أنكرني صديقي (قصة قصيرة)
د. أسعد بن أحمد السعود






خرجتُ متحاملًا على نفسي، أمشي متثاقلًا أَجُرُّ رجليَّ جرًّا، لا أريد أن أُحْدِث صوتًا يوقظ أحدًا ممن كان في البيت، في تلك الساعة مِن صباح اليوم السادس، من إجراء عمليةٍ جراحيةٍ في الجزء الأيمن من بطني، لم أحسب الوقت الذي وقفتُه وحيدًا متقوِّسًا في قارعة الطريق، يكاد رأسي يصل إلى ركبَتيَّ، واضعًا عليها يدَيَّ، وكأني في ركوعِ صلاةٍ، وفجأة رأيت وجهي أمامي على زجاج سيارة وقَفَتْ ملاصقةً لي تمامًا، لم أر سوى شَعْر رأسي الأبيض المنفوش ولحيتي، لم يُمهلني السائق حتى أُكمل التعويذةَ مما رأيت، سألني وهو ينزل زجاج الباب مِن الداخل:
هل من خدمة أُؤدِّيها لك يا شيخ؟
أجبته على سرعة، ولا أدري كيف تكوَّرت على المقعد:
جزاك الله خيرًا.

سألني السائق مرةً ثانيةً:
إلى أين تريد الذهاب يا شيخي؟
مستشفى مدى العافية التي أجريت بها العملية الجراحية!
أجاب وهو يضغط على شاشة جهاز موبايل مثبت أمامه:
حسنًا، سلامات إن شاء الله!

أحسست بجسمي كلِّه كقربةِ ماءٍ تتحرَّك يَمنةً ويَسرةً على هوى حركةِ انعطاف السيارة، وآلام الجرح أخذت تزيد معها. توقَّفت السيارةُ بعد زمن لم آخذ بحسبانه، أنزل السائق زجاج الباب مِن جهتي، وقال لي:
الحمد لله عل سلامتك شيخي!

نظرت إلى الخارج، فإذا بي أمام مدخل قسم الطوارئ للمستشفى! فشكرته ودعوت له جزاء حُسن خدمته، بادرني وهو يتابع الضغط على شاشة جهاز الموبايل أمامه قائلًا:
حساب توصيلِك هو واحد وعشرون ريالًا بالتمام.

أخرجت محفظتي بصعوبةٍ بالغةٍ، وأخذتُ أبحث عن المبلغ، نظرت إليه وأنا أُحِسُّ بقلقٍ وارتباك، قلت له:
آسف جدًّا لم أجدْ سوى تسعة عشرة ريالًا، هل تَنتظرني قليلًا؛ لكي أجلب لك بقيةَ المبلغ من الصرَّاف الآلي؟
أجابني بابتسامة عطوفة: لا عليك شيخي، سأضيف مبلغ ريالين على فاتورة أجرة توصيلك في مرَّةٍ قادمةٍ إذا طلبتني على رقم نت الشركة، فأعطني الآن رقم موبايلك حتى يثبت لدي!

دخلت قسم الطوارئ أجُرُّ بعضي بتثاقلٍ شديد، كانت الساعة المثبتة عل جدار (كاونتر) الفريق الطبي تشير إلى الخامسة والنصف، وبصعوبة أسمعت أحدهم، وكان يأكل شيئًا كان بين يديه:
أريد طبيبًا يكشف عليَّ، لم يجبْني مباشرةً، وبعد أن أنهى أكل ما كان في يديه:
قال لي:
خير يا عم، أنا طبيب طوارئ!
قلت بعد أن اطمأننت له: أنا في حالةٍ مضطربةٍ، قلبي يا دكتور يضرب بسرعةٍ منذ ثلاث ليالٍ لم يهدأ ولم يتوقف عن الخفقات بصورة سريعة وقويَّة، وحرارتي مرتفعةٌ، هذه أول مرَّة يتمرَّد فيها قلبي عليَّ، كنا أصدقاء على مدى سنوات عمري، أشعر أنَّه أنكرني في هذه الأيام الحَرِجَة، لقد تنكَّر لصداقتي، ولا أعلم ما حلَّ به! أنا منزعجٌ منه، هل يريد أن ينفصل عني؟

كانت عينا الطبيب تراقبني باستغراب وأنا أشرح له ما حلَّ بي، ويبدو أنه أوعز للممرضة أن تتأكَّد مِن حرارتي، وقد أسكتتني بوضع مقياس الحرارة في فمي، وبسرعة أعطى رنينه الخاص:
39 يا دكتور!
حسنًا ...
تناول يدي اليسرى وجسَّ النبض، ثم قال لي:
هل تشكو من أشياءَ في جسمك غير التي ذكرتها؟
أوجزت له وأنا أكشف عن ضماد جرح العملية، تاريخها وسببها، لعله يسرع باتخاذ إجراءات الطوارئ الطبية التي قدمتُ مِن أجلها.

أجابني:
إذًا اذْهَب إلى مكتب الدخول، وادفع رسومَ دخول الطوارئ، ثم أجلب الفاتورة حتى نقوم بالإجراءات فورًا، لديك التهاب شديد، وربما في جرح العملية!

ذهبت متحاملًا يَجرُّ بعضي بعضًا، تناولت محفظتي وأخرجت منها بطاقةَ التأمين الصحي، وبطاقة هويتي الشخصية، لكني لم أعثر على بطاقة الصرَّاف الآلي، قلبت محتوياتها مرةً ومرتين، فلم أعثر عليها البتةَ!

عدت أدراجي خجلًا محتارًا إلى طبيب الطوارئ، وشرحت له ما حصل لي، لكنه لم يكترث لروايتي، قلَب شفته السفلى في إشارةٍ إلى مشاركته خيبتي.

قلت له: أتمم إجراءاتك وسوف أدفع التكاليف كاملةً عندما يأتي أحدُهم ببطاقة الصرَّاف، لقد تعبت جدًّا من الوقوف، ألا تراني أرتعش من الإعياء الشديد، لم أَنَم منذ ثلاث ليالٍ، أريد سريرًا لأريح عليه جسمي، وجرح العملية يؤلمني جدًّا!

أجابني ببرودةٍ شديدة: آسف يا عم، غير مسموح بذلك إن لم تدفع رسوم كشف دخول الطوارئ، وأنا غير مُخول بعمل أيِّ شيء، إن لم أرَ فاتورةَ الدفع أولًا، وتابع: إن كنت تعبًا فاذهب إلى بهو الطوارئ، واسترح على المقاعد فيه!

وهناك فعلًا ومثلما اقترح علي الطبيب، أجريت مكالمة لأحد أبنائي فلم يَرُد، ثم أتبعتها برسالةٍ نصيَّة صغيرة، وأغلقت الموبايل، وتوسدت ذراعي اليمنى، واستلقيت على المقاعد البلاستيكية المرصوفة بجانب بعضها.

أحسست بيد تتلمَّس على جبيني وتضغط على يدي اليسرى، كان ولدي ماثلًا أمام ناظري، لما فتحت عيوني تمامًا.
سألني بتعجُّب بالغٍ:
لِمَ أنت نائمٌ هنا على هذه الكراسي القاسية؟ ومنذ متى؟
أجبته بهدوء: لما اطمأننت به:
الحمد لله أنني في المستشفى، وليس في أيِّ مكان آخر في هذا البلد!

تابعني:
طيب... طيب... يا أبي هات يدك...
ولما استويت واقفًا متكئًا عليه... سألته عن الوقت فأجاب:
الوقت يقترب من العاشرة!
الحمد لله، أمسك يدي جيدًا يا بني، وهيَّا بنا إلى الطبيب المناوب.

دخلنا الطوارئ وسألت عن الطبيب: فأجاب أحدهم بصوتٍ مسموعٍ:
نعم يا عم، هل مِن خدمة!
كانت الوجوه غير الوجوه في الصباح، لقد تغيَّرت تمامًا.

أجبته بكلِّ رَويَّة:
دكتور، هل تستطيع أن تتبيَّن درجة حرارة جسمي ونبض قلبي؟
بكلِّ سرور: وأشار إليَّ بالاقتراب منه وهو خلف (الكاونتر)، وضع السماعة على صدري ونقلها مِن موضعٍ إلى موضع، تناول يدي اليسرى وضغَطَ على معصمها، وأجاب بكلِّ ثقة:
ما شاء الله، نبض قلبك في وسط الثمانينيات، شباب يا عم، كم عمرك؟
سألته: هل أنت متأكد يا دكتور؟
فأشار بيده برمز الإبهام المرفوع.
سألته ثانية: والحرارة؟ أشار وكأنه تذكرها، اقترب.
وضعت الممرضة ميزان الحرارة في فمي، ثم أخرجته بعد رنينه وهي تقرأ
للطبيب بالرقم: 37
رفع إبهامه مرةً ثانيةً برمز (الأوكي)!

شكرته ممتنًّا منه، خاطبت ولدي قائلًا:
الحمد لله، هيا نعود إلى البيت.
بدت علامات التعجُّب تعلو مُحَيَّا الطبيب، ودموع حارة غريبة خرجت قسرًا من عيني، تركتها تسقط حرَّة على أرض طوارئ المستشفى!