أريج الكتاب
عبدالعزيز لمين


كنتُ أختلف إلى الكُتَّاب مرتين كلَّ يومٍ، أسلُكُ سقيفتين لأصِلَ، وكُلِّي شوقٌ وأملٌ لمعانقة لوحي الخشبيِّ (تابليت التفوق) المتضوِّع عِطرًا بآيِ القرآن.

ها هو شيخي أقبَلَ، سآوي إلى ركني ذاك، تاليًا ما في لوحي، متجاوبًا مع هديل ورقٍ يطلُّ من كوَّة تطلُّ هي الأخرى على "الوْسْعه".

شيخي ذو عينين جاحظتين (تَدْعوان الطالبَ إلى الجدِّ والانضباط)، وعمامةٍ بيضاءَ كأنها كتلةٌ ثلجيةٌ تبتسم في وجهك، وتبعث فيك الحياةَ، أُحِسُّني وأنا أنظرُ إلى قبعته الحمراء كأن حِكَمَ الدنيا مُتستِّرةٌ داخلها.

عندما يفرغ شيخي من حلقة التدريس، يُباشر بيته، يقضي بعض الوقت إلى أن ينتهي إليه آذانُ العصر، فيتأهَّب وقتذاك للصلاة، آخذًا زينته، متأبِّطًا لِبْدته، جاعلًا سُبْحته البيضاء بين أنامله، وسِراجه الأخضر الصغير في يده اليُسرى، فهو محتاجٌ إليه عند الغروب حين تُخيِّم الحُلْكة على "درب سيدي علي الإمام".

أرِحَ بصَلاته، فقصد مكانه المعلوم خارج القصر، مُجمِّلًا جِلسته بنصائحَ وهدايا يبعثها لنا نحن الطلاب، كما لا ينسى إهداء الحَبِّ والزؤان لحمامه الأزرق المتحلِّق به.

ها هم التلاميذ عائدون من "الشكْويلَة" كما ينعتها الشيخ.
ما اسم يومك؟
الخميس.
أنت إبليس إذًا.
لماذا أنا كذلك يا سيدي؟ (أسأله ورأسي مندسٌّ إلى الأرض).
"يا بُني، في يوم الخميس لا يقرأ إلا إبليس وأبناء المدارس".

أتخيَّلُني في هذه اللحظة إبليسَ بقرْنَي كبشٍ، رغم أني لم أفطن إلى معنى الكلمة بعدُ.
ما أن يُنهي الإجابة، حتى يسقط زميلي أرضًا من فرط السُّرعة، متى سيصل منزله ليضع محفظته "الأرْزية" وراء الباب، لاهثًا للانضمام مع أتْرابِه في لعبة "كاويس"، حتى يتلقَّى جوابًا علاجيًّا من الشيخ "جيتْ تسربي حتى لاحك الغربي"، ما أجمل الأمثال، وبخاصة تلكم التي يتفوَّه بها شيخي!

ذات صبيحة حيث انتهى بشيخي المكان قرب جزَّار البلدة، يُقبِل سعيدٌ راغِبًا في شراء "الملوخية"، يسأل سعيدٌ البائعَ الذي اعتاد بيعَ منتوجه أمام الجزَّار، كم ثمن "الزلاك"، ينوب شيخي عن البائع بالقول:
"كثرة تناولي للملوخية، يُفقِدُني الشهيَّة".