565 ] والإحسان ما يخرج عن حد العقوق، ومثل هذا قوله تعالى: وصاحبهما في الدنيا معروفا ولما كان إيجاب الإحسان تحريما لترك الإحسان، ذكر في المحرمات. وكذا حكم ما بعده من الأوامر. فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده. بل هو عينه عند البعض. كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها، ومن سر ذلك هنا - أعني وضع: وبالوالدين إحسانا موضع (النهي عن الإساءة إليهما) - المبالغة والدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف في قضاء حقوقهما، بخلاف غيرهما ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أي: من أجل فقر، ومن خشيته. والمراد بالقتل: وأد البنات وهن أحياء، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه عليهم: نحن نرزقكم وإياهم لأن رزق العبيد على مولاهم: ولا تقربوا الفواحش يعني: الزنى لقوله: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وإنما جيء بصيغة الجميع قصدا إلى النهي عن أنواعه أو مبالغة باعتبار تعدد من يصدر منه: ما ظهر منها وما بطن يعني: علانيته وسره: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي: قتلها لإيمانها أو أمانها: إلا بالحق أي: بالعدل، يعني بالقود والرجم والارتداد: ذلكم وصاكم به تلطفا ورأفة. لعلكم تعقلون يعني: لتعقلوا عظمها عند الله تعالى فتكفوا عن مباشرتها.

    قال المهايمي: فالشرك وعقوق الوالدين وقتل الأولاد للفقر، منشؤه الجهل بما في الشرك من استهانة المنعم بالإيجاد، وبما في الإساءة إلى الأبوين من مقابلة الإحسان بالإساءة، وقربان الفواحش من متابعة الهوى، والقتل من متابعة الغضب; وكلها أضداد العقل.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #345
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله





    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2566 الى صـ 2580
    الحلقة (345)




    [ ص: 2566 ] تنبيه:

    قال بعض (الزيدية): قوله تعالى: من إملاق خرج على العادة. وإلا فهو محرم، خشي الفقر أم لا. وقد دلت على تحريم قتل الأولاد.

    قال الحاكم: فيدخل في ذلك شرب الدواء لقتل الجنين. قال الإمام يحيى: إذا نفخ فيه الروح دون إفساد النطفة والعلقة والمضغة قبل أن ينفخ فيها الروح. وفي "الأحكام" يجب على من انقطع حيضها أن توقى من الأدوية ما يخاف على الجنين منها، إذا كانت من ذوات البعول. وفي قوله تعالى: ذلكم وصاكم به تأكيد للزوم ما تقدم. انتهى.

    لطيفة:

    قال القاشاني: لما كان الكلام مع المشركين في تحريم الطيبات، عدد المحرمات ليستدل بها على المحللات. فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل. وابتدأ بالنهي عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها. فإن رذيلتها أكبر الكبائر مستلزمة لجميع الرذائل. بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية السبعية. فقال: ألا تشركوا به شيئا إذ الشرك من خطئها في النظر، وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان. وعقبه بإحسان الوالدين. إذ معرفة حقوقهما تتلو معرفة الله في الإيجاد والربوبية؛ لأنه ما سببان قريبان في الوجود والتربية. وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته ولهذا قال: (من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله) فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته. ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر. فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق. وأن أرزاق العباد بيده، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والاحتجاب عن سر القدر، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال. فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى. والثانية من خطئها في معرفة صفاته. والثالثة من معرفة أفعاله. فلا [ ص: 2567 ] يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس محجوب عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله; وهذه الحجب أم الرذائل وأساسها. ثم بين رذيلة القوة البهيمية؛ لأن رذيلتها أظهر وأقدم فقال: ولا تقربوا الفواحش ، ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله: ولا تقتلوا النفس الآية.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [152] ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون

    وقوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم أي: بوجه من الوجوه: إلا بالتي أي: بالخصلة التي: هي أحسن يعني أنفع له. كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضا. لا بأكله، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه، فإنه أفحش. وقد ذكرنا طرفا فيما رخص فيه لولي اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم الآية. و: إن الذين يأكلون أموال اليتامى [ ص: 2568 ] الآية. انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. قيل: إنما خص تعالى مال اليتيم بالذكر، لكونه لا يدفع عن نفسه ولا عن ماله هو ولا غيره. فكانت الأطماع في ماله أشد. فعزم في النهي عنه لأنه حماه ومقدمته، وأمر بتنميته حتى يبلغ أشده أي: قوته التي يقر بها على حفظه واستنمائه، وهذا غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي، كأنه قيل: احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا. فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والأشد جمع (شدة) كنعمة وأنعم، أو شد ككلب وأكلب، أو شد كصر وآصر. وقيل: هو مفرد كآنك.

    وأوفوا الكيل والميزان بالقسط أي: بالعدل والتسوية في الأخذ والإعطاء. وقد توعد تعالى على تركه في قوله: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين

    قال ابن كثير: وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال. روى الترمذي عن ابن عباس; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم [ ص: 2569 ] وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» . ثم ضعفه وصحح وقفه على ابن عباس. وروى نحوه ابن مردويه مرفوعا، ولفظه: «إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين، بهما هلكت القرون المتقدمة: بالمكيال والميزان» .

    لا نكلف نفسا أي: عند الكيل والوزن: إلا وسعها أي: جهدها بالعدل. وهذا الاعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل، لبيان أن مراعاة الحد من القسط، الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، مما يجري فيه الحرج، لصعوبة رعايته. فأمر ببلوغ الوسع، وأن الذي ما وراءه معفو عنه. وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «: أوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها : من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله أعلم بصحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ» .

    قال ابن المسيب: وذلك تأويل (وسعها).

    قال ابن كثير: هذا مرسل غريب.

    وفي "العناية": يحتمل رجوع قوله تعالى: لا نكلف نفسا إلا وسعها إلى ما تقدم. أي: جميع ما كلفناكم ممكن، ونحن لا نكلف ما لا يطاق. انتهى. والأول أولى.

    وإذا قلتم أي: في حكومة أو شهادة ونحوهما: فاعدلوا أي: فيها أي: لا تقولوا إلا الحق: ولو كان أي: المقول له أو عليه: ذا قربى أي: ذا قرابة منكم. فلا تميلوا في القول له أو عليه، إلى زيادة أو نقصان.

    قال بعض الزيدية: معنى قوله تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا أي: اصدقوا في مقالتكم. قال: وهذه اللفظة من الأمور العجيبة في عذوبة لفظها وقلة حروفها وجمعها لأمور كثيرة من الإقرار والشهادة والوصايا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتاوى والأحكام والمذاهب.

    ثم إنه تعالى أكد ذلك، وبين أنه يلزم العدل في القول، ولو كان المقول له ذا قربى. كقوله تعالى: ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين

    [ ص: 2570 ] وبعهد الله أوفوا أي: ما عهد إليكم من الأمور المعدودة، أو أي عهد كان. فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا. أو ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور: ذلكم إشارة إلى ما ذكر في هذه الآيات: وصاكم به أي: أمركم بالعمل به في الكتاب: لعلكم تذكرون أي: تتعظون. وفي قوله تعالى: ذلكم وصاكم به تأكيد آخر.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [153] وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون

    وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه يقرأ بفتح همزة (أن) والتشديد. ومحلها مع ما في حيزها بحذف لام العلة. أي: ولأن هذا الذي وصيتكم به. من الأمر والنهي طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي قويما لا اعوجاج فيه، فاعلموا به. وجوز أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على (ما حرم) أي: وأتلو عليكم أن هذا صراطي. وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف ولا تتبعوا السبل يعني الأديان المختلفة أو طرق البدع والضلالات: فتفرق بكم عن سبيله أي: فتفرقكم عن صراطه المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه [ ص: 2571 ] سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيما الآية.. ورواه الحاكم وصححه.

    لطائف:

    قال الكيا الهراسي: في الآية دليل على منع النظر والرأي، مع وجود النص.

    قال ابن كثير: إنما وحد (سبيله) لأن الحق واحد؛ ولهذا جمع (السبل) لتفرقها وتشعبها. كما قال تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات

    قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. وهذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد.

    قال قتادة: اعلموا أن السبيل سبيل واحد. جماعة الهدى، ومصيره الجنة. وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة. جماعة الضلالة، ومصيرها إلى النار. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.

    ذلكم إشارة إلى ما ذكر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل: وصاكم به لعلكم تتقون أي: اتباع الكفر والضلالة. وفيه تأكيد أيضا. روى الترمذي وحسنه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول [ ص: 2572 ] الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا - إلى قوله -: لعلكم تتقون وروى الحاكم، وصححه عن ابن عباس قال: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات.

    وروى الحاكم وصححه وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم قوله تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم حتى فرغ من ثلاث آيات. ثم قال: ومن وفى بهن فأجره على الله. ومن انتقص منهن شيئا، فأدركه الله في الدنيا، كانت عقوبته. ومن أخره إلى الآخرة. كان أمره إلى الله. إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه» .

    لطيفة:

    قال النسفي: ذكر أولا (تعقلون) ثم (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تفكروا، ثم تذكروا، أي: اتعظوا، فاتقوا المحارم. انتهى.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [154] ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون

    ثم آتينا أي: أعطينا: موسى الكتاب يعني التوراة: تماما على الذي أحسن يقرأ بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله إما ضمير (الذي) أي: تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن. أي: على من كان محسنا صالحا. يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله: (على الذين أحسنوا) وإما ضمير موسى عليه السلام ومفعوله محذوف. أي: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به. أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع. من (أحسن الشيء) إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه على وجه التتميم [ ص: 2573 ] وعلى الأول ف (تماما) في موقع المفعول له. وجاز حذف اللام لكونه في معنى (إتماما) أو مصدر لقوله (آتينا) من معناه؛ لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة. كأنه قيل: أتممنا النعمة إتماما. ف (تمام) بمعنى (إتمام) كنبات في قوله تعالى: والله أنبتكم من الأرض نباتا أو (أصله إيتاء تمام). وعلى الوجه الثاني هو حال من الكتاب. وقرأ يحيى بن يعمر (على الذي أحسن) بالرفع أي: على الذي هو أحسن، أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب. ف (تماما) حال من الكتاب بمعنى (تاما) أي: حال كون الكتاب تاما كائنا على أحسن ما يكون. قال ابن جرير: هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها. وإن كان في العربية له وجه صحيح. وتفصيلا لكل شيء أي: وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين: وهدى لهم إلى ربهم في سلوك سبيله: ورحمة عليهم بإفاضة الفوائد: لعلهم أي: أهل الكتاب: بلقاء ربهم يؤمنون يصدقون بلقائه للجزاء.

    لطيفة:

    قال السيوطي في "الإكليل": استدل بقوله تعالى: ثم آتينا من قال إن: ثم لا تفيد الترتيب. انتهى

    قال ابن كثير و: ثم ههنا لعطف الخبر بعد الخبر، لا للترتيب كما قال الشاعر:


    قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم ساد قبل ذلك جده



    وقال أبو السعود: و: ثم للتراخي في الأخبار كما في قولك: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب. أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلك وصاكم به قديما وحديثا. ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة. فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها، أعظم من التوصية بها فقط. انتهى.

    ثم أشار إلى أن التوراة. وإن كانت تماما على النهج الأحسن، فالقرآن أتم منه وأزيد حسنا. فهو أولى بالمتابعة، فقال:

    [ ص: 2574 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [155] وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون

    وهذا أي: القرآن: كتاب أنـزلناه مبارك أكثر نفعا من التوراة دينا ودنيا: فاتبعوه أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام: واتقوا يعني مخالفته واتباع غيره لكونه منسوخا به: لعلكم ترحمون أي: لترحموا بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه. وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحبها بلقاء ربه.

    قال بعض الزيدية: وفي قوله تعالى: فاتبعوه دلالة على وجوب تعلم القرآن ليمكن الاتباع له. لكن هو كسائر العلوم فرض كفاية إلا ما يتعين على كل مكلف، كتعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، فإنه يجب عليه. انتهى.

    لطيفة:

    قال ابن كثير: إنه كثيرا ما يقرن بين الكتابين كقوله: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا وقوله أول السورة: قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى ثم قال: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك الآية. [ ص: 2575 ] وقوله تعالى مخبرا عن المشركين: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وقوله تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنـزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه الآية.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [156] أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين

    أن تقولوا علة ل (أنزلناه). أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة. أو لئلا تقولوا: إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى: وإن كنا عن دراستهم عن تلاوة كتابهم: لغافلين لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا.

    قال أبو السعود: ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافي عموم أحكامه. فلم لم تعملوا بأحكامه العامة؟ والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم، إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها، وإن لم يكن منزلا علينا. وبهذا تبين أن معذرتهم هذه، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها، لا على سائر الشرائع والأحكام فقط. انتهى.

    [ ص: 2576 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [157] أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون

    أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب أي: كما أنزل عليهم: لكنا أهدى منهم أي: إلى الحق وأسرع منهم إجابة للرسول لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل: فقد جاءكم قال أبو السعود: متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة، إما معلل به، أي: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم. وإما شرط له. أي: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم، فقد حصل ما فرضتم وجاءكم: بينة أي: كتاب حجة واضحة: من ربكم متعلق ب (جاءكم) أو بمحذوف صفة ل (بينة) أي: بينة كائنة منه تعالى لا يتوهم فيه السحر: وهدى بإقامة الدلائل ورفع الشبه: ورحمة بإفاضة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات: فمن أظلم قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه. أي: وإذا كان الأمر كذلك: فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها أي: صرف الناس وصدهم عنها. فجمع بين الضلال والإضلال. والمعنى إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له: سنجزي الذين يصدفون الناس: عن آياتنا أي: التي لو لم يصدفوا عنها لعرفوا إعجازها: سوء العذاب أي: العذاب السيئ. بما كانوا يصدفون وهذا كقوله تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون
    [ ص: 2577 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [158] هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون

    هل ينظرون يعني قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الضلالة. فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟

    قال البيضاوي: يعني أهل مكة. وهم ما كانوا منتظرين لذلك. ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر، شبهوا بالمنتظرين إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك يعني للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة.

    قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة. وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام بما فيه كفاية.

    ومذهب السلف: إمرار ذلك بلا كيف، كما مر مرارا.

    قيل: إلا أن تأتيهم الملائكة أي: ملائكة الموت لقبض أرواحهم: أو يأتي بعض آيات ربك وذلك قبل يوم القيامة، كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئا من ذلك. كما روى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن [ ص: 2578 ] من عليها. فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. ورواه مسلم أيضا، ولمسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل صفة (نفسا): أو كسبت في إيمانها خيرا عطف على (آمنت) والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء، وهي آية ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات. أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيرا لفسقها. فتوبتها حينئذ لا تجدي.

    قال الطبري: معنى الآية: لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع، إيمان بعد الطلوع. ولا ينفع مؤمنا -لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع- عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ، حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة. وذلك لا يفيد شيئا. كما قال تعالى: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وكما ثبت في الحديث الصحيح: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . انتهى.

    وبالجملة: فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركا إيمانه. ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة. وذلك لذهاب زمن التكليف.

    [ ص: 2579 ] قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات، وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية، فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار. كما لو أرسل الله عذابا على أمة فآمنوا وصدقوا. فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك، لمعاينتهم الأهوال والشدائد، التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة.

    وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لم يقبل منه. فأما من كان مؤمنا قبل ذلك، فإن كان مصلحا في عمله، فهو بخير عظيم. وإن لم يكن مصلحا، فأحدث توبة حينئذ، لم تقبل منه توبته. كما دلت عليه الأحاديث. وعليه يحمل قوله تعالى: أو كسبت في إيمانها خيرا أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح، إذا لم يكن عاملا به قبل. انتهى.

    والأحاديث المشار إليها، منها ما رواه (مسلم) عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه.» وروى الترمذي وصححه [ ص: 2580 ] عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «باب من قبل المغرب مسيرة عرضه - أو قال: يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض. مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» . ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه: «لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #346
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله





    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْعَامِ
    المجلد السادس
    صـ 2581 الى صـ 2595
    الحلقة (346)





    قال ابن حجر: سنده جيد. وأخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد من حديثه أيضا [ ص: 2581 ] بلفظ: لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى الإمام أحمد عن ابن السعدي; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» . فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل» .

    قال ابن كثير: هذا الحديث حسن الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

    وهاهنا مسائل:

    الأولى: ذهب الجمهور إلى أن المراد ب (البعض) في الآية هو طلوع الشمس من مغربها. كما في حديث الصحيحين السابق. ولا يقال يخالف ذلك حديث مسلم: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها.. الحديث. وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال نظر؛ لأن نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده. وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي. فالإيمان مقبول وقتئذ. لأنا نقول: لا منافاة. وذلك لأن (البعض) في الآية، إن كان عدة آيات، فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول، وإن كان إحدى آيات، فهو محمول على المعين في الحديث؛ لأنه أعظمها. كذا في "العناية".

    قال ابن عطية: إذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص مانع القبول بالطلوع، في الحديث الصحيح، لم يجز العدول عنه، وتعين أنه معنى الآية. انتهى.

    وقال القاضي عياض: المعنى: لا تنفع توبة بعد ذلك. بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها. والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي. فإذا [ ص: 2582 ] شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة. وارتفع الإيمان بالغيب. فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع. فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. الثانية: قال السيوطي في "الإكليل": استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه. وهو مردود. ففي الكلام تقدير. والمعنى: لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إيمانها حينئذ، ولا ينفع نفسا لم تكسب خيرا قبل توبتها حينئذ.

    وقال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة، إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك. ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا. فقد علق نفي الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط، وإما سبقه مع نفي كسب الخير. ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة. ويكون فيه قلب دليل المعتزلة، دليلا عليهم.

    وأجاب ابن المنير في "الانتصاف" فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب (اللف) وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا، لم تكن مؤمنة قبل، إيمانها بعد. ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل، ما تكتسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا. وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق. فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود. فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم.

    وقال ابن الحاجب في "أماليه": الإيمان قبل مجيء الآية نافع لو لم يكن عمل صالح غيره، ومعنى الآية: لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح، لم يكن الإيمان قبل الآية، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها. فاختصر للعلم.

    ونقل الطيبي كلام الأئمة في ذلك. ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب. وبسطه: [ ص: 2583 ] أن الله تعالى لما خاطب المعاندين بقوله تعالى: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه الآية. علل الإنزال بقوله: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب إلخ. إزالة للعذر وإلزاما للحجة. وعقبه بقوله: فقد جاءكم بينة إلخ، تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق ممن طلب الاتباع. ثم قال: فمن أظلم ممن كذب الآية. أي: أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق، ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح. فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها. ثم قال: هل ينظرون الآية.. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم. كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم. أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلا ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبل، من الإيمان، وكذا العمل الصالح مع الإيمان، فكأنه قيل: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ؛ إذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل. ففي الآية لف. لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر، ونظيره قوله تعالى: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا

    قال: فهذا الذي عناه ابن المنير بقوله: إن هذا الكلام في البلاغة يقال له (اللف) والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك، إيمانها من بعد ذلك، [ ص: 2584 ] ولا ينفع نفسا كانت مؤمنة، لكن لم تعمل في إيمانها عملا صالحا قبل ذلك، ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك. قال: وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة. فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير، أي: لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة، وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة.

    ثم قال الطيبي: وقد ظفرت، بفضل الله بعد هذا التقرير، على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنى ولفظا، من غير إفراط ولا تفريط. وهي قوله تعالى: ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع، وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع. وأما بعد حصولها أنفع. وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلا. والله أعلم. انتهى ملخصا.

    الثالثة: قال في "الوجيز" في قوله تعالى: أو يأتي ربك أي: لفصل القضاء بين خلقه. وإتيانه نؤمن به ولا نعرف كيفه. انتهى.

    وفي حواشي "جامع البيان": كيف لا يؤمن بإتيانه ومجيئه تعالى يوم القيامة، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وجاء ربك والملك صفا صفا إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك وأي أمر أصرح منه في القرآن؟.

    [ ص: 2585 ] وروى الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس مرفوعا: إن في الغمام طاقات يأتي الله فيها، محفوفا. وذلك قوله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر

    قال عكرمة: والملائكة حوله، فهذا من صفات الله تعالى. يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت وإن لم نعرف كيفيتها. وعدم علمنا بكيفيتها، بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته. فلا نكذب بما علمناه لعدم علمنا بما لم نعلمه. وهذا هو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة. انتهى.

    وقوله تعالى: قل انتظروا أي: قل لهؤلاء الكافرين، بعد بيان حقيقة الحال على وجه التحديد: انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أي شيء تنتظرون.

    إنا منتظرون أي: لذلك، لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.

    ثم بين تعالى أحوال أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين بقوله سبحانه.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [159] إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون

    إن الذين فرقوا دينهم أي: اختلفوا فيه، مع وحدته في نفسه، فجعلوه أهواء متفرقة: وكانوا شيعا أي: فرقا تشيع كل فرقة إماما لها بحسب غلبة تلك الأهواء.

    فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع: لست منهم في شيء أي: من عقابهم. أو أنت بريء منهم محمي الجناب عن مذاهبهم. أو المعنى: اتركهم؛ فإن لهم ما لهم.

    وقال القاشاني: أي: لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء؛ إذ هم أهل التفرقة [ ص: 2586 ] لا يجتمع هممهم، ولا يتحد قصدهم: إنما أمرهم إلى الله أي: في جزاء تفرقهم ومكافأتهم، لا إليك. ثم ينبئهم يعني إذا وردوا يوم القيامة: بما كانوا يفعلون أي: من السيئات والتفرقة، لمتابعة الأهواء. ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم.

    تنبيه:

    قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وروى العوفي عن ابن عباس في الآية; أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. وآخر على الخوارج، وأسندوا في ذلك حديثا رفعوه.

    قال ابن كثير: وإسناد ذلك لا يصح. ثم قال: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق. فمن اختلف فيه (وكانوا شيعا) أي: فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك الآية. وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات. ديننا واحد» . فهذا هو الصراط المستقيم، [ ص: 2587 ] وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء. والرسل برآء منها كما قال الله تعالى: لست منهم في شيء

    ثم قال: وقوله تعالى: إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون كقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة انتهى.

    وقد أخرج أبو داود عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة. وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين. اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» . ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وفيه: قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي.

    ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة. فقال تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [160] من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون .

    من جاء بالحسنة أي: جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة: فله عشر أمثالها يعني: عشر حسنات أمثالها في الحسن.

    قال المهايمي: كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب يعطيه بما يليق بسلطنته، لا قيمة [ ص: 2588 ] العنقود. انتهى.

    والعشر أقل ما وعد من الأضعاف. وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمائة وبغير حساب؛ ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص: ومن جاء بالسيئة أي: بالأعمال السيئة: فلا يجزى إلا مثلها في القبح.

    قال المهايمي: فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره. كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله. ومن فعل معصية عذب بقدرها كمن أساء إلى آحاد الرعية. انتهى.

    وهم لا يظلمون أي: بنقص الثواب وزيادة العقاب.

    لطيفة:

    قال القاشاني في قوله تعالى: فله عشر أمثالها هذا أقل درجات الثواب. وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب والسيئة بظهور النفس. فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلو مقام النفس في الارتقاء، تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد. وأما في السيئة فلأنه لا مقام أدون من مقام النفس. فينحط إليه بالضرورة. فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل. ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل. فإنه يزيد به صاحبه ويتنور استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق. فيتقوى على أضعاف ما فعل ويكتسب به أجورا متضاعفة إلى غير نهاية، بازدياد القبول على فعل كل حسنة وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله. كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة: والله يضاعف لمن يشاء ، وأن العقاب من باب العدل؛ إذ العدل يقتضي المساواة. ومن فعل بالنفس، إذا لم يعف عنه، يجازي بالنفس سواء. انتهى.

    [ ص: 2589 ] تنبيه:

    وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية. فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيما يروي عن ربه تعالى: «إن ربكم تبارك وتعالى رحيم. من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله إلا هالك» . ورواه البخاري ومسلم والنسائي. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني [ ص: 2590 ] شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا، لقيته بمثلها مغفرة» . وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها؛ فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري. وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام. وذلك لأن الله تعالى قال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله» . ورواه النسائي والترمذي وزاد: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، اليوم بعشرة أيام. وبقيت أخبار أخرى. وفيما ذكر كفاية.
    ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه عليه من إرشاده إلى دينه القويم بقوله:

    [ ص: 2591 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [161] قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

    قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده المخلصين: دينا نصب على البدل من محل (إلى صراط) لأن معناه: هداني صراطا.

    بدليل قوله: ويهديهم إليه صراطا مستقيما ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور. أي: عرفني دينا. أو مفعول (هداني). و (هدى) يتعدى إلى اثنين: قيما صفة (دينا) يقرأ بالتشديد أي: ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل، ولا تنسخه الشرائع والكتب، مقوما لأمر المعاش والمعاد. ويقرأ بالتخفيف. على أنه مصدر نعت به. وأصله قوم كعوض. فأعل لإعلال فعله كالقيام.

    ملة إبراهيم المتفق على صحتها وهي التي أعرض بها عن كل ما سواه تعالى. عطف بيان ل (دينا): حنيفا حال من: إبراهيم أي: مائلا عن كل دين وطريق باطل، فيه شرك ما، وقوله تعالى: وما كان من المشركين اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من عقد وعمل. أي: ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا. صرح بذلك ردا على الذين يدعون أنهم على ملته من مشركي مكة واليهود والنصارى. أفاده أبو السعود.

    تنبيه:

    قال ابن كثير: هذه الآية كقوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية، [ ص: 2592 ] أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه عليه السلام قام بها قياما عظيما، وأكملت له إكمالا تاما لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال. ولهذا قال: أنا خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى الخليل عليه السلام، وروى ابن مردويه عن ابن أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا وملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين» . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الحنيفية السمحة» ، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زفن الحبشة. حتى كنت التي مللت، فانصرفت عنهم. وقالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «ليعلم يهود أن في ديننا فسحة. إني أرسلت بحنيفية سمحة» .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [162] قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين

    قل إن صلاتي لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق بأصولها. أي: إن صلاتي إلى الكعبة: ونسكي أي: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة، أو عبادتي كلها: ومحياي ومماتي أي: وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير. أو الحياة والممات أنفسهما: لله رب العالمين
    [ ص: 2593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [163] لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين

    لا شريك له أي: خالصة لله لا أشرك فيها غيره: وبذلك أي: القول أو الإخلاص: أمرت وأنا أول المسلمين أي: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.

    قال ابن كثير: يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه; أنه مخالف لهم في ذلك. فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [164] قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

    قل أغير الله أبغي ربا فأشركه في عبادته، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، وفي إيثار نفي البغية والطلب، على نفي العبادة، أبلغية لا تخفى: وهو رب كل شيء حال في موضع العلة للإنكار والدليل له. أي: وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلا أكون عبدا لعبده.

    قال ابن كثير: أي: فلا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل. كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرا. كقوله تعالى مرشدا لعباده أن يقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين وقوله: فاعبده وتوكل عليه [ ص: 2594 ] وقوله: قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وقوله: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وأشباه ذلك من الآيات.

    ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى

    قال ابن كثير: إخبار عن الواقع يوم القيامة من جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد. وهذا من عدله تعالى.

    وقال أبو السعود: كانوا يقولون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا - فهذا رد له بالمعنى الأول. أي: لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها. ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر، حتى يتأتى ما ذكرتم، وقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى رد له بالمعنى الثاني. أي: لا تحمل يومئذ نفس حاملة، حمل نفس أخرى، حتى يصح قولكم.

    تنبيه:

    قال السيوطي في "الإكليل": هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد، وقد ردت عائشة به على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه. أخرجه البخاري، وأخرج [ ص: 2595 ] ابن أبي حاتم عنها; أنها سئلت عن ولد الزنى؟ فقالت: ليس عليه من خطيئة أبويه شيء. وتلت هذه الآية.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #347
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله





    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2596 الى صـ 2610
    الحلقة (347)




    قال الكيا الهراسي: ويحتج بقوله: ولا تكسب كل نفس إلا عليها في عدم [ ص: 2596 ] نفوذ تصرف زيد على عمرو إلا ما قام عليه الدليل. قال ابن الفرس: واحتج به من أنكر ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام.

    وقال بعض الزيدية: قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى يعني في أمر الآخرة. فيبطل قول: إن أطفال المشركين يعذبون بكفر آبائهم. ويلزم أن لا يعذب الميت ببكاء أهله عليه. حيث لا سبب له. وأما في أمر الدنيا، فقد خص هذا بحديث العاقلة، وكذلك أسر أولاد الكفار ونحو ذلك. انتهى.

    ثم إلى ربكم مرجعكم أي: رجوعكم بعد الموت يوم القيامة: فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون يتميز الحق من الباطل. وهذه الآية كقوله تعالى: قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [165] وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم

    وهو الذي جعلكم خلائف الأرض جمع خليفة. أي: يخلف بعضكم بعضا فيها، فتعمرونها خلفا بعد سلف، للتصرف بوجوه مختلفة. ورفع بعضكم فوق بعض درجات أي: فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك. كقوله تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا وقوله [ ص: 2597 ] سبحانه: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا وقوله تعالى: ليبلوكم في ما آتاكم أي: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، أي: امتحنكم، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره. وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. أفاده ابن كثير.

    ثم رهب تعالى من معصيته ورغب في طاعته بقوله سبحانه: إن ربك سريع العقاب أي: لمن عصاه وخالف رسله: وإنه لغفور رحيم أي: لمن والاه واتبع رسله.

    لطائف:

    الأولى: قال السيوطي في "الإكليل". استدل بقوله تعالى: جعلكم خلائف الأرض من أجاز أن يقال للإمام: خليفة الله. انتهى.

    أي: بناء على وجه في الآية. وهو أن المعنى: جعلكم خلائف الله في الأرض تتصرفون فيها. ذكره المفسرون. وآثرت، قبل، غير هذا الوجه لأنه أدق وأظهر، والله أعلم.

    الثانية: قال القاضي: وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة - تنبيها على أنه سبحانه وتعالى غفور بالذات، معاقب بالعرض، كثير الرحمة مبالغ فيها، قليل العقوبة مسامح فيها. انتهى.

    [ ص: 2598 ] الثالثة: قال ابن كثير: إن الحق تعالى، كثيرا ما يقرن في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب وقوله: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب.

    فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها. وتارة بهما لينجع في كل بحسبه. جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، إنه قريب مجيب.

    قد تم بحمده تعالى الكلام على "محاسن تأويل" سورة الأنعام. وذلك ضحوة الأربعاء في 28 ربيع الأول. في شباك السدة اليمنى العليا من جامع السنانية عام 1321. وكان تخلل مدة شهر ونصف، وقفت عن كتابة شيء من هذه السورة فيها، وذلك من آخر البحث في قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا الآية. لعارض رحلتي إلى بيت المقدس في 28 محرم من العام المذكور. وبعد العود إلى الوطن في 8 ربيع الأول بدأت من قوله تعالى: قل هلم شهداءكم الآية. في 20 ربيع الأول، وتمت السورة في التاريخ المتقدم، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. بقلم جامعه جمال الدين القاسمي.

    ويليه الجزء السابع: ويحتوي على تفسير سور:

    7 - الأعراف. 8 - الأنفال. 9 - التوبة.

    [ ص: 2608 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    7- سُورَةُ الْأَعْرَافِ

    أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حَيَّانَ عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ: الْأَعْرَافُ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا آيَةَ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وَقَالَ: مِنْ هُنَا إِلَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مَدَنِيٌّ.

    وَآيَاتُهَا مِائَتَانِ وَسِتُّ آيَاتٍ.

    [ ص: 2609 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:

    [1] المص

    تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، عَلَى حُرُوفِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَالْمَذَاهِبِ فِيهَا.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [2] كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين

    كتاب " أي: هذا كتاب أنـزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه أي لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه.

    فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه، وأذاهم. فكان يضيق صدره من الأداء، ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم.

    قال الناصر : ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك الآية لتنذر به " أي: بالكتاب المنزل، المشركين ليؤمنوا وذكرى للمؤمنين " أي: عظة لهم.

    وتخصيص الذكرى بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالمشركين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام.

    [ ص: 2610 ]

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [3] اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون

    وقوله تعالى: " اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم خطاب منه تعالى لكافة المكلفين بالأمر باتباع ما أنزل، وهو القرآن، والمراد بـ " ما أنزل " : القرآن والسنة، وقوفا مع عمومه، لقوله سبحانه: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

    تنبيه:

    قال السيوطي في (الإكليل): استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به، لأنه من جملة ما أنزل الله، وقد أمرنا باتباعه -انتهى-.

    وأقول: هذا غلو في الاستنباط، وتعمق بارد. ويرحم الله القائل: إذا اشتد البياض صار برصا.

    ولا تتبعوا من دونه أولياء أي لا تتبعوا أولياء غيره تعالى، من الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع.

    قليلا ما تذكرون " أي ما تتعظون إلا قليلا، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه، وتتركون دينه تعالى، وتتبعون غيره. ثم حذرهم تعالى بأسه، إن لم يتبعوا المنزل إليهم، بقوله سبحانه:



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #348
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله





    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2611 الى صـ 2625
    الحلقة (348)






    القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون [5] فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين

    وكم من قرية أهلكناها " أي أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم. فجاءها [ ص: 2611 ] بأسنا " أي: فجاء أهلها عذابنا بياتا " أي: بائتين، كقوم لوط . والبيتوتة: الدخول في الليل، أي ليلا قبل أن يصبحوا أو هم قائلون " أي قائلين نصف النهار، كقوم شعيب . والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة، وهم غير متوقعين له. ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة. وكل ذلك وقت الغفلة. والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفيه وعيد وتخويف للكفار. كأنه قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل، نزل دفعة واحدة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟

    ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين

    فلنسألن الذين أرسل إليهم " أي: المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم كما قال: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ولنسألن المرسلين أي: عما أجيبوا به، كما قال سبحانه: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين

    فلنقصن عليهم " أي: على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بعلم " أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وما كنا غائبين " أي: عنهم وعما وجد منهم.

    [ ص: 2612 ]



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9] ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون

    ومن خفت موازينه " أي: حسناته في الميزان فأولئك الذين خسروا أنفسهم بالعقوبة بما كانوا بآياتنا يظلمون أي: يكفرون.

    تنبيهات:

    الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية ذكر الميزان، ويجب الإيمان به. انتهى.

    وقال الإمام الغزالي في (المضنون): تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور. وبالموت ينكشف الغطاء، كما قال تعالى: فكشفنا عنك غطاءك ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده، وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان، ومثاله في العالم المحسوس مختلف، فمنه الميزان المعروف، ومنه القبان للأثقال، والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير [ ص: 2613 ] حركات الأصوات. فالميزان الحقيقي، إذا مثله الله عز وجل للحواس، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها. فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان، وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات. والتصديق بجميع ذلك واجب. انتهى.

    الثاني: الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.

    قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في (الصحيح) : « أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف » .

    ومن ذلك في (الصحيح) قصة القرآن، وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك » ، وفي حديث البراء [ ص: 2614 ] في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح » . وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

    فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين وقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: « إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » ، ولا بعد في ذلك، ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.

    وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن، ويؤيده حديث البطاقة، فقد أخرج أحمد [ ص: 2615 ] والترمذي وصححه، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة. فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب ! فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا. يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، فيقول: يا رب ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة » .

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10] ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون

    ولقد مكناكم في الأرض " أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها.

    وجعلنا لكم فيها معايش جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أو ما يتوصل به إلى ذلك من المتاجر والمزارع والصنائع.

    قليلا ما تشكرون " الكلام فيه كالذي في قوله: قليلا ما تذكرون وقد مر قريبا، والتذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم، أي ما مننا عليكم بذلك إلا لتشكروا بمتابعة ما أنزلنا إليكم، وترك متابعة من دوننا، فتحصلوا معايش السعادات الأبدية.

    ثم بين تعالى نعمته على آدم التي سرت إلى بنيه، وبين لهم عداوة إبليس وما انطوى عليه من الحسد لأبيهم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11] ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين

    " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين هذا كقوله تعالى: وإذ قال ربك للملائكة [ ص: 2620 ] إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين وفي تصدير هذه الآية بالقسم وحرف التحقيق، كالتي قبلها، إعلام بكمال العناية بمضمونها.

    قال أبو السعود : وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين، مع أن المراد بهما خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما، توفية لمقام الامتنان حقه، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم، بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام وتصويره، لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه، ومصنوع على شاكلته، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره. أي: خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه أبدع تصوير، وأحسن تقويم، سار إليكم جميعا – انتهى-.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [12] قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

    قال " سبحانه وتعالى: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " أي أن تسجد كما وقع في سورة . و " لا " مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود، ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه، كما في قوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك.

    وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة " لا " النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقا، بل إذا صحبت نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح، [ ص: 2621 ] كما في: غير المغضوب عليهم ولا الضالين وكما هنا، فإنها تؤكد تعلق المنع به –انتهى-.

    وقيل: (ما منعك)، محمول على (ما حملك وما دعاك)، مجازا أو تضمينا.

    وقال الراغب : المنع ضد العطية، وقد يقال في الحماية. والمعنى ما حماك عن عدم السجود. ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود، مع علمه به، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره، وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام. كما أوضحه قوله تعالى: قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال ابن كثير : هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب -انتهى.

    وإنما قال هذا، ولم يقل (منعني كذا) مطابقة للسؤال. لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة، ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول، مع ما في طيها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. فالجملة متضمنة للجواب بقياس استدلالي ، وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمروذ .

    وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، لأنها جوهر نوراني، وهو ظلماني، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أي: بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبه عليه بقوله: ونفخت فيه من روحي وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه [ ص: 2622 ] أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره.

    وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته، يشرف بفاعله وغايته وصورته، والثلاثة في آدم عليه السلام دونه، فاستبان غلطه.

    وفي (اللباب) أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق، وأخطأ طريق الصواب، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمله، مع سابقة شقائه، على الاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام، والاستخفاف بأمر ربه، فأورده ذلك العطب والهلاك.

    ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت، وهذا كان الداعي لآدم عليه السلام، مع سابقة سعادته، إلى التوبة من خطيئته، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة.

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم » . رواه مسلم .

    تنبيه:

    روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى: خلقتني من نار وخلقته من طين قال: قاس إبليس وهو أول من قاس . وأخرج أيضا بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .

    ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد.

    قال الرازي : بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة اسجدوا لآدم " خطاب عام يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق [ ص: 2623 ] من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، والأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدنى، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك.

    وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم، وما ذاك إلا لعدم جوازه. وأيضا ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر: وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فوصفه الله تعالى بكونه متكبرا، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله.

    ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء. ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في (البسيط) عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس - هذا ما نقله الواحدي في (البسيط) عن ابن عباس ، وأفاده الرازي .

    وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس ، وعن مسروق قال: لا أقيس شيئا بشيء، فتزل قدمي بعد ثبوتها .

    وعن الشعبي : إياكم والقياس، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام، وحرمتم الحلال، ولأن أتغنى غنية، أحب إلي من أن أقول في شيء برأيي .

    وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله من هذا المعنى آثارا وافرة في (جامع بيان العلم وفضله) وقال: احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها. وقالوا في حديث معاذ : إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة. وتكلم داود في إسناد حديث معاذ ، ورده ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ ، ولم يسموا، قال الحافظ ابن عبد البر : وحديث معاذ صحيح مشهور، رواه الأئمة العدول، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول. ثم قال: وسائر الفقهاء وقالوا في هذه الآثار وما كان مثلها [ ص: 2624 ] في ذم القياس: إنه القياس على غير أصل، أو القياس الذي يرد به أصل، والقول في دين الله بالظن. ألا ترى إلى قول من قال منهم: أول من قاس إبليس؟ لأن إبليس رد أصل العلم بالرأي الفاسد، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها، لا في رد الأصول بالرأي والظن. وإذا صح النص من الكتاب والأثر، بطل القياس وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة الآية، وأي أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود، وهو العالم بما خلق منه آدم ، وما خلق منه إبليس؟ ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء، فهذا ومثله لا يحل ولا يجوز. وأما القياس على الأصول، والحكم للشيء بحكم نظيره، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف، بل كل من روي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصا. لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل، مخالف للسلف في الأحكام.

    وقال مسروق الوراق :


    كنا من الدين قبل اليوم في سعة حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم
    فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس أما العريب فقوم لا عطاء لهم
    وفي الموالي علامات المفاليس



    فلقيه أبو حنيفة فقال: هجوتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم فقال:


    إذا ما أهل مصر بادهونا بآبدة من الفتيا لطيفه
    أتيناهم بمقياس صحيح صليب من طراز أبي حنيفه
    إذا سمع الفقيه به وعاه وأثبته بحبر في صحيفه



    قال ابن عبد البر : اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك [ ص: 2625 ] الزمن، فقال:


    إذا ذو الرأي خاصم عن قياس وجاء ببدعة منه سخيفه
    أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرزة شريفه



    هكذا حكاه ابن عبد البر في (جامع فضل العلم). وله فيه في (باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل)، مقالات سابغة جديرة بالمراجعة.

    ومما ذكر فيه: أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحد.

    قال: والسبب الموجب لذلك، عندهم، إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل النظر. وكان رده لما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي: وجل ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود . إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم.

    فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف.

    ثم قال: وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادعاء نسخ. إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا، وهو يوجد لغيره قليل.

    وعن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مما قال مالك فيها برأيه. قال: وقد كتبت إليه أعظه في ذلك. هذا كلام ابن عبد البر ملخصا.

    وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه: أنه روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم -أي: الصحابة- على ترك العمل بالرأي والقياس، مطلقا فقد غلط، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس، فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها -انتهى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #349
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله





    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2626 الى صـ 2640
    الحلقة (349)





    [ ص: 2626 ] وقال ابن تيمية رحمه الله في فتوى أخرى: والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا. والقياس الصحيح نوعان:

    أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: « ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم » ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: إنه أي نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهر الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن.

    ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة، لكن لما استفتي عنها أفتى فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع، فأجاب المفتي عن ذلك، خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمخة [ ص: 2627 ] بخلوق فقال: انزع عنك الجبة الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك . فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه، كان الحكم كذلك بالإجماع.

    والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني، ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما، وكان هذا قياسا صحيحا. فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما، وهما من باب فهم مراد الشارع. فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك، لا لمعنى يخص الأصل، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك.

    وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص، منعنا القياس، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة ، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة ، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره.

    وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة، كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة، والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة، فقال تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به [ ص: 2628 ] الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص، من جنس قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا

    وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكى وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ قال تعالى: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون فهذه الأقيسة الفاسدة، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه، فقياسه فاسد. وكل من سوى بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد.

    لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره. فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل. ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل.

    [ ص: 2629 ] ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته، فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها. ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أفعال المكلفين.

    ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله: تلك عشرة كاملة و: الله الذي أنـزل الكتاب بالحق والميزان فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل. والقياس الصحيح من باب العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح، ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام [ ص: 2630 ] بالنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر، كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص. وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافق، اتبعناها، ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر، وغلطوا في فهم النص، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم. ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا -والله أعلم- انتهى كلامه رحمه الله.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [13] قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين

    قال " تعالى لإبليس فاهبط منها " أي: بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي، وأكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها.

    قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى –انتهى- .

    وعليه اقتصر المهايمي حيث قال: فاهبط منها أي: من رتبة الملكية إلى رتبة العناصر: فما يكون لك أن تتكبر فيها أي: فما يصح ولا يستقيم، فإنها [ ص: 2631 ] مكان المطيعين الخاشعين فاخرج " تأكيد للأمر بالهبوط، متفرع على علته إنك من الصاغرين " أي: من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [14] قال أنظرني إلى يوم يبعثون

    قال أنظرني " أي: أمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون " أي: آدم وذريته من القبور.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [15] قال إنك من المنظرين

    قال " أي: الله له إنك من المنظرين " أي من المؤجلين إلى نفخة الصور الثانية.

    قال ابن كثير : أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه.

    وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشمي اليماني في تفسيره (التهذيب): [ ص: 2632 ] ومتى قيل: ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية. ومتى قيل: هل خاطبه بهذا؟ قلنا: يحتمل ذاك، ويحتمل أنه أمر ملكا فخاطبه به. ومتى قيل: هل يجوز إجابة دعاء الكافر؟ قلنا: فيه خلاف.

    الأول: قيل لا، لأنه إكرام وتعظيم -عن أبي علي - ولذلك يقال: فلان مستجاب الدعوة، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع.

    [ ص: 2633 ] الثاني: يجوز إجابة دعائه استصلاحا له، لأنه تفضل -عن أبي بكر أحمد بن علي - وليس بالوجه. ومتى قيل: إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية؟ قلنا: لا، لأنه لم يعلم ما الوقت [ ص: 2634 ] المعلوم، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار، ولعنه -علم أنه لا يختار الإيمان أبدا.

    ومتى قيل: ما فائدة إنظاره؟ قلنا: لطف له، لأنه يمكنه من استدراك أمره.

    وهل يضل به أحد؟ قال أبو علي : لا، لقوله تعالى: ما أنتم عليه بفاتنين [ ص: 2635 ] إلا من هو صال الجحيم ولأنه لو ضل به أحد، لكان بقاؤه مفسدة ، فكان الله تعالى لا ينظره. فأما أبو هاشم فيجوز أن يضل به أحد، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة، ويجوز أن يكون لطفا من وجوه: أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح، كان ثوابه أكثر، ولأنه تعالى عرفنا عداوته، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوه ويغمه، وذلك إنما يكون بطاعة ربه، ومن أطاعه فمن قبل نفسه أتي، لا من قبل ربه. انتهى كلام الجشمي ، وهو جار على أصول المعتزلة .

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16] قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم

    قال فبما أغويتني " أي أضللتني عن الهدى، أو حكمت بغوايتي، والباء للقسم، كما في قوله تعالى: قال فبعزتك لأغوينهم أي: فأقسم بإغوائك إياي، وقيل: هي بمعنى لام التعليل، أي: لأجل إغوائك إياي لأقعدن لهم " أي: لآدم وبنيه ترصدا كما يقعد القطاع للطريق على السابلة صراطك المستقيم " أي طريقك السوي، وهو طريق الحق، ومعناه لا أفتر عن إفسادهم. وانتصابه على الظرفية أو على نزع الجار.

    [ ص: 2636 ]



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17] ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين

    " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم أي من جميع الجهات الأربع. مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه، بإتيان العدو من الجهات الأربع التي يعتاد هجومه منها. ولذلك لم يذكر الفوق والتحت.

    ولا تجد أكثرهم شاكرين أي مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله.

    وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن، كقوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين روى الإمام أحمد عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، قال: فعصاه فهاجر. قال: ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: هو جهاد النفس والمال، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» .

    وقال الحافظ : ورد في الحديث استعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته [ ص: 2637 ] كلها، فروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي . ورواه البزار عن ابن عباس .

    فائدة:

    قال الجشمي : تدل الآية أنه سأل الإنظار، وأنه تعالى أنظره، وقد بينا ما قيل فيه، وتدل على شدة عداوته لبني آدم وحرصه على إضلالهم، وتدل على أن أكثر بني آدم غير شاكرين، وتدل على أن الإضلال فعل إبليس، والقبول عنه فعلهم، لذلك أضافه إليهم، وذمهم عليه، ولو كان خلقا له لما صح ذلك. انتهى- والكلام في أمثالها معروف.

    ثم أكد تعالى على إبليس اللعنة والطرد والإبعاد عن محل الملأ الأعلى، بقوله سبحانه:

    [ ص: 2638 ]



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18] قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين

    قال اخرج منها مذءوما " بالهمزة في القراءة المشهورة، من (ذأمه)، إذا حقره وذمه، وقرئ " مذوما " بذال مضمومة وواو ساكنة، وهي تحتمل أن تكون مخففة من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، وأن تكون من المعتل، وكان قياسه (مذيم) كمبيع، إلا أنه أبدلت الواو من الياء، على حد قولهم (مكول) في مكيل، و (مشوب) في مشيب.

    مدحورا " مقصيا مطرودا لمن تبعك منهم " اللام فيه، لتوطئة القسم، وجوابه لأملأن جهنم منكم أجمعين " ، أي: لمن أطاعك من الجن والإنس، لأملأن جهنم من كفاركم، كقوله تعالى: قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا

    قال الجشمي : وإنما قال ذلك لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس وحزبه من الشياطين، وكفار الإنس وفساقهم، الذين انقادوا له وتركوا أمر الله لأمره، فجمعهم في الخطاب، ومتى قيل: لم ضيق جهنم ووسع الجنة؟ قلنا: لأن جهنم حبس، والجنة دار ملك. ومتى قيل: فما الفائدة في قوله: لأملأن جهنم منكم قلنا: لطفا ليكون المكلف تبعا للأنبياء دون الشياطين، ولطفا لإبليس وحزبه، لأنه غاية في الزجر والنهي.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على الوعيد لمن تبع إبليس، وأنه يملأ جهنم منهم. ولا بد فيه من شرط، وهو أن لا يتوب، أو لا يكون معه طاعة أعظم. وتدل على إذلال إبليس وطرده ولعنه بسبب عصيانه، تحذيرا عن مثل حاله.

    [ ص: 2639 ]

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [19] ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين

    وقوله تعالى: ويا آدم " أي: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " أي جنة الخلد، أو جنة في الأرض.


    قال الجشمي : وقد تقدم ذكر هذه القصة، والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة، والعوارض تعرض، والوفود تقدم، فكانت القصة تعاد، ليسمع من لم يسمع، استصلاحا ولطفا. لأن في إعادة قصة واحدة، في مواضع بألفاظ مختلفة، كل واحد منها في نهاية الحسن، من إعجاز القرآن. فكلا من حيث " أي: من كل مكان شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20] فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين

    فوسوس لهما الشيطان " أي: إبليس بأكل الشجرة مخيلا لهما النفع ليبدي لهما " أي: يظهر لهما ما ووري " أي: ستر عنهما من سوآتهما " أي: عوراتهما واللام في ليبدي " إما للعاقبة، لأنه لم يعلم صدوره منهما، أي: فكان عاقبة وسوسته أن أظهر سوآتهما، أو للتعليل والغرض، وهو الأصل فيها، بناء على حدسه أو علمه بطريق ما.

    تنبيه:

    في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه مستهجن في الطباع، ولذلك سميت سوأة، لأنه يسوء صاحبها..

    [ ص: 2640 ] قال الحاكم : وقد استدل قوم بالآية على وجوب ستر العورة، وأنه كان في شريعة آدم عليه السلام.

    قال القاضي : لا دليل في الآية على الوجوب، لأنه ليس فيها إلا أنهما فعلا ذلك.

    قال الأصم : في الآية دليل على أنهما كرها التعري، وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعري، وإن لم يكن مع المتعري أحد، إلا لحاجة.

    وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا أي: إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أي: من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.

    وقد استدل بهذا من رأى تفضيل الملائكة على الأنبياء، لارتكابهما ذلك طمعا في نيل ما ذكر، وأجاب، من لم ير هذا، باحتمال أن تكون هذه الواقعة قبل نبوة آدم . ولئن كانت بعدها، فلعل آدم رغب في الملكية للقوة والشدة والقدرة، أو لخلقة الذات، بأن يصير جوهرا نورانيا -أشار له الرازي -.

    وقال الناصر : لا يلزم من اعتقاد إبليس لذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل، أن يكون الأمر كذلك في علمه تعالى، ألا ترى إبليس قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخلدا أو لا يكونا ملكين، وهو في ذلك كاذب مبطل فلا دليل فيه إذا، وليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لإبليس على ذلك، ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما، إذ قال الله تعالى: فدلاهما بغرور " فلعل تفضيله الملائكة على النبوة من جملة غروره -انتهى.

    قال السيوطي في (الإكليل): وأنا أقول: لا أزال أتعجب ممن أخذ يستدل من هذه الآية. والكلام الذي فيها، حكاه الله تعالى عن قول إبليس في معرض المناداة عليه بالكذب والغرور والزور والتدليس، وإنما يستدل من كلامه تعالى، أو من كلام حكاه عن بعض أنبيائه. وإن لم يكن ذلك، فكلام حكاه راضيا به مقرا له -انتهى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #350
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2641 الى صـ 2655
    الحلقة (350)



    على أنه قرئ (ملكين) بكسر اللام، كان يقرؤها كذلك ابن عباس ويحيى بن أبي [ ص: 2641 ] كثير . قال الواحدي : إنما أتاهما إبليس من جهة الملك. ويدل على هذا قوله تعالى: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى انتهى.

    والقراءة الشاذة قد تكون تفسيرا للمتواترة، كما لا يخفى، وبه يندفع ما للرازي هنا.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21] وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين

    وقاسمهما " أي: أقسم لهما إني لكما لمن الناصحين " أي: في هذا الأمر.

    قال ابن كثير : أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. انتهى.

    وعن قتادة : إنما يخدع المؤمن بالله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة، أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له .

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين

    فدلاهما بغرور " أي: أطمعهما، وأصله: الرجل العطشان يدلي في البئر ليروي من مائها، فلا يجد فيها ماء، فيكون مدليا فيها بغرور، فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا، وفيه إشعار بأنه أهبطهما بذلك من درجة عالية، إلى رتبة سافلة. فإن [ ص: 2642 ] التدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل. وقيل: معنى دلاهما جرأهما بغروره، والأصل فيه (دللهما)، والدل والدالة الجرأة كما قال:


    أظن الحلم دل علي قومي وقد يستجهل الرجل الحليم



    فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء:

    فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما أي: أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية فتهافت عنهما اللباس، فظهرت لهما عوراتهما.

    قال السيوطي في (الإكليل): استدل به بعضهم على أن من ذاق الخمر عصى –انتهى-

    وهذا وقوف مع ظاهر ما ههنا، فإن الذوق وجود الطعم بالفم، وظاهر أنه قد يعبر به عن الأكل اليسير، وهو المراد هنا، لأنه وقع في آية أخرى مصرحا بالأكل فيها وطفقا يخصفان أي: أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة عليهما من ورق الجنة " أي: ليستترا به.

    قال الجشمي : تدل على أن ستر العورة كان من شريعة آدم عليه السلام. وقد استدل قوم بالآية على وجوب الستر.

    قال القاضي : وليس في الآية ما يوجب الوجوب، إذ ليس فيها أكثر من أنهما فعلا ذلك.

    قال الأصم : وتدل على أن الستر من خلق آدم وحواء ، وأنهما كرها العري وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعري إلا عند الحاجة.

    وناداهما ربهما " أي يذكرهما النهي السابق والأمر والتجنب عن الشيطان ألم أنهكما عن تلكما الشجرة " أي: عن الأكل منها: وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين

    [ ص: 2643 ]

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [23] قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين

    " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا أي أضررناها بالمعصية وإن لم تغفر لنا " أي ما سلف وترحمنا " أي بالتوبة وقبولها لنكونن من الخاسرين " أي لنصيرن ممن خسر جميع ما حصل له من الكمالات. قال الضحاك بن مزاحم في قوله ربنا ظلمنا " الآية: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.

    لطيفة:


    قال الجشمي : يقال إن آدم عليه السلام سعد بخمسة أشياء: اعترف بالذنب، وندم عليه، ولام نفسه، وسارع إلى التوبة، ولم يقنط من الرحمة. وشقي إبليس بخمسة أشياء: لم يقر بالذنب، ولم يندم، ولم يلم نفسه بل أضاف إلى ربه فلم يتب، وقنط من الرحمة.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24] قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين

    قال اهبطوا " أي: من الجنة إلى ما عداها، وقال أبو مسلم : معناه اذهبوا. وهو خطاب لآدم وحواء وإبليس.

    قال ابن كثير : والعمدة في العداوة آدم وإبليس، ولهذا قال في سورة طه: قال اهبطا منها جميعا الآية، وحواء تبع لآدم ، والحية إن كان ذكرها صحيحا فهي تبع لإبليس.

    وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم. ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها، ولو كان في تعيين تلك [ ص: 2644 ] البقاع فائدة، تعود على المكلفين، في أمر دينهم أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

    بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر أي: استقرار أو موضع استقرار ومتاع " أي: تمتع ومعيشة إلى حين " أي: إلى تقضي آجالكم.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [25] قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون

    قال فيها " أي الأرض تحيون " تعيشون وفيها تموتون ومنها تخرجون " أي: يوم القيامة للجزاء، كقوله تعالى: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى

    ثم ذكرهم سبحانه بنعمته في تبوئة الدار والمستقر في الأرض وكسوتهم لباسا يسترون به سوءاتهم، بعدما نزع عنهما لباس الجنة، وذلك لما هم، بعد الإهباط، من الحاجة إلى اللباس والمعاش. فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26] يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون

    " يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسا يعني ما يلبس من الثياب وغيره.

    قال الزمخشري : جعل ما في الأرض منزلا من السماء، لأنه قضى ثمة وكتب، أي: قضى وقسم لكم، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح المحفوظ.

    وقال أبو البقاء : لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر، والمطر ينزل، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب. انتهى.

    [ ص: 2645 ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول: لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة، فإن اللباس ينزل من ظهور الأنعام فامتن سبحانه بما ينتفعون به من الأنعام في اللباس والأثاث، وهذا - والله أعلم - معنى إنزاله، فإنه ينزله من ظهور الأنعام، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش، فقد أنزلها عليهم، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب، فهي لدفع الحر والبرد، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان.

    يواري سوآتكم " أي يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق، وأنتم مستغنون عن ذلك وريشا " عطفه إما من عطف الصفات، فوصف اللباس بشيئين: مواراة السوأة والزينة. فالريش بمعنى الزينة، لأنه زينة الطير فاستعير منه. وإما من عطف الشيء على غيره، أي: أنزلنا لباسين: لباس مواراة، ولباس زينة، فيكون مما حذف فيه الموصوف، أي: لباسا ريشا، أي ذا ريش، والريش مشترك بين الاسم والمصدر.

    وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وحكاه البخاري عنه: الريش المال. وحكاه غير واحد من السلف. قال الإمام ابن تيمية : وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال، والمراد به مال مخصوص. قال ابن زيد : جمالا. وقرئ ريشا. قال [ ص: 2646 ] ابن السكيت : الرياش هو الأثاث من المتاع، ما كان من لباس أو حشو من فراش أو دثار، والريش: المتاع والأموال، وقد يكون في الثياب دون الأموال. وإنه لحسن الريش، أي: الثياب. انتهى.

    ويقال: راش فلان، أي: جمع الريش، وهو المال والأثاث. وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه، وأصله من الريش، كأن الفقير المملق لا نهوض له، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيرا، فقد رشته -كذا في تاج العروس-.

    فائدة:

    روى الإمام أحمد عن أبي أمامة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من استجد ثوبا فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به، كان في ذمه الله تعالى وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا » . ورواه الترمذي وابن ماجه ، وروى [ ص: 2647 ] الإمام أحمد عن أبي مطر أنه رأى عليا رضي الله عنه أتى غلاما حدثا، فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوة: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي .

    ولما بين تعالى ساتر الظاهر وزينته، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله ولباس التقوى " أي: خشية الله، أو الإيمان، أو السمت الحسن، والكل متقارب، ورفعه بالابتداء خبره جملة ذلك خير " أو خير، وذلك صفته، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.

    قال المهايمي : لأن الظاهر محل نظر الخلق، والباطن محل نظر الحق، والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة.

    وقال القاشاني : لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع، لأنه أصل الدين وأساسه، كالحمية في العلاج. انتهى.

    قال أبو علي الفارسي : معنى الآية: ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به، قال: وأضيف اللباس إلى التقوى، كما أضيف إلى الجوع في قوله: فأذاقها الله لباس الجوع والخوف –انتهى-

    [ ص: 2648 ] أي: فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس، تشتمل على جميع بدنه، بحسب الورع والخشية من الله، اشتمال اللباس على اللابس، أو من قبيل (لجين الماء). وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ولباس التقوى " بالنصب، عطفا على لباسا " .

    ذلك " أي:إنزال اللباس من آيات الله " الدالة على فضله ورحمته على عباده لعلهم يذكرون " أي: نعمته عليهم فيعرفون عظمتها فيشكرونها.

    قال الزمخشري : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت، وخصف الأوراق عليها، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري، وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدها. وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة. وقال آخرون: لا تدل، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به، فأما أنه واجب، فبعيد.

    ولو ثبت وجوبه عليه، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف. وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شريعة أخرى.

    وتدل على أنه تعالى، كما أنعم بنعم الدنيا، أنعم بنعم الدين، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب، فتحصل نعمة الدارين.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [27] يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينـزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون

    يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " أي لا يخدعنكم عن دخول الجنة، بنزع لباس [ ص: 2649 ] الشريعة والتقوى عنكم، فيخرجكم من نظر الله بالرحمة إليكم: كما أخرج أبويكم من الجنة نعت لمصدر محذوف، أي لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم. ينـزع عنهما لباسهما " أي الظاهر بسبب نزع لباس التقوى ليريهما سوآتهما " أي الظاهرة الدالة على السوأة الباطنة. وجملة ينـزع " حال من أبويكم " أو من فاعل " أخرج " ، أي: أخرجهما نازعا لباسهما، بأن كان سببا في أن نزع عنهما، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة.

    تنبيهان:

    الأول: قال السيوطي في (الإكليل): استدل بهذه الآية أيضا على وجوب ستر العورة، واستدل بالآيتين من قال: إن العورة هي السوأتان خاصة -انتهى.

    الثاني: قال الإمام الرازي : اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها، فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم ، وبين فيها شدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده، أتبعها بأن حذر أولاده من قبول وسوسة الشيطان، فقال: يا بني آدم " الآية، وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده، ولطف وسوسته، وشدة اهتمامه، إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة - فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى.

    فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسته.

    وقوله تعالى: إنه يراكم هو وقبيله أي: جنوده من الشياطين: من حيث لا ترونهم أي من مكان لا ترونهم فيه.

    والجملة استئناف لتعليل النهي، وتأكيد التحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. عن مالك بن دينار : إن عدوا يراك ولا تراه، لشديد المؤنة، إلا من عصم الله.

    تنبيه:

    قال السيوطي في (الإكليل): قال ابن الفرس : استدل بها بعضهم على أن الجن لا يرون وأن من قال إنهم يرون فهو كافر –انتهى-

    ومراده بالبعض، المعتزلة ، ولذا [ ص: 2650 ] قال الزمخشري : فيه دليل بين أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة. انتهى.

    وقال الجشمي : تدل على بطلان قول العامة إن الشيطان يتصور لنا ونراه. ثم قال: ومتى قيل: أليس يرون زمن الأنبياء، ويرى المعاين الملك؟ فجوابنا: أنه يزداد قوة الشعاع أو تتكاثف أبدانهم، فيكون معجزة للنبي -انتهى.

    وأجاب أهل السنة كما في (العناية): بأنه قد ثبتت رؤيتهم، بالأحاديث الصحيحة المشهورة، وهي لا تعارض ما في الآية لأن المنفي فيها رؤيتهم إذا لم يتمثلوا لنا.

    وقال في فتح البيان: وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك. وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه وليس فيها أنا لا نراه أبدا، فإن انتفاء الرؤية منا له، في وقت رؤيته لنا، لا يستلزم انتفاءها مطلقا.

    والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، وتكون الآية مخصوصة بها، فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض –انتهى-.

    وقد أوضح الغزالي رحمه الله رؤيا الجن والشياطين برؤيا الملائكة حيث قال في (الركن الثاني): الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافا يكون بين الأنواع. ثم قال: ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر - أعني جواهر الملائكة- وإن كانت غير محسوسة.

    وهذه المشاهدة على ضربين: إما على سبيل التمثيل، كقوله تعالى: فتمثل لها بشرا سويا وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام، يرى جبريل في صورة دحية الكلبي .

    [ ص: 2651 ] والقسم الثاني: أن يكون لبعض الملائكة بدن مخصوص، كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها، فكذلك بعض الملائكة، وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفا على إشراق نور النبوة، كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوفة عند الإدراك على إشراق نور الشمس، وكذا في الجن والشياطين -انتهى.

    وقوله تعالى: إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون قال الزجاج : يعني سلطناهم عليهم، يزيدون في غيهم –انتهى- والجملة تعليل آخر للنهي، وفيه تحذير أبلغ من الأول.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [28] وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون

    وإذا فعلوا فاحشة " أي: ما تناهى قبحه من الذنوب، كالشرك وكشف العورة في الطواف [ ص: 2652 ] قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها أي: إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها، فاقتدوا بهم، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها، حيث أقرنا عليها، إذ لو كرهها لنقلنا عنها، وهما باطلان، لأن أحدهما تقليد للجهال، والتقليد ليس بطريق للعلم، والثاني افتراء على ذي الجلال.

    قال الشهاب : في قوله تعالى والله أمرنا " : مضاف مقدر أي أمر آباءنا، فلا يقال الظاهر أمرهم بها، والعدول عن الظاهر إشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم.

    قل إن الله لا يأمر بالفحشاء " أي: هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك، لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال: أتقولون على الله ما لا تعلمون إنكار لإضافتهم الأمر بالفحشاء إليه سبحانه، يتضمن النهي عن الافتراء عليه تعالى، وفيه شهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط.

    قال الشهاب : ولا دليل في الآية لمن نفى القياس، بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم، لأنه مخصوص في عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به، أو بدليل آخر.

    تنبيه:

    قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على قبلها النسعة أو الشيء وتقول:


    اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله



    فأنزل الله: وإذا فعلوا فاحشة الآية ، قال ابن كثير : كانت العرب ، ما عدا قريشا ، لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها. وكانت قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه، فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوبا جديدا، ولا أعاره أحمسي ثوبا، [ ص: 2653 ] طاف عريانا، وربما كانت امرأة، فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر، فتقول: اليوم يبدو... - البيت- وأكثر ما كان النساء يطفن بالليل، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر تعالى عليهم ذلك.

    وذكر السيوطي في (الإكليل) عن ابن عباس أيضا؛ أنها نزلت في طوافهم بالبيت عراة ، رواه أبو الشيخ وغيره، قال: ففيها وجوب ستر العورة في الطواف.

    تنبيهان:

    الأول: ذهب المعتزلة إلى أن الإرادة مدلول الأمر، ولازمة له، والفحشاء -أعني الشرور والمعاصي- غير مأمور بها بنص الآية، فلا تكون مرادة له تعالى.

    وأجاب أهل السنة بأن الأمر قد ينفك عن الإرادة، بمعنى أنه يوجد بدون الإرادة، فلا تكون الإرادة تابعة له وجودا. ومما يوضح أن الشيء قد يؤمر به ولا يكون مرادا، أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده، يأمره بالشيء ولا يريده منه. ومنها أن الأمر أمران:

    أمر تكويني: يحصل به وجود الأشياء، وهو خطاب (كن) وهو تابع للإرادة، ويعم جميع الكائنات. فالطاعات والمعاصي كلها مأمورة ومرادة بهذا الأمر، ولا يتعلق بهذا الأمر الطاعة والعصيان والثواب والعقاب. لأنه يتعلق بالأشياء حال العدم. وأمر تشريعي تدويني: أي شرعه الله لعباده، وكلفهم به، مما دون في كتب الشريعة وبين. وهذا الأمر يتعلق به الطاعة والعصيان والثواب والعقاب والرضا والسخط، والكفر والمعاصي ليست مأمورة بهذا الأمر.

    والمعتزلة لم يفرقوا بين الأمرين، وقالوا: إن الكفر والمعاصي لو كانت مراده تعالى، لكانت مأمورا بها، وإتيان المأمور به طاعة، فيكون الكافر والفاسق مطيعين، فإنهما مأمور بهما بالأمر الأول، وليس مأمورا بهما بالأمر الثاني، حتى يكون إتيانهما طاعة.

    [ ص: 2654 ] قال السيلكوتي : ولا يخفى عليك تقسيم الأمر إلى أمرين، إنما يستقيم إذا كان قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون على ظاهره، كما ذهب إليه البعض. وأما إذا كان عبارة عن الإيجاد من غير أن يتعلق بها خطاب، كما ذهب إليه الأشعري ومن تبعه، فلا. انتهى.

    والمسألة مبسوطة في محالها المعروفة.

    الثاني: قوله تعالى: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء جواب عن شبهتهم الثانية.

    ولم يذكر جوابا عن الأولى، قال الإمام : لأنها إشارة إلى محض التقليد، وقد تقرر في المعقول أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة. فلو كان التقليد حقا، لزم القول بحقية الأديان المتناقضة، فلما كان فساده ظاهرا، لم يذكره تعالى.

    الثالث: قال في (فتح البيان): في هذه الآية الشريفة أعظم زاجر، وأبلغ واعظ، للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر، لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون

    والقائلون: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والمقلد، لولا اغتراره بكونه وجد آباءه على ذلك المذهب، مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق -لم يبق عليه-. وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية والبدعة، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن الله كما ينبغي. وهذا هو التقليد البحت، والقصور الخالص. ثم قال: وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق، اختيار المقلدة لآراء [ ص: 2655 ] الرجال، مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم، ووجود آلة الفهم لديهم، وملكة العقل عندهم. انتهى.

    ولما نفى ما تقولوه عليه، وأخبر أنه لا يأمر بالفحشاء، بين ما أمر به بقوله تعالى

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29] قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون

    قل أمر ربي بالقسط " أي: بالعدل، وللسلف فيه هنا وجوه: ما ظهر في العقول كونه حسنا، أو التوحيد، أو كلمة الإخلاص. وعن أبي مسلم : جميع الطاعات. قال الحاكم : وهو الوجه: ولا يخفى أن الجميع مما يشمله (القسط) فلا منافاة.

    وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع (أن). أي: بأن أقسطوا وأقيموا، والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، كما نقله المعرب. أو معطوف على " أمر ربي " أي: قل أقيموا.

    قال الجرجاني : الأمر معطوف على الخبر، لأن المقصود لفظه، أو لأنه إنشاء معنى. انتهى.

    والوجوه مجاز عن الذوات. ومسجد إما مصدر، والوقت مقدر قبله، و " عند " بمعنى (في)، أي: أقيموا ذواتكم في كل وقت سجود، وذلك بمنعها عن الالتفات إلى الغير فيه، وبمراعاة موافقة الأمر مع صدق النية، أو باستقبال القبلة فيه، وإما اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، أي في كل وقت سجود أو مكانه.

    والسجود على هذه الأوجه مجاز عن الصلاة، أو المسجد هو المصطلح عليه، والمعنى: في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، والأمر على هذا الوجه للندب، قيل: وهو لا يناسب المقام، وإما على ما قبله، فهو للوجوب.

    وهذه الوجوه مستفادة مما روي عن السلف. قال في (اللباب): معنى الآية في قول [ ص: 2656 ] مجاهد والسدي : وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة . وقال الضحاك : المعنى إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيها، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي، أو مسجد قومي، وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا.

    وادعوه " أي: اعبدوه مخلصين له الدين " أي: الطاعة بتخصيصها له، لأنه استحق عبادتكم بإبدائه إياكم، ولا يسعكم تركها، إذ إليه عودكم بالآخرة، فإنه كما بدأكم تعودون " أي: كما أنشأكم ابتداء، يعيدكم إليه أحياء، فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. وإنما شبه الإعادة بالابتداء، تقريرا لإمكانها والقدرة عليها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #351
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2656 الى صـ 2670
    الحلقة (351)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [30] فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون

    فريقا هدى " بأن وفقهم للإيمان وفريقا حق عليهم الضلالة " وهم الكافرون إنهم اتخذوا الشياطين أولياء " أي: أنصارا وأربابا من دون الله " حيث أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي ويحسبون أنهم مهتدون " أي: أنهم على هداية وحق فيما اعتقدوا.

    تنبيهان:

    الأول: قال ابن جرير : قوله تعالى: ويحسبون أنهم مهتدون من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل، وهو يحسب أنه مهتد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية. انتهى.

    [ ص: 2657 ] وحاصله، كما قال القاضي : إن الآية دلت على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم.

    قال القاضي : وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر، أي: يحمل الضمير في " اتخذوا " على الكافر المقصر في النظر. وأما الذين اجتهدوا وبذلوا الوسع فمعذورون، كما هو مذهب البعض- كذا في (العناية).

    الثاني: قال الرازي : هذه الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين. ولولا أن هذا الحسبان مذموم، لما ذمهم بذلك. انتهى.

    قال المهايمي : ومما حسبوا فيه أنهم مهتدون بمتابعة الشيطان، تركهم التزين والتلذذ مع العبادة، فطافوا عراة، وتركهم اللحم والسم مع الإحرام، فقال عز وجل:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [31] يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

    يا بني آدم خذوا زينتكم " أي: من اللباس عند كل مسجد " أي: بيت بني للعبادة، على أنه اسم مكان، أو مصدر بمعنى السجود، مرادا به الصلاة والعبادة، فإن العبادة أولى أوقات التزين وكلوا واشربوا " أيام الحج تقويا على العبادة ولا تسرفوا " أي: إسرافا يوجب الانهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسمإنه لا يحب المسرفين " المعتدين.

    تنبيهات:

    الأول: كما أسلفنا في مقدمة هذا التفسير، أن من فوائد معرفة سبب النزول الوقوف على المعنى، وإزالة الإشكال، وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا، لأنها نزلت في ذلك.

    [ ص: 2658 ] فقد روى مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافا؟ تجعله على فرجها وتقول:


    اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

    فنزلت هذه الآية خذوا زينتكم " الآية. ونزلت قل من حرم زينة الله " الآية.

    وعند ابن جرير عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول:


    اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله

    فنزلت خذوا زينتكم " . قال في (اللباب): وفي رواية أخرى عنه: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا وروى العوفي عن ابن عباس أيضا في الآية قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة اللباس، وهو ما يواري السوأة، وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.

    وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال: أمروا بلبس الثياب، وأخرج من وجه آخر عنه قال: الشملة [ ص: 2659 ] من الزينة ، وقال مجاهد : كان حي من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجا أو معتمرا يقول: لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه، فيقول: من يعيرني مئزرا؟ فإن قدر عليه وإلا طاف عريانا. فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: خذوا زينتكم " الآية.

    وقال الزهري : إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس -وهم قريش وأحلافهم- فمن جاء من غير الحمس ، وضع ثيابه، وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه، ويطوف عريانا. وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها، إذا قضى طوافه وحرمها، أي جعلها حراما عليه؛ فلذلك قال تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد " .

    والمراد من الزينة الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد : ما يواري عوراتكم، ولو عباءة - انتهى -

    قال ابن كثير : هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ، والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة –انتهى-.

    فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول، دون لباس التجمل المتبادر منه، لأن المستفاد من " خذوا " هو وجوب الأخذ، ولباس التجمل مسنون -قاله الشهاب - وأقول دلت الآية بما أفاده سبب نزولها على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من اللباس كما توهم، وبين ذلك العوفي عن ابن عباس فيما نقلناه.

    وفي (التهذيب): الزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به. ومثله في (الصحاح) و (القاموس) وعبارته: الزينة ما يتزين به.

    وقال الحراني : الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة.

    وقال الراغب : الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، ولا في الدنيا ولا في الآخرة -انتهى.

    وقد نقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد ب(الزينة) لبس الثياب التي تستر العورة.

    [ ص: 2660 ] قال: والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات. قال: وأيضا إنه تعالى قال في الآية المتقدمة: قد أنـزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة.

    ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية. وأيضا فقوله خذوا زينتكم " أمر، والأمر للوجوب. فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملا بالنص بقدر الإمكان. ولا يقال: إن قوله وكلوا واشربوا " أمر إباحة، فيكون المعطوف عليه كذلك، لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف، تركه في المعطوف عليه.

    هذا، وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعا: أنها نزلت في الصلاة في النعال .

    وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه، وعن أبي هريرة مثله، قال ابن كثير : وفي صحته نظر -والله أعلم-

    قلت: لا نظر، لأن ذلك مما تشمله الزينة، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم: (نزلت في كذا)، لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به، بل مخصوصة بنوعه، فتعم ما أشبهه، فتذكر.

    والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جدا، منها: عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد ، قال: سألت أنسا : أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم . (متفق عليه).

    قال العراقي في (شرح الترمذي ): وممن كان يفعل ذلك -يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي ، ومن التابعين: سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار ، وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وطاوس وشريح القاضي ، وأبو مجلز وأبو عمر الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي وعلي بن الحسين وابنه أبو جعفر . انتهى.

    [ ص: 2661 ] وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: « إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما » . وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيا ومنتعلا . أخرجه أبو داود وابن ماجه .

    الثاني: دلت الآية على وجوب الستر عند الطواف، لأنه سبب النزول، قالوا: واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد.

    الثالث: حاول بعضهم استنباط التجمل عند الصلاة منها حيث قال: لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة، فهم منها، في الجملة، حسن التزين بلبس ما فيه حسن [ ص: 2662 ] وجمال فيها.

    قال الكيا الهراسي : ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، للفضل الذي يتعلق به تعظيما للمسجد والفعل الواقع فيه، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف.

    وقال ابن الفرس : استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية، واستدل بها قوم من السلف على أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين، كذا في (الإكليل)، والأخير من الغلو في النزع.

    وقال ابن كثير : ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد. والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك. ومن أفضل اللباس البياض لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم. وإن من خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر وينبت الشعر» ولأحمد وأهل السنن، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم» . وروى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميما الداري اشترى رداء بألف، وكان يصلي فيه .

    الرابع: وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى وكلوا واشربوا " ما رواه الكلبي أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم.

    فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله. [ ص: 2663 ] فأنزل الله عز وجل وكلوا واشربوا "
    .

    وقال السدي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم. فقال الله تعالى لهم: وكلوا واشربوا " الآية.

    الخامس: فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل، وذلك بتحريمه، وقال الجشمي اليمني في تفسيره (التهذيب): تدل الآية على المنع من الإسراف. وذلك على وجهين:

    أولهما: إنفاق في معصية كالفخار واللعب والزنى والخمر ونحوها. وثانيهما: أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار. لأن من له قدر يسير، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز، وهو وعياله يحتاجون إليه، فهو سرف محرم. ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفا. وتدل على أن الأشياء على الإباحة. والعقل يدل على ذلك. لأنه تعالى خلقه لمنافعهم، والسمع ورد مؤكدا، ولذلك قال من حرم " مطالبا بدليل سمعي اهـ.

    وقد روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده » .

    وأخرج النسائي وابن ماجه نحوه.

    وقال البخاري : قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: [ ص: 2664 ] سرف أو مخيلة .

    ورواه ابن جرير عنه أيضا بلفظ: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة .

    قال الشهاب : هذا (أي ما قاله ابن عباس ) لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء؛ أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي، ويلبس ما يشتهيه الناس، كما قيل:


    نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس
    كل ما اشتهيت والبس ن ما اشتهته الناس

    فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. و (المخيلة: الكبر). و (ما) دوامية زمانية. و (أخطأتك)، من قولهم: أخطأ فلان كذا، إذا عدمه.

    وفي الأساس: من المجاز لن يخطئك ما كتب لك وأخطأ المطر الأرض: لم يصبها، وتخاطأته النبل: تجاوزته وتخطأته. انتهى.

    وفي قوله تعالى: إنه لا يحب المسرفين " وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء. لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه.

    السادس: تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى: وكلوا واشربوا " الآية، جمع الطب كله. وأصله ما حكاه الزمخشري والكرماني في عجائبه؛ أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان. فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب ! فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال قوله: « المعدة بيت الداء، والحمية [ ص: 2665 ] رأس الدواء، وأعط كل بدن ما عودته » فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.

    قال في (العناية): وترك بعضهم تمام القصة، لأن في ثبوت هذا الحديث كلاما للمحدثين.

    وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم » . انتهى.

    أقول: إن صحت هذه الحكاية، فصواب جواب النصراني في سؤاله الثاني بالتفنيد والفرية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ما لم يؤثر عن نبي قط، وللمحدثين في عهد السلف منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم. وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في أسفار مطولة ومختصرة بعنوان (الطب النبوي).

    وقد بين الإمام ابن القيم : عليه الرحمة، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب، والسنة المطهرة على بدائعه، في كتابه (زاد المعاد)، بيانا يدهش الألباب، وفوق كل ذي علم عليم، قال عليه الرضوان في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد):

    فصل

    قد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به، ووصفه لغيره، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم، فنحن نقول وبالله المستعان:

    المرض نوعان:

    مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن.

    ومرض [ ص: 2666 ] القلب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن. قال تعالى في مرض الشبهة: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقال تعالى: وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا وقال تعالى في حق من دعي إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون فهذا مرض الشبهات والشكوك.

    وأما مرض الشهوات فقال تعالى: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا فهذا مرض شهوة الزنى - والله أعلم ـ.

    وأما مرض الأبدان فقال تعالى: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسر بديع، يبين [ ص: 2667 ] ذلك عظمة القرآن والاستغناء به، لمن فهمه وعقله، عن سواه، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة. فقال في آية الصوم: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، والمسافر، طلبا لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبها الصوم في السفر، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها.

    وقال في آية الحج: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل أو [ ص: 2668 ] حكة أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه. والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا سبغ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش.

    وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحبسه، وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس، على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن، التنبيه بالأدنى على الأعلى.

    وأما الحمية، فقال في آية الوضوء: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه. وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له، من داخل أو خارج. فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب، ومجامع قواعده.

    ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ونبين أن هديه فيه أكمل هدي.

    فأما طب القلوب، فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم، وعلى أيديهم، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه.

    ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل. وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم، فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه [ ص: 2669 ] البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل. ومن لم يميز بين هذا وبين هذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات -انتهى.

    وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتابه (طريق الهجرتين) نورده أيضا لبداعة أسلوبه قال عليه الرحمة:

    ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي بفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه، كما يدرك الحلو مرا، والخبيث طيبا، والطيب خبيثا.

    وأما فساد حركته الطبيعية، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة.

    فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة؛ وسبب هذا الخروج عن الاعتدال، إما فساد في الكمية أو في الكيفية، فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها.

    والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة، أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي، فيداوى بمقتضى ذلك، ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة. وقد تضمنها الكتاب العزيز، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة.

    فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان، ويقضي المسافر إذا قدم، والمريض إذا برأ، حفظا لقوتهما عليهما.

    فإن الصوم يزيد المريض ضعفا، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر، فالصوم يضعفها.

    فأما الحمية عن المؤذي، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره، وأمره بالعدول إلى التيمم، حمية له [ ص: 2670 ] عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه، فكيف بالمؤذي له في باطنه؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة، فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها، فنبه به على ما هو أحوج إليه منه.

    وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال: والله، لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة، لكان سفرا قليلا -أو كما قال-. انتهى.

    ثم رد تعالى على من حرم شيئا من المآكل والمشارب والملابس، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله، تأكيدا لما سبق، بقوله سبحانه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [32] قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون

    قل " أي: لهؤلاء المشركين الذي يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم من حرم زينة الله " أي من الثياب وسائر ما يتجمل به التي أخرج لعباده " من النبات كالقطن والكتان، والحيوان كالحرير والصوف، والمعادن كالدروع، هكذا عمم المفسرون هنا، ووجهه أن تخصيصه يغني عنه ما مر والطيبات من الرزق " أي المستلذات من المآكل والمشارب.

    قال المهايمي : يعني إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل الذي هو العبادة، فيحرمان معها، فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة، فعل عبيد الملوك إذا حضروا خدمتهم، ولا ينافي ذلك تذللهم لهم، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده ليشكروه، والشكر عبادة، فلا ينافي التلذذ العبادة، بل قد يكون داعية إليها. انتهى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #352
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2671 الى صـ 2685
    الحلقة (352)

    [ ص: 2671 ] تنبيهات:

    الأول: فسرت (الطيبات) ب(الحلال)، وفسرت ب(اللحم والدسم) الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم، وفسرت ب(البحائر والسوائب) كما قال تعالى: قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا وظاهر أن لفظ الآية أعم من ذلك، وإن كان يدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا، لأنها إنما وردت نعيا عليهم فيه، والعبرة بعموم اللفظ.

    قال الرازي : لفظ (الزينة) يتناول جميع أنواع التزين، ومنه تنظيف البدن، ومنه المركوب، ومنه أنواع الحلي (يعني للنساء). ثم قال: ويدخل تحت (الطيبات)، كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب. وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون ، ما هم به من الاختصاء والتبتل .

    الثاني: دلت الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة، لأن الاستفهام في " من " لإنكار تحريمها على وجه بليغ، لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه.

    الثالث: في الآية رد على من تورع من أكل المستلذات ولبس الملابس الرقيقة، لأنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه، أو حرمه على غيره. وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : لقد أخطأ [ ص: 2672 ] من آثر لباس الشعر والصوف، على لباس القطن والكتان، مع وجود السبيل إليه من حله، ومن أكل البقول والعدس، واختاره على خبر البر، ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض الشهوة. انتهى.

    الرابع: قال ابن الفرس : واستدل بالآية من أجاز لبس الحرير والخز للرجال. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز، فقال له الناس: مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم: من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج، ولكنه كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه . كذا في (الإكليل).

    أقول: عدم شمول الآية للحرير غني عن البيان، لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العام، والأحاديث في تحريم الحرير لا تحصى كثرة، فاستنباط حله منها مردود على زاعمه.

    قل هي " أي زينة الله والطيبات، مخلوقة للذين آمنوا في الحياة الدنيا " بالأصالة، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع خالصة يوم القيامة " أي: لا يشاركهم فيها غيرهم، لأن الله حرم الجنة على الكافرين. وانتصابها على الحالية، وقرئ بالرفع، أي: على أنه خبر بعد خبر.

    لطيفة:

    قال المهايمي : إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة، فيرغبوا فيها مزيد رغبة، لكن شاركهم الكفرة فيها لئلا يكون هذا الفرق ملجئا لهم إلى الإيمان.

    فإذا ذهب هذا المعنى، تصير خالصة لهم يوم القيامة، فلو حرمت على المؤمنين لكانت مخلوقة للكافرين، وهو خلاف مقتضى الحكمة. وإن خلقت للمؤمنين فأولى أوقات الانتفاع بها وقت جريانها على مقتضى الإيمان، وهو العبادة والتقوى، ولكن من غير انهماك في الشهوات.

    كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون أي الحكمة في خلق الأشياء، واستعمال [ ص: 2673 ] الأشياء على نهج ينفع ولا يضر. فإن زعموا أنه يخاف من التزين والتلذذ الوقوع في الكبر، والانهماك في الشهوات، فيحرمان على أهل العبادة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33] قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

    قل " إنهما من المنافع الخالصة في أنفسهما. والإفضاء احتمال غير محقق، فإذا أفضى، فالحرام هو المفضى إليه بالذات لأنه إنما حرم ربي الفواحش " أي: ما تفاحش قبحه من الذنوب، أي: تزايد (وهي الكبائر)، وهي ما يتعلق بالفروج ما ظهر منها وما بطن " أي: ما جاهر به بعضهم بعضا، وما ستره بعضهم عن بعض، وما ظهر من أفعال الجوارح، وما بطن من أفعال القلوب والإثم " أي: ما يوجب الإثم، وهو عام لكل ذنب، وذكره للتعميم بعد التخصيص، ويقال: إن الإثم هو الخمر، قال الشاعر:


    نهانا رسول الله أن نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

    وأنشد الأخفش :


    شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول

    وهو منقول عن ابن عباس والحسن . وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره، قال الحسن : ويصدقه قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير

    وقال ابن الأنباري : لم تسم العرب الخمر [ ص: 2674 ] إثما في جاهلية ولا إسلام، والشعر المذكور موضوع، ورد بأنه مجاز، لأنه سببه. وقال أبو حيان : هذا التفسير غير صحيح هنا، لأن السورة مكية، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وقد سبقه إلى هذا غيره.

    وأيضا، الحصر يحتاج إلى دليل، كذا في (العناية).

    والبغي " أي: الاستطالة على الناس وظلمهم، إنما أفرده بالذكر، مع دخوله فيما قبله، للمبالغة في الزجر عنه. وذلك لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميز من بينها حتى عد نوعا مستقلا. بغير الحق " متعلق ب(البغي)، مؤكد له معنى، وقيل: البغي قد يخرج عن كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص، إلا أن مثله لا يسمى بغيا حقيقة، بل مشاكلة " و " قد حرم " أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا " أي: برهانا أي: ما لم يقم عليه حجة.

    قال الزمخشري : فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره.

    وفي (العناية): إنما جاء التهكم من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان لم يكن محرما، دلالة على تقليدهم في الغي، والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على الوجه الأبلغ. انتهى.

    قال الرازي : وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل. وتبعه القاضي فقال: في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان " و " قد حرم عليكم " أن تقولوا على الله ما لا تعلمون " أي: تتقولوا عليه، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم، أو في الشرك.

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على تحريم جميع الذنوب، لأن قوله " الفواحش والإثم " ، يشتمل على الصغير والكبير، والأفعال القبيحة، والعقود المخالفة للشرع، والأقاويل الفاسدة، والاعتقادات الباطلة.

    ودخل في قوله ما ظهر منها وما بطن أفعال الجوارح، وأفعال القلوب [ ص: 2675 ] والخيانات، والمكر، والخديعة، ودخل تحت قوله والبغي " كل ظلم يتعدى على الغير، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج ، والأمراء إذا انتصروا بغير حق. ودخل تحت قوله وأن تشركوا " تحريم كل شرك وعبادة لغير الله. ودخل تحت قوله وأن تقولوا " كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق، وشهادة زور ونحوه.

    فالآية جامعة في المحرمات، كما أن ما قبلها جامعة في المباحات، وفيه تعليم للآداب، دينا ودنيا، وتدل على بطلان التقليد، لأنه أوجب اتباع الحجة، لقوله ما لم ينـزل به سلطانا والسلطان الحجة.

    وتدل على أن لكل أحد وقت حياة، ووقت موت، لا يجوز فيه التقديم والتأخير، فيبطل قول من يقول: المقتول مات قبل أجله. انتهى.

    ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه، كما نزل بالأمم، فقال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [34] ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون

    ولكل أمة أجل " أي: مدة أو وقت لنزول العذاب بهم فإذا جاء أجلهم " أي: ميقاتهم المقدر لهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " أي: لا يتركون بعد الأجل شيئا قليلا من الزمان، ولا يهلكون قبله كذلك، والساعة مثل في غاية القلة من الزمان.

    لطائف:

    1- وقع هذا التركيب في موضع من التنزيل، وفيه بحث مشهور: وهو أنه لما كان الظاهر عطف (لا يستقدمون) على (لا يستأخرون)، كما أعربه الحوفي وغيره، وأورد عليه أنه فاسد، لأن (إذا)، إنما يترتب عليها الأمور المستقبلة لا الماضية، والاستقدام حينئذ بالنسبة إلى محل الأجل متقدم عليه، فكيف يترتب عليه ما تقدمه؟ ويصير باب الإخبار [ ص: 2676 ] بالضروري الذي لا فائدة فيه، كقولك: إذا قمت فيما يأتي، لم يتقدم قيامك فيما مضى.

    وأجيب بأن المراد بالمجيء الدنو، بحيث يمكن التقدم في الجملة، كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة فيه.

    وقيل: إن جملة " لا يستقدمون " مستأنفة. وقيل: إنها معطوفة على الشرط وجوابه، أو على القيد والمقيد، أو أن مجموع " لا يستأخرون ولا يستقدمون " ، كناية عن أنهم لا يستطيعون تغييره.

    والتحقيق أنه عطف على يستأخرون " لكن لا لبيان انتفاء التقدم، مع إمكانه في نفسه كالتأخر، كما يتوهم، بل للمبالغة في انتفاء التأخر، يعني أن التأخر مساو للتقدم في الاستحالة، ولذا نظمه معه في سلك، كما في قوله سبحانه: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا، قد نظم في عدم القبول، في سلك من سوفها إلى حضور الموت. إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة.

    2- تقديم بيان انتفاء الاستئخار، لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب. وأما (ما) في قوله تعالى: ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون من سبق (السبق) في الذكر؛ فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فالأهم هناك بيان انتفاء السبق.

    3- صيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك، مع طلبهم له، أفاده أبو السعود .

    ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يهدونهم وبشر وأنذر بقوله سبحانه:

    [ ص: 2677 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [35] يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

    " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي شرط ذكره بحرف الشك، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائر غير واجب. وضمت إليها (ما) لتأكيد معنى الشرط، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة. والمراد ببني آدم جميع الأمم، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم. وليس المراد بالرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، وببني آدم أمته كما قيل، فإنه خلاف الظاهر، كذا في (القاضي وحواشيه)، وجواب الشرط قوله تعالى فمن اتقى " أي التكذيب وأصلح " أي عمله فلا خوف عليهم " من العذاب ولا هم يحزنون " في الآخرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [36] والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    " والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا أي تكبروا عنها " فلم يؤمنوا بها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على وجوب اتباع الرسل وقبول ما يؤدون. وتدل على أن الصلاح في الرسل أن تكون من جملة من بعث إليهم، لأنهم يكونون بطريقته أعرف، ومن النفار عنه أبعد، وإلى السكون إليه أقرب، وتدل على أن الغرض بالرسول ما يؤدي من الأدلة، فلذلك قلنا لا يجوز أن يكون رسولا إلا ومعه ما يؤديه: وتدل على أن الجنة تنال بشيئين: [ ص: 2678 ] بالأعمال الصالحة، واتقاء المعاصي، فبطل قول المرجئة .

    وتدل على أن المؤمن في الآخرة لا يخاف ولا يحزن، خلاف ما يقوله الأحسدية (كذا)، والحشوية -هكذا، قاله أكثر أصحابنا.

    وقال أبو بكر أحمد بن علي : قوله فلا خوف عليهم " كقول الطبيب للمريض (لا بأس عليك)، يعني أن أمره يؤول إلى العافية. وليس هذا بالوجه لأنه نفى الخوف والحزن مطلقا. وتدل على الوعيد للمكذبين، كما تدل على الوعد للمطيعين، ترغيبا وترهيبا. وتدل على أن التقوى والصلاح والتكذيب فعل العبد، فبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة. انتهى كلامه رحمه الله.

    ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [37] فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين

    " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أي ممن تقول على الله كذبا بالتحليل والتحريم، أو بنسبة الولد والشريك، أو كذب بآياته المنزلة. أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك. أي مع ظلمهم وافترائهم وتكذيبهم، لا يحرمون ما قدر لهم من العمر والرزق إلى انقضاء آجالهم.

    وفي الآية وجوه أخر، هذا أظهرها وأقواها في المعنى، وتتمة الآية تدل عليه، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها، كقوله تعالى: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

    [ ص: 2679 ] وقوله تعالى: ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا الآية. حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم أي: ملائكة الموت تقبض أرواحهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء، فلا نراهم يخلصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد.

    وفائدة السؤال وجهان: توبيخ وتبكيت لهم يزيدهم غما إلى غم، ولطف بالمكلف لأنه إذا تصور ذلك صرفه عن التكذيب، و(ما)، وقعت موصولة ب(أين) في خط المصحف العثماني، ومقتضى الاصطلاح الفصل، لأنها موصولة قالوا ضلوا عنا " أي: غابوا عنا فلم يخلصونا من شيء وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين أي: عابدين لما لا يستحق العبادة. اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [38] قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون

    قال " أي الله سبحانه لهم في الآخرة ادخلوا في أمم قد خلت " أي: في جملة أمم قد مضت من قبلكم من الجن والإنس " يعني كفار الأمم الماضية من النوعين في النار " متعلق بـ " ادخلوا " كلما دخلت أمة أي: في النار لعنت أختها " أي التي [ ص: 2680 ] قبلها لضلالها بها، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض الآية.

    إذا اداركوا فيها جميعا أي تداركوا، بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار قالت أخراهم " وهم الأتباع، لأولاهم " أي: لأجل أولاهم، إذ الخطاب مع الله سبحانه، لا معهم. قال ابن كثير : أي قالت أخراهم دخولا وهم الأتباع، لأولادهم وهم المتبعون، لأنهم أشد جرما من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة، لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل، فيقولون: ربنا هؤلاء أضلونا " أي سنوا لنا الضلال، ودعوا إليه، فاقتدينا بهم فآتهم عذابا ضعفا من النار أي مضاعفا لأنهم ضلوا وأضلوا قال " أي تعالى لكل ضعف " أي: عذاب مضاعف. أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال، وأما الأتباع والسفلة، فبالضلال وتقليد أهل الضلال، مع وجود الهادين بالبراهين القاطعة ولكن لا تعلمون " أي ما لكم، أو ما لكل فرقة، وقرئ بالياء، وعليها، فهو تذييل لم يقصد إدراجه في الجواب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [39] وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون

    " وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل أي: لا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال حتى يكون عذابنا مضاعفا دونكم، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. وقوله تعالى: فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون من قول القادة، أو من قول الله تعالى للفريقين، وهو أظهر.

    [ ص: 2681 ] تنبيه:

    قال الجشمي : تدل الآية على أن الكفار والضلال والمبتدعة وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم، وتوادوا في الدنيا، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم، وتدل على فساد التقليد، والاغترار بقول علماء السوء، وتدل على أن الداعي إلى الضلال مضل، وتدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له. وتدل على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة، بخلاف الاشتراك في محن الدنيا. وتدل على أن ذلك الإضلال فعلهم، فيبطل قول المجبرة في المخلوق، والهدى والضلال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [40] إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين

    " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء أي لا تفتح لأعمالهم، ولا لدعائهم، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله. أي: لا يقبل ذلك منهم لأنه ليس صالحا ولا طيبا، وقد قال سبحانه: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه قال ابن عباس : أي: لا يرفع لهم منها عمل صالح، ولا دعاء رواه جماعة عنه. وقاله مجاهد وابن جبير .

    أو المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة، ولا يغاثون، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر [ ص: 2682 ] أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة، على ما روي أن الجنة في السماء.

    أو المعنى لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، أبواب السماء، كما تفتح لأرواح المؤمنين. رواه الضحاك عن ابن عباس -ورواه ابن جرير عن البراء : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر، وأنه يصعد بها إلى السماء، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان ! (بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا)، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفتح لهم أبواب السماء الآية » .

    قال ابن كثير : هكذا رواه. وهو قطعة من حديث طويل، رواه الإمام أحمد مطولا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق.

    [ ص: 2683 ] تنبيهات:

    الأول: قال الشهاب كون السماء لها أبواب، وأنها تفتح للدعاء الصالح، وللأعمال الصاعدة أو للأرواح- وارد في النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويل. انتهى.

    [ ص: 2684 ] وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. والتنزيل الكريم إنما ورد على مناح للعرب معروفة في لسانهم. والله أعلم.

    [ ص: 2685 ] الثاني: التضعيف في (تفتح)، لتكثير المفعول، لا الفعل لعدم مناسبة المقام.

    الثالث: قرئ بالتخفيف في (تفتح)، وبالتخفيف، والياء، وقرئ على البناء للفاعل، ونصب الأبواب، على أن الفعل للآيات مجازا، وبالياء على أنه لله تعالى.

    ولا يدخلون الجنة حتى يلج أي: يدخل الجمل في سم الخياط " أي ثقب الإبرة، وهو غير ممكن، فكذا دخولهم.

    لطائف:

    الأولى: قرأ الجمهور (الجمل)، بفتح الجيم والميم، وفسروه: بأنه الجمل المعروف وهو البعير. قال الفراء : الجمل زوج الناقة، وقال شمر : البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة. وقرئ في الشواذ (الجمل)، كسكر وصرد وقفل، وعنق وجبل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له (القلس).

    وقال أبو البقاء : يقرأ في الشاذ بسكون الميم، والأحسن أن يكون لغة، لأن تخفيف المفتوح ضعيف؛ ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها، وهو الحبل الغليظ، وهو جمع مثل صوم وقوم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل أسد وأسد؛ ويقرأ كذلك إلا أن الميم ساكنة، وذلك على تخفيف المضموم. انتهى.

    وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير، ما عدا (جملا) كسكر وقفل، ونوقش في ذلك. انتهى.

    وقراءته (كسكر) على معنى الحبل المذكور، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، واختارها سعيد بن جبير .

    قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه . إلا أن قراءة العامة أوقع، لأن سم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #353
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2686 الى صـ 2700
    الحلقة (353)



    [ ص: 2686 ] وقالوا للدليل الماهر (خريت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، والجمل مثل في عظم الجرم، قال:
    جسم الجمال وأحلام العصافير

    إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام، فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج هذا الحيوان، الذي لا يلج إلا في باب واسع، وفي ثقب الإبرة. وعن ابن مسعود : أنه سئل عن الجمل؟ فقال: زوج الناقة ، استجهالا للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. انتهى.

    وحاصله أن الجمل لما كان مثلا في عظم الجسم، لأنه أكبر الحيوانات جسما عند العرب ، وخرق الإبرة مثلا في الضيق، ظهر التناسب. على أن في إيثار الجمل، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.

    الثانية: السم: الثقب الضيق. قال أبو البقاء : بفتح السين وضمها، لغتان -انتهى.

    وصرح بالتثليث فيه، وفي القاتل المعروف، صاحب القاموس وغيره، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل، والأفصح في القاتل الضم.

    [ ص: 2687 ] قال العلامة الفاسي : قال الزبيدي : لم أر من تعرض لكسرهما، وكأنها عامية.

    قلت: قال الزمخشري : وقرئ في سم الخياط " بالحركات الثلاث، وكفى به مرجعا.

    الثالثة: (الخياط) ككتاب ومنبر، ما خيط به الثوب، والإبرة، كذا في القاموس.

    قال الزمخشري : وقرأ عبد الله (في سم المخيط). قال الشهاب : بكسر الميم وفتحها، كما ذكره المعرب، وهي قراءة شاذة.

    الرابعة: قال السيوطي في (الإكليل): في قوله تعالى: حتى يلج الجمل " إلخ، جواز فرض المحال، والتعليق عليه كما يقع كثيرا للفقهاء. انتهى.

    والتعليق على المحال معروف في كلام العرب ، كقوله:


    إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب

    وقوله تعالى وكذلك " أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين " .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41] لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين

    لهم من جهنم مهاد " أي: فرش من تحتهم ومن فوقهم غواش " أي أغطية، إذا أحاطت بهم الخطيئة وكذلك نجزي الظالمين " أي: بالكفر، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى، إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين.

    وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور، تنبيها على أنه أعظم الجرائم، ثم تأثر تعالى وعيده بوعده، على سنته في تنزيله الكريم، فقال سبحانه:

    [ ص: 2688 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [42] والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

    " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون قال أبو البقاء : والذين آمنوا مبتدأ، وفي الخبر وجهان:

    أحدهما: لا نكلف نفسا إلا وسعها والتقدير (منهم)، فحذف العائد، كما حذف في قوله: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور

    والثاني: أن الخبر أولئك أصحاب الجنة " و لا نكلف " معترض بينهما. انتهى.

    وعلى الثاني اقتصر غير واحد من المحققين. قالوا: وسر الاعتراض، الترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله، وتيسير تحصيله، والذي حسنه سبق العمل الصالح قبله، أي: وإذا علم أن مبنى التكليف على الوسع زادت الرغبة في ذلك الاكتساب، لحصوله بما فيه يسر لا عسر.

    لطيفة:

    الوسع: ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويستمر. قاله الرازي ، أخذا من قول معاذ في الآية (يسرها لا عسرها)، قال: وأما أقصى الطاقة فيسمى جهدا لا وسعا، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.

    قلت: في القاموس: الوسع (مثلثة) الجدة والطاقة كالسعة. وفيه: الجهد الطاقة (ويضم) والمشقة. انتهى.

    قال ابن الأثير : الجهد (بالفتح) المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وبالضم الوسع والطاقة، [ ص: 2689 ] وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما في المشقة والغاية، فالفتح لا غير. انتهى. وبه يعلم أن ما جرى عليه الرازي قول للغويين، ليس وفاقا.

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [43] ونـزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون

    " ونـزعنا ما في صدورهم من غل أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعدواة، أو نطهرها منها، حتى لا يكون بينهم إلا التواد والتعاطف، وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرره.

    وتقرره تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا أي لما جزاؤه هذا، أي: لأسباب هذا العلو، بإرسال الرسل والتوفيق للعمل.

    وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أي ما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه، لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته.

    لقد جاءت رسل ربنا بالحق أي: فاهتدينا بإرشادهم قال الزمخشري : يقولون ذلك، أي الحمد لله " إلخ سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به، لا تقربا ولا تعبدا، كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك أن لا يقوله، للفرح والتوبة.

    ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون أي: أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا. فالميراث مجاز عن الإعطاء، تجوز به عنه إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا، وإن كان سببا بحسب الظاهر، كما أن الإرث ملك بدون كسب، وإن كان النسب مثلا سببا له. وعلى ما تقرر، فلا يقال إنه معارض لما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: « واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة ! قالوا [ ص: 2690 ] ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل » .

    ولا يحتاج إلى الجواب عنه، ولا أن يقال الباء للعوض لا للسبب، وهذا تنجيز للوعد بإثابة المطيع، لا بالاستحقاق والاستيجاب، بل هو بمحض فضله تعالى، كالإرث -كذا في العناية-.

    روى الإمام مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا » ، فذلك قوله عز وجل: ونودوا أن تلكم الجنة الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [44] ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين

    ونادى أصحاب الجنة " أي إذا استقروا في منازلهم أصحاب النار " توبيخا [ ص: 2691 ] وتحسيرا لهم أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " حيث نلنا هذه المراتب العالية فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " من تنزيلكم إلى أسفل سافلين، لاستكباركم على الآيات والرسل قالوا نعم " أي وجدناه حقا فأذن " أي نادى مؤذن بينهم " أي: بين الفريقين ليسمعهم، زيادة في شماتة أحد الفريقين وندامة الآخر أن لعنة الله على الظالمين " .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45] الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

    الذين يصدون عن سبيل الله " أي: يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم، الذي بينه على ألسنة رسله، لمعرفته وعمارة الدارين. ويبغونها عوجا " أي: يبغون لها زيغا وميلا عما هي عليه، حتى لا يتبعها أحد.

    وهم بالآخرة كافرون " أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون، فيأتون المنكر من القول والعمل، لأنهم لا يرجون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [46] وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون

    وبينهما حجاب " أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار، ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى.

    وقد سمي هذا الحجاب سورا في آية: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وقوله تعالى: وعلى الأعراف رجال [ ص: 2692 ] أي: على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، جمع عرف، مستعار من عرف الفرس، وعرف الديك، وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض.

    وقد حكى المفسرون أقوالا كثيرة في رجال الأعراف، عن التابعين وغيرهم، أنهم فضلاء المؤمنين، أو هم الشهداء، أو الأنبياء، أو قوم أوذوا في سبيل الله، فاطلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم، فعرفوهم بسيماهم، وسلموا على أهل الجنة. واللفظ، لإبهامه، يحتمل ذلك ; لأن السياق يدل على سمو قدرهم، لا سيما بجعل منازلهم الأعراف، وهي الأعالي، والشرف، كما تقدم ومن ذكر كلهم جديرون بذلك -والله أعلم-.

    يعرفون كلا " أي من أهل الجنة والنار بسيماهم " أي بعلامتهم التي أعلمهم الله بها، كبياض الوجه وسواده.

    فائدة

    السيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيمياء بكسرهن العلامة.

    قال القاضي : السيمى فعلى من (سام إبله)، إذا أرسلها في المرعى معلمة، أو من (وسم) على القلب كالجاه من (الوجه). انتهى.

    وعلى الثاني اقتصر ابن دريد ونادوا " أي رجال الأعراف أصحاب الجنة " أي حين رأوهم من أعرافهم، وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة أن سلام عليكم " بطريق الدعاء والتحية، أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره.

    والوجه الأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه العوفي . قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام لم يدخلوها وهم يطمعون " الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية حال من فاعل " يدخلوها " ، أي نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد، حال كونهم طامعين في دخولها، مترقبين.

    [ ص: 2693 ] قال الجشمي رحمه الله: قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلم تأخر دخولهم؟ قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء، وإن تأخر دخولهم، لظهور فضلهم، وجلالة طريقهم إلى منازلهم اهـ.

    ولا يبعد عندي أن يكون جملة لم يدخلوها وهم يطمعون " حالا من " أصحاب الجنة " أي نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة، وعلو منازلهم على سواهم - والله أعلم -.

    وذهب أبو مجلز إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة، أي: نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، وهو وجه جيد. فالجملة الأولى حال من المفعول وهو (أصحاب الجنة)، والثانية حال من فاعل (يدخلوها).
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [47] وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين

    وإذا صرفت أبصارهم " أي: أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة.

    قال الجشمي : وإنما قال صرفت " لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم. فأما أهل الجنة فوجوههم إليهم سرورا بهم، فلا يحتاج إلى تكلف، وقيل: لأنهم مع أهل الجنة بعداء من أهل النار، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار.

    ثم قال الجشمي : تدل الآية على وجوب الاجتناب من الظلمة في الدنيا، كيلا يكون معهم في الآخرة -انتهى.

    تلقاء أصحاب النار " أي: إلى جهنم قالوا " من شدة خوفهم تعوذا بالله ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين أي: في النار. وقال أبو السعود : في وصفهم [ ص: 2694 ] بالظلم -دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء- إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48] ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون

    " ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعني من عظماء أهل الضلالة يعرفونهم بسيماهم " أي التي تدل على أعيانهم وإن تغيرت صورهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم أي: كثرتكم أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات وما كنتم تستكبرون " عن الحق، أو على الخلق. وقرئ ( تستكثرون) من الكثرة، أي: من الأتباع الذين يستعان بهم في دفع الملمات.

    قال ابن القيم : يعني ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، وهو أبلغ وأفحم. ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [49] أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون

    أهؤلاء " الضعفاء من المؤمنين الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة برفع درجاتهم في الآخرة، فها هم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون. وقوله تعالى: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون أي: لا خوف عليكم من [ ص: 2695 ] العذاب النازل بالكفار، ولا تحزنون كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف، يتآمرون بينهم بدخول الجنة بعد تبكيت أهل النار، فيقول بعضهم لبعض: ادخلوا الجنة؛ وإما من كلام أهل الأعراف للمؤمنين، أي يقولون لهم: ادخلوا الجنة، أو من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، كأنه قيل لهم: انظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته، كيف نالوها، حيث قيل لهم من قبله تعالى: ادخلوا الجنة. وعلى: كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازا، للعلم به.

    لطيفة:

    بين الزمخشري سر حبسهم على الأعراف، ثم إدخالهم الجنة أبدع بيان، فقال رحمه الله: يقال لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة، وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف، وينظروا إلى الفريقين، ويعرفوهم بسيماهم، ويقولوا ما يقولون.

    وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وأن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه وليعلم أن العصاة يوبخهم كل أحد، حتى أقصر الناس عملا -انتهى.
    ثم بين تعالى ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم، بعد التكبر عليهم، وبعد ما أقسموا لا ينالهم الله برحمة، وأنهم لا يجابون إلى ذلك، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [50] ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين

    " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أي: الذي [ ص: 2696 ] رحمكم الله به ليسكن حرارة النار والعطش.

    قال الجشمي : وذكروا لفظ (الإفاضة)، لأن أهل الجنة أعلى مكانا. أو مما رزقكم الله " أي: من الأطعمة والفواكه قالوا إن الله حرمهما على الكافرين أي: منعهما عنهم، لأنه أنعم عليهم في الدنيا، فلم يشكروه، فمنعهم نعمه في الآخرة. فالتحريم تحريم منع، لا تحريم تعبد. ثم وصف الكافرين بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [51] الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون

    " الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا أي: مما زينه لهم الشيطان.

    واللهو: كل ما صد عن الحق، واللعب: كل أمر باطل، أي: ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك، إذ هو دأبهم وديدنهم وغرتهم الحياة الدنيا " بزخارفها العاجلة، فلم يعملوا فاليوم ننساهم " أي: نتركهم ترك المنسي، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة. كما نسوا لقاء يومهم هذا " أي: كما فعلوا بلقائه، فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم، ولم يهتموا به.

    لطيفة:

    قال الشهاب : ننساهم " تمثيل، شبه معاملته تعالى مع هؤلاء بالمعاملة مع من لا يعتد به، ويلتفت إليه، فينسى، لأن النسيان لا يجوز على الله تعالى، أي: لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء، كما قال: في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى والنسيان يستعمل بمعنى الترك كثيرا في لسان العرب . ويصح هنا أيضا، فيكون استعارة تحقيقية، أو مجازا مرسلا؛ وكذا نسيانهم لقاء الله أيضا، لأنهم لم يكونوا ذاكري الله حتى ينسوه، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله والقيامة ببالهم، وقلة مبالاتهم بحال من عرف شيئا، ثم نسيه، وليست الكاف للتشبيه، بل للتعليل، ولا مانع من التشبيه أيضا. انتهى.

    [ ص: 2697 ] وقال تعالى: وما كانوا بآياتنا يجحدون أي: وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى.

    روى الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ قال فيقول: لا ! فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني » .

    وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : « فيلقى العبد ربه، فيقول: أي فل ! ألم أكرمك [ ص: 2698 ] وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب ! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: إني أنساك كما نسيتني ! » .

    ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فقال سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [52] ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون

    " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه أي: بينا فيه الاعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلا مبينا على علم " أي: عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء محكما قيما غير ذي عوج، وهذا كقوله تعالى: أنـزله بعلمه هدى " أي: دلالة ترشدهم إلى الحق، وتنجيهم من الضلالة. ورحمة " أي ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه لقوم يؤمنون " لأنهم المغتنمون لفوائده.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

    هل ينظرون إلا تأويله " أي: ما ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمره، من تبين صدقه، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد. قال الشهاب : (فالنظر) هنا بمعنى (الانتظار) [ ص: 2699 ] لا بمعنى الرؤية. والتأويل بمعنى العاقبة، وما يقع في الخارج، وهو أصل معناه، ويطلق على التفسير أيضا، والمعنى: أنهم قبل وقوع ما هو محقق، كالمنتظرين له، لأن كل آت قريب، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به، فلا يقال: كيف ينتظرونه مع جحدهم؟ فإنهم وإن جحدوه، إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم، من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة يوم يأتي تأويله " يعني يوم القيامة، لأنه يوم الجزاء، وما تؤول إليه أمورهم يقول الذين نسوه من قبل " أي تركوه ترك المنسي، حين كان ينفعهم الذكر، فلم يؤمنوا به عند معاينة العذاب قد جاءت رسل ربنا بالحق " أي: بما هو واقع من الاعتقادات والوعد والوعيد فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " في إزالة العذاب أو نرد " إلى مكان العمل فنعمل غير الذي كنا نعمل " من الجحود واللهو، واللعب وأعمال الدنيا.

    قال عز وجل: قد خسروا أنفسهم بصرف أعمالهم في الكفر وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.

    ولما قدم سبحانه ذكر الكفار وعبادتهم غيره، سبحانه، احتج عليهم، مبينا بأفعاله أنه لا معبود سواه بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [54] إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين

    " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام أي: إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس، الذي أنشأ أعيان السماوات والأرض في مقدار ستة أيام.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #354
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2701 الى صـ 2715
    الحلقة (354)



    [ ص: 2701 ] ثم قال: وقد يراد باليوم الوقت مطلقا، ومنه والحديث: تلك أيام الهرج ، أي: وقته ولا يختص بالنهار دون الليل -انتهى.

    وإرادة الوقت مطلقا منه، عين إرادة مطلق الزمان قبله، كما يتبادر. والظاهر أن إطلاقه على المتعارف والوقت مطلقا، لغوي فيهما -كما نقلهما شارح القاموس- خلافا لظاهر كلام الشهاب السابق، فتثبت هذا.

    الثانية: قال ابن كثير : يخبر تعالى أنه خلق العالم، سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن؛ والستة الأيام: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام: هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ؟ ويروى من رواية الضحاك عن ابن عباس .

    فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق، لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: « أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة، آخر الخلق في [ ص: 2702 ] آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل » فقد رواه مسلم بن الحجاج في (صحيحه) والنسائي ، من غير وجه، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ، ليس مرفوعا -والله أعلم- انتهى.

    وقد بسطت الكلام فيه في شرحي على (الأربعين العجلونية).

    الثالثة: قال القاضي : في خلق الأشياء مدرجا، مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار، أي: لأنه لو كان بالإيجاب، لصدر دفعة واحدة، وفيه حث على التأني في الأمور.

    وقوله تعالى: ثم استوى على العرش اعلم أن الاستواء ورد على معان اشترك لفظه فيها، فجاء بمعنى الاستقرار ومنه: واستوت على الجودي وبمعنى القصد ومنه: ثم استوى إلى السماء ؛ وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له، وإليه. قال الفراء : تقول العرب : استوى إلي يخاصمني، أي أقبل علي، ويأتي بمعنى الاستيلاء، قال الشاعر:


    قد استوى بشر على العراق

    [ ص: 2703 ] وقال آخر:


    فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

    ويأتي بمعنى العلو، ومنه آية: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ومنه هذه الآية.

    قال البخاري في آخر (صحيحه)، في كتاب الرد على الجهمية ، في باب قوله تعالى: وكان عرشه على الماء قال مجاهد : استوى، علا على العرش -انتهى.

    وفي كتاب (العلو) للحافظ الذهبي : قال إسحاق بن راهويه : سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرحمن على العرش استوى أي: ارتفع.

    ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى علا وارتفع، وأقول: لا حجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولا.

    روى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (الرد على الجهمية) عن شريح بن النعمان ، عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك بن أنس : الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء.

    [ ص: 2704 ] وروى البيهقي عن ابن وهب قال: كنت عند مالك ، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله ! الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك ، وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف. و (كيف) عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة .

    وفي رواية قال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .

    قال الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) -بعدما ساق هذا- ما نصه:

    وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم، كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيا ولا إثباتا، بل نسكت ونقف، كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره، والسكوت عنه، ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله، لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

    ثم قال الذهبي : قال الإمام العلم، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف الشهيرة، في كتابه(مختلف الحديث): نحن نقول في قول الله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم أنه معهم، يعلم ما هم عليه، كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع: احذر التقصير فإني معك، يريد أنه لا يخفى علي تقصيرك. وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إن الله سبحانه بكل مكان، على الحلول فيه، مع قوله: الرحمن على العرش استوى [ ص: 2705 ] ومع قوله: إليه يصعد الكلم الطيب كيف يصعد إليه شيء هو معه؟ وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه؟ قال: ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم، وما ركبت عليه ذواتهم، من معرفة الخالق، لعلموا أن الله عز وجل هو العلي وهو الأعلى، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه، والأمم كلها عجميها وعربيها يقول: إن الله في السماء، ما تركت على فطرها. انتهى.

    ثم قال الذهبي أيضا: عن يزيد بن هارون شيخ الإسلام، أنه قيل له: من الجهمية ؟ قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي .

    قال الذهبي والعامة، مراده بهم، جمهور الأمة وأهل العلم، والذي وقر في قلوبهم من الآية، هو ما دل عليه الخطاب، مع يقينهم بأن المستوي: ليس كمثله شيء هذا هو الذي وقر في فطرهم السليمة، وأذهانهم الصحيحة، ولو كان له معنى وراء ذلك، لتفوهوا به، ولما أهملوه، ولو تأول أحد منهم الاستواء، لتوفرت الهمم على نقله، ولو نقل لاشتهر. فإن كان في بعض جهلة الأغبياء من يفهم من (الاستواء) ما يوجب نقصا أو قياسا للشاهد على الغائب، وللمخلوق على الخالق -فهذا نادر. فمن نطق بذلك زجر وعلم، وما أظن أحدا من العامة يقر في نفسه ذلك -والله أعلم- انتهى.

    [ ص: 2706 ] وقال الشيخ الإمام العارف قدوة العارفين، الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه في كتابه (تحفة المتقين وسبيل العارفين) في باب اختلاف المذاهب في صفات الله عز وجل، وفي ذكر اختلاف الناس في الوقف عند قوله: وما يعلم تأويله إلا الله قال إسحاق : في العلم، إلى أن قال: والله تعالى بذاته على العرش، علمه محيط بكل مكان والوقف عند أهل الحق على قوله " إلا الله " .

    وقد روي ذلك عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الوقف حسن لمن اعتقد أن الله بذاته على العرش، ويعلم ما في السماوات والأرض، إلى أن قال: ووقف جماعة من منكري استواء الرب عز وجل على قوله: الرحمن على العرش " وابتدؤوا بقوله: استوى له ما في السماوات وما في الأرض " يريدون بذلك نفي الاستواء الذي وصف به نفسه، وهذا خطأ منهم، لأن الله تعالى استوى على العرش بذاته.

    وقال في كتابه (الغنية: أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار، فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال: لا يخلو من علمه مكان، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال إنه في السماء على العرش، كما قال جل ثناؤه: الرحمن على العرش استوى وقوله: ثم استوى على العرش الرحمن وقال تعالى: [ ص: 2707 ] إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والنبي صلى الله عليه وسلم حكم بإسلام الأمة لما قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما خلق الله الخلق، كتب كتابا على نفسه، وهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي » .

    وفي لفظ آخر: « لما قضى الله سبحانه الخلق، كتب على نفسه في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي » .

    وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، لا على معنى القعود والمماسة، كما قالت المجسمة والكرامية، ولا على معنى العلو والرفعة، كما قالت الأشعرية ، ولا على الاستيلاء والغلبة، كما قالت المعتزلة ، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث، ذلك، بل المنقول عنهم حمله [ ص: 2708 ] على الإطلاق.

    وقد روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: الرحمن على العرش استوى « الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به واجب، والجحود به كفر »

    وقد أسنده مسلم بن الحجاج عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في (صحيحه)، وكذلك في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

    وقال أحمد بن حنبل رحمه الله قبل موته بقريب: أخبار الصفات تمر كما جاءت، بلا تشبيه ولا تعطيل، وقال أيضا (في رواية بعضهم): لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذه الأماكن، وفي كتاب الله عز وجل، أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه رضي الله عنهم، أو عن التابعين، فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود، فلا يقال في صفات الرب عز وجل (كيف)؟ و (لم)؟ لا يقول ذلك إلا شكاك.

    وقال أحمد رضي الله عنه (في رواية عنه، في موضع آخر): نحن نؤمن بأن الله عز وجل على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف ويحدها حاد، لما روي عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال، قال الله تعالى في (التوراة): أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي، عليه أدبر عبادي، ولا يخفى علي شيء من عبادي .

    وكونه عز وجل على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، بلا كيف، ولأن الله تعالى -فيما لم يزل- موصوف بالعلو والقدرة والاستيلاء والغلبة على جميع خلقه، من العرش وغيره. فلا يحمل الاستواء على ذلك، فالاستواء من صفات الذات، بعد ما أخبرنا به، ونص عليه وأكده في سبع آيات من كتابه، والسنة المأثورة به، وهو صفة لازمة له، ولائقة به، كاليد والوجه والعين والسمع والبصر، والحياة والقدرة، وكونه خالقا ورازقا ومحييا ومميتا، موصوف بها، ولا نخرج من الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر، ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل، [ ص: 2709 ] كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته. لا تفسير له غيرها، ولم نتكلف غير ذلك، فإنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه، ونسأل الله تعالى العفو والعافية، ونعوذ به من أن نقول فيه وفي صفاته ما لم يخبرنا به هو أو رسوله عليه السلام. انتهى كلام الجيلاني قدس سره.

    وروى أبو إسماعيل الأنصاري في (ذم الكلام وأهله) عن أبي زرعة الرازي ، أنه سئل عن تفسير: الرحمن على العرش استوى فغضب وقال: تفسيره كما تقرأ، هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله .

    وأسند عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازا وعراقا ، ومصرا وشاما ويمنا ، فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه، بلا كيف، أحاط بكل شيء علما .

    تنبيهات:

    الأول: في بطلان تأويل (استوى) ب(استولى):

    قال الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني ، صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى، في كتاب (الرد على الجهمية): زعمت الجهمية أن معنى استوى (استولى) من قول العرب : استوى فلان على مصر ، يريدون استولى عليها. قال: فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، فيقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل السماوات والأرض، ثم استولى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه فيها، ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلو والاحتجاج عليه.

    [ ص: 2710 ] وقال ابن عرفة في كتاب (الرد على الجهمية): حدثنا داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي ، فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى ؟ قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبد الله ! إنما معناه استولى. فقال: اسكت، لا يقال استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب، قيل: استولى، والله تعالى لا مضاد له، وهو على عرشه كما أخبر. ثم قال الاستيلاء بعد المغالبة ، كما قال النابغة :


    إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد

    وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن أحمد بن النضر قال: كان ابن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله: أتعرف في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال لا أعرفه ! وفي رواية: أرادني ابن أبي دؤاد أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها [ ص: 2711 ] الرحمن على العرش استوى استوى بمعنى استولى، فقلت له: والله ما يكون هذا، ولا وجدته. وابن الأعرابي أبو عبد الله كان لغوي زمانه -كما قال الذهبي -.

    وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه (الإبانة في أصول الديانة)، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه، عند من يطعن عليه، فقال:

    فصل

    في إبانة قول أهل الحق والسنة

    فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون.

    قيل له: قولنا الذي نقول به التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين.

    ثم قال في (باب الاستواء على العرش): إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: الرحمن على العرش استوى وقد قال الله: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال: بل رفعه الله إليه [ ص: 2712 ] وقال: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وقال حكاية عن فرعون : وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا كذب موسى في قوله: إن الله فوق السماوات، وقال: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: أأمنتم من في السماء، يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات. ألا ترى أن الله ذكر السماوات فقال: وجعل القمر فيهن نورا فلم يرد أن القمر يملؤهن، وأنه فيهن جميعا. ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم، إذا دعوا، نحو السماء لأن الله على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها، إذا دعوا، إلى الأرض.

    ثم قال:

    فصل

    وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن معنى قوله: الرحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، [ ص: 2713 ] وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى (القدرة)، فلو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، فالله قادر على الأرض، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم. فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى (الاستيلاء)، وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها، لكان مستويا على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء، مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش (الاستيلاء) الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها. وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل -انتهى.

    قلت: وكلام أبي الحسن الأشعري الأخير مأخوذ من كتاب رد الإمام أحمد على الجهمية ، حيث قال في كتابه المذكور:

    ومما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله سبحانه على العرش، فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه الرحمن على العرش استوى وقال: ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا قالوا: هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السماوات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وتلوا آيات من القرآن: وهو الله في السماوات وفي الأرض فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة [ ص: 2714 ] الله شيء فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض الآية. وقال إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال: وله من في السماوات والأرض ومن عنده وقال: إني متوفيك ورافعك إلي وقال: بل رفعه الله إليه وقال: يخافون ربهم من فوقهم وقال: تعرج الملائكة والروح إليه وقال: وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير - فهذا أخبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذموما.

    قال الله تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، [ ص: 2715 ] والشياطين مكانهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض يقول: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش ! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله: لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما

    قال: ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير صاف، وفيه شيء، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه -وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى: لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه -وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع ما خلق، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق.

    قال أحمد رضي الله عنه: ومما تأول الجهمية من قول الله سبحانه: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم إلى أن قال: إن الله بكل شيء عليم قالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أوله؟ إن الله يقول: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم يعني أن الله بعلمه رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه فيهم، يفتح الخبر بعلمه، ويختمه بعلمه. انتهى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #355
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2716 الى صـ 2730
    الحلقة (355)



    [ ص: 2716 ] ثم قال الإمام أحمد في آخر كتابه المذكور: وقلنا للجهمية : زعمتم أن الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فقلنا لهم: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا لم تجلى، إذا كان فيه بزعمكم؟ ولو كان فيه، كما تزعمون، لم يكن يتجلى لشيء، لكن الله تعالى على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا لم يكن يراه قط قبل ذلك.

    وقلنا للجهمية : الله نور؟ فقالوا: نور كله. فقلنا: قال الله عز وجل: وأشرقت الأرض بنور ربها

    فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورا، قلنا: أخبرونا، حين زعمتم أن الله في كل مكان، وهو نور، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله.

    فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار ، وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته. انتهى.

    وقال الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) في شرح حديث: « ينزل ربنا [ ص: 2717 ] كل ليلة » الحديث، ما نصه: هذا الحديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله تعالى في السماء، على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: (إن الله في كل مكان، وليس على العرش). والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى ثم ساق عدة آيات في ذلك، وقال: هذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة . وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل " استوى " استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة. ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد.

    ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل على الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.

    ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات. وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب ، من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه.

    قال أبو عبيدة في قوله: الرحمن على العرش استوى قال: علا، قال: تقول العرب : استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي استقر، واحتج بقوله تعالى: ولما بلغ أشده واستوى انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد.

    قال ابن عبد البر : الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه فقال: [ ص: 2718 ] لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وقال تعالى: واستوت على الجودي وقال تعالى: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك وقال الشاعر:


    فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى

    وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد (استولى)، لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل -وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل - وحسبك بالخليل - قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي ، وكان من أعلم ما رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال: (استووا)، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جانبه: إنه أمركم أن ترفعوا، فقال الخليل : هو من قول الله: ثم استوى إلى السماء فصعدنا إليه، قال: وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي ، [ ص: 2719 ] عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: الرحمن على العرش استوى قال: استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان .

    فالجواب: أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولة وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان.

    وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف. وهم لا يقبلون أخبار الآحاد، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث، لو عقلوا وأنصفوا؟ أما سمعوا الله سبحانه حيث يقول: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ؟ فدل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا. قال الشاعر:


    فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد موحد
    مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد

    وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت . وفيه يقول في وصف الملائكة:


    وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم ربا فوقه ويمجد

    قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وبقوله تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض وبقوله تعالى: ما يكون من [ ص: 2720 ] نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم وزعموا أن الله سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته -تبارك وتعالى جده- قيل: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير.

    وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر، وأما قوله في الآية الأخرى: وفي الأرض إله فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد أنه معبود من أهل الأرض. فتدبر هذا فإنه قاطع.

    ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته.

    لأنه اضطراري لم يخالفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها عتقها، [ ص: 2721 ] إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن قال لها: « أين الله؟ » فأشارت إلى السماء. ثم قال لها: « من أنا؟ » قالت أنت رسول الله. قال: « أعتقها فإنها مؤمنة » . فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.

    قال: وأما احتجاجهم بقوله: تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.

    وذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم قال: هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا.

    قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله. قال سنيد : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

    ثم ساق من طريق يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، [ ص: 2722 ] والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم وذكر هذا الكلام أو قريبا منه في كتاب (الاستذكار).

    وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في (الرسالة المدنية): إذا وصف الله نفسه بصفة أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، أو وصفه بها المؤمنون الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم- فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلاله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز يخالف الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:

    أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي، لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاءوا باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب ، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى ناسخ له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.

    الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة، فلا بد من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.

    الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة، امتنع تركها. ثم إن كان هذا الدليل لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.

    الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره، وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وإنما أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسول [ ص: 2723 ] ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات. ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره، إما بأن يكون عقليا ظاهرا مثل قوله: وأوتيت من كل شيء فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد (أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها). وكذلك قوله: خالق كل شيء يعلم المستمع أن المراد أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيا ظاهرا مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعضها الظواهر.

    [ ص: 2724 ] ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيا أو عقليا، لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى، وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم، وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب، ويعقلوه ويتفكروا فيه، ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب أن لا يقصدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره، لأن هناك دليلا خفيا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره -كان تدليسا أو تلبيسا، وكان نقيض البيان، وضد الهدى. وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد، كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟ انتهى.

    الثاني: يتوهم كثير أن القول بالعلو والاستواء يلزم منهما القول بالتجسيم، وقد رمي بذلك كثير من المحدثين، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في شرح العقائد العضدية حيث قال -عفا الله عنه-: وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة، وأكثرهم المحدثون، ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة، ومبالغة في القدح في نفيها. ورأيت في بعض تصانيفه أنه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال: هو معدوم، أو يقال: طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلى التعطيل. هذا مع علو كعبه في العلوم العقلية والنقلية، كما يشهد به من تتبع تصانيفه.

    ومحصل كلام بعضهم في بعض المواضع، أن الشرع ورد بتخصيصه تعالى بجهة (الفوق)، كما خصص الكعبة بكونها بيت الله تعالى ، ولذلك يتوجه إليها في الدعاء.

    ولا يخفى أنه ليس في هذا القدر غائلة أصلا، لكن بعض أصحاب الحديث من المتأخرين لم يرض بهذا القول، وأنكر كون (الفوق) قبلة الدعاء، بل قال: قبلة الدعاء هو نفسه، كما أن نفس الكعبة قبلة الصلاة، وقد صرح بكونه جهة الله تعالى حقيقة من غير تجوز. انتهى كلام الدواني .

    [ ص: 2725 ] وتعقبه غير واحد:

    منهم: الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه المسماة (بمجلى المعاني) قال: إن ابن تيمية ليس قائلا بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسما، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول.

    وقال في رسالة أخرى: من قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان، أو إن الله تعالى يماثل شيئا من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه. بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة، مع نفي اللوازم، ونقل عليه إجماع السلف، صرح به في الرسالة القدرية. انتهى.

    ومنهم: ولي الله الدهلوي قدس سره، قال في كتابه (حجة الله البالغة): واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث، وسموهم مجسمة ومشبهة، وقالوا: هم المتسترون بالبلكفة، وقد وضح علي وضوحا بينا أن استطالتهم هذه ليست بشيء، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى -انتهى.

    ومنهم: الشهاب الألوسي المفسر، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون -يعني ابن تيمية - من المجسمة، بل هو أبرأ الناس منهم. نعم يقول بالفوقية، وذلك مذهب السلف، وهو بمعزل عن التجسيم. وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث، وكلام السلف الصالح، كما لا يخفى على العارف المنصف. نقله عنه ابنه في (محاكمة الأحمدين).

    وأقول. إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه في فتاويه التي أوضح فيها الحق، وأنار بها مذهب السلف قاطبة. وهاك شذرة من درره. قال رحمه الله في بعض فتاويه:

    والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به، مثل علو الرب، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك، وأما الألفاظ المبتدعة [ ص: 2726 ] في النفي والإثبات، مثل قول القائل: هو في جهة أو ليس في جهة، وهو متحيز أو ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين -هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال هو متحيز، ولا قال ليس بمتحيز، بل ولا قال هو جسم أو جوهر، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر. فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحا. فإن يريدوا معنى صحيحا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولا منهم، وإن أرادوا معنى فاسدا يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليهم. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة، قيل: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السماوات، أم تريد بالجهة أمرا عدميا، وهو ما فوق العالم شيء من المخلوقات.

    فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله تعالى محصورا في المخلوقات، فهذا باطل، وإن أردت بالجهة العدمية وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه، بل هو العالي عليها، المحيط بها، وقد قال تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الآية -وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي [ ص: 2727 ] السماوات بيمينه، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض » ؟ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهن، في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم .

    وفي حديث آخر أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة . فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى، وإلى هذا الحقر والصغار، كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال إن الله تعالى ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات رب يعبد، ولا على عرش إله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه فهذا فرعوني معطل، جاحد لرب العالمين. وإن كان يعتقد أنه مقر به فهو جاهل متناقض في كلامه. ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق. وإن قال: مرادي بقولي (ليس في جهة)، أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى.

    وكذلك من قال إن الله تعالى متحيز أو قال ليس بمتحيز: إن أراد بقوله (متحيز) أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ، وإن أراد به منحاز عن المخلوقات بائن عنها عال عليها فقد أصاب، ومن قال: (ليس بمتحيز)، إن أراد المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب، وإن أراد ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل فيها، ولا خارج عنها، فقد أخطأ. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.

    فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق.

    وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارج، ولا مباين له، [ ص: 2728 ] وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة، كما أن الأول قول عباد الجهمية . فمتكلمة الجهمية لا يبعدون شيئا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود، الذي هو قول فرعون .

    وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلقهما، فإما أن يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل، وإما أن يكون الله سبحانه بائنا عنهما، لم يدخل فيهما، ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.

    ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله تعالى عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة، فإن هذه الأدلة كلها متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته، عال عليها، قد فطر الله تعالى على ذلك العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى.

    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ » ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: فطرت الله التي [ ص: 2729 ] فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب، عليك بما فطرهم الله تعالى عليه، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها.

    وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم، فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى، ودينه عز وجل، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات، لا يفهم كثير من الناس مقصودهم بها، ولا يحسن أن يجيبهم. وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع، وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين. كلفظ: المتحيز والجسم والجهة ونحو ذلك، فمن كان عارفا بحال شبهاتهم بينها، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره

    ومن تكلم في الله تعالى وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل، وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه. وكثير منهم قرؤوا كتبا من كتب الكلام، فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله تعالى فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ، ولا ما أراد بها [ ص: 2730 ] أصحابها، فإن ذكر لفظ (الجسم) في أسماء الله تعالى وصفاته، بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولم يقل أحد منهم: إن الله تعالى جسم، ولا أن الله تعالى ليس بجسم، ولا أن الله تعالى جوهر، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر.

    ولفظ الجسم لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن. ومن قال إن الله تعالى مثل بدن الإنسان فهو مفتر على الله عز وجل، بل من قال إن الله تعالى يماثل شيئا من مخلوقاته فهو مفتر على الله ضال، ومن قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يماثل شيئا من المخلوقات، فالمعنى صحيح، وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل القرآن العربي مخلوق أو هو تصنيف جبريل عليه السلام، أو نحو ذلك، فهو مفتر على الله تعالى فيما نفاه عنه. وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ، ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يظهرون للناس التنزيه، وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نحن لا نجسم، بل نقول: الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته.

    إلى أن قال: فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. قال عز شأنه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير

    فقوله: ليس كمثله شيء " رد على الممثلة، وقوله تعالى: وهو السميع البصير " رد على المعطلة -انتهى ملخصا-.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #356
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2731 الى صـ 2745
    الحلقة (356)




    وقال رضي الله عنه (في جواب على سؤال رفع إليه نصه: الاستواء هل هو حقيقة أو مجاز؟) : ما نصه ملخصا:

    [ ص: 2731 ] القول في الاستواء والنزول كالقول في سائر الصفات التي وصف بها نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات، فالقول في بعض هذه الصفات، كالقول في بعض، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين.

    ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات، بل هذا جحد للخالق، وتمثيل له بالمعدومات. وقد قال ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، لأنهم لا ينفون شيئا من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة.

    وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها، نافون للمعبود، لا مثبتون، والحق فيما قاله القائلون، مما نطق به الكتاب والسنة، وهم أئمة الجماعة. هذا الذي حكاه ابن عبد البر .

    ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة، فإنما أنكر لجهله لمسمى الحقيقة، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين، وذلك أنه قد يظن أن إطلاق ذلك يقتضي أن يكون المخلوق مماثلا للخالق، فيقال له: هذا باطل، فإن الله موجود حقيقة، والعبد موجود حقيقة، وله تعالى ذات حقيقة، والعبد له ذات حقيقة، وليس ذاته تعالى كذات المخلوقات، وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة، وللعبد سمع وبصر، وعلم حقيقة، وليس علمه وسمعه وبصره مثل علم العبد وسمعه وبصره. ولله كلام حقيقة، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين. والله استوى على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوق. فإن الله لا يفتقر إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء، بل هو [ ص: 2732 ] الغني عن كل شيء، والله تعالى يحمل العرش وحملته، بقدرته و: يمسك السماوات والأرض أن تزولا فمن ظن أن معنى قول الأئمة (الله مستو على عرشه حقيقة) يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: إن الله له علم حقيقة، وسمع وبصر حقيقة، وكلام حقيقة، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم، فمن ظن أن الحقيقة إنما تتناول صفة العبد المخلوقة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل، فإن صفة الله أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته.

    فكيف يكون العبد مستحقا للأسماء الحسنى حقيقة، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازا؟ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الخالق سبحانه وتعالى، فله المثل الأعلى. فكل كمال حصل للمخلوق، فالخالق أحق به، وكل نقص ينزه عنه مخلوق، فالحق أحق أن ينزه عنه، ولهذا كان لله المثل الأعلى، فإنه لا يقاس بخلقه، ولا يمثل بهم، ولا تضرب به الأمثال، فلا يشترك هو والمخلوق بمثل ولا في قياس. ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذات عرية عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. فإذا قال: وجود الله، وذات الله، وعلم الله، وقدرة الله، وسمع الله، وبصر الله، وكلام الله، ورحمة الله، وغضب الله، واستواء الله، ونزول الله، ومحبة الله، ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة لله تعالى من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات.

    وإذا قال: وجود العبد وذاته، وماهيته وعلمه، وقدرته وسمعه وبصره، وكلامه واستواؤه ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفاته صفات [ ص: 2733 ] الله تعالى. بل أبلغ من ذلك، أن الله أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ما ذكره في كتابه. كما ذكر أن فيها لبنا وعسلا وخمرا ولحما وحريرا وذهبا وفضة وحورا وقصورا وغير ذلك.

    وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء . فتلك الحقائق التي في الجنة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولهما حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، والمخلوق عن مشابهة الخالق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته، وأن يقال ليس ذلك بحقيقة ! وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السماوات والأرض، مع أن مباينتهما للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق لكل مخلوق؟ والجاهل يضل بأن يقول: العرب إنما وضعوا لفظ الاستواء لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، أو استواء السفينة على الجودي ، ولنحو ذلك من استواء بعض المخلوقات، فهو كما يقول القائل: إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا، وأصمخة وآذانا، وشفتين ولسانا، وإنما وضعوا لفظ العلم والرحمة والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاء، وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافت إليه، فإذا قالت سمع العبد وبصره وكلامه، وعلمه وإرادته ورحمته مما يختص به، يتناول ذلك خصائص العبد.

    وإذا قيل سمع الله وبصره وكلامه وعلمه وإرادته ورحمته، كان هذا متناولا لما يختص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين. وكذلك إذا قيل استواء الرب، فهذا الاستواء المضاف إلى الله كالعلم والسمع والبصر المضاف إلى الله. لا يجوز أن يتناول ذلك شيئا من خصائص المخلوقين.

    وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، فيكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته، [ ص: 2734 ] وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح.

    ثم لا بد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات: فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض، قيل لهم: ما الفرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة، ولم يكن هذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعا وعقلا.

    ونظائر هذا كثيرة، فمن ظن أن أسماء الله تعالى وأسماء صفاته، وإذا كانت حقيقة لزم أن يكون مماثلا للمخلوقين، وأن تكون صفاته مماثلة لصفاتهم، كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة لأنه يقتضي نفي جميع أسماء الله وصفاته وهذا هو غاية الزندقة والإلحاد.

    وإن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضا في قوله، متهافتا في مذهبه مشابها لمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض.

    وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة في غاية الاستقامة والسداد والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح، والمنقول الصحيح، وأن من خالفه، كان مع تناقض قوله المختلف الذي يؤفك عنه من أفك خارجا عن موجب العقل والسمع، مخالفا للفطرة والشرع، والله يتم نعمته علينا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة. انتهى.

    فائدة

    في منشأ هذا التعطيل

    وبين رضي الله عنه، في فتوى أخرى له في الصفات، مورد هذا التعطيل. حيث قال رضي الله عنه:

    ثم أصل هذه المقالة إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة - أعني أن الله ليس على العرش حقيقة وإنما (استوى) [ ص: 2735 ] استولى ونحو ذلك -أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فتنسب مقالة الجهمية إليه، والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان ، وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم ، وأخذها طالوت من لبيد بن أعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم.

    وكان الجعد هذا -فيما قيل- من أهل حران ، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمروذ الكنعانيين ، الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ومذهبهم في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية، أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إليهم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة، وأخذها الجهم أيضا -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- من السمنية بعض فلاسفة الهند ، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فهذه أسانيد الجهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين.

    والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين، وإما من المشركين. ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المئة الثانية، زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال، ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.

    ولما كان في حدود المئة الثانية، انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية ، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة - مثل مالك رضي الله عنه وسفيان بن عيينة ، وأبي يوسف والشافعي ، وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم - في بشر المريسي هذا كثير في ذمه وتضليله. وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني ، وأبي الحسين البصري وابن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم، وهي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه. وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا، ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بينت أن عين [ ص: 2736 ] تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي . وعلمنا ذلك بكتاب (الرد) الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري ، صنف كتابا سماه (نقض عثمان بن سعيد ، على الكاذب العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد) حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي ، بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم ردها عثمان بن سعيد بكلام، إذا طالعه العاقل الذكي، علم حقيقة ما كان عليه السلف فتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم.

    ثم إذا رأى الأئمة - أئمة الهدى - قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفروهم، أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين، هو مذهب المريسي تبين له الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    ثم قال رضي الله عنه:

    ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته.

    وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل. أما المعطلون، فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثلوا أولا، وعطلوا آخرا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.

    فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا، وكل ذلك محال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان، على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله، ويختص به، فلا يلزمه [ ص: 2737 ] شيء من اللوازم الثلاثة، كما يلزم سائر الأجسام. وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، إذ لا يعقل موجود إلا هذان، أو قوله: إذا كان مستويا على العرش، فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما مثل، وكلاهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط، من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.

    واعلم أنه ليس في العقل الصحيح، ولا في النقل الصريح، ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة عن الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها، فذلك سهل يسير -انتهى كلامه-.

    ومن أحاط عقله بهذه الغرر، علم براءة ساحة السلف مما رموا به من التجسيم. وفي هذه النفائس من الفوائد ما يشفع لدى الواقف بطوله.

    الثالث: يطلق العرش على معان: السرير، ومنه آية: ولها عرش عظيم والملك، يقال: ثل عرشهم. وسقف البيت، ومنه آية: وهي خاوية على عروشها [ ص: 2738 ] وحديث « كالقنديل المعلق بالعرش » أو البناء، ومنه: وما كانوا يعرشون أي: يبنون ومنه: العريش، وهو ما يستظل به. والعرش المضاف إلى الله تعالى لا يحد.

    قال في القاموس: العرش، عرش الله تعالى، ولا يحد -انتهى.

    وقال الراغب : عرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة، ولذا لم يصح في صفته حديث، وكل ما روي في ذلك فليس من مرويات الصحاح.

    قال البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات): وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم، خلقه الله تعالى، وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتا، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي أكثر الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه، وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك -انتهى.

    وقال الحافظ الذهبي في كتاب (العلو): اعلم أن الله عز وجل، قد أخبرنا، وهو [ ص: 2739 ] أصدق القائلين، بأن عرش بلقيس عرش عظيم: ولها عرش عظيم ثم ختم الآية بقوله: الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم فكان عرشها عظيما بالنسبة إليها، وما نحيط الآن علما بتفاصيل عرشها ولا بمقداره ولا بماهيته. ثم قال: فما الظن بما أعد الله تعالى من السرر والقصور في الجنة لعباده، فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته الحافين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته؟ اسمع وتعقل ما يقال، والجأ إلى الإيمان بالغيب، فليس الخبر كالمعاينة، فالقرآن مشحون بذكر العرش، وكذلك الآثار، بما يمتنع أن يكون المراد به (الملك). فدع المكابرة والمراء، فإن المراء في القرآن كفر.

    آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون، لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب العرش الكريم، الحمد لله رب العالمين. انتهى كلام الذهبي -رحمه الله تعالى-.

    الرابع: سئل الشيخ تقي الدين بن تيمية ، عليه الرحمة والرضوان، عن العرش: هل هو كري أم لا، فإذا كان كريا والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة توجه العبد إلى الله سبحانه حين الدعاء والعبادة، فيقصد العلو دون غيره، إذ لا فرق حينئذ بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة. فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها.

    فأجاب رحمه الله بقوله:

    إن لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية، وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة، فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع، وهو الأطلس، محيط بها، وهو الذي يحركها الحركة الشرقية، وإن كان لكل [ ص: 2740 ] فلك حركة تخصه، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله سبحانه وكرسيه والسماوات السبع، فقالوا (بطريق الظن): إن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء ذلك شيء، إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق. ثم إن منهم من رأى أنه هو الذي يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وربما سماه بعضهم الروح أو النفس. وجعله بعضهم هو اللوح المحفوظ، وبعض الناس ادعى أنه علم ذلك بطريق الكشف، وذلك غير صحيح، بل أخذه من هؤلاء المتفلسفة، كما فعل أصحاب (رسائل إخوان الصفاء).

    والأخبار تدل على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات، وأنه قبل السماوات والأرض. فقد ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: « كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض، وأن له قوائم » كما في حديث أبي سعيد : « فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش » .

    وقد استدل من قال إنه مقبب، بما رواه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام « وإن الله تعالى على عرشه، وإن عرشه على سماواته، [ ص: 2741 ] وسماواته فوق أرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة » . وهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، ولا مستدير مثل ذلك، لكن لفظ (القبة) يستلزم استدارة من العلو، لا من جميع الجوانب، إلا بدليل منفصل، ولفظ (الفلك) يستدل به على الاستدارة مطلقا، كما قال ابن عباس في: كل في فلك في فلكة مثل فلكة المغزل، وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا بنفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلو.

    واعلم أن العرش، سواء كان هذا الفلك التاسع، أو جسما محيطا به، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض، محيط به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون

    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة [ ص: 2742 ] ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟ » ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر ، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ » . وفي لفظ: «ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء» .

    وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الآية، قال: مطوية في كفه، يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة ، ففي هذه الأحاديث وغيرها، المتفق على صحتها، ما يبين أن السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل، أصغر من أن تكون مع قبضه لها، إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا، حتى يدحوها كما تدحى الكرة.

    ثم قال في الجواب: فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف علم ما سواه، فلا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف، وإذ كان كذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة. وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل. وبكل حال فهو مباين لها، ليس بمجانب لها، ومن [ ص: 2743 ] المعلوم أن الواحد منا - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها، فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها، بل جعلها تحته، فهو في الحالين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات، كإحاطة الكرة بما فيها، أم قيل إنه فوقها وليس محيطا بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها، وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك، فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه فوقه، والعبد في توجهه إليه عز وجل، يقصد العلو، دون التحت.

    وتمام هذا البحث بأن يقال: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك، ويكون محيطا بها، وإما أن يكون فوقها، وليس بكري.

    فإن كان الأول، فمن المعلوم -باتفاق من يعلم هذا - أن الأفلاك مستديرة كرية، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهو المحدود، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان: العلو والسفل فقط. وأما الجهات الست فهي للحيوان، فإن له ست جوانب: يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو للعلو، والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي عليه الناس والبهائم وغيرهما.

    فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم. ولو قدر أن هناك أحدا، لكان على ظهر الأرض، ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه. كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي، ولا بالعكس، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا، كان ارتفاع القطب عنده [ ص: 2744 ] ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها، وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو (تحت) إضافي. كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف، فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيانه، وكذلك من علق منكوسا، فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء، وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك، أن الجانب الآخر تحته. وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة، وهذا كما أنه قول أهل الهيئة والحساب، فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسين المناوي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم. وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره. ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم.

    فإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقا، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو.

    ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلا من غير جهة العلو، كان جاهلا باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه ! وغاية ما يقدر أن يكون كري الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. وأما قول القائل: إذا كان كريا، والله من ورائه محيط بائن عنه، فما الفائدة في التوجه إلى العلو دون التحت، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلو؟ فيقال: هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض، وتحت ما على وجه الأرض، من الآدميين والبهائم، وهذا غلط. فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة، لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا، وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقا، وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية [ ص: 2745 ] أرجلنا، وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه، لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر، لالتقيا جميعا في المركز، الذي هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر، لالتقت رجلاهما، ولم يكن أحدهما تحت الآخر، بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك.

    وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب، لأنه لو قدر أن رجلا أو ملكا يصعد إلى السماء، كان صعوده مما يلي رأسه، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، أو يذهب يمينا أو شمالا ثم يصعد. ولو أن رجلا أراد مخاطبة القمر، فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أنه قد يشرق ويغرب، فكيف بما هو فوق كل شيء لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى.

    وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق، وهو الخط المستقيم، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد، كيف يعدل عن الصراط المستقيم؟




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #357
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2746 الى صـ 2760
    الحلقة (357)




    مطلب في حديث الإدلاء

    إلى أن قال:

    وحديث الإدلاء، الذي رواه أبو هريرة وأبو ذر ، قد رواه الترمذي وغيره من حديث [ ص: 2746 ] الحسن عن أبي هريرة ، وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع. فإن كان ثابتا، فمعناه موافق لهذا، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: « لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله » ، إنما هو تقدير مفروض، أي: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكن لا يمكن أن يدلي أحد على الله عز وجل شيئا، لأنه عال بالذات، وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز، والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه، كما بين أنه يقبض السماوات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته تعالى، ولهذا قرأ في تمام الحديث:

    هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم وهذا كله على [ ص: 2747 ] تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله. وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل من أنه سبحانه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك. وكذلك تأويله بالعلم غير مستقيم، بل على تقدير ثبوته، فالمراد به الإحاطة، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلو، وقال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة.

    وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: « إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله تعالى قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت رجله » . وفي رواية: إنه أذن أن يبصق في ثوبه ، وفي حديث أبي رزين [ ص: 2748 ] المشهور: لما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه، فقال له أبو رزين : كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع؟ فقال: « سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى: هذا القمر آية من آيات الله تعالى، كلكم يراه مخليا به، فالله أكبر » .

    وفي الصحيحين: « لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة، أو لا ترجع إليهم أبصارهم » .

    واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى نزل: الذين هم في صلاتهم خاشعون فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده .

    فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة، لأن الداعي المأمور بالذل، لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه، خلافا للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر، وقد قال تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية، ثم بين تأويل: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه ، وقال: قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا وهم، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتا عن [ ص: 2749 ] النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا تكون اليد حقيقة. وقوله: (فكأنما صافح الله تعالى)... إلخ، صريح في أن المصافح ليس مصافحا له تعالى، لأن المشبه ليس هو المشبه به.

    إلى أن قال: فهذا كله بتقدير كرية العرش، وأما إذا قدر أنه ليس بكري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام، فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مباينا لخلقه. وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من اعتقاد فاسد، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريا، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته ـ سبحانه عن مشابهة المخلوقين- وجب (فيما عند الزاعم) أن يكون سبحانه كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وهذا خطأ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها، بل قد تبين أنه سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة مثلا في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل، إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته، بأن يكون الإنسان كالفلك؟ فالله تعالى -وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن به ذلك. وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون. وإذا لم يكن كريا، فالأمر ظاهر مما تقدم، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله تعالى أعلم.

    [ ص: 2750 ] وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام، لأنه من أصول العقائد الدينية، ومهمات المسائل التوحيدية، وقد كثر فيه تعارك الآراء، وتصادم الأهواء، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين، فإن الأئمة منهم، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين.

    وقوله تعالى: يغشي الليل النهار أي: يغطيه به، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار، فيغطيه ويلبسه، حتى يذهب بنوره، ويصير الجو مظلما، بعد ما كان مضيئا.

    قال الشهاب : وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الاستعارة، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه، فكأنه لف عليه لف الغشاء، أو شبه تغييب كل منهما، بطريانه عليه، بستر اللباس للابسه -انتهى.

    ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملها، ولذلك قرئ: (يغشى الليل النهار) بنصب الليل، ورفع النهار: يطلبه حثيثا أي: يعقبه سريعا، كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء.

    قال الرازي : وإنما وصف سبحانه هذه الحركة بالسرعة، لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا: الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك، كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى: يطلبه حثيثا " ؛ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره أي مذللات لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع بقضائه وتصريفه.

    قال الشهاب : وسماه (أمرا) على التشبيه، إذ جعل هذه الأشياء لكونها تابعة لتدبيره وتصريفه كما يشاء كأنهن مأمورات منقادة لأمره، ويصح حمله على ظاهره. انتهى.

    [ ص: 2751 ] أي وهو الكلام، فيكون تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم، والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا، وخراب هذا العالم. وقد قرئ ((والشمس)) وما بعده بالنصب عطفا على " السماوات " ونصب " مسخرات " على الحال. وقرأها ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء، والخبر: ألا له الخلق والأمر أي هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسن إرادته، وفسر الأمر بالقضاء والحكم.

    تنبيهان:

    الأول: استخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى، أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر. يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر، لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله. كذا في (اللباب). قال في (الإكليل): استدل به ابن عيينة على أن القرآن غير مخلوق، أخرجه ابن أبي حاتم . لأن (الأمر) هو الكلام، وقد عطفه على (الخلق) فاقتضى أن يكون غيره، لأن العطف يقتضي المغايرة، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي .انتهى.

    الثاني: قال في (اللباب): في الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل، أي للحصر المستفاد من تقديم الظرف، ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم.

    تبارك الله رب العالمين أي تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم. قال في (التاج): سئل أبو العباس عن تفسير تبارك الله " فقال: ارتفع. انتهى.

    ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة، ليفردوه بالألوهية، أمرهم بأن يدعوه وحده متذللين مخلصين، فقال سبحانه:

    [ ص: 2752 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [55] ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين

    ادعوا ربكم تضرعا وخفية " نصب على الحال، أي: ذوي تضرع وخفية، والتضرع تفعل من (الضراعة) وهو الذل. والخفية (بضم الخاء وكسرها)، مصدر خفي كرضي بمعنى اختفى، أي: استتر وتوارى، وإنما طلب الدعاء مع تينك الحالتين لأن المقصود من الدعاء أن يشاهد العبد حاجته وعجزه وفقره لربه ذي القدرة الباهرة، والرحمة الواسعة. وإذا حصل له ذلك، فلا بد من صونه عن الرياء، وذلك بالاختفاء، وتوصلا للإخلاص.

    فوائد:

    في هذه الآية مشروعية الدعاء، بشرطيه المذكورين:

    قال السيوطي في (الإكليل): ومن التضرع رفع الأيدي في الدعاء، فيستحب. وقد أخرج البزار عن أنس قال: « رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة يدعو، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الابتهال. ثم خاضت الناقة، ففتح إحدى يديه فأخذها وهو رافع الأخرى » . انتهى.

    وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعون سميع قريب » الحديث.

    [ ص: 2753 ] وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل، لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس؛ وإن كان الرجل، ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: ادعوا ربكم تضرعا وخفية وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: إذ نادى ربه نداء خفيا

    وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة.

    وقال الناصر في (الانتصاف): وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية، فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع، لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه. وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء، خصوصا في الجوامع، حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتستد، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وفي المسجد، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت، ورعاية سمت الوقار، وسلوك السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال، ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء، وفي خفض الصوت به، أوفر وأوفى وأزكى.

    فما أكثر التباس الباطل بالحق، على عقول كثيرة من الخلق، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. انتهى.

    [ ص: 2754 ] وقد روى الحافظ أبو الشيخ في (الثواب) عن أنس مرفوعا: « دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية » .

    وقوله تعالى: إنه لا يحب المعتدين " أي: لا يحب دعاء المجاوزين لما أمروا به في كل شيء، ويدخل فيه الاعتداء بترك الأمرين المذكورين، وهما التضرع والإخفاء دخولا أوليا.

    قال السيوطي في (الإكليل): في الآية كراهية الاعتداء في الدعاء. وفسره زيد ابن أسلم بالجهر، وأبو مجلز بسؤال منازل الأنبياء، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالسر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم ، ولا يخفى أن هذا جميعه مما يشمله الاعتداء.

    وقد روى الإمام أحمد وأبو داود ، أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال: لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت بالله من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء » وفي لفظ: « يعتدون في الطهور والدعاء، وقرأ هذه الآية: ادعوا ربكم الآية » ، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.

    وروى الإمام أحمد وأبو داود أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني سل الله الجنة، وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور » .
    [ ص: 2755 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [56] ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين

    ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " قال أبو مسلم : أي لا تفسدوها بعد إصلاح الله إياها، بأن خلقها على أحسن نظام، وبعث الرسل، وبين الطريق، وأبطل الكفر.

    وقال أبو حيان : هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض، وإدخال ماهيته في الوجود بجميع أنواعه، من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان.

    ومعنى بعد إصلاحها " : بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق، ومصالح المكلفين. انتهى.

    وادعوه خوفا وطمعا أي: ذوي خوف من وبيل العقاب، نظرا إلى قصور أعمالكم، وطمع فيما عنده من جزيل الثواب، نظرا إلى سعة رحمته، ووفور فضله وإحسانه: إن رحمت الله قريب من المحسنين أي: أن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره، كما قال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون الآية.

    لطائف:

    الأولى -قال في (اللباب): إن قلت: قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعا وخفية " وقال هنا وادعوه " ، وهذا هو عطف الشيء على نفسه، فما فائدة ذلك؟

    قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى ادعوا ربكم " أي: ليكن الدعاء مقرونا [ ص: 2756 ] بالتضرع والإخبات، وقوله: وادعوه خوفا وطمعا " أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء. وقيل: معناه كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء، وإن اجتهدتم فيهما.

    الثانية: في قوله تعالى: إن رحمت الله " الآية، ترجيح للطمع على الخوف، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف، ولكنه إذا رأى سعة رحمته وسبقها، غلب الرجاء عليه. وفيه أيضا تنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة، وهو الإحسان في القول والعمل.

    قال مطر الوراق : استنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين.

    الثالثة: تذكير (قريب)، لأن (الرحمة) بمعنى الرحم، أو لأنه صفة لمحذوف، أي: أمر قريب، أو على تشبيه ب (فعيل)، الذي هو بمعنى (مفعول)، أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل، أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره، فإنه يقال: فلانة قريبة مني لا غير، وفي المكان وغيره يجوز الوجهان، أو لاكتسابه التذكير من المضاف إليه، كما أن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه، وقد أوصلوا توجيه تذكيره إلى خمسة عشر وجها.

    ولما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قدير، نبه تعالى على أنه الرزاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة، فقال سبحانه:

    [ ص: 2757 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [57] وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنـزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون

    " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أي قدام رحمته التي هي المطر، فإن الصبا تثير السحاب، والشمال تجمعه والجنوب تدره، والدبور تفرقه. وهذا كقوله تعالى: وهو الذي ينـزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وقوله سبحانه: ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات قال الثعالبي : المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.

    تنبيه:

    قال أبو البقاء : يقرأ ((نشرا)) بالنون والشين مضمومتين، وهو جمع، وفي واحده وجهان: أحدهما ((نشور)) مثل صبور وصبر، فعلى هذه يجوز أن يكون (فعول) بمعنى (فاعل)، أي: ينشر الأرض. ويجوز أن يكون بمعنى (مفعول)، كركوب بمعنى مركوب، أي: منشورة بعد الطي، أو منشرة أي: محياة، من قولك أنشر الله الميت فهو منشر، ويجوز أن يكون جمع ناشر، مثل بازل وبزل. ويقرأ بضم النون وإسكان الشين على تخفيف المضموم. ويقرأ نشرا بفتح النون وإسكان الشين، وهو مصدر نشر بعد الطي، أو من قولك أنشر الله الميت فنشر أي عاش. ونصبه على الحال، أي ناشرة، أو ذات نشر، كما تقول: جاء ركضا أي راكضا.

    [ ص: 2758 ] ويقرأ: بشرا بالباء وضمتين، وهو جمع بشير، مثل قليب وقلب، ويقرأ كذلك إلا أنه بسكون الشين على التخفيف. ويقرأ بشرى مثل حبلى، أي: ذات بشارة ويقرأ بشرا بفتح الباء وسكون الشين، وهو مصدر بشرته - أي: بالتخفيف- إذا بشرته. انتهى.

    حتى إذا أقلت " أي: حملت سحابا ثقالا " أي من كثرة ما فيها من الماء سقناه " أي السحاب. قال الشهاب : السحاب اسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، كتمر وتمرة، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه، ويجمع، وأهل اللغة تسميه جمعا، فلذا روعي فيه الوجهان، في وصفه وضميره. انتهى. أي: أرسلناه مع أن طبعه الهبوط: لبلد ميت " أي: لأجله ولمنفعته، أو لإحيائه أو لسقيه. و (ميت)، قرئ مشددا ومخففا فأنـزلنا به الماء " أي الضمير. والضمير في (به) للبلد فأخرجنا به من كل الثمرات أي المختلفة الأنواع، مع أن ماءها واحد. والمراد (بكل الثمرات)، المعتادة في كل بلد تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها.

    والضمير في (به)، للماء أو للبلد. كذلك " أي مثل ذلك الإخراج نخرج الموتى " أي نحييها بعد صيرورتها رميما يوم القيامة، ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها، كما ينبت الحب في الأرض لعلكم تذكرون " أي إنما وصفنا ما وصفنا من هذا التمثيل لكي تتذكروا، من أحوال الثمرات التي أعيدت إلى حالها بعد تلفها، أحوال الآخرة، فتعلموا أن من قدر على ذلك، قدر على هذا بلا ريب.

    تنبيه:

    من أحكام الآية كما قال الجشمي : أنها تدل على عظم نعمه تعالى علينا بالمطر، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات، وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر. وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء. وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء، فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده، لضرب من المصلحة دينا ودنيا.

    [ ص: 2759 ] ومنها إذا رأى الأرض الطيبة تزرع دون الأرض السبخة، وأنها قطع متجاورات، علم فساد التقليد، وأنه يجب أن يتفحص عن الحق حتى يعتقده. ومنها أنه إذا زرع وعلم وجوب حفظه من المبطلات، علم وجوب حفظ الأعمال الصالحة من المحبطات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [58] والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون

    والبلد الطيب أي: الأرض الكريمة التربة يخرج نباته بإذن ربه أي يخرج نباته وافيا حسنا غزير النفع بمشيئته وتيسيره والذي خبث " أي كالحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود. وكالسبخة (بكسر الباء)، وهي الأرض ذات الملح لا يخرج " أي: نباته إلا نكدا " أي: قليلا، عديم النفع. يقال: عطاء نكد، أي قليل لا خير فيه، وكذا رجل نكد. قال:


    فأعط ما أعطيته طيبا لا خير في المنكود والناكد

    وقال:


    لا تنجز الوعد إن وعدت وإن أعطيت، أعطيت تافها نكدا

    تنبيه:

    قال ابن عباس في الآية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.

    وقال قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله، وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلاف ذلك، وهذا كما في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب [ ص: 2760 ] أرضا، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » .

    لطيفة:

    قال أبو البقاء : يقرأ ((يخرج نباته)) بفتح الياء وضم الراء ورفع النبات. ويقرأ كذلك إلا أنه بضم الياء، على ما لم يسم فاعله. ويقرأ بضم الياء وكسر الراء ونصب النبات أي: فيخرج الله أو الماء. ثم قال: ويقرأ نكدا " بفتح النون وكسر الكاف، وهو حال، ويقرأ بفتحهما على أنه مصدر أي: ذا نكد. ويقرأ بفتح النون وسكون الكاف وهو مصدر أيضا، وهو لغة ويقرأ يخرج بضم الياء وكسر الراء، ونكدا مفعوله.

    كذلك نصرف الآيات " أي: نبين وجوه الحجج ونرددها ونكررها لقوم يشكرون " يعني كما ضربنا هذا المثل، كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية، وحجة بعد حجة، لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية، وأن جنبهم سبيل الضلالة، وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا بسماع القرآن.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم

    لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " اعلم أن الله تعالى لما ذكر في أول السورة قصة آدم ، وما اتصل بها من آثار قدرته، وغرائب صنعته الدالة على توحيده وربوبيته، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت- أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما جرى لهم مع أممهم.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #358
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2761 الى صـ 2775
    الحلقة (358)



    قال الرازي : وفيه فوائد:

    [ ص: 2761 ] أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات، ليس من خواص قوم النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت، فكان ذكر قصصهم، وحكاية إصرارهم وعنادهم، يفيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتخفيف ذلك على قلبه.

    ثانيها: أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا، والخسارة في الآخرة، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المحقين، ويكسر قلوب المبطلين.

    وثالثها: التنبيه على أنه تعالى، وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، ولكنه لا يهملهم، بل ينتقم منها على أكمل الوجوه.

    ورابعها: بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أميا، وما طالع كتابا، ولا تلمذ أستاذا.

    فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ، دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله تعالى.

    ونوح عليه السلام هو ابن لامك بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. هكذا نسبه ابن إسحاق وغير واحد من الأئمة، وأصله من التوراة.

    ومعنى (أرسلنا): بعثنا، وهو أول نبي بعثه الله بعد إدريس . كذا في (اللباب). وإدريس هو أخنوخ فيما يزعمون.

    قاله ابن كثير : قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح ، إلا نبي قتل، وقال يزيد الرقاشي : إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه. انتهى.

    وفيه نظر، لأنه إنما يصح ما ذكره، لو كان نوح لقبا مع وجود اسم له غيره، واللفظ عربي، لمناسبة الاشتقاق. أما وهو اسمه الوضعي، واللفظ غير عربي، فلا. وفي كتاب (تأويل الأسماء الواقعة في الكتب السالفة) أن نوحا معناه راحة أو سلوان، فتثبت.

    [ ص: 2762 ] وكان، قبل بعثة نوح عليه السلام، قوم عرفوا الله وعبدوه خصوصا في عائلة شيث عليه السلام، ثم فسد نسل شيث أيضا، واختلطوا مع الأشرار، وامتلأت الأرض من جرائمهم، وزاغوا عن الصراط المستقيم، وصاروا يعبدون الأوثان والأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام، ليدلهم على طريق الرشاد.

    قال ابن كثير : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه - وله الحمد والمنة - رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فقال يا قوم " أي: الذين حقهم أن يشاركوني في كمالاتي اعبدوا الله ما لكم من إله " أي: مستحق للعبادة في الوجود غيره " ، قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة لإله، باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية، وبالجر على اللفظ، وبالنصب على الاستثناء، وحكم (غير)، حكم الاسم الواقع بعد (إلا)، أي: ما لكم من إله إلا إياه.

    إني أخاف عليكم " أي: إن تركتم عبادته أو عبدتم غيره. عذاب يوم عظيم " هو يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان.

    ووصف اليوم ب(العظم) لبيان عظم ما يقع فيه، وتكميل الإنذار.

    قال الزمخشري : فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله: " اعبدوا الله " ؟ قلت: الأولى: بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية: بيان للداعي إلى عبادته، لأنه هو المحذور عقابه، دون ما كانوا يعبدونه من دون الله.

    [ ص: 2763 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [60] قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين

    قال الملأ من قومه " أي: الأشراف، أو الجماعة، أو ذوو الشارة والتجمع. إنا لنراك " أي: بأمرك بعبادة الله، وترك عبادة غيره وتخويف العذاب على ترك عبادة الله، وعلى عبادة غيره. في ضلال مبين " أي: في ذهاب عن طريق الحق والصواب، لكونه خلاف ما وجدنا عليه آباءنا.

    قال ابن كثير : وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة، كقوله: وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم إلى غير ذلك من الآيات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [61] قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين

    قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [62] أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون

    أبلغكم رسالات ربي " أي: ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة، من الأوامر والنواهي، والمواعظ والزواجر، والبشائر والنذائر. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده، إدريس ، فهذا نكتة جمع (الرسالات)، وإلا فرسالة كل نبي واحدة، وهي مصدر، والأصل فيه أن لا يجمع، فجمع لما ذكر.

    [ ص: 2764 ] وأنصح لكم " وأقصد صلاحكم بإخلاص وأعلم من الله ما لا تعلمون أي: من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي، أشياء لا علم لكم بها، أو أعلم من قدرته الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه.

    قال ابن كثير : وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا فصيحا ناصحا عالما بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة ، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جميعا: « أيها الناس ! إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد » .
    [ ص: 2765 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [63] أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون

    أوعجبتم أن جاءكم ذكر " أي: موعظة من ربكم على رجل منكم لينذركم " أي: من العذاب إن لم تؤمنوا ولتتقوا " أي: وليوجد منكم التقوى، وهي الخشية بسبب الإنذار، ولعلكم ترحمون " أي: ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64] فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين

    فكذبوه " أي أصروا على تكذيبه مع طول مدة إقامته فيهم ولم يؤمن معه منهم إلا قليل فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين أي: عن الحق، فلم يستبصروا الحق ولم يستنيروا بنور الوحي الذي هو كالشمس، ولا بظهور الآيات، ولا بآية الطوفان المغرق لهم، بعد إنذاره به، على تكذيبهم، والعمى ذهاب بصر العينين، وبصر القلب. يقال: عمي فهو أعمى وعم، كما في القاموس.

    وكان من أمر نوح عليه السلام، أن قومه، لما أعرضوا عن الإيمان، وتمادوا على العصيان، وعبادة الأوثان، وطال عليه أمرهم، شكاهم إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه أنه: لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وهم ناس قليل، فحينئذ دعا عليهم فقال: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فأوحى الله إليه أن يصنع السفينة، وصار قومه يسخرون منه، ويقولون: يا نوح ! قد صرت نجارا بعد النبوة ! فقال: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه [ ص: 2766 ] عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم فلما فرغ من صنع السفينة، أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين من أنواع الحيوانات، حتى لا ينقطع نسلها. وحشرها إليه من كل جهة. ولما رأى فوران التنور، وكان هو العلامة بينه وبين الله تعالى في ابتداء الطوفان، ركب الفلك هو ومن آمن معه، وحمل من كل زوجين اثنين، وأمر الله تعالى السماء أن تمطر. والأرض أن تتفجر عيونا، وارتفع الماء في هذا الطوفان فوق رؤوس الجبال، فهلك جميع ما على الأرض من جنس الحيوان، ولم يبق حيا غير أهل السفينة.

    وفي التوراة: أن الأمطار هطلت أربعين يوما وليلة دون انقطاع، حتى غمرت المياه وجه الأرض، وعلت خمسة عشر ذراعا فوق الجبال الشامخة، وهلك بالطوفان كل جسم حي. ثم أرسل الله ريحا عاصفة، فانقطعت الأمطار ونقصت المياه شيئا فشيئا، وقضى نوح سنة كاملة داخل الفلك، وحين خروجه منه بنى مذبحا للقرابين، شكرا لله تعالى، وتناسلت الناس من أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث . وتوطن سام بلاد آسية ، وأقام حام بنواحي إفريقية ، وسكن يافث الديار الأوروبية -والله أعلم-.

    تنبيه:

    قال الجشمي : في الآيات فوائد منها: أن نوحا دعاهم أولا إلى التوحيد، والرسول وإن حمل الشرائع، فلا طريق له إلى بيان الشرائع إلا بعد العلم بالتوحيد. ولأنهم لا ينتفعون بذلك إلا بعد اعتقاد التوحيد، فلذلك بدأ به. وجميع الرسل بدؤوا بالتوحيد ثم بالشرائع، ولذلك كان أكثر حجاج نبينا عليه السلام بمكة ، في التوحيد. انتهى.

    وقال ابن كثير : بين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله [ ص: 2767 ] والمؤمنين، وأهلك أعداءهم الكافرين، كقوله: إنا لننصر رسلنا الآية، وهذه سنة الله في عباده، في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين، والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح بالغرق، ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.

    قال مالك عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [65] وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون

    وإلى عاد " متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا " في قصة نوح . أي: وأرسلنا إلى عاد ، وهي قبيلة كانت تعبد الأصنام، وكانت ذات بسطة وقوة، قهروا الناس بفضل القوة.

    قال الشهاب : (عاد) اسم أبيهم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز صرفه وعدمه، كثمود - كما ذكره سيبويه -.

    قال الليث : وعاد الأولى ، هم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله.

    قال زهير :


    وأهلك لقمان بن عاد وعاديا

    [ ص: 2768 ] وأما عاد الأخيرة فهو بنو تميم ، ينزلون رمال عالج .

    وفي (كتاب الأنساب): عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، كان يعبد القمر، ويقال إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف، وأنه نكح ألف جارية، وكانت بلادهم إرم المذكورة في القرآن، وهي من عمان إلى حضرموت . ومن أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة، كذا في تاج العروس.

    وقال ابن عرفة : قوم عاد كانت منازلهم في الرمال وهي الأحقاف .

    وقال ابن إسحاق : الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت .

    وقوله تعالى: أخاهم هودا " أي أخاهم في النسب، لأنه منهم، في قول النسابين. وقيل: الناس كلهم إخوة في النسب، لأنهم ولد آدم وحواء ، فالمراد صاحبهم، وواحد في جملتهم، [ ص: 2769 ] كما يقال: يا أخا العرب ، للواحد منهم، وإنما أرسل منهم، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله، وأرغب في اقتفائه.

    قال الشهاب : اشتهر أن هودا عربي، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي، ويشهد له ما قيل: إن أول العرب يعرب . انتهى.

    وهود هو -على ما قال ابن إسحاق : ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح . ويقال غير ذلك -والله أعلم-.

    وروى ابن إسحاق بن عامر بن واثلة ، قال: سمعت عليا يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء، ذا أراك وسدر كثير، بناحية كذا وكذا، من أرض حضرموت ، هل رأيته؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه ! قال: لا، ولكني قد حدثت عنه، فقال الحضرمي : وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود عليه السلام -ورواه ابن جرير -. قال ابن كثير : وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن ، فإذا هودا عليه السلام دفن هناك. وقال: إنهم كانوا يأوون إلى العمد في البر، كما قال تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ولذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه، كما قال تعالى. قال " أي: هود يا قوم " أي الذين حقهم أن يكونوا مثلي اعبدوا الله " أي: وحده ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " أي: تخافون عذابه.

    [ ص: 2770 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [66] قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين

    " قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة أي: في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، أرادوا أنه متمكن فيها، غير منفك عنها وإنا لنظنك من الكاذبين " أي: في ادعائك الرسالة، إذ استبعدوا أن يرسل الله أحدا من أهل الأرض إليهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [67] قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين

    قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أي: إليكم، لإصلاح أمر نشأتيكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [68] أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين

    " أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أي: ناصح لكم فيما آمركم به من عبادته تعالى وحده، وأمين على تبليغ الرسالة، لا أكذب فيه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [69] أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون

    " أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم أي: [ ص: 2771 ] أيام الله ولقاءه، أي: لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح أي: خلفتموهم في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا بعدهم، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى شحر عمان - كذا قالوا -: وزادكم في الخلق بسطة " أي: قامة وقوة. فاذكروا آلاء الله " أي: في استخلافكم، وبسطة أجرامكم، وما سواهما من عطاياه، لتخصصوه بالعبادة لعلكم تفلحون " أي تفوزون بالفلاح.

    تنبيهان:

    الأول: قال الزمخشري : في إجابة الأنبياء عليهم السلام، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم- أدب حسن، وخلق عظيم. وحكاية الله عز وجل ذلك، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم، على ما يكون منهم. انتهى.

    وزاد القاضي : إن في ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس وحسن المجادلة قال: وهكذا ينبغي لكل ناصح. انتهى.

    الثاني: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، بدون وضعها على محك النظر والنقد، من المبالغة في طول قوم عاد ، وضخامة أجسامهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعا، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي، وهو وهم.

    وأما قوله جل شأنه مخاطبا لقوم عاد : وزادكم في الخلق بسطة فإنه لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها. وهذا من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتا قريبا.

    ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا، لا تتفاوت عنها تفاوتا كبيرا، مساكن ثمود [ ص: 2772 ] قوم صالح الباقية، وآثارهم البادية، ومثله، بل أعرق منه في الوهم، ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان ، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله، ويتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشمس، يرفعه إليها. والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد، وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها، بمقابلة سطح الأرض والهواء، فشدة حرارتها في الأرض، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الارتفاع.

    وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في (مقدمة تاريخه)، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى ، فيتخيلون لأصحابها أجساما تناسب ذلك.

    والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، واتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره. وأنكر أيضا ما ينقلون من قصة جنة عاد ، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن ، بناها شداد بن عاد حيث سمع وصف الجنة. وأنها لما تم بناؤها، أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسمها (إرم ذات العماد)، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ويزعمون أنها لم تزل باقية في بلاد اليمن ، وإنما حجبت عن الأبصار. وحيث إن ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه، ولا نلتفت إليه، وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة، هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل -كذا أفاده بعض المحققين-.

    ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم وإنكارهم على هود عليه السلام، بقوله سبحانه:

    [ ص: 2773 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [70] قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين

    قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده " أي: لنخصه بالعبادة ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا " أي من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: أفلا تتقون " . إن كنت من الصادقين " أي: في الإخبار بنزول العذاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [71] قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نـزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين

    " قال قد وقع عليكم من ربكم رجس أي عذاب، والرجس والرجز بمعنى، حتى قيل إن أحدهما مبدل من الآخر، كالأسد والأزد. وأصل معناه الاضطراب، يقال: رجست السماء: رعدت شديدا وتمخضت، وهم في مرجوسة من أمرهم، أي في اختلاط والتباس، ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به.

    وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز، قال: لأنه حقيقة في الشيء القذر، فاستعير لجزائهم. وظاهر اللغة أنه حقيقة، ووجه التعبير بالماضي عما سيقع، تنزيل المتوقع كالواقع كما في: أتى أمر الله وغضب " أي سخط لإشراككم معه من هو في غاية النقص، في أعلى كمالاته التي هي الإلهية. أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم أي في أشياء ما هي إلا أسماء وليس تحتها مسميات، [ ص: 2774 ] لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده. وهذا كقوله تعالى: ما يدعون من دونه من شيء -كذا في الكشاف-.

    قال الشهاب : جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة، كما يقال لما لا يليق: ما هو إلا مجرد اسم، فالمعنى: أتجادلونني في مسميات لها أسماء لا تليق بها، فتوجه الذم للتسمية الخالية عن المعنى. والضمير حينئذ راجع ل(أسماء) وهي المفعول الأول للتسمية، والثاني آلهة، ولو عكس لزم الاستخدام –انتهى-.

    وقوله تعالى: ما نـزل الله بها من سلطان أي حجة ودليل على هذه التسمية، لأن المستحق للمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكل، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل، فتحقق بطلان ما هم عليه.

    قال الجشمي : دلت الآية على فساد التقليد، حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم. وتدل على أن المعارف مكتسبة، وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه. ويدل قوله: أتجادلونني " على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق. انتهى.

    وقال القاضي : بين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم، أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقيق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله، إظهارا لغاية جهالتهم، وفرط غباوتهم.

    فانتظروا " أي: نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم فأتنا بما تعدنا " ، لأنه وضح الحق، وأنتم مصرون على العناد. إني معكم من المنتظرين " أي: لما يحل بكم.

    قال المهايمي : جاء منتظرهم بحيث لا ينجو منه بمجرى العادة أحد، وجعل من قبيل الريح التي تتقدم الأمطار، لكفرهم برياح الإرسال.

    [ ص: 2775 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [72] فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين

    فأنجيناه والذين معه " أي: من آمن به، على خرق العادة برحمة منا " ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا أي استأصلناهم. قال الشهاب : قطع الدابر، كناية عن الاستئصال إلى إهلاك الجميع، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمر على غيره، والشيء إذا امتد أصله أخذ برمته، والدابر بمعنى الآخر. وما كانوا مؤمنين " عطف على " كذبوا " داخل معه في حكم الصلة.

    قال الزمخشري : فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: وما كانوا مؤمنين " مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريض بمن آمن منهم، كمرثد بن سعد ، ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم، ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين. انتهى.

    قال الطيبي : يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين، وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان لا غير، تزيد رغبته فيه، ويعظم قدره عنده. انتهى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #359
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2776 الى صـ 2790
    الحلقة (359)




    قال ابن كثير : قد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم: ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال في الآية الأخرى: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية لما تمردوا وعتوا، أهلكم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل [ ص: 2776 ] منهم، فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلع رأسه حتى تبينه من جثته.

    وقال محمد بن إسحاق : كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودا ، الأحقاف قال: و ( الأحقاف ) الرمل، فيما بين عمان إلى حضرموت ، فاليمن كله.

    وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله: صنم يقال له (صداء)، وصنم يقال له (صمود) وصنم يقال له (الهباء): فبعث الله إليهم هودا ، وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس. لم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا: من أشد منا قوة " .

    واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم. وكان ممن آمن به وصدقه رجل من عاد يقال له (مرثد بن سعد بن عفير) ، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال: أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون

    قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون [ ص: 2777 ] أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إلى قوله: صراط مستقيم

    فلما فعلوا ذلك، أمسك الله عنهم المطر من السماء ثلاث سنين، فيما يزعمون- حتى جهدهم ذلك.

    وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طلبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة ، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم، وكلهم معظم لمكة ، يعرف حرمتها ومكانها من الله.

    قال ابن إسحاق : وكان البيت في ذلك الزمان معروفا مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق ، وإنما سموا العماليق ، لأن أباهم (عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح) ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة ، فيما يزعمون، رجلا يقال له معاوية بن بكر ، وكان أبوه حيا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه، وكان السؤدد والشرف من العماليق فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت.

    وكانت أم معاوية بن بكر ، كلهدة ابنة الخبيري ، رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم ! فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال بن هزيل ، وعتيل بن صد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير ، وكان مسلما يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخبيري ، خال معاوية بن بكر أخو أمه.

    [ ص: 2778 ] ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صد بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم. وكانوا أخواله وصهره.

    فلما نزل وفد عاد على معاوية بن بكر ، أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان -قينتان لمعاوية بن بكر - وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا.

    فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتعوذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري ! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون علي ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا ! أو كما قال:

    فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم !.

    فقال معاوية بن بكر ، حين أشارتا عليه بذلك:


    ألا يا قيل، ويحك ! قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد، إن عادا
    قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد، فليس نرجو
    به الشيخ الكبير ولا الغلام وقد كانت نساؤهم بخير
    فقد أمست نساؤهم عيامى [ ص: 2779 ] وإن الوحش تأتيهم جهارا
    ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم
    نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم
    ولا لقوا التحية والسلاما

    فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان، فلما سمع القوم ما غنتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومكم يتعوذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم ! فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم !.

    فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير : إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سقيتم ! فأظهر إسلامه عند ذلك. فقال لهم جلهمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر ، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع دين هود وآمن به:


    أبا سعد فإنك من قبيل ذوي كرم وأمك من ثمود
    فإنا لن نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
    أتأمرنا لنترك دين رفد ورمل وآل صد والعبود
    ونترك دين آباء كرام ذوي رأي، ونتبع دين هود

    ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر : احبسا عنا مرثد بن سعد ، فلا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا !

    ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها، قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله بمكة ، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون، يقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد .

    وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد .

    وقال وفد عاد : اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله.

    وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا، لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد .

    [ ص: 2780 ] حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي. وقال قيل بن عنز حين دعا: يا إلهنا، إن كان هود صادقا فاسقنا، فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل ! اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب. فقال: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء. فناداه مناد: اخترت رمادا رمددا، لا تبقي من آل عاد أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا، إلا جعلته همدا إلا بني اللوذية المهدى - وبنو اللوذية ، بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر ، وكانوا سكانا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد - وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى خرجت عليهم من واد يقال له (المغيث).

    فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا يقول الله: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها أي كل شيء أمرت به.

    وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها (مهدد) ، فلما تيقنت ما فيها صاحت ثم صعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد ؟ قالت: رأيت ريحا فيها، كشهب النار، أمامها رجال يقودونها !

    ف " سخرها " الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " ، كما قال الله -والحسوم الدائمة- [ ص: 2781 ] فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك. فاعتزل هود ، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه من الريح، إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس.

    وإنها لتمر على عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنزلوا عليه.

    فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة، ممسى ثالثة في مصاب عاد ، فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر.

    فكأنهم شكوا فيما حدثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق، ورب الكعبة .

    قال ابن كثير : وهو سياق غريب، فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ

    وروى الإمام أحمد عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة ، فإذا بعجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله ! إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فأتيت المدينة . فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها، فجلست، فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم. قال وكانت لنا الدبرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها، فدخلت. فقلت: يا رسول الله ! إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا، فاجعل الدهنا. فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله ! فإلى أين تضطر [ ص: 2782 ] مضرك؟ قال قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: (معزاء حملت حتفها)، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما. أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ! قال هيه، وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه، قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل ، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر، خرج جبال تهامة فنادى: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه ! فمرت به سحابات سود، فنودي منها: اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا. قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هلكوا. قال أبو وائل : وصدق. قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد - هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير -.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [73] وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم

    وإلى ثمود " أي: وأرسلنا إلى ثمود ، وهي قبيلة أخرى من العرب سموا باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس بن عابر . وكذلك قبيلة طسم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة ، قبل إبراهيم الخليل عليه السلام.

    وكانت ثمود بعد عاد ، [ ص: 2783 ] ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع -نقله ابن كثير -.

    وثمود كصبور، وتضم ثاؤه، وقرئ به أيضا، وقرئ بصرفه ومنعه، أما الثاني فلأنه اسم القبيلة، ففيه العلمية والتأنيث. وأما الأول فلأنه اسم للحي، أو لأنه لما كان اسمها الجد أو القليل من الماء كان مصروفا، لأنه علم مذكر، أو اسم جنس، فبعد النقل حكي أصله. كذا في (العناية).

    أخاهم صالحا " هو -على ما قاله علماء التفسير والنسب-: ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود : قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره دعاهم عليه الصلاة والسلام بما يدعو به الرسل أجمعون، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت قد جاءتكم بينة من ربكم أي حجة ظاهرة للدلالة على صحة نبوتي هذه ناقة الله لكم آية أي خلقها حجة وعلامة على رسالتي، وأضافها إليه تفضيلا وتخصيصا ك (بيت الله) ، أو لأنه لا مالك لها غيره تعالى، أو لأنها حجته عليهم في أنهم، إن حفظوها وأطلقوا لها رعيها وسقيها حفظوا، وإن غدروا بها أهلكوا، ولذا قال: فذروها تأكل في أرض الله أي التي لا يملكها غيره، العشب: ولا تمسوها بسوء أي: لا تضربوها ولا تطرودها، ولا تريبوها بشيء من الأذى، ولو تأذت منها دوابكم، إكراما لآية الله فيأخذكم عذاب أليم أي: في الدارين لجرأتكم على آيات الله.

    [ ص: 2784 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [74] واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين

    " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد قال الشهاب : لم يقل: خلفاء عاد ، إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا. وبوأكم في الأرض " أي: أنزلكم في أرض الحجر. والمباءة المنزل. تتخذون من سهولها قصورا " أي: تبنون في سهولها قصورا لتسكنوها أيام الصيف. ف(من) بمعنى (في)، كقوله تعالى: نودي للصلاة من يوم الجمعة أو هي ابتدائية، أو تبعيضية، أي: تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل وهي الطين. والسهل خلاف الحزن، وهو موضع الحجارة والجبال: وتنحتون الجبال بيوتا أي: لتسكنوها أيام الشتاء. والجبال إما مفعول ثان بتضمين (نحت) معنى (اتخذ)، أو منصوب بنزع الخافض، على ما جاء في الآية الأخرى: والنحت معروف في كل صلب، ومضارعه مكسور الحاء. وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق: وقرئ تنحاتون بالإشباع، كينباع، أفاده الشهاب .

    بحث الإشباع في وسط الكلمة

    أقول: بهذه القراءة يستدل على ثبوت الإشباع في وسط الكلمة لغة. ومثله (ينباع) المذكورة، وهي من قول عنترة :


    ينباع من ذفرى غضوب جسرة

    [ ص: 2785 ] أي: ينبع العرق من خلف أذن ناقة غضوب، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن، فتولدت من إشباعها ألف.

    ومثله قولنا (آمين)، والأصل (أمين) فأشبعت الفتحة، فتولدت من إشباعها ألف -قاله الزوزني -.

    [ ص: 2786 ] ومثله (استكان) على القول بأنه افتعل من (السكون)، فزيدت الألف لإشباع الفتحة كما في (شرح الشافية).

    ومنه عقراب -قال في (تاج العروس): سمع العقراب في اسم الجنس. قال:


    أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب

    قال: وعند أهل الصرف ألف (عقراب) للإشباع، لفقدان (فعلال) بالفتح. انتهى.

    وقوله تعالى: فاذكروا آلاء الله أي نعمه عليكم لتصرفوها إلى ما خلقها لأجله.

    ولا تعثوا في الأرض مفسدين بالمعاصي وعبادة غيره تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [75] قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون

    قال الملأ الذين استكبروا " أي عن الإيمان بعد ظهور آية الناقة والكلمات الناصحة. من قومه للذين استضعفوا " أي: استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، إذ لم يكن لهم استكبار يمنعهم من الانقياد. لمن آمن منهم " بدل من " الذين استضعفوا " بإعادة الجار، بدل الكل، إن كان الضمير لقومه، فيدل على أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين. وبدل البعض، إن كان الضمير " للذين استضعفوا " فيدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.

    قال أبو السعود : والأول هو الوجه، إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولا إلى جميع المستضعفين، مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم، على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين، أي قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم أتعلمون " أي من آية الناقة ومن الكلمات الناصحة أن صالحا مرسل من ربه " إليكم لعبادته تعالى وحده لا شريك له.

    [ ص: 2787 ] وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء، لأنهم يعلمون بأنهم عالمون بذلك، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر، بل عدلوا عنه، كما قال تعالى: قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا (نعم) أو (إنه مرسل منه تعالى)، مسارعة إلى تحقيق الحق، وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذي تنبئ عنه الجملة الاسمية، وتنبيها على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغي أن يسأل عنه، وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به. أفاده أبو السعود .

    فهذا من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل والمخاطب بخلاف ما يترقب، تنبيها على أنه هو الذي ينبغي أن يسأل عنه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77] فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين

    فعقروا الناقة " أي نحروها. والعقر: الجرح، وأثر كالحز في قوائم الفرس والإبل. يقال: عقره بالسيف يعقره بالكسر، وعقره تعقيرا، قطع قوائمه بالسيف وهو قائم.

    قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير، ثم يجعل النحر عقرا، لأن ناحر الإبل يعقرها: ثم ينحرها.

    وفي اللسان: عقر الناقة وعقرها، إذا فعل بها ذلك حتى تسقط، فينحرها مستمكنا منها، أي: لئلا تشرد عند النحر.

    وفي الحديث: « لا عقر في الإسلام » .

    قال ابن الأثير : كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي:ينحرونها ويقولون إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. كذا في (تاج العروس).

    وأسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم، وإن لم يباشره إلا بعضهم. ويقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا وما فعله إلا واحد منهم. كذا في (الكشاف).

    قال أبو السعود : وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه، بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى.

    وعتوا عن أمر ربهم " أي استكبروا عن امتثاله، وهو عبادته وحده، أو الحذر من مس الناقة بسوء. وزادوا في الاستهزاء: وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا أي: من العذاب على عقر الناقة. والأمر للاستعجال لأنهم يعتقدون أنه لا يتأتى ذلك، ولذا قالوا: إن كنت من المرسلين " أي فإن الله ينصر رسله على أعدائه.

    [ ص: 2789 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [78] فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين

    فأخذتهم الرجفة " أي: الصيحة التي يحصل منها الزلزلة الشديدة بدل صوت الناقة عند عقرها، وبدل حركتها عند نزع الروح فأصبحوا في دارهم " في بلادهم أو مساكنهم جاثمين " أي: ساقطين على وجوههم، هامدين لا يتحركون، ميتين بدل موت الناقة وسقوطها. والصيحة والزلزلة من آثار الريح المرسلة التي كانت رحمة فانقلبت عذابا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [79] فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين

    فتولى " أي فأعرض صالح عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي " المتضمنة لتخويف العذاب عنه ونصحت لكم " فأمرتكم بكل خير، ونهيتكم عن كل شر ولكن لا تحبون الناصحين " أي من الرسل والأنبياء والعلماء لمخالفتهم أهويتكم.

    والظاهر أن صالحا عليه السلام كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم، بعد ما أبصرهم جاثمين، تولى مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم بقوله يا قوم " إلخ، كذا في (الكشاف)، أو خاطبهم خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر حيث قال: [ ص: 2790 ] « إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا » - كما رواه البخاري - لا تحزنا، ولكن إعلاما بنصر الله له، وتحقيق رسالته، زيادة في حزنهم وتوبيخهم، فإن الأحياء ليسوا بأسمع منهم، ولكن لا يتكلمون. كما في (الصحيح). ويجوز عطف قوله فتولى " على قوله فأخذتهم الرجفة " ، فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك، لا بعده. فيكون عليه السلام تولى عنهم تولي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى علامات نزول العذاب. والمتبادر الأول لظهور الفاء في التعقيب - والله أعلم -.

    تنبيهات

    الأول: نأثر هنا ما رواه علماء التاريخ والنسب في بسط قصة ثمود ، لمكان العظة والاعتبار مفصلا، وإلا، فجلي أن ما أجمله التنزيل الكريم لا غاية وراءه في ذلك، وما سكت عن بيانه من تلك القصص، فلا حاجة إلى السعي وراءه لفقد القطع به، اللهم إلا لزيادة الاتعاظ، وتقوية العبرة، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج » .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #360
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,343

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَعراف
    المجلد السابع
    صـ 2791 الى صـ 2805
    الحلقة (360)


    وخلاصة ما رووه عن ثمود أن عادا لما هلكت، عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام، وكانوا قوما عربا، وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى عبادته تعالى وحده، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، واقترحوا عليه بأن يخرج لهم ناقة عشراء، تمخض من صخرة صماء، عينوها بأنفسهم، وكانت صخرة منفردة في ناحية الجبل، يقال لها (الكائبة)، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه. فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، [ ص: 2791 ] ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا. فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عمرو بن لبيد ، والخباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعمر بن جلمس . وكان لجندع بن عمرو ابن عم له، شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن جواس ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عنمة بن الزميل رحمه الله:


    وكانت عصبة من آل عمرو إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعا
    فهم بأن يجيب ولو أجابا لأصبح صالح فينا عزيزا
    وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجر
    تولوا بعد رشدهم ذبابا


    وأقامت الناقة وفصيلها، بعد ما وضعته، بين أظهرهم مدة، تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر وقال تعالى: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، ترد من فج، وتصدر من غيره، ليسعها. لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت -على ما ذكر- خلقا هائلا، ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم ذلك، واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم. فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها. قال قتادة : بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها، حتى على النساء في خدورهن. قال ابن كثير : قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [ ص: 2792 ] وقال: وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وقال فعقروا الناقة فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك - والله أعلم -.

    وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، وغيره من علماء التفسير، أن سبب قتلها، أن امرأة من ثمود يقال لها ( عنيزة بنت غنم بن مجلز ، تكنى بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل ، أخي رميل بن المهل ، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو ، وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم.

    وامرأة أخرى يقال لها ( صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا )، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له (وادي المحيا، وهو المحيا الأكبر، جد المحيا الأصغر أبي صدوف .

    وكانت صدوف من أحسن الناس، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر، وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح ، وأعظمه به كفرا.

    وكانتا تحتالان أن تعقر الناقة مع كفرهما به، لما أضرت به من مواشيهما.

    وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له ( صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف )، من بني هلس، فأسلم وحسن إسلامه.

    وكانت صدوف قد فوضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح ، حتى رق المال.

    [ ص: 2793 ] فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف ، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيتت له، فأخذت بنيه وبناته منه فغيبتهم في بني عبيد ، بطنها الذي هي منه.

    وكان صنتم زوجها من بني هليل ، وكان ابن خالها، فقال لها: ردي علي ولدي. فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد ، فقال لها صنتم : بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد ، وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون.

    فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه.

    فقال بنو مرداس : والله لتعطنه ولده طائعة أو كارهة.

    فلما رأت ذلك أعطته إياهم.

    ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل، فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له ( الحباب ) لعقر الناقة، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها، فدعت ابن عم لها يقال له ( مصدع بن مهرج بن المحيا )، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة. وكانت من أحسن الناس، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك.

    ودعت عنيزة بنت غنم (قدار بن سالف بن جندع) ، رجلا من أهل قرح.

    وكان قدار رجلا أحمر أزرق قصيرا، يزعمون أنه كان لزنية، من رجل يقال له (صهياد) ، ولم يكن لأبيه (سالف) الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على فراش (سالف) ، وكان يدعى له وينسب إليه.

    فقالت: أعطيتك أي بناتي شئت، على أن تعقر الناقة.

    [ ص: 2794 ] وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود ، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو ، من أشراف رجال ثمود ، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه.

    فانطلق قدار بن سالف ، ومصدع بن مهرج ، فاستنفرا غواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر.

    أحد النفر الذي اتبعوهما رجل يقال له، (هويل بن مبلغ) خال قدار بن سالف ، أخو أمه لأبيها وأمها، وكان عزيزا في أهل حجر ، و (دعير بن غنم بن داعر) ، وهو من بني خلاوة بن المهل .

    و (دأب بن مهرج) ، أخو مصدع بن مهرج .

    وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم.

    فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قدار في أصل شجرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى، فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجها، فأسفرت لقدار وأرته إياه، ثم ذمرته فشد على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها، ثم طعن في لبتها فنحرها.

    انطلق سقبها حتى أتى جبلا منيفا، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعا ولاذ بها، واسم الجبل فيما يزعمون (صنو) ، فأتاهم صالح ، فلما رأى الناقة قد عقرت، قال انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته، فاتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم (مصدع بن مهرج) ، فرماه مصدع بسهم، فانتظم قلبه، ثم جر برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه.

    فلما قال لهم صالح : أبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا له وهم يهزءون به: ومتى ذلك [ ص: 2795 ] يا صالح ؟ وما آية ذلك؟ - وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد (أول)، والاثنين (أهون)، والثلاثاء (وبار)، والأربعاء (جبار)، والخميس (مؤمن)، والجمعة (العروبة)، والسبت (شيار)، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء - فقال لهم صالح حين قالوا له ذلك: تصبحون غداة يوم مؤمن، يعني يوم الخميس، ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة، يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شيار، يعني يوم السبت، وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، يعني يوم الأحد.

    فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحا ، إن كان صادقا عجلناه، قبلنا، وإن كان كاذبا يكون قد ألحقناه بناقته.

    فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم مشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ! ثم هموا به. فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا، فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون !

    فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك، والنفر الذين رضخهم الملائكة بالحجارة، التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى: وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون إلى قوله: لآية لقوم يعلمون

    فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح ، وجوههم مصفرة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هاربا منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم (بنو غنم) ، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل يكنى بأبي هدب ، وهو مشرك، فغيبه، فلم يقدروا عليه.

    [ ص: 2796 ] فغدوا على أصحاب صالح فعذبوهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له (ميدع بن هرم) : يا نبي الله، إنهم يعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم عليك؟ قال: نعم، فدلهم عليه (ميدع بن هرم) . فلما علموا بمكان صالح ، أتوا أبا هدب فكلموه فقال لهم: عندي صالح ، وليس لكم إليه سبيل، فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه. فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين ، وتخلف رجل من أصحابه يقال له (ميدع بن هرم) فنزل قرح -وهي وادي القرى ، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا- فنزل على سيدهم رجل يقال له (عمرو بن غنم) ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشرك في قتلها. فقال له ميدع بن هرم : يا عمرو بن غنم ، اخرج من هذا البلد، فإن صالحا قال: من أقام فيه هلك، ومن خرج منه نجا.

    فقال عمرو : ما شركت في عقرها، وما رضيت ما صنع بها. فلما كانت صبيحة الأحد، أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مقعدة يقال لها ( الزريعة ) وهي الكلبة ابنة السلق، كانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط، حتى أتت أهل قرح فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسقيت، فلما شربت ماتت.

    الثاني: قال الرازي : زعم بعض الملحدين أن ألفاظ التنزيل في حكاية هذه الواقعة اختلفت، وهي الرجفة والطاغية والصيحة. والجواب ما قاله أبو مسلم : إن الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده، سواء كان حيوانا أو غير حيوان، وألحق الهاء به للمبالغة، فالمسلمون [ ص: 2797 ] يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ويقال طغى طغيانا، وهو طاغ وطاغية، وقال تعالى: كذبت ثمود بطغواها وقال في غير الحيوان : إنا لما طغى الماء أي: غلب وتجاوز عن الحد.

    وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها، وأما الصيحة، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة، فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة فبطل ما زعمه ذلك البعض.

    الثالث: قال علماء التفسير: ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح عليه السلام، ومن تبعه رضي الله عنهم، إلا أن رجلا يقال له أبو رغال ، كان لما وقعت النقمة بقومه، مقيما إذ ذاك في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل، جاءه حجر من السماء فقتله.

    روى الإمام أحمد عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: « لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح ، فكانت -يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها، فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه » .

    قال ابن كثير : وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم .

    وروى عبد الرزاق عن معمر : أخبرني إسماعيل بن أمية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: « أتدرون من هذا؟ » قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: « هذا قبر أبي رغال ، [ ص: 2798 ] رجل من ثمود ، كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن ههنا، ودفن معه غصن من ذهب » ، فنزل القوم، فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن.

    وأبو رغال هو أبو ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف ، كما روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -أخرجه أبو داود وغيره-.

    الرابع: ذكرنا قبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح ، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك ، سنة تسع، وأمر أصحابه أن يدخلوا خاشعين وجلين أن يصيبهم ما أصاب أهلها، ونهاهم أن يشربوا من مائها .

    فروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال: « إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم » .

    وروى أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم » . ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي .

    [ ص: 2799 ] وللبخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها. فقالوا: قد عجنا منها، واستقينا. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء .

    الخامس: قال ابن كثير : ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة ، والله أعلم.

    وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال: «يا أبا بكر ! أي واد هذا؟ » ، قال: هذا وادي عسفان . قال: « لقد مر به هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يلبون، يحجون البيت العتيق » . قال ابن كثير : هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [80] ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين

    ولوطا " منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق، أي: وأرسلنا لوطا . ولفظه أعجمي معناه في العربية (ملفوف) أو (مر)، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل -وهو فيما قاله علماء النسب والتفسير- ابن هاران بن تارح ، ويقال آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكان قد آمن مع إبراهيم عليهما السلام، وهاجر معه إلى الشام ، [ ص: 2800 ] وتوطنا بلد الكنعانيين من فلسطين ، وهي الأرض المقدسة ، ثم حدثت مشاجرة بين رعاتهما فنزح لوط إلى وادي الأردن ، وسكن مدينة سدوم فبعثه الله إلى أهلها، وإلى ما جاورها من القرى. فصار يدعوهم إلى الله تعالى، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والفواحش التي اخترعوها، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، من بني آدم، لا غيرهم، وهو إتيان الذكور.

    قال ابن كثير : وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنعه أهل سدوم ، عليهم لعائن الله.

    قال عمرو بن دينار : ما نزا ذكر على ذكر، حتى كان قوم لوط .

    وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي ، باني جامع دمشق : لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا.

    ثم بين تعالى إنكار لوط عليهم بقوله سبحانه: إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة أي الفعلة المتناهية في القبح. وقوله تعالى: ما سبقكم بها من أحد من العالمين أي: ما علمها أحد قبلكم، الباء للتعدية، من قولك (سبقته بالكرة)، إذا ضربتها قبله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « سبقك بها عكاشة » . كذا في (الكشاف).

    قال أبو السعود : والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ والتقريع، فإن مباشرة القبح قبيح، واختراعه أقبح، فأنكر تعالى عليهم أولا إتيان الفاحشة، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها، ثم استأنف بيان تلك الفاحشة تأكيدا للإنكار السابق، وتشديدا للتوبيخ بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [81] إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون

    إنكم لتأتون الرجال " أي الذين خلقهم الله ليأتوا النساء، لا ليأتيهم الرجال. [ ص: 2801 ] وقرئ بهمزتين صريحتين، وبتليين الثانية، بغير مد وبمد أيضا. وفي زيادة (إن) و (اللام) مزيد توبيخ وتقريع، كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد. وفي إيراد لفظ (الرجال) دون الغلمان والمردان ونحوهما، مبالغة في التوبيخ وتأتون، من (أتى المرأة) إذا غشيها. قاله الزمخشري .

    وفي (تاج العروس): أتى الفاحشة: تلبس بها، ويكنى بالإتيان عن الوطء، وهو من أحسن الكنايات، ورجل مأتي أتي فيه، ومنه قول بعض المولدين:


    يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا هذا كذلك إبرة الخياط


    انتهى.

    وقوله تعالى شهوة " مفعول له، أي للاشتهاء، أي لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة، كطلب النسل ونحوه، أو حال، بمعنى مشتهين تابعين للشهوة، غير ملتفتين إلى السماحة. كذا في (الكشاف). من دون النساء " أي: مجاوزين عن مواتاة النساء اللاتي خلقن لذلك. قال أبو السعود : ويجوز أن يكون المراد من قوله شهوة " الإنكار عليهم، وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة، كما ينبئ عنه قوله تعالى من دون النساء " أي: متجاوزين النساء اللاتي هن محال الاشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى: هن أطهر لكم بل أنتم قوم مسرفون إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح، وتدعو إلى اتباع الشهوات. وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه: بل أنتم قوم عادون كذا في (الكشاف).
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون

    وما كان جواب قومه " أي: المستكبرين في مقابلة نصحه، إلا أن قالوا [ ص: 2802 ] أخرجوهم " أي: لوطا والمؤمنين معه من قريتكم " أي: بلدكم. قال الزمخشري : يعني ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجرا بهم، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم. وقولهم: إنهم أناس يتطهرون " سخرية بهم، وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم (أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد).

    قال ابن كثير : قال مجاهد : يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس .

    قال السيوطي في (الإكليل): فيستدل به على تحريم أدبار النساء، أي بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع.

    ورجح ابن القيم أنه في حكم الموقوف.

    والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فتذكر.

    تنبيه:

    قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله في كتابه (إغاثة اللهفان): قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كان مشتملا على ذلك. لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس وقوله تعالى في حق اللوطية: ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وقالت اللوطية: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأقروا مع شركهم وكفرهم، أنهم هم الأخباث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك، [ ص: 2803 ] باجتنابهم له.

    وقال تعالى في حق الزناة: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات وأما نجاسة الشرك فهي نوعان نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة. فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوقات والحلف به، وخوفه ورجائه.

    ثم قال: ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدا. ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركا، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه

    أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، وتمكن منه، صار تتيما، والتتيم: التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته، وإيثار محابه على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته. بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقة من الصور -كما هو مشاهد- فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب سخطه، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه، حبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد، بلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه.

    والزاني واللواطة، كمال لذته إنما يكون مع العشق، ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لتنقله من محل إلى محل، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد، ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من [ ص: 2804 ] الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثا، ازداد من الله بعدا. ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد ، في كتاب (الزهد): لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. ولما كانت هذه حال الزنى، كان قرينا للشرك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

    ثم قال رحمه الله: والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء.

    فكذلك إذا كان حراما، يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرا لبدنه بالماء.

    وقول اللوطية: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد وقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وهكذا المشرك، إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها.

    فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة:


    إذا لم يكن بد من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه


    انتهى.

    [ ص: 2805 ] ولما هم قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم، أخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين، كما أشار لذلك بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83] فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين

    فأنجيناه وأهله " أي ومن يختص به من ذويه، أو من المؤمنين لطيبهم. قال ابن كثير : ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين

    إلا امرأته " أي: فإنا لم ننجها لخبثها. قال ابن كثير : إنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم. ولهذا لما أمر لوط عليه السلام ليسري بأهله، أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول بل اتبعتهم، فلما جاء العذاب التفتت هي، فأصابها ما أصابهم.

    الأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط ، بل بقيت معهم، ولهذا قال ههنا إلا امرأته " . كانت من الغابرين " أي من الذين غبروا في ديارهم، أي بقوا فهلكوا. وقيل: من الهالكين. وهو تفسير باللازم، والتذكير للتغليب، ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [84] وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين

    وأمطرنا عليهم مطرا " أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أي طين متحجر.

    قال المهايمي : ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •