الذكر دبر الصلاة .. سنن وأحكام




الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
إن مما أنعم الله علينا أن شرع لنا من الدين ما يحصل به تمام طاعته، وكمال عبادته، وشرع لنا في العبادات ما يحصل به سد الخلل وجبر النقص الواقع فيها، فلما كان العبد لا يكاد يسلم في صلاته من سهو وغفلة عنها، شرع لنا استغفارا يتبعها، وأذكارا يرددها المسلم عقبها، فقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ }النساء-103.
وكان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتم صلاته أن يأتي بجملة من الأذكار دبر الصلاة، امثتالا لأمر الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" وأما الذكر بعد الانصراف، فكما قالت عائشة رضي الله عنها: هو مثل مسح المرآة بعد صقالها، فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب كما تصقل المرآة، ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة "ا.ﻫ. مجموع الفتاوى (22/495)
ولهذا جملة من السنن والأحكام، وهي على وجه الاختصار كالآتي:
أولا: الاستغفار ثلاثا عقب الصلاة، ثم يقول: (اللهم أَنْتَ السَّلامُ، وَمِنْكَ السَّلامُ،تَبار َكْتَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ).
ويسن أن يقول هذا وهو مستقبل القبلة، إذ هو الظاهر من قول عائشة رضي الله عنها: (لم يقعد إلاّ بمقدار أن يقول)، وهو ما اختاره شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، ونقل عن الإمام أحمد من فعله.
ثانيا: قول ما ورد، ومنه:
ما رواه أبو الزُّبَيْرِ رحمه الله قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه يُهَلِّلُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
قال ابْنُ الزُّبَيْرِ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ" أخرجه مسلم.
وعن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ".أخرجه البخاري ومسلم.
كما يسن أن يقول دبر صلاتي الفجر والمغرب: "لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قديرٌ"عشر مرات.
وعنْ سعدِ بن أبي وقاص رضي عنْهُ أنَّ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كانَ يَتَعوَّذُ دُبُر الصَّلَواتِ بِهؤلاءِ الكلِمات: ( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والْبُخلِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنْ أنْ أُرَدَّ إلى أرْذَل العُمُرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيا، وأَعوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ القَبر) رواه البخاري.
وعنْ معاذٍ رضي اللَّه عَنْهُ أَنَّ رسُول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم أَخَذَ بيَدِهِ وقال: ( يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إنِّي لأُحِبُّكَ ) فقال: ( أُوصِيكَ يَا معاذُ لا تَدعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ تقُولُ: اللَّهُمَّ أعِنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وَحُسنِ عِبادتِكَ ) أخرجه أحمد أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود 4 / 22.
ثالثا: التسبيح والتحميد، وله كيفيات خمسة:
الأولى: أن يسبح عشرا، ويحمد عشرا، ويكبر عشرا .
الثانية: أن يسبح إحدى عشرة، ويحمد إحدى عشرة، ويكبر إحدى عشرة .
الثالثة: أن يسبح ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر ثلاثا وثلاثين، فيكون تسعة وتسعين، ويختم المائة بالتوحيد التام وهو: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
الرابعة: أن يسبح ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر أربعا وثلاثين.
الخامسة: أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس وعشرون. .
وكل هذا ثبتت به السُّنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسن المتابعة بينها، بذكر هذه تارة وتلك تارة، ولعل الحكمة من هذا التنوع ألا يعتاد المسلم صفة معينة فيأتي بها مع غفلة قلبه، وعدم تدبُّره، فإذا نوَّع بين هذه الكيفيات كان أحضر لقلبه.
رابعا:قراءة المعوذات، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَا تِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ".
خامسا: قراءة آية الكرسي دبر الصلاة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت). أخرجه النسائي والطبراني، وصححه الألباني كما في صحيح الترغيب والترهيب 2 / 119. عقد التسبيح والتحميد باليمين:
يسن في التسبيح والتحميد أن يعقده بيده اليمنى، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: "لقد رأيت رسول الله يعقد التسبيح بيمينه".أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
الجهر بالذكر عقب الصلاة:
يسن الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الفريضة، وهو ما ثبتت به السنة الصحيحة الصريحة، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال رضي الله عنه: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته".
وفي رواية: "كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير".رواه البخاري ومسلم.
وتقدم قول ابن الزبير: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ" أخرجه مسلم.والإهلال رفع الصوت.
ومع كون هذه السنة ظاهرة جلية، وبها أخذ جمع كبير من أهل العلم المتقدمين والمعاصرين، إلا أنه أنكرها جمع كبير أيضا من أهل العلم، مستدلين لذلك بالآتي:
- قوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف-55، ونحوه من الآيات.
- حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ) أخرجه البخاري ومسلم.
- ومن النظر: أن في الجهر بالذكر بعد الصلاة، تشويشا على المصلين.
- البعض يستدل بمفاسد الجهر، وأنه ينافي الإخلاص ونحوه، وأن السر مطلوب في العبادات.
- البعض يستدل بأنه لم ينقل عن الصحابة رضي الله عنه أنهم كانوا يجهرون بالذكر عقب الصلاة.
وأجابوا عن الأحاديث السابقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها لتعليم أصحابه رضي الله عنهم.
والجواب عن ذلك أن يقال:
أولا: السنة التي ثبت بها الجهر بالذكر بعد الصلاة المكتوبة صحيحة صريحة، والنصوص التي استدلوا بها عامة، وقاعدة الشريعة أن العام إذا قام من الأدلة ما يخصصه عمل به، فأحاديث الجهر مخصِّصة للعمومات السابقة، والذي أُنزلت عليه هذه الآية، وقال هذا الحديث: (اربعوا على أنفسكم...) هو نفسُه صلى الله عليه وسلم مَنْ كان يجهر بالذِّكر بعد الصلاة، وهو أفهم وأعلم بمراد الله عز وجل، فلا تعارض، والجمع بينهما هو تخصيص العموم بأحاديث الجهر، وقد خُصِّصت هذه العمومات أيضا في عدة مواضع ، منها فعل الصحابة رضي الله عنهم في الحج، فإنهم كانوا يجهرون بالتلبية والتهليل والتكبير، بل نُدب لهم ذلك، فعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الْعَجُّ وَالثَّجُّ)
أخرجه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني، والثج رفع الصوت بالتلبية، والمبالغة في ذلك، فهل يقال بترك هذه السُّنة، عملا بقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }؟!!كما ورد الجهر بالذكر أيام العشر، وأيام التشريق، وأيام منى، وعند الخروج للعيدين، وهذا كله مخصِّص لعموم ما استدلوا به.
على أن هذه الآية ونظائرها إنما ورد في الجهر بالدعاء، وهو مذموم إلا في قنوت ونحوه، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }الإسراء -110، أنها نزلت في الدعاء، وكذا روي عن ابن عباس وأبي هريرة ،وعن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة وعروة ومجاهدٍ وإبراهيم وغيرهم .
وقال الإمام أحمد: "ينبغي أن يسر دعاءه لهذه الآية، قال: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والسنَّةُ في الدعاء كله المخافتة، إلا أنْ يكون هناك سببٌ يشرع له الجهر".مجموع الفتاوى 22 / 468.
ثانيا: قولهم: إن الجهر يحصل به تشويش على المصلين، فإن المصلين إن لم يكن فيهم مسبوق يقضي ما فاته فلن يشوش عليهم رفع الصوت كما هو الواقع؛ لأنهم مشتركون فيه، وإن كان فيهم مسبوق يقضي فإن كان قريباً منك بحيث تشوش عليه فلا تجهر الجهر الذي يشوش عليه لئلا تلبس عليه صلاته، وإن كان بعيداً منك فلن يحصل عليه تشوش بجهرك.قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
ثالثا: قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك للتعليم، يجاب عنه من وجوه:
الأول: أن الحديث الذي ورد فيه التعليم هو حديث أهل الدثور، فإنه صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمهم أن يقولوا هذا الذكر، وليس في حديث ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما ما يدل على أنه فعله للتعليم.
الثاني: أصلا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم الأصل فيه أنه لتعليم أمته، غير ما ورد من كونه يفعل ليعلمهم ثم يتركه، كالصلاة على المنبر، ولم يقل أحد: إنه بعد التعليم تُترك السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم جهر بالذكر ليعلِّمهم، ومنه كيفية الذكر، وأنه جهرا، فلماذا يتركون كيفية ما تعلموه منه صلى الله عليه وسلم؟!!
الثالث: أنه في حال كونه يعلمهم، فالكمُّ والكيف داخلان في التعليم، إذ لم يرد في النص أنه قال لهم: فإذا تعلمتم فاتركوا الجهر، والزمن للتشريع، ولو كان الجهر غير مرادٍ للشارع لنهى عنه بعد التعلُّم، فسكوتُه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذه العبادة مطلوبة للشارع كمًّا وكيفًا.
الرابع: بهذا الطريق الذي سلكوه يمكن لكلِّ مُستدلٍ أن يبطل كثيرا من السنن، فيدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها أو قالها للتعليم!! ثم أي فائدة من التعليم سوى التطبيق؟!
رابعا: الذين استدلوا بمفاسد الجهر، وأنه ينافي الإخلاص ونحوه، وأن السر مطلوب في العبادات.
يقال لهم: هذه تعليلات في مقابلة النص، ولا يحسن بالمسلم أن تأتيه السُّنة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة جلية، فيتركها، ويتعلق بتعليلات عليلة واهية، كما يلزمهم على ذلك أن يتركوا رفع الصوت في الحج، وفي العشر، وأيام منى، والخروج للعيدين، وفي كل موضع وردت السنة برفع الصوت بالذكر فيه، زاعمين أن في الجهر بالذكر مفاسد!!.
خامسا: الذين قالوا بأنه لم ينقل عن الصحابة رضي الله عنه أنهم كانوا يجهرون بالذكر عقب الصلاة.
فالجواب: أن هذا أمر ينقطع له العجب، ما الأصل في حال الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهو المتابعة أم المخالفة؟ قطعا المتابعة، وليس بنا حاجة أن ننظر في كل سُنَّةٍ فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل اتبعه الصحابةُ أم لا؟ لأن الأصل أنهم اتبعوا، بل من قال بخلاف ذلك طولب هو بالدليل، فمن قال: إن الصحابة رضي الله عنهم لم يتبعوا في هذه السنة-أعني رفع الصوت بالذكر- طولب هو بالدليل.
ومع ذلك فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليهم، فقد أخرج النسائي في عمل اليوم والليلة من رواية عون بن عبد الله بن عتبة، قال: صلى رجلٌ إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلم يقول: (أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلاب والاكرام )، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عمر، فسمعه حين سلم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك ؟ قال: إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمروٍ، فسمعته يقول مثلما قلت: قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وقد أخرج الحافظ ابن رجب جملة من الآثار في هذا.انظر: فتح الباري 6 / 104.
والعجب أن بعض من ينكر هذا العمل، ويجاهد في إبطاله، تجده في مواضع أخرى -تعظيما للسنة- يبحث عن حديث يصحِّحه في غرائب الكتب، كالحيوان للدميري، أو عمل اليوم والليلة لابن السني، ونحوهما، بينما يردُّ العملَ بحديث في الصحاح، وصريح كصراحة حديث ابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهما!فالله المستعان.
بناء على ما تقدم فإن الجهر بالذكر بصورة فردية هو السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسالمة من المعارض من النظر أو النص الصحيح، وأن الجهر بالذكر دبر الصلاة من المواضع التي وردت الشريعة بمشروعيتها، كما ورد ذلك في التلبية بالحج، والذكر أيام العشر، وأيام التشريق ومنى، ولم ينكرها أحد.
بدعية الاجتماع على هذه الأذكار بعد الصلاة:
أما الجهر بهذه الأذكار بصورة جماعية فهو بدعة، وهو الذي لا يجوز، وبتحريمه وبِدعيَّته صدرت جملة كبيرة من الفتاوى، فالمقصود الجهر بصورة فردية، كما كان حال الصحابة رضي الله عنهم في الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ:" كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةِ عَرَفَةَ فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ ..الحديث".رواه مسلم. فالحديث صريح في كونهم لم يجتمعوا على هذا الذكر.
الترتيب بين هذه الأذكار:
لا يظهر لي ترتيب معين لهذه الأذكار، غير ما ورد من كون النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بالاستغفار، وقوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام..، وفيما سوى ذلك فلا يظهر من السنة ترتيب معين، فإن قدِّم القرآن على غيره كان حسنا، والأمر في ذلك واسع.
المراد بدبر الصلاة:
اختلف أهل العلم في المراد من دبر الصلاة الواردة في أحاديث كثيرة هل يكون ذلكقبل التسليم أو بعد التسليم، قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: " ودبر الصلاةيحتمل قبل السلام وبعده وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام فراجعته فيه، فقال: دبر كل شيء منه، كدبر الحيوان ".زاد المعاد 1 / 285.
واختار الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله أن ما ورد في الأحاديث في دبر الصلوات، إن كان دعاء فيكون قبل التسليم لأن الدعاء ناسب أن يكون محله قبل الفراغ من الإقبال على الله، وإن كان ذكراً فالغالب أنه بعدالتسليم.
الدعاء عقب الصلاة:
الصحيح أنه لا يسن الدعاء عقب الصلاة على وجه راتب، بل الأولى أن يجعل المسلم سائر دعائه ومناجاته داخل الصلاة، فهو المقام الأولى بالدعاء.
قال شيخ الإسلام: "ولا يستحب الدعاء عقيب الصلوات لغير عارض كالاستسقاء والانتصار، أو تعليم المأموم، ولم تستحبه الأئمة الأربعة". الاختيارات (49).
وقال ابن القيم: "وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه ولا أرشد إليه أمته وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما والله أعلم، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها، وهو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه ثم يسأله إذا انصرف عنه؟! ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي" زاد المعاد 1 / 248.
قلت: أما إذا احتاج المسلم أن يدعو عقب الصلاة لحاجة نزلت به، أو خشوع ورغبة غلبت على قلبه فدعى، لا على وجهٍ راتبٍ، أو اعتقادٍ أن الدعاء عقب الصلاة أفضل أو مستحب، فإن هذا لا بأس به.
الأذكار بعد الصلاتين المجموعتين:
الأظهر أنه يسن بعد الانتهاء من الصلاتين المجموعتين أن يأتي بأذكار كل صلاة منهما، يبدأ بالأخيرة منهما، كأن يبدأ بأذكار صلاة العصر أو العشاء، ثم أذكار الصلاة الأولى، وليس هذا مما يقال فيه: سنة سقط محلها، إنما تعذر فعلها في محلِّها للجمع، والعهد قريب، فيُسن أن يأتي بها.
هذا ما تيسر، والله تعالى أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي