الرحال (أقصوصة تعليمية)
أ. محمد أحمد سليمان








مقدمة:

بين أيديكم أقصوصة غير مرتبطة بزمنٍ ولا مكان؛ لذا فهي تختلف عن القصة التقليدية بعناصرها الفنيَّة المعروفة، قَصَدتُ أنْ يتحرَّر عقل القارئ - أثناء قراءتِها - وألا يتخيَّل زمنًا ولا مكانًا ولا أُناسًا بأعينهم؛ وإنما وددت أنْ أصل بأقصوصتي التعليمية بأنَّ للحق رجالًا لا يزالون مرابطين إلى يوم الدين لإظهاره، وهدفهم الجنة، فلهم عذرهم إلى ما عقدوا عليه مِن نيَّة، ولمن لم يَرَ ما رآه هؤلاء عُذرُهم فيما انصَرَفَتْ إليه أذهانُهم. (المؤلف).

♦♦ ♦ ♦♦




صوتٌ مُدوٍّ أفزع سكانَ هذه المدينة التي كان الهدوءُ سَمْتَها، وأُرجفتْ معه القلوبُ التي كان الاطمئنان صفتَها، فانطلق الطاعنُ سنًّا، والقاصرُ عُمرًا، وصاحبة الخِدر إلى هذا المخبأ المعتادِ الاختلافُ إليه بين آنٍ وآخَر، تسمع فيه زفرات متعبة، ونبضات مرتعبة.



بطل قصتنا كان ممن هُرِعوا نحو المخبأ، بُرعمٌ مندَّى يفوح منه شذا الطفولة البريئة، ولكثرة ما رآه من الدمار والدماء؛ ترى بريقًا يخرج من عينيه ينُمُّ عن تربيةٍ ضَرَبَت بفأس التحدِّي في أرض العدل الجدباء؛ لتنبتَ فيها نبتة أملٍ، وتحيي بها فجرًا جديدًا.



إنه جاسر الذي جلس وسط أهله صامتًا، وقد جال في خاطره صوَرٌ من الزمن الماضي القصير قِصَرَ سِنِّه؛ اختلط فيها جميعُ الألوان، واختفى منها هذا اللون المحبَّب إلى قلبِ طفلٍ صغير، وإنما غلبت الألوان القاتمة القاسية، وما أفاق إلا على صوتِ أحدهم:

إنها الحرب التي لا تُبْقِي ولا تَذَر.

صوت آخر بنبرةِ حزن:

أين العالَم مِن حولنا؟ بل أين أبناء عمومتنا؟ أين الجسد الواحد؟

صوت آخر:

دعك ممن حولك جميعًا؛ فقد سَوَّوا بين السجِين والجلَّاد، نظروا بعين عوراء فرأَوا أنَّ الحق مع القويِّ وإنْ طغَى.



فجأة وقف صوت الحرب وخرج الجميع إلى شؤونهم؛ فالعمل عندهم لا يوقفه مدفعٌ ولا بندقية؛ لأنَّ الآمرَ بالعمل لا يحبُّ البطَّالين؛ فهو القائل: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ ﴾ [التوبة: 105].



ظلَّ جاسر في مكانه باكيًا متمنيًا أنْ يكون قويَّ الساعدين، ثابتَ القدمين، قد بلغ مبلغ الرجال؛ ليحارب مثل أبيه وعمِّه، فمدَّ يديه الصغيرتين اللتين تشيران إلى سبع سنين مِن عُمرِ فجرِ غد الحقِّ المأمول - إلى مَن هو أقرب إليه مِن حبل الوريد، ثم طرح جبهته على الأرض؛ ليقترب إلى بارئه مناجيًا إياه أنْ يُلهمه صُنعًا لنصرة قومه، ثم غلب عليه خيالُ سِنِّه قائلًا:

يا أرحم الراحمين، أعطني خاتم سليمان، فآمره فيخرج لي ذاك الجنيَّ ليساعدني في دَحْر هؤلاء الأشرار.



ما إن انتهى جاسر من كلماته، حتى سمع ضحكةً هادئةً، فالتفت فإذا بشيخٍ جميلِ المُحيَّا زادَتْه تجاعيدُ وجهه هيبةً ووقارًا، فارع الطول على ملابسه الكثير من الدماء، فما أنْ رآه جاسر حتى انطلق نحوه يعانقه: أبي... أبي...



وارتمى في أحضانه، وشعر بدفءٍ أَغْمَضَ بسببه عينيه المثقلتين بالدموع، وأسند رأسه على كتفه؛ لتنال هي الأخرى قسطًا من الأمان، ربما تهدأ ما بها مِن أحلام.

مرَّر الأب يديه على رأس ابنه قائلًا:

كم أنا سعيد بك، وبدعائك إلى الله!

نظر جاسر إلى أبيه بحبٍّ صادق: أسمِعتَني يا أبي؟!

نعم؛ وأنا متباهٍ بك وبحبِّك لدينك وأهلك، بَيْد أنَّك دعوت اللهَ بما لا يجب...

(مقاطعًا كلامه) بما لا يجب؟!

(ابتسم الأب) دعوت الله بأنْ يهبَك خاتمًا وجنيًّا.

نعم، لأدحر به الأعداء، ولأنشر به العدل.

يا بني، ألم تحفظ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]؟



ألم أعلِّمْك غزواتِ رسولِنا صلى الله عليه وسلم، ووجدت فيها التوكُّل الحقَّ والتخطيط والقيادة الفريدة؟ فكان خاتمه السحريُّ قوةَ بيانه، وكانت عصاه سبك تخطيطه واستشارةَ أصحابه، وكان إحياء قلوب مَن حوله بالقرآن الذي فيه شفاء وإزالة لصدأ القلوب.



(في اعتزاز): أين أنا من رسولنا الكريم؟!

(في حماس): كان رسولنا صلى الله عليه وسلم فردًا قائدًا عالِمًا بمَن حوله؛ فاستطاع نشرَ رسالته، وتركَ لنا ما إنْ تمسَّكنا به لن نضلَّ، ودعا إلى الحكمة، وجعلها من حقِّ المؤمن أنَّـى وجدها فهو أحقُّ بها.



(الابن في اندهاش): وهل للعِلْم في وسط أصوات الحرب أهميةٌ؟!

نعم، فالعلم تُناط به جميع القوى، والعالِم كقطب الرحى إن شطَّ قومه يَمنةً أو يَسرةً، كان هو عقدهم الذي يعمل على جمعهم وترابطهم، فهو يسعى حتى يحطَّ رحاله في الجنة.

♦♦ ♦ ♦♦




بعد سَنَةٍ من هذا الظلام الذي جثا على صدد المدينة التي كانت زهرةَ المدائن، ها قد كبر بطلنا سنةً مِن عمره، ولم تمضِ إلا وقد زاد عِلْمُه وتفتَّحت بصيرتُه، وفي ليلةٍ مقمرةٍ هَمَسَ والدُ جاسر لابنه بحديثٍ ووصَّاه بأمورٍ، شعر عندئذٍ بأنه حديثُ مودِّع، فبكى جاسر، ولكن الأب تماسَكَ قائلًا:

علِّق قلبك دومًا بمن هو خير منِّي، واربُط بصرك وبصيرتك برِحالك...



(الابن مندهشًا) الرِّحال؟!

نعم، ألم نتفق بأنْ لا راحة إلا مع حطِّ رحالك في الجنة؟



ثم أخبر الوالد ابنه بأنه اتفق مع عمِّه أن يأخذه بعيدًا عن المدينة في مكانٍ آمِنٍ، حتى إذا اشتدَّ ساعدك وقويت حجَّتُك، فأنت أعلم بهدفك وطريقك، بعدها لم يمتلك أحدٌ منهما دموعَه مِن أن تعلن عن لوعةِ الفراق، وجوى الاشتياق، ومرارة البعاد.



وفي ليلة مظلمة غاب قمرها، وعلا سوادُها، وانتشر فيها براثن آكلي الحقِّ، الذين قد بُرمجت عقولهم على هدفٍ واحد قد وافق هدفَ الشيطان، الذي لم يحب يومًا أن تعلو كلمة "لا إله إلا الله"، اقتحموا وفتَّشوا وخرَّبوا، ثم قبضوا على الأبرار خيرِ البريَّة، وكان منهم أبو جاسر الذي ما لان ولا انزعج؛ مردِّدًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111].

♦♦ ♦ ♦♦




عَلِم عمُّ جاسر بما حدث للمدينة، فقدِم ليأخذ ابنَ أخيه جاسرًا، الذي شعر عندها بأن قواه قد خرت، وأنَّ جناحه قد هيض، وأنَّ آماله قد انقَضَت وسُقط في يده، هنا صاح فيه عمُّه: الرحال... الرحال!




لامست هذه الكلمةُ قلبَ الابن، فثبت في مكانه، وداوت حزنَه؛ فأبدلته فرحةً بما أعدَّ الله للمقاتلين في سبيله، فأخذ يردد:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].

انتهى سير القصة..

ولكن بقي سير الرحال.