عالم متعدد الألوان
نهى الطرانيسي


بحنان الأُمِّ أرسلَتِ الشمس أياديَها الدافئةَ لتَشمَلنا تحت عنايتها، فتُغذِّينا بنورِها وحرارتها التي خجَلتْ منها رعشةُ البرودة أن تَستقرَّ بأطرافنا.

أخذتُ نفسي عن رُكني المُنْزَوي، وتمرَّدتُ على نظرات الناس، لُذْتُ بحديقة شاسعةِ الأطراف، جلستُ تحت قُبة السماء؛ كصفحات كتابٍ يَنتظر أن تُسطِّر فيه وتَملأَه بما لم يَستطع داخلُك أن يتحمَّله، فالنفسُ وإن كانت عميقةً لا حدودَ لها، ولا هُوَّةَ تَستطلعها لترى مُنتاها، فإنها تتلوَّى من خبايا تَقرِض في الزوايا، وتتغذَّى عليها؛ لتعودَ إلى صورتها الأولى حينما تَهدَأُ.

تَحُفُّني أرضٌ خضراءُ تَمنَّيتُ لو لامَس أقدامي ذلك العشبُ الرَّطب، فأَشْعُرَ به، لكنني لا أستطيعُ، وهل أستطيع أن أتَحرَّك بدون هذا الكرسيِّ المَعْدِنيِّ؟! هل أستطيع الاستغناء عنه؟! إنه يُلازمني ويَلزَمني منذ أمدٍ، لكنه لا يُكملني، هو فقط أداة لأَغدوَ وآتِيَ!

تتلاشى أصوات الناس في اتساع الحديقة، لكن تظَل تلك النظراتُ بوجوههم المتنقلةِ بين براءةِ وجهي تارَةً، وبين الكرسيِّ البارد تارَةً أخرى، كسجَّان بيني وبين إطلاق سَراحِ نفسي بين كَفَّي الحياة، فلا يَسَعُني سوى تَمنِّي البكاء والصُّراخ عاليًا، وَوَأْدِ تلك النظرات النافذة في جَنباتي، لا أسْعَدتني تلك الشفقة الزائفةُ، ولا ساعَدتْني؛ كي تعود الرُّوحُ إلى أرْجُلي الساكنةِ!

بمحلِّ عملي أتنقَّل بمحاذاة الآخرين الجالسين، لا أختلفُ عنهم إلا في تحرُّكي بينهم، ولا يُلاحظني الواقفون إلا بعد سماع صوتي.

حتى (الزميلة الجديدة) كانت واقفةً، لم تُلاحظني على الرغم من كوني رئيسَها، حتى أدركتْ خطأَها، لتتوالَى جلساتُ العمل المشتركة.

تتوالى الأيام، ومع صبيحة كل يوم أَشرُد أثناء غسيل وجهي، أُطْبِقُ الجَفنين عَمدًا؛ لأَسبَح بعيدًا في تأمُّل هادئ سريعٍ، أبْحَث عن كينونةِ تلك البسمة المقتضبة التي تَرسُمها تلك الزميلةُ دائمًا على وجهها، فكلما همَّ العصفورُ بنَقْر جدار قلبِها ليَصِلَ بحباله بيننا، طردتْه بعيدًا، فيَنقرِض تدريجيًّا ذلك الأمل الناشئُ، وتبقى الحَيرةُ الدائمةُ بعينيها، كيف لها أن تَسعَد معي؟!

الآن، الآن فقط، وليس تحت قُبة السماء الواسعة، بل في أضيقِ وأحْلكِ أماكني (منزلي) - أطلقتُ صَرخاتي للشمس والسحاب المتنقِّل والقمر النائم حتى يُفيق، وللأُناس السائرين، لكنهم لا يَشعرون بما لديهم مِن نعمة، والضحكات المليئة في أعيُنِ الأطفال والحالمين على أرْصِفة الطُّرقات.

ذهبتُ إلى عملي على غير العادة مفرودَ القامة واقفًا، أفصحتُ عن طولي الحقيقيِّ، اندمجتُ بين الحشود حتى التقيتُ بها، كانت جالسةً، استمتعتُ بنظراتها التي تَعلو قامَتها المرفوعة، هذه حقيقتي وإن أمسكتُ بعُكَّازين بدلًا مِن الكرسيِّ، فيَدِي تُكمل أَرجُلي، وبها فقط تتحكَّم وتَقبِض وتُديرهما، ولست بريئًا لا أُدرك الحياة، بل عقلي بالغ، بلَغ مِن الكِبَر عِتيًّا، أخشى دروبَ الحياة، لكني لا أَعجِزُ عن مُجابهة مصاعبِ تلك الدروبِ، ملامح وجهي لا تَختلف عنكم، لي عينان ولي شَفتانِ، وأنفٌ أتنفَّس به هَمهماتِكم، وحدودُ وجهي ضمَّتْ وجنتين تألَّمَتَا كلما تهامَسْتُم مَودَّةً ورأفةً بي!

نحن جميعًا في هذا العالم يُكمل بعضُنا بعضًا، الاختلاف هو قانوننا وليس التماثلَ، حتى أصابعُنا ليستْ متماثلةً، ألواننا وأصواتنا، وفي النهاية نحن مختلفون في أفكارنا، جميعُنا نسير وَفْقَ قانون الاختلاف، وبهذا الاختلاف نتكامل.

ودَّعتني ببسمة منفرجةٍ على وجهها، تُقابلها بسمتي المقتضبة، لتَضَعَني في تساؤلٍ: هل أخيرًا أدركتْ خطأَها أو نجحتْ في إيلامي حتى أستيقظَ مِن غَفْوتي؟!



__________________