النون الثالثة: نون المساواة
د. عبدالإله إيت الهنا



وضع الحمَّال قارورة الغاز على جبلٍ رُصَّ بعنايةٍ فوق ظهر بغلٍ منتصب القامة، ثم أحكَمَ ربط الأغراض بإتقان: أوانٍ منزلية، بساط إسفَنجي، أغطية، كتب ودفاتر، ملابس...ثم طلب من زينب أن تتربَّع على القمَّة، نظرت زينب إلى أبيها خجلةً مُطأطئةَ الرأس، فلم يكن منه إلا أن مدَّ لها يد العون حتى استوت جالسةً.

سار الأربعة في طريق وعرة مُوحشة: البغل وصاحبه، والأب وفلذة كبده.



أجالت زينب النظر في الأفق الممتد أمامها وعن يمينها وعن شمالها، فخُيِّلت إليها الشجيراتُ المبعثرةُ في كلِّ مكان نساءً ورجالًا يهتفون باسمها ويُحيُّونها.. وخُيِّل إليها البغلُ الممتطى جملًا فارهَ الطول، يتبختر في مشيته، وهي بداخل الهودج، تتنامى إلى سمعها أهازيجُ النساء، وعمَّا قريبٍ سيستقبلها أهلُ العروس بخَيْلِهم ورَجِلِهم.



ظلَّت زينب تتقلَّب في حلمها، فلا يكدر له صفوًا إلا صياحُ الرَّجل على بغله حاثًّا إيَّاه على حثِّ الخطى، أو مستوقفًا له ليلتقط والدها أنفاسه.

بعد نصف يوم من السير، لاحت لزينب بنايةٌ قديمةٌ على جدرانها كتاباتٌ ورسومٌ تلاشت ألوانُها، وفوقها علمٌ ممزَّقٌ، يُرفرف من بعيد، فتمزَّقت كلُّ أحلامها الجميلة التي آنستها طول الطريق.



توقَّف البغل فكادت تتوقَّف معه دقَّاتُ قلبها، ولولا أنَّها في زمن "المساواة" لصاحت باكيةً في وجه أبيها؛ لينقذها من براثن هذا المنفى الذي ذكَّرها بقول الشاعر:



خرَجْنا من الدنيا ونحن مِنَ اهْلِها

فلسْنا من الأحياء فيها ولا الموتى



إذا جاءنا السَّجَّانُ يومًا لحاجةٍ

فَرِحْنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا