تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الفكرة ضالة الكاتب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي الفكرة ضالة الكاتب

    الفكرة ضالة الكاتب (1)



    محمد صادق عبدالعال











    لما كان الكاتب يَصطحِب صغيرتَه (ملك) في الشارع الكبير، حيث الناس رائح وغادٍ، وقادم ومُستقدم، ومقيم وظاعِن ومُشرِف على الخروج، وعازِم على القعود، خَلْقٌ كثير لكلٍّ مُبتغاه ومراده.


    قالت (ملك) لأبيها: يا أبتِ، قل: سبحان الله!
    فقال الوالد في التو: سبحان الله!

    قالت (ملك): أبي، ألا يَلفِت انتباهك وناظرك هذا المنظر المهيب؟
    فقال الوالد: أي مهابة بنيَّتي؟ أناس تَروح وتجيء، لكل هدفُه وضالَّته التي إليها يسعى.

    قالت (ملك): ألم تُخبِرني ليلة أمس يا أبتِ أنك تقف أحيانًا على مُفترَق طُرُق من الأفكار والموضوعات، التي تَشغَل رأسك، فتَجِد نفسَك على قناعة بخوض فِكْرة وعلى انصراف من التعرُّض لأخرى، وفكرة تُلِح عليك إلحاحًا، وأخرى تستجدي منها القدوم ولا تُعيرك انتباهًا.

    أيا ويح (مَلك)! لقد فتحتْ لي البابَ على مصراعيه للكتابة، ومن هنا زادت قناعتي بما دافعت به عن نفسي في خوض الجولة الثانية لقلمي المتمرِّد حينما باغته بأن جَوامِع الكَلِم ليست إلا لنبي.

    انصرفت صغيرتي (مَلك) لبعض شؤونها، وانصرفت باحثًا عن الفكرة الجديدة، رُحْت أقول لنفسي: صدقتِ بُنيَّتي (مَلك)، إن هيئة الناس في الشارع على اختلاف المسالك والمدارك واتحاد العزيمة في المُضي وفي المكوث، توحي لمن كان له قلب بأن يقول: سبحان الله! حين نُمْسي وحين نُصْبح.

    وكان الحافز في البحث عن فكرة هو أن أفاجئ ابنتي (ملك) الغالية بمقالي الجديد، ولم أنسَ التسلُّح والتضلع لقلمي المتمرِّد مِرارًا وتَكرارًا بالصمود وقتما يفاجئني بالخنوع وتركي على قارعة الصيف، حيث لا شمس تَغُض عني لهيبَها استحياء، ولا سحابة تَحجُبني منها رحمة.

    وإن واقعة التمرد الثالثة التي كادت أن تَنتقِض كلَّ ما تَفضَّل عليَّ به الله من كتابة وتفريغ لشِحنة المعرفة ليست ببعيدة؛ فكنتُ حَذِرًا حتى مع بُنيَّتي (ملك) في التفوه بما سوف أكتبه بعد التعرض لمسألة الشارع وأغراض البشر ودوافعهم.

    ولو كنت مُتعَرِّضًا لأغراض الناس، لَمَا وسعتني صفحاتي ولا أقلامي، وما أنا بمن يستطيع أن يُحصي ذلك؛ فسبحان المحصي والمبدئ والمعيد!

    لكني أردتُ فقط أن أتعرَّض لهذا الأمر من باب التفكُّر في ملكوت الله، وكيف نحن كبشر وخلق تتعدَّد بنا الطرائق، وتَنطلِق بنا الرغبات، ومنا مَن يُدرِك أننا إلى مرد ومُنقَلب، وذلك محمود فِكْره، ومنا مَن ينسى ويركَب عاصفة الحَنَق على الحياة، ويتناسى أن لنا ربًّا سوف نقف عنده؛ ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ﴾ [الصافات: 24].

    وأسأل نفسي قبل سؤال المتفضِّل عليَّ بقراءة المقال: هل إذا سألت الناس: فأين تذهبون؟ هل سيَصدقونك القول؟! ربما، وقليل ما هم!

    فبديهي أن الذاهب إلى المسجد معلوم أنه قد فزع لأداء فريضة، يعلم أنه متى قصَّر سئل عن التقصير، ومتى أخلص جُزِي قَدْر إخلاصه وإخباته لربه، وآخر ذاهب وليس على تلك الدرجة من الوَرَع، وربما تَعوُّد! عسى الله أن يُلقي علينا وعليه ذلك الوَرَع المحمود، وآخر ذاهب رياء وسُمْعة، عسى الله أن يَصرِفه عمَّا نُعِت به إلى ما طُلِب له.

    هذا ما كان من أمر الفرائض والطاعات مثلاً، فماذا من أمور الدنيا؟


    فكما قلنا: ليس لنا أن نُحصي ذلك، لكن يُحصيه ربُّ العالمين، الذي أحصى كلَّ شيء عِلمًا.

    إذًا، ماذا تريد أيها الكاتب؟ هكذا يكون رد فِعْل القارئ باستغراب!

    أو أن يَستنكِر: هل أسأل كلَّ ذاهب: إلى أين أنت غادٍ أو رائح، ولمَ القدوم ولمَ الاستقدام أو الإقامة والسفر؟ هل هذا يُعقَل؟!

    عزيزي القارئ، حتى هذه لم أَقصِدها.

    إذًا ماذا تَقصِد؟
    وقبل أن أتفرَّغ للكلام ابتدرني صوتٌ أعرفه:
    "إن هذا الكاتب يتملَّق عليكم، ويَجُركم لسطوره الناعمة جرًّا، حتى يَعثُر على ضالته أو فِكْرته، فساعتها يقول لكم: كانت في رأسي قبل أن أكتبها، وما صدق.

    قلت له محتدًّا: مَن أنبأك هذا أيها القارئ؟

    قال: نبأتني ثلاث جولات خَلت لتمردات القلم، وأقولها لك: استَعِن بالله تأتِك الفكرة، ألم تَقُل في ثلاثياتك في أمر الفكرة التي تُحلِّق برأس الكاتب يفرح بها ويَغتر، ثم ترحل عنه لأجل غير معلوم: كاتب أخذته العزَّة بالفكرة؟

    صدق والله وما كذب، وما كذبت والله وإن كان قد صدَق، فإن لم أكن قد عثرتُ على فكرة فيكفيني مثوبة الاجتهاد، ألا يُحمَد للأشجار الظل قبل الثمر؟


    وعلى الله قصد السبيل!


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: الفكرة ضالة الكاتب

    الفكرة ضالة الكاتب (2)



    محمد صادق عبدالعال



    كنتُ بحمد الله تعالى قد رفعتُ مقالاً (بشبكة الألوكة الكريمة - موقع حضارة الكلمة) بعنوان (الفكرة ضالة الكاتب)، وناقشت الأمر كحوار مع ابنتي الحبيبة (ملَك)؛ إذ تخيلتُها كبرَت وشب عودها وهي تجادلني في أمر الفكرة وهي تقول لي:

    ألم تُخبِرني ليلة أمس يا أبتِ أنك تقف أحيانًا على مُفترَق طُرُق من الأفكار والموضوعات، التي تَشغَل رأسك، فتَجِد نفسَك على قناعة بخوض فِكْرة وعلى انصراف من التعرُّض لأخرى، وفكرة تُلِح عليك إلحاحًا، وأخرى تَستجدي منها القدومَ ولا تُعيرك انتباهًا؟![1]

    ومن تلك العبارة سوف أخوض مرة أخرى في القضية وإشكالية الفكرة، والسؤال الذي يُلقي بنفسه على قارعة الفَهم أمامي يقول:
    من أين تأتي الفكرة؟
    سؤال يطرح نفسه على رأس كل عاقل، وفَهم كل ناقل، وذات كل دارس: من أين تأتي الفكرة؟
    الفكرة تأتي من أبسط الأشياء؛ صورة كانت، أو كلمة، أو موقفًا عابرًا لا يُلقي الآخَرون له بالاً، لكن حِس الكاتب المُرهَف وعين المبدع الثالثة التي ترى ما لا يراه العابرون هي التي تربط وتقارن وتمزج وتخلط بين المظاهر الكونية والحالة الإنسانية، ولا تأتي الفكرة لذي رأس فارغ أو عقل غافل؛ إذ إن الفكرة من الفكرةِ والانتباه، لا الغفلةِ والانزِواء، ونبيُّ الله إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام حين تأمل في المظاهر الكونية العظيمة خطرَت له فكرة أن للكون العظيم خالقًا أعظمَ!

    وحديثنا عن الفكرة الأدبية له إشكالية نود أن نَعرضها من باب المناقشة لا فرض الرأي ولا استعراض الجُمَل؛ نسأل أنفسنا سؤالاً:
    كيف نحفظ الفكرة المولودة ونقويها حتى تنضج وتشب عن طوق الإنشاء إلى البناء والتشييد؟
    ولهذا الأمر نقطتان:
    الأولى: عملية (التدوين والحفظ)؛ فلو حدث - ولرُبما حدث - أنْ خطَر ببال أحدنا فكرةٌ لقصة أو قصيدة، ومطلع استهلال رائع، أو موضوع مقال جذاب، وليس بحوزتنا الأوراقُ والأقلام تمنينا لو تكون تلك الأدوات معنا لندون فكرتنا؛ مخافةَ ضياعها في زحمة الأحداث، فتذوب، فلا نستطيع الحصول عليها مرة أخرى.

    وهذا ما نسميه سرعة التدوين ولو بالرمز أو الأشكال التي لا يفهمها إلا الكاتب نفسه. وأصاب سقراط الفيلسوف حين قال:
    ما أثبتته الأقلام لا تدرسه الأيام؛ أي: لا تمحوه ولا تضيعه وأيضاً عزز كلامَه قولةُ العرب: (كل علم فارقَ القرطاسَ ضاع).

    والثانية (التريث): والتريث ليس ضد سرعة التدوين بل تُدَون لكي تكون في مقدمة مَشاغل الكاتب، لكن التريث يعني الانتظار حتى تنضج الفكرة وتكتمل، حتى إذا أُذن لها بالخروج على الورق خرجت كاملة تعجب القراء وتغيظ النقَّاد الذين يَعيبون على المبدع تصديرَه.

    وأما أن تعجَل وتُسرع فستَخرج الفكرة إحدى اثنتين: أولاهما مبهمة، أو ناقصة، وعندها سينال من سياط النقاد ما يُقعده عن الكتابة زمنًا!
    ومن عوامل ضياع الفكرة عامل (التشتت) وهو من أخطر العوامل التي تُركِس الكاتب في موقعه إركاسًا فلا تسمع له أي جديد، ولعل قصتي المنشورة بشبكة الألوكة والتي تسمى بـ(صيد اليمام) قد عززَت ذلك حين يتشتت الكاتب بين أكثر من فكرة؛ ظنًّا منه أن الأفكار هي مَن تُراوده عن نفسه وتقول له: (هيت لك)! فيقَع فريسة التشتت، فيُمسي من الخاسرين أفكارَه، حين وفقني الله وكتبت:
    "أبدَأ بالمقال ففيه الجد والاجتهاد، ومناظرةُ العباد، والمناقشة والمداوَلة؛ فيسطِّر سطرًا أو سطرين ثم سرعان ما تطيش به الفكرة فتُسْلمه إلى هواه، فيخشى أن يُتَّهم بالانحياز لمن يحب فيَرفع سن القلم عن الورق، فتَغيضُ الفكرة رغم فيض الأحبار، فيَنصرف إلى القصة ويقول معللاً لنفسه:
    القصة أفضل وتلك أجواؤها، وإنها الأَولى الآن؛ إذ فيها عُنصرَا التشويق والإثارة، علاوة عن ومضَتها الجذابة التي تَبهر القراء، حلَّق في عوالم الطبيعة، واستجدى الشمس العازمة على الرحيل والسُّحب والشجر والماء، فأعرضوا عنه"[2].

    وأيضا في ثلاثيات الآحاد، الثلاثية الرابعة "الفكرة" المنشورة بشبكة الألوكة تاريخ الإضافة: 5/ 2/ 2014 ميلادية - 4/ 4/ 1435 هجرية، موقع حضارة الكلمة - تطرَّقتُ لهذا الأمر بعون الله وتوفيقه، وكذلك نشرت بكتابي الصادر بعدها بعنوان (وتمرَّد القلم) عن دار النيل للنشر والتوزيع والطبع ص (174):
    (ما تقول للكاتب تُحلِّق برأسه الفكرةُ بعد انقطاع دام شهورًا؛ فيفرح بها فرحة العاثر على ضالَّته، الظافر بما تمنَّى، يلتمِس قلمًا وورقة لكنه لا يَجد؛ يَنطلِق مُسرِعًا إلى الدار يأخُذ وضْعَ الكاتب الفَطِن الحاذق حتى يَستلم القلم بين إبهام وسبَّابة ليَرى تلك التي ظفر بها قد فرَّت منه فرارًا، فعاد كما يُقال: بخفَّي حُنين؟!

    أحدنا ابتسم وقال: حدثَتْ كثيرًا، وما نجوتَ منها - لا أُخفيك سرًّا.
    إذًا ماذا تقول؟
    أحدنا: هو كاتبٌ أخذَته العزَّة بالفِكرة؛ فظنَّ أنه وحدَه الطارق لها، غير أنها حامَت برؤوس آخَرين، ولكنها ربما تعود له مرة أخرى ساعةَ أن يُعلن على الملأ أنه الفقير إلى ربه، والله المُستعان، وعليه قصد السبيل[3].

    وهذا ما وصلتُ إليه من فَهم وتفهم أن الفكرة تحتاج إلى التركيز وعدم التشتت، وألا يغترَّ الكاتب أو يظن بنفسه أنه الأسبق وأنه الأكثر غزارة في تَداعي الأفكار، أو أنها تُراوده عن نفسه مُراودة، وهو مَن يُعرض عنها حتى وإن قالت: هيت لك!

    وهناك إشكالية أخرى في التشتت في أكثرَ من مجال، وهي من عوامل انهيار المبنى الفكري أو تشويه اللبنة الأولى للفكرة الوليدة فتخرج معاقة أدبيًّا؛ فعلى الكاتب أن ينتظر ويتمهل، أم يريد أن يقال حين تقديمه: إليكم الأديب الألمعيَّ الشاعر القاصَّ الناثر... وكل أوسمة الكيانات الأدبية؟!

    أعني أن تشتت الكاتب بين تلك الأجناس دون تركيز وتعزيز يُعرِّضانه لما لا يُحمد عقباه.

    فموؤدةٌ هي الفكرة إن لم تجد مَن يرعاها ويسقيها بماء الصبر ورِيِّ المحاياة، ويسدل عليها ظله الثقافي وقت احتدام الشمس ومزاولة السطوع، ويرفعها للنور وقت إطباق الطفل؛ فكم من أفكار عظيمة ورائعة راودت أناسًا كثيرين وجاءتهم حبوًا فما رعَوها حقَّ رعايتها، فأشاحت بوجهها عنهم، وانصرفت لقوم صاروا لها حافظين.

    وتبقى الإشكالية الأخطر والأصعب وهي مشروعية الفكرة وقَبول المجتمع والشرع لها، فإن كانت الفكرة الناجمة شيطانية أو فيها من شبه التطاول على الثوابت والمعلوم من الدين بالضرورة، أو الذات العلية لله عز وجل، فلتذهَب الفكرةُ أدراجَ الرياح غيرَ مأسوف عليها؛ فالشرع أبقى وأَولى أن يُصان من قلم كل فاجر يبتغي سُمعة وشهرة، وما أكثرَهم في زماننا أولئك المرجفون في العقيدة! والأمثلة كثيرة، على سبيل الذكر رواية "وليمة لأعشاب البحر" لـ (حيدر حيدر)[4].

    وما نريد تشويه الصفحات بذكرها ولا بذكر أشباهها ولا مثيلاتها في الجَراءة على الله، وعلى الملك كتابها، لكن ما أقوله له: أيها الكاتب المغرور، الذي استهوَتك الأقلام بصرير شياطين الإنس والجن، تذكر يوم تقف أمام ربك، إذا عُرض عليك ما خطَّت يمنيك، وعندها لا يُسأل عن ذنبك المجرمون، وصدق القائل مقالةً تَجري مَجرى الحكمة:

    وما من كاتب إلا سيَفنى
    ويَبقى الدهرَ ما كتبَت يداهُ

    فلا تَكتب بخطك غيرَ شيء
    يَسُرك في القيامة أن تراهُ


    والله المستعان، وعلى الله قصد السبيل!


    [1] الفكرة ضالة الكاتب / محمد صادق عبدالعال / تاريخ الإضافة: 18/ 3/ 2014 ميلادية - 16/ 5/ 1435 هجرية.

    [2] صيد اليمام / محمد صادق عبدالعال / تاريخ الإضافة: 9/ 9/ 2014 ميلادية - 14/ 11/ 1435 هجرية.

    [3] ثلاثية الآحاد الرابعة / محمد صادق عبدالعال / تاريخ الإضافة: 5/ 2/ 2014 ميلادي - 4/ 4/ 1435 هجرية، وأيضًا نشرت بكتاب (وتمرد القلم)الصادر عن دار النيل للطبع والنشر والتوزيع ص 174.

    [4] مجلة التوحيد الصادرة عن جماعة أنصار السنة المحمدية / مصر / السنة التاسعة والعشرون / العدد الثالث 1421هجرية - مايو 2000 / ص 24، 25.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: الفكرة ضالة الكاتب

    الفكرة ضالة الكاتب (3)



    محمد صادق عبدالعال
    الجائحات والنوازل


    لئن لم تحرك النائبات والجائحات في نفوس وأقلام الكُتَّاب قرائحَ جديدة، وتنجب أفكارًا مبتكرة، وتغير أنماطَ سطورٍ معتادة، وتنقل الأقلام من مراتع البلادة إلى مرابع الاعتبار والإفادة، وتسوق القرَّاء لِما فيه العظة والعبرة - فإنه لا يُقال عن أربابها أنهم كُتَّابٌ أماثل، ولصارت النصوص تحصيلَ حاصلٍ، وما هذا الكلام بمحض افتراء، ولا نية اجتراء على أرباب البيان، بل هو قول عن تجربة، وأفهام القراء خيرُ شاهد بما لم يعترف به المبدعون أنفسهم، ولما كانت الفكرة ضالة المبدعين وغاية الكاتبين، توجَّب عليهم تفاعل غير معتاد، وإبحار غير منقاد، وإمعان في مفاد الفكرة، وربط الوشائج العالقة بعضها ببعض؛ حتى نستخلص الدرس، وتستبين سبل الهداية من مفاوز الغواية، التي دحرت في رمالها قيمًا جليلة؛ أما بعد:

    فنقول بعد الثناء والحمد على من لا يُحمد على مكروه سواه:
    إن الجائحة التي اجتاحت الكوكب الأرضي قد كشفت أقنعةً، وبيَّنت للخلق مقدارهم، وما أغنت عنهم أموالهم، ولا حجب من أمر الله ما وصل إليه علمهم، ولا منتهى فهمهم الذي يتنامى بسرعة البرق؛ لتظل العبرة في قدرة الله الغالبة في إبطال النتائج، حتى لو اجتمعت وسائل النجاة قاطبة.

    ولعل الناس قد استوعبوا الدرس خيرَ استيعاب، وبدت لوامع الحكمة تتضح للمعرضين أن الله قاهر بجندٍ لم يُرَ، وإن شاء أرسل علينا ما هو أشد عذابًا وأبقى؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [فاطر: 45]، وقوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].

    إن التاريخ يُكتَب مرتين؛ مرة بأقلام المؤرخين والحفَّاظ، ومرة بإبداعات القُصَّاص والشعراء، وإن اختلفت الوسائل، فقد اجتمعوا على تسجيل وتدوين الواقعة، والمبدعون في كل عصر ومصر هم الرواة مع المؤرخين الثقات، حتى ولو لم يكتبوا التاريخ بشكل رسمي أو أكاديمي، لكنهم قد يجيدون الوصف والوقائع خير إجادة، ويتمسكون بالقيم والمبادئ، وإن لم يصرحوا بها علانية ومباشرة؛ ليجعلوا للقارئ من الاعتبار نصيبًا، ومن التفاعل قدرًا، فلو مرت النوائب كتلك الجائحة على شاعر أو قاصٍّ أو راوٍ، ولم تبعث في نفسه شيئًا من التغيير أو التقدير لِما هو كائن وحاصل - لفَتَرَ قلمه وبَرَدَ مُوسَى قَصِّهِ ونثره، ومَثَلُهُ كمثل المستقل برجًا من عاجٍ ينوء عن الخلق، وقد أحكم على نفسه الغلق؛ ظنًّا أن تلك الأمور عابرة ما لها من إقامة ولا دوام، فإن لم تُستَقَ الأفكار من النوازل والملاحم والفتن، ففيمَ تنبت إذًا؟

    ويأتي على الكاتب حين من الدهر لا يجد في رأسه فكرة، ولا بارقة لنصٍّ جديد، فيظن أن الإفلاس الأدبي قد طرق بابه، فيستعين بالله خير معين، ثم يرغم نفسه مع عينيه؛ لينقب في الكتب ويشتمُّ من عبق أصالة النصوص وبلاغة الحِكَمِ ما قد يعيد إليه وتيرة النشاط، ويتلمس منابع الفكرة؛ لينهل مما أفاض الله عليه، فيكتب ويزهو بما وصلت إليه قريحته عن أقرانه من الكتَّاب، وبينما الأقلام في مكامنها، والأحبار أوشكت على الجفاف في الدواة والمِحبرة - تأتي النوائب لتجوب بصاحب القلم لمنعطفاتٍ تغافل عنها الكثير، وتذهب الأجناس الأدبية من أصحابها لترِدَ جميعًا مَعِينَ الحكمة والعظة من الحادث.

    وتناوُلُ الشاعر للفكرة يختلف عن تناول القاصِّ والراوي لها؛ فسجيَّةُ الشعراء التأثر السريع والشديد، وسرعة التقاط القلم لتدوين الفكرة، وبناء البيوت، وتصريع الشطور، ومحاكاة الصورة، وصناعة الأخيلة، وترصيع القصيد بشتى المحسنات، بما يجعله في مقدمة الاستباق والمشاركة؛ ما قد يؤدي به لاستباق الفكرة، وربما لم تكن قد اكتملت لديه بعد.

    وأما القصاص والرواة، فهم على نهج من الاستكانة والتريث، حتى تضع الجوائح أوزارها، وتظهر للناس منافعها وأضرارها، وتعود الحياة لِما كانت عليه قبلُ، وتبرز المقارنة بين الحالتين؛ فتتساقط أمطار البيان لتنبت في قرائحهم الفكرة الجديدة الثاقبة المعنية بالموعظة، متابعين عن شغف كافة الأحداث على مختلف الأصعدة، وتسنُّ الأقلام الواعدة، وتبدأ المباراة سجالًا بين أقلام كثيرة على اختلاف المطارق والمداخل؛ فمنهم السارد المتقصِّي لِما كانت عليه المجتمعات قبل وقوع الجائحة، مقارنًا بما تحولت إليه تصورات الناس وأفعالهم، مقحمًا في ذلك واقعًا اجتماعيًّا وإنسانيًّا واقتصاديًّا، وتأثير الحدث على كافة الأصعدة، ومنهم المستعين بالجائحة في بعضٍ من سطوره المارِّ عليها مرور الكرام غير معيرٍ لنواتجها أهمية، وأَرِيب قد جمع خيوط الفكرة من مقاصد الابتلاء والاختبار، وقدم المضمون على الشكل، وأوغل في الدرس المستفاد، وبيَّن سبل الغي من الرشاد، وصدَّر النصوص العليا من قرآن وسنة، ذاكرًا ومذكرًا بعاقبة المعرضين، ومثوبة الصابرين على البلواء والضر، ومناديًا في الناس بافتقاء آثار الصالحين، موجهًا بمنافع الدنيا بما فيه الصالح العام غير المتعارض مع الشرائع والقيم، وأمثال ذلك في الرواة قليل للأسف، لكن آثارهم هي الباقية، وأحبارهم مهما عفا عليها الزمن، فلها ريح طيبة تذكِّر الناس بربهم، وتصرِفُهم إلى ما فيه القرب منه، فضلًا عن ثراء في الفكر، وسَعَةٍ في رزق اللغة.

    ومن عوامل العصف بالفكرة استباقُها قبل أن تكتمل، وابتسارها قبل النضوج؛ بُغيةَ الظهور والحضور؛ ما يؤدي - وبكل سهولة - لضياعها وخلوِّها من مضمونها المرجو، والتنبؤ وقتئذٍ مرتبط بمعاييرَ شتى؛ منها: الخلفية الدينية، والحضارية، والتاريخية، فضلًا عن اللغة؛ ليستطيع الكاتب تشييد الفكرة على أصول متعارف عليها، حتى ولو كانت فكرته ذات بهجة من الاختلاف والتجديد، مع الربط بين ما هو قيميٌّ محفور في ذاكرة الناس، وبين ما هو جديد معاصر يتنوع التعامل معه بتنوع البيئات والأزمنة، وتقنيات العلم الحديثة، ويستطيع صاحب براءة اختراع الفكرة الجديدة أن يجمع حوله كثيرًا من الأقلام الواعدة، التي تسير على منهاج نصوصه؛ ليشيد مدرسة تخرج عن المألوف المستهلك للجديد المبتكر.

    والأفكار الجديدة الراشدة ليست ببعيدة المنال ولا شريدة القطيع قدر ما هي هِباتٌ صفائية تسامر العقول الراشدة، وتخامر القلوب الرقيقة، لتداوم على ربط دائم بين ما هو كائن وما هو متوقع، وترى أن في النوازل وتداعياتها تقصيرًا في طاعة الله أو ابتلاء للتجلية، وجائحة كورونا - التي ما زلنا بصددها، ولم يؤذَن لها بالانقضاء بعدُ حتى يأمر الله بذلك، فتنصرف عنا انصرافًا غير مؤثر فينا ولا فيمن نحب - قد تمخَّضت عن أفكار عديدة، وحولت مسارات كتابات كثيرة، وهي ذات أثر بالغ في نفوس المسلمين خاصة ومجتمعاتهم بتعليق مراسم ومواسم الشعائر، وتحويل مسارات الصلوات للبيوت والديار؛ فلا بد وأن تكون تلك النازلة الفادحة قد أيقظت أصحاب فكرٍ انغمست أقلامهم في متاع الدنيا، لتحدث ما يعرف بالصدمة الأدبية مصححة المسار.

    والترميز والإسقاط في إنشاء الفكرة دربٌ من الإبداع والتجديد، وفيه تغير وتحول من الراكد للجاري ليعتدل السامد وهو يقرأ، ما دمتَ لا تتطاول على الثوابت والشرائع وآيات التوحيد، وعن قريب بإذن الله سوف تزول تلك الجائحة عن العالمين، وقد نبهت مبدعين كثيرين بالإقلاع عن مرضاة العباد على حساب طاعة رب العباد، ومجابهة العوارض بقوارض الشعر والنثر التي توقظ في الناس ضمائر الخير المستترة، والله المستعان.

    مثل من القرآن: قصة "سيل العرم":
    خليق بكل كاتب ومستشهد لكل نازلة ونائبة ألَّا يغفل عن ذكر القرآن الكريم، وقصصه الذي هو أحسن القصص كلام رب العالمين، ومن أصدق من الله قيلًا؟ فلا هو من كلام الشعراء، حتى نقول أنهم قد أسرفوا في القريض، ولا من كلام الأدباء، حتى نقول إنهم قد أمعنوا في المحسنات والبديع، أو قاص قد مزج الواقع بالخيال، فبات لنصه سمتًا خاصًّا، بل هو كلام مقدس، لكل لفظة فيه مرادٌ ومعنًى، لا ينبغي لواحد أن ينظر فيه نظرة انتقاد، ولا أن يبدل قولًا غير الذي قيل.

    والقصة التي بين أيدينا - وحتى لا نطيل - معلومةٌ للكثير منا، حتى ولو كانت مختصرة لديهم، وأرى أنها مثال عظيم يستشهد به صاحب الفكرة إن أراد أن يتعلم ويتمرس فن أصول السرد والاستشهاد، فجائحة كورونا التي يئنُّ العالم أجمع اليوم منها قد غيَّرت معتادًا، وبدلت أحوالًا؛ فصارت ذات أثر لكل كامل ومبتسر، فسبحان من يسوق لعباده الآيات والعِبَر.

    والمفاد المختصر من قصة سبأ هو البَطَرُ والكفران لنعم الله الكثيرة الظاهرة والخفية؛ فلقد ابتدر القرآن الكريم مفتتح القصة بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾ [سبأ: 15]، والآية في عرف اللغة: الشيء المثير للانتباه والالتفات، ويشرع القرآن الكريم في ذكر تلك النعم والعطايا، والأمن ووفرة من الغِنى والعيش، وقد أورد القرآن الكريم بعضًا منها بسرد جميل، وقد "كانت اليمن بلادًا مستفيضة الرقعة، ذات أودية عريضة، وتربة خصيبة، ولكنها كانت شحيحة بالماء، مقفرة إلى الأنهار إلا وابلًا من المطر يتحدر من سفوح الجبال، ثم يمضي قدمًا إلى الصحراء، ولا يلوي على شيء، حتى يأخذ سبيله لباطن الأرض، فلا يلبث إلا كما يلبث الطيف، أو يقيم كسحابة الصيف"[1].

    ثم يهديهم الله لفكرة السدود الكثيرة، وكان كما ذكرت كتب القصص القرآني سد مأرب، فتغيرت خارطة اليمن إلى واحات خضراء، وصنع الماء - الذي جعل الله منه كل شيء حي - بتلك البقع المعجزاتِ، وتحولت من حال جدب لوفرة من الخضر والغِنى طوال العام، حتى بطِرت تلك القرى معيشتها، فأراد الله أن يؤدبهم بظلمهم، واتخاذهم ربًّا غير ربهم يُشكَر ويُحمد لفضله ونعمائه؛ وقد جاء في "تفسير الجلالين" ذكر ذلك: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ﴾ [سبأ: 16]؛ جمع: عرمة، وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته؛ أي: سيل واديهم الممسوك بما ذكر، فأغرق جنتيهم وأموالهم، ﴿ وَبَدَّلْنَاهُم ْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ ﴾ [سبأ: 16] تثنية ذوات مفرد على الأصل، ﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ [سبأ: 16]: مرٍّ بشع، بإضافة أُكُل؛ بمعنى: مأكول، وتركها ويعطف عليه ﴿ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [سبأ: 16]؛ [تفسير الجلالين].

    وآلية الربط بين القصة وما هو كائن الآن هو نفس الفكرة التي سعت لها الأمم في الحفاظ على الماء المهدر في مواسم الفيضان والزيادة، أما عن ذكر القصة كعقاب وبلاء، فلا نستطيع المقارنة بذلك، فالملك ملك الله، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة، قد منعها الله الهلاك بالسيل والغرق؛ كما ذكر الحديث الشريف، لكن الفكرة تكمن في الاتعاظ والخشية من عقاب الله متى أحس الناس في أنفسهم تقصيرًا في حق ربهم أو في حق أنفسهم، وإيراد القرآن الكريم لتلك القصص والعبر دروسٌ منتقاة لمن أراد الحياة بقلب مطمئن، ونفس مؤمنة.

    إن الإسلام - كتابًا وسنة - يدعو إلى التميز والإبداع، ويقيد الأفكار لدى الكتاب بضوابط الشرع الحنيف، ومجانبة الشطط الذي قد يسوق المبدع المسلم لمهاوي الإلحاد والشرك، والأمثلة على هذا التدني كثيرة معاصرة وحاضرة.

    فيا أيها الكتاب والقصاص ويا كل ذي قلم ومِحبرة، أعيدوا النظر في انتقاء الأفكار، واختيار البنَّاء منها والمفيد، فما نحن فيه الآن خير شاهد على أنه ابتلاء وامتحان، يتطلب الاجتهاد على كافة الأصعدة؛ لتعمَّ الفائدة، ويُرفَع البلاء بالدعاء والأوبة. نسأل الله أن يمنعنا ما هو أشد عذابًا وأبقى، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    [1] قصص القرآن، محمد أحمد جاد المولى، وآخرون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثالثة عشرة، ص: 240.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •