الألم من زاوية أخرى
نورا عبدالغني عيتاني


الألمُ الشريدُ هذا، هو أفضلُ ما قد يحصلُ للإنسانِ، هو أثمنُ ما قد يظفرُ به؛ بل والأصدقُ أيضًا! فالألمُ الفريد، ذاك المنعزِلُ الوحيد، المنبوذ بكلِّ مَحفِل، هو سرُّ الوجودِ كلِّه، إنسانٌ بغيرِ ألم، أيصحُّ أن يُسمَّى إنسانًا؟ أيصحُّ أصلًا أن يكون؟!

رُوحٌ بغيرِ ألم، جسدٌ بغيرِ روح: اثنانِ لا يمكن تصديقُهما، إلا عند غياب الرُّوح، عند فناءِ الجسد الأول، في ذاكرة الجسد الثاني؛ جسد الأرض، مؤقَّتًا ليس إلا... إذ الألم والجسدُ والرُّوح سيعيدان الكرَّةَ من جديد، بإطلالةٍ أخرى جديدة، ثلاثيَّةِ الأبعادِ، بلا خيوطٍ هذه المرَّة، وبلا تعميم.

جسد الأرض أيضًا يتألَّم، لكنَّهُ ألمٌ صامتٌ، راضٍ... يتبطَّنُ صرخات ثكلى، للأشجارِ وللأغصانِ وللأوراق... روحُ الأرضِ أيضًا تتألَّم، تبكي دون أن يسمعها أحدٌ، دون أن يفهمَ أحدٌ سرَّ دموعِها... لا أحد يراها أصلًا... وحدها السماء تفهمُها وتواسيها... السماءُ أيضًا تتألَّم برضا، تألم عند سماعِ الأرض... تبكي، لكن بلا خفاء... تذرفُ دمعًا ثنائيًّا، عنها وعن الأرض معًا... الأرضُ تواسي السماء، تغمرُها بعبيرٍ زاكٍ... سرٌّ غامضٌ لا يفهمه أحدٌ سواهما، لكن يستنشقه الإنسان... هذا ما يحسنه فحسب... أن يمتصَّ عبيرَ الدمع... الإنسانُ رفيقُ الدمع، حتَّى دون أن يعي ذلك...

عطرُ الأرضِ ونورها، أعشابها وورودُها، وِدْيانها وهضابُها وتلالُها، وثلوجها ومروجُها - كلُّها أفراحٌ منقوصة، سعاداتٌ شبه مغتصبة، صِيغَتْ من آلام الأرضِ ودموعِ السماء... بُترَت منها... نحن نأكل من نتاج الألم؛ لذا نحن دومًا في حالة تألُّم، لا نحيد عنها وهي عنَّا لا تحيد... حين يقف فيضُ الألم، ننتهي... فلنتألَّم إذًا بصمتٍ، دون أدنى صوتٍ يُسمَع.

فلنتقبَّل صخبَ الألمِ بكلِّ امتنانٍ وأريحيَّة، فلولا الألمُ لما كنَّا... فلنكفَّ إذًا عن محاكمةِ الألم، هذا المتَّهم المظلوم، المفترَى عليه... لنحتضنه إذًا، ونحوطه بين أيدينا... فلْندنُ منه بلا اعتراض ولا امتعاضٍ ولا منغِّصات... لا شكاوى ولا أنَّات... فلنبتلع آلامنا إذًا بكلِّ إقبالٍ وشهيَّة، فما ألذَّ الألم حين يصنعُنا، حين يصيرُ نحنُ! فلتُرفَع إذًا جلسة المحاكمة، وليُحاكَم القاضي والمحامي والشهود... فليُحاكَم كلُّ الحضور، القاصي منهم والداني، فكلُّهم جناةٌ ظالمون، إمَّا معتدون وإمَّا مقصِّرون... وحده الألمُ الشريد، هو البريء الوحيد، الحاضرُ الغائبُ أبدًا عن الحضور في الصورة، الظاهر أبدًا في قلب المشهد الحيِّ، بصورةٍ أخرى غريبة، لا تمتُّ لهُ بصِلَة.

فلتُنتَزعْ كلُّ المشاهد والصور، وليبقَ الألم وحيدًا، متجرِّدًا، منعزلًا عمَّا سواه، ليعكسَ نفسه فحسب، بعيدًا عن ظُلم الأرواح والأجسادِ والإطارات، وكلِّ الأماكنِ... بعيدًا عن الأرض، عن حبَّةِ رملٍ تتلبَّسُه... فتنقسم وتنشطرُ وتنفلق وتتكاثر، لتنسبَ له سببَ تبعثُرها، وضياعِها بين الصحاري الشاسعة... ناسيةً أنَّ وجودها ينمو ويزهو ويتجدَّدُ حيث يكمنُ الوجع فحسب.

المجدُ للألم، والحمد والشكرُ لله على نعمة الألم، وعلى القدرة الخارقة المهداة للإنسان على احتمال الألم، وتقبُّلِ الألم، والصبرِ على ألمِ الألم...