باب الأمر:
الأمر وتعريفه:
[المتن]:
[و(الأمر)(1): استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء(2)].
[الشرح]:
(1) (و(الأمر)):
هذا شروع منه في بيان مبحث من مباحث الألفاظ، وهو الأمر، والأمر والنهي، كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، بل الأمر والنهي أشد؛ لأنهما أساس التكليف؛ ولذلك قيل: "التكليف: هو الخطاب بأمر أو نهي".
الأمر سواء كان أمر استحباب أو إيجاب، والنهي سواء كان نهي تحريم أو نهي تنزيه، مبنى الشريعة ومعرفة الأحكام الشرعية وتمييز الحلال من الحرام مبناه على الأمر والنهي، ولذلك قال السرخسي: "أحق ما يُبدأ به في البيان: الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء يقع بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام".
ولذلك بعض الأصوليين يبدأ المباحث بالأمر والنهي، يقدمه على العام والخاص، والمطلق والمقيد، والنص .. إلى آخره؛ لعموم الابتلاء بهما، ولا يحصل تمييز الحلال والحرام إلا بمعرفة الأمر والنهي.
لفظ "أَمَرَ": حقيقة في القول الطالب، سواء كان على جهة الجزم أم لا؛ لذلك قلنا فيما سبق: الصحيح أن المندوب مأمور به، أما صيغة "افعل" فهي حقيقة في الوجوب، فـ "أَمَرَ": مسماه "افعل"، مسمى اللفظ لفظ، لكن ما مدلول "أَمَرَ" من حيث هو؟
نقول: اللفظ الدال على الطلب سواء كان جازما أم لا.
(2) (استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء):
أما في الاصطلاح فعرّفه بقوله: (استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء).
(استدعاء): السين والتاء زائدة؛ لأن السين للطلب والدعاء، وإذا قيل: إنها للطلب؛ صار طلب الدعاء، أو دعاء الدعاء، وهذا فاسد.
(استدعاء): جنس يشمل استدعاء الفعل، واستدعاء الترك، ويشمل الاستدعاء من الأدنى إلى الأعلى، ومن الأعلى إلى الأدنى، ومن المساوي إلى المساوي.
(استدعاء الفعل): أي الإيجاد، المراد بالفعل هنا: الإيجاد؛ ليشمل القول، خرج به استدعاء الترك؛ لأن استدعاء الترك نهي، وليس بأمر، واستدعاء الفعل الشامل للقول: هذا هو الأمر.
ويُفسَّر الفعل هنا بما فُسر به الفعل في حدّ الحكم؛ بأنه: ما يشمل القول، والاعتقاد، والنية، وفعل الجوارح، الفعل عرفا؛ يعني في اصطلاح الشرع وفي اصطلاح الأصوليين يشمل أربعة أشياء: القول، والاعتقاد، والنية، وفعل الجوارح.
واختلفوا في الترك، والصواب: أنه فعل، لكن لعل المصنف هنا لا يرى أن الترك فعل، ولذلك قال: (استدعاء الفعل)، فاحترز به عن استدعاء الترك الذي هو النهي.
(بالقول) جار ومجرور متعلق بقوله: (استدعاء).
و (بالقول): أي بالصيغة، والمراد بها: صيغة "افعل" وما جرى مجراها.
و (بالقول): احترز به عن استدعاء الفعل بالفعل، أو بالحركات، أو الإشارات المُفهمة، وكل ما ليس بقول وأفهم طلبا فليس بأمر في اصطلاح الأصوليين جريا على معناه اللغوي؛ لأن الأمر نوع من أنواع الكلام، والكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع.
إذًا نقول: كل ما كان نوعا من أنواع الكلام فيُشتَرط فيه أن يكون لفظا، فإذا لم يكن بلفظ فلا يُسمى أمرا، فإذا أفهم فعلُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوبَ أمر ما؛ لا يسمى أمرا، ولو أُطلق عليه أمر فهو مجاز، ولذلك اختلفوا في مسمى الأمر هل يصدق على الفعل أم لا؟
المُرجَّح عند جمهور الأصوليين: أنه يُطلق عليه مجازا.
والأمر في الفعل مجاز واعتمى
|
|
تشريك ذين فيه بعض العلما
|
يعني بعضهم رأى أنه مشترك بينهما، لكن المشهور عندهم أن إطلاق الأمر على الفعل مجاز، {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}؛ يعني وما فعله، قالوا: هذا مجاز، وليس بحقيقة.
(على وجه الاستعلاء): يعني كون الآمر يأمر ويستدعي على وجه الترفع والقهر، وصفة الاستعلاء صفة في الأمر؛ في اللفظ، إذا وقع اللفظ فيه ترفع وقهر وكبرياء يسمى استعلاء، وإذا كان الطالب أعلى رتبة من المطلوب يسمى علوا، ولذلك اختلفوا هل يُشتَرط في حد الأمر الاستعلاء أو العلو؟
الجمهور على أنه يشترط الاستعلاء، فإذا لم يكن على جهة الاستعلاء فلا يسمى أمرا، فإذا قال: "اسقني ماء" من باب التودد واللطف، قالوا: هذا ليس بأمر؛ لأنه ليس على جهة استعلاء؛ لأن الرجل العظيم الكبير الذي يأمر غيره إذا قال: "افعل" على وجه اللين والتواضع فلا يسمى هذا أمرا؛ بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفى الأمر عن صيغة "افعل" الصادرة منه في حق بريرة لما قال لها: «ارجعي إلي زوجكِ»، قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: «لا» مع أنه قال: «ارجعي»، هذا أمر، قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: «لا، إنما أنا شافع».
إذًا ما الذي انتفى عن قوله: «ارجعي»؟
الاستعلاء؛ لأنه هو عالٍ، رتبته عالية لا شك، أتأمرني؟ قال: «لا»، إذًا نفى الأمر عن صيغة "افعل".
ولذلك قالوا: لو أمر الأدنى الأعلى بصيغة "افعل" سُمي أمرا ووُصف بكونه جاهلا أحمق؛ لأنه فعل ما ليس له.
والصواب: أن نفي النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر ليس على جهة أنه غير مستعلٍ، لا، وإنما أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- تختلف؛ يعني قد يأمر من جهة كونه واليا، قد يأمر من جهة كونه نبيًا مشرّعا رسولا، وقد يأمر من جهة كونه قاضيا حاكما، أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- مع رعيته تختلف، وكلامه وأوامره تختلف بهذه الاختلافات، وهنا ليس مشرِّعا، إنما نفى التشريع، يعني أتأمرني أمرا شرعيا؟
قال: «لا، إنما أنا شافع»، إذًا من باب التودد ومن باب التعاون على الخير، فنفي الأمر ليس لكونه نُفي عنه الاستعلاء، وإنما باختلاف حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحال مع بريرة.
وعليه نقول: الصواب ما حققه الكثير من المتأخرين؛ أنه لا يشترط في الأمر لا علو ولا استعلاء؛ لأنه إذا كانت المسألة لغوية -وقد ذكرتم أنه لا بد من القول لكون الأمر في اللغة لا يكون إلا قولا- نقول: من أين قيدتم الأمر في اللغة بأن يكون على وجه الاستعلاء؟
ليس ثم دليل يدل لا لغة ولا شرعا على أن صيغة "افعل" لا تسمى أمرا إلا من جهة تعلقها بالمتكلم سواء كان مستعليا أو عاليا.
وليس عند جل الأذكياء
|
|
شرط علو فيه واستعلاء
|
وخالف الباجي بشرط التالي
|
|
وشرط ذاك رأي ذي اعتزال
|
واعتُبرا معًا على توهين
|
|
لدى القشيريِّ وذي التلقين
|
المذاهب أربعة:
** قيل: يشترط العلو فقط.
** وقيل: الاستعلاء فقط.
** وقيل: هما معا.
** وقيل: لا يشترط علو ولا استعلاء، وهذا هو الصواب؛ ولذلك صح قول عمرو بن العاص لمعاوية وهو والٍ:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
قال: أمرتك، وهو من الرعية، فحينئذ العلو والاستعلاء منتفيان في حق عمرو بن العاص، كذلك قول فرعون وهو طاغية: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، وهو مستعلٍ لا شك، وهو أعلى، فثم ما أشاروا به عليه بالأمر، إذًا نقول: لا يشترط فيه علو ولا استعلاء.
(استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء): تصدير الأمر بالاستدعاء فيه نوع إشكال، وإنما ذكر الزركشي في "تشنيف المسامع" أن من عرَّف الأمر بالاستدعاء أو الاقتضاء أراد به الأمر النفسي، ولذلك يمكن أن نقول: الأمر: "هو اللفظ الدال على طلب الفعل" مثلا.
لا بد أن نصدّره باللفظ.
وإذا قلنا: قوله: (بالقول) ليس بشرط، وإنما يسمى الفعل أمرا، وتسمى الإشارة أمرا، فحينئذ لا نصدره باللفظ، وإنما نقول: "ما دلَّ على طلب فعل إلى آخره"؛ لأن مذهب كثير من الأصوليين مذهب الأشاعرة في باب الكلام، فعندهم الكلام هو النفسي، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، هذه كلها -على اختلافٍ بينهم هل تتحد أم تختلف؟- أنواع للكلام النفسي، وحينئذ كل -وقد نصّ على ذلك المحلي في "شرح الجمع"- من عرّف الأمر في هذا المقام فإنما أراد به الأمر النفسي، ولم يُرد به الأمر اللفظي، ونقول: ليس عندنا نفسي ولا لفظي كما سيذكره المصنف هنا.