شذرات من الماضي البعيد
صلاح الحمداني


عندما كنا صغارًا، كنا نحلُم أن يحملنا القطار بسرعةٍ لعالَم الكبار، أحبَبْنا أنْ نصبح بلِحًى محلوقةٍ بعناية، بذقن يتدلَّى من وجوهنا؛ ليعطينا فرصةً للظفر بحُب واحدةٍ تعشَق شعيراتِ الوجه.

نتسابق لنحلق الوجوه، مستعجلين أن تنبت الزغيبات؛ لنتفاخر بها أمام مَن ما زال وجهه طاهرًا من الطفيليَّات السوداء.

نشاهد الرسوم المتحرِّكة في شاشةِ تلفاز تتوشَّح بالأبيض والأسود، نُقلِّد المشاهد، ونصنع أسلحتَهم؛ لنجرِّبها في لحظات لَعِبِنا الجماعيِّ.

كانت الحياة محصورةً في كسرةِ خبز مبلَّلة ببقعٍ من الزيت، وكأسِ شاي حضرتْه الأمُّ فوق "مجمر" مليء بالفحم الأحمر.

كانت الحياةُ مجسَّدة لنا في لعبةٍ، نصنعها ونتباهى بها أمام الآخرين، في لباسٍ جديد نرتديه يوم العيد، في قُبْلَة من شفاه الوالدة، في نظرة رضا في عيون الوالد، في صديق جديد نتعرَّف عليه.

في تلك الليالي الممطرة والعائلة كلُّها مجتمعة حول طبقٍ من الفول، والسماء تعلن عصيانها في الخارج.

في لعبة نلعبها بمرح طفوليٍّ بسيط، لا تكليف ولا نفاق فيه، في فتاة صغيرة تمرُّ بمحاذاتك وتبتسم لك معلنةً إعجابَها بك، فتحدث أصدقاءك عنها لمدَّة شهور حتى تنسى هي ملامحَك.

في صياح الديك الصباحي، وهو يعلن بداية يوم جديد، انتظرناه منذ ليلة الأمس، وفي لمسة ناعمة من يد الجَدَّة العجوز المجعدة، فتعقبها "كُمشة" من الحلوى الجافَّة.

هكذا كانت الحياة... جميلة لا نحبُّها أن تنتهي، ولا نريد لضوء الشمس أن يغيب، ولا لظلمة الدُّجى أن تنشُر خيوطها حول الدوار.

اليوم... هيهات هيهات... كبرنا... ويا ليتنا ما كبرنا... كبِرنا ونبتت في وجوهنا بدل الشُّعيرة الواحدة، عشرات الشعيرات، وتدلَّت خيوط الزغب من خياشيمنا.

لم نجد عالَم الكبار بتلك المتعة التي اعتقدناها ونحن صغار، وسارعنا الزمن من أجل الوصول إليها.

لم يعد طعم الحياة بنفْس حلاوة الصِّغَر؛ تحوَّلت الأيام مجرد تحصيل حاصل لدوران المجرَّة، وتحوَّلت السعادة لشيء وهميٍّ نتظاهر به أمام الآخرين.

لم يجلب الشَّعر فتياتٍ، ولم يعد مذاق الشاي بنفس النكهة الحمراء للجمر، ولم يعد لعب الكبار بنفس البساطة والعفويَّة التي كانت لنا ونحن صغار؛ لعب بطعم الخداع والغش، والتباهي والثعلبة.

أَضْحَت الحياة سيناريو لدراما نمثِّلها باحترافيةٍ مزيَّفة، نشكِّل الأيام حسب قانون العَرْض والطلب، وندفع التكاليف مُسبقًا.
جرَّب بعضنا طعم السيجارة، فلم تفلح في إثارته، لكنها حَكَمَت عليه بالإقامة الجبريَّة في قفص عشقها الممزوج برائحة النتانة.


تظاهرنا بالفرح ضدًّا على المشاعر.
كل هذا سعيًا للبقاء كبارًا... لكن عشق الصغر يُغرينا بالرجوع إليه.
حقًّا يا ليت الصِّغَر يعود يومًا، فأُحدِّثَه بماذا فعله بي المشيب.