تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 13 من 13

الموضوع: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الواحد الديان، الذي علَّم الإنسان، وألهمه الحجة والبرهان، ووهب له العقل والجنان؛ وأنزل له معجزته القرآن، لا فيه تصحيف ولا نقصان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وبعد:
    فهذه وريقات أحاول فيها – مُوْجِزًا- إبراز الخطوات الأساسية التي يجب على الباحث في حقل تحقيق التراث أن يسلكها في حال اتجاهه إلى تحقيق النصوص، وسبيلي في هذه الوريقات عزو كل قول إلى قائله، حيث إن بركة العلم نسبة الأقوال إلى قائلها، والآراء إلى مجتهديها.
    وأحاول أن أَلُمَّ شتات ما وصلَتْ إليه يدي، وما اطلعت عليه من كتب مخطوطة أو مطبوعة حتى أخرج هذه الورقات التي لا تعدو أن تكون نقطة في بحر العلم الفياض.
    أعرض فيها ما على الباحث انتهاجه حال رغبته تحقيق كتاب ما، حتى يخرجه إلى النور كما يرضي الله تعالى ثم يُرضِي مؤلفه الذي عالج في تأليفه أقصى الظروف - دأب العلماء الأُوَل- في تأليف الكتب، فيحاول بما استطاع من وسيلة تحقيقه والتثبت في كل كلمة يسطرها فيه بما أتيح له من وسائل المعرفة وأدواتها، ثم عرجت على أخطاء النساخ محاولاً ذكر الظروف وأسبابها، ثم محاولة حل هذه المشكلة، وإليك الفصل – قارئي العزيز- في هذه الورقات.
    وأقول إن الاختيار لابد وأن يكون عن تمرسٍ وخبرة بمجال الكتب، ومطالعة تحقيقاتها، والنظر في مطبوعها ومخطوطها، فإنها تعطي لسالك هذا الدرب عمقًا حقيقيًا ونضجًا في أساليب تحقيق ولا أدل على ذلك من قول الشاعر:

    إِنَّ اخْتِيَارَكَ لا عَنْ خِبْرَةٍ سَلَفَتْ إِلا الرَّجَاء وَمِمَّا يُخْطِئُ النَّظَرُ
    َكالمُسْتَغِيثِ بِبَطْنِ السَّيْلِ يَحْسِبُهُ حِرْزًا يُبَادِرُهُ إِذَا بَلَّهُ المَطَرُ
    (1)

    اختيار الكتاب
    ويأتي هنا دور التأكد مما إذا كان الكتاب قد سبق له نشره وذلك بأمور منها: استشارة المختصين والرجوع إلى الفهارس والكتب التي تضم المؤلفات التي سبق نشرها منذ بدء الطباعة مثل كتابي يوسف سركيس ((اكتفاء القنوع بما هو مطبوع))، و((معجم المطبوعات العربية والمعربة)) لعمر كحالة وذيوله. ومثل النشرة المصرية للمطبوعات التي تصدر عن دار الكتب القومية وأمثالها في البلاد الأخرى وإلى كتاب الدكتور/المنجد عما نشر من المخطوطات العربية، وقد ضمنه منه عدة أجزاء، وإلى مجلة معهد المخطوطات حيث تنشر تعريفًا بما نشر من مخطوطات وذلك حتى لا تتكرر الجهود أو تضيع خاصة وأنه لا يوجد بعدُ تنسيق أو تنظيم دقيق لتبادل المعلومات في هذا الصدد(2)، فحتى لا تتكرر الجهود ينبغي للباحث أن يبحث عن مادة، إما مخطوط لم يطبع وهو أولى أو مطبوع لم يعتنى بطباعته، أما إذا كانت التي تضمنتها المخطوطات متوافرة في الكتب المماثلة المنشورة وليس في إضافة علمية مناسبة فليس ثمة جدوى من نشرها إلا إذا امتازت بجودة العرض وحسن التنظيم وبشكل واضح أو كانت أصلاً هامًّا استقت منه المؤلفات اللاحقة فتبعثرت نصوصه في ثناياها ويكون لإخراجه أثر في تطور العلم الذي يتناوله(3).
    وبالنسبة لما حُقِّقَ لا على منهج علمي مقبول فلا مانع من إعادة تحقيقه، أما إذا كان الكتاب قد حقق طبقًا لمنهج علمي مقبول فلا ينبغي إعادة تحقيقه، وذلك إن الأول قد كان محتويًا على عدد كبير من العيوب أو الأخطاء أو لم تقع له أصول خطية كافية، توفرت فيما بعد، أو وجد الكتاب بصورة أخرى أو اختلاف بيِّن يدعو إلى اعتبار صورة جديدة للكتاب(4)، فقد كان بعض العلماء يؤلفون ثم ينقحون ثم يضيفون، دواليك إلى أن تخرج النسخة المعتمدة لدى المصنف(5).


    جمع النسخ الخطية
    لتحقيق مخطوط ما لابد من معرفة نسخِهِ المخطوطة في شتى مكتبات العالم المختلفة، ولعل من البداهة أنه لا يمكن بوجه قاطع أن نعثر على جميع المخطوطات التي تخص كتابًا واحدًا إلا على وجهٍ تقريبي. فمهما أجهد المحقق نفسه للحصول على أكبر مجموعة من المخطوطات فإنه سيجد وراءه معقِّبًا يستطيع أن يظهر نسخًا أخرى من كتابه، وذلك لأن الذي يستطيع أن يصنعه المحققُ هو أن يبحث في فهارس المكتبات العامة، على ما بها من قصور وتقصير؛ وهو ليس بمستطيع أن يبحث فيها كلها على وجه التدقيق، فإن عددها يربى على الألف في بلاد الشرق والغرب. وكتاب الفيكونت فيليب دي طرازي المسمى ((خزائن الكتب العربية في الخافقين)) يتيح لقارئه أن يعلم مقدار ضخامة عدد المكتبات العامة التي تناهز ألفًا وخمسمائة مكتبة(6).
    وعليه إذن أن يبحث في المصادر المعنية بذلك مثل كتاب ((تاريخ الأدب العربي)) لكارل بروكلمان ترجمت منه ستة مجلدات إلى اللغة العربية وبقيته باللغة الألمانية، وهو مرتب على الموضوعات فهو يتناول كتب الحديث والفقه والأدب والتاريخ كلاًّ على حدة. كما أنه يسرد أسماء المؤلفين وأسماء مؤلفاتهم المخطوطة مراعيًا التسلسل الزمني، فإن رغب الطالب في اختيار مخطوطة ألفت في عصر مبكر فإنه يجد بغيته في الأقسام المترجمة إلى اللغة العربية، فإن لم يجد راجع الأصل الألماني وملحقاته، ويمكن أن يستعين بمن يعرف الألمانية ليدله على مراده. وكذلك فإن كتاب ((تاريخ التراث العربي)) لفؤاد سزكين يتناول نفس الموضوع وبنفس الترتيب ومراجعته ضرورية؛ لأنه استدرك على بروكلمان ما فاته وصحح ما أخطأ فيه. وبعد مراجعة هذين الكتابين تراجع فهارس المخطوطات الخاصة بمكتبة معينة أو مخطوطات عدة مكتبات بقطر معين، ومن فهارس المخطوطات المهمة فهرس مخطوطات معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية حيث يحتوي المعهد على عدد كبير من المخطوطات المصورة عن مكتبات العالم المختلفة، ثم فهارس مخطوطات دار الكتب المصرية والمكتبة الأزهرية والمكتبة البلدية بالإسكندرية ودار الكتب الظاهرية بدمشق ومكتبة الأوقاف العامة ببغداد ومكتبة المتحف العراقي ببغداد ومكتبة المتحف البريطاني ومكتبة برلين فهذه مكتبات غنية بالمخطوطات ولها فهارس منظمة.
    إن الاطلاع على هذه الكتب والفهارس يقصد به اختيار المخطوطة المراد تحقيقها وأخذ فكرة أولية عن مؤلفها وقيمتها وعدد نسخها ومظانها وحجمها وجودة خطها أو رداءته(7).
    ويعنينا على ذلك أيضًا الاطلاع على الفهارس والمعاجم المصنفة للكتب المطبوعة، مثل كتاب ((اكتفاء القنوع بما هو مطبوع)) لإدوارد فنديك المنشور بالقاهرة سنة 1896م، ((معجم المطبوعات العربية والمعربة)) ليوسف إليان سركيس، وهو شامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والغربية وأسماء مؤلفيها ولمحة من ترجمتهم، من يوم ظهور الطباعة إلى سنة 1919م، وهو مطبوع في جزأين بالقاهرة سنة 1928- 1930م، كما يفيد أيضًا الاطلاع على فهارس الكتب المطبوعة المحفوظة في دور الكتب ومنها: ((النشرة المصرية للمطبوعات)) التي يصدرها قسم الإيداع القانوني بدار الكتب المصرية من عام 1956م(8).
    وبعد هذا العناء في البحث والتنقيب ومحاولة استنطقاء الكتب والفهارس تخرج لنا مخطوطات قد تكون متعددة، وقد تكون نسخة فريدة، فعلى كونها متعددة على الباحث في هذه الحالة طبقًا للبيانات الأولية المتاحة، يعني: وصف الفهارس لها، أن يدرس أحوال تلك النسخ قبل جمعها دراسة أولية، فقد يلاحظ أنها قد نقلت عن بعضها(9)، وعندئذ لا داعي للحصول عليها كلها، بل يختار نماذج منتقاة من مراحل زمنية مختلفة، وخاصة تلك القريبة من عصر المؤلف، ومن أمكان مختلفة، وخاصة القريبة من مكان التأليف، وبين نساخ في عدة وخاصة المشهورين بالعلم أو الخبرة(10).
    فيكفيه حينئذ استخدام الأمهات فحسب، إلا إذا كان بعض النسخ الحديثة قد كتبها علماء معروفون، أو سمعت على علماء مشهورين، ففي هذه الحالة لابد من الحصول على هذه النسخ كذلك.
    وإذا كان الكتاب نسخة وحيدة فلا يضير تحقيقه بالاعتماد على هذه النسخة وحدها، أما إذا كان الكتاب أكثر من مخطوطة، فمن الخطورة الاعتماد على نسخة واحدة من نسخه؛ لعدم الضمان في كون هذه النسخة مستوفية لكل النص الذي كتبه مؤلف الكتاب(11).
    تعد النظرة في المفاضلة بين النسخ في هذه المرحلة الأولية بمكان، إذ قد تكون الفهارس قاصرة، والمقصود من ذلك ألا يثق الباحث ثقة كاملة بمعلومات مصادره الأولية، وإن كان لابد له من الاستعانة بها، اللهم إلا إذا تيسرت له الرحلة الشخصية، فيجمع بنفسه الأصول الخطية بعد فحصها بطريقة مباشرة(12).

    منازل النسخ(13)
    لأهل التحقيق اعتبارات عدة في معرفة منازل النسخ، فمنهم من يجعل تلك الاعتبارات ثلاثة ومنهم من يزيد إلى ثمانية، سأحاول مزج بعضها إلى بعض في هذه السطور حتى نستنخ فيها الفائدة المرجُوَّة:
    أولاً: قدم النسخة:
    على الباحث أن يدرس ورق المخطوطة ليتمكن من تحقيق عمرها، ولا يخدعه ما أثبت فيها من تواريخ قد تكون مزيفة(14)، وكما عليه التنبه أن ليست العتِّ والأرضه والبلى تدل دلالة قاطعة على قدم النسخة، فمن المشاهد أن تلك الآثار تكون في مخطوطات لا يتجاوز عمرها الخمسين عامًا.
    ومن الأمثلة على معرفة قدم النسخة بمعرفة تاريخ نسخها كتاب: ((التعازي والمراثي)) لأبي العباس المبرد (المتوفى سنة 285هـ) فله نسختان:
    إحداهما: قديمة محفوظة في دير الأسكوريال، وقد نسخت في العشر الأوسط من جمادي الآخرة سنة 563هـ.
    والأخرى: أحدث منها، وهي محفوظة بالخزانة العامة للرباط بالمغرب، وقد نسخت في مستهل ذي الحجة سنة 757هـ(15).
    خلاصة الأمر أن قدم النسخة لا يشكل بالضرورة مبررًا لاتخاذها أمًّا، ما لم يكن هناك من الدواعي ما يجعلها قادرة على قيامها مقام النسخة الأم، فقد تكون نسخة حديثة ودقيقة، أنفع من الاعتماد على نسخة قديمة مشحونة بالأخطاء، مملوءة بالتصحيف والتحريف، ومن الجائز أن تكون النسخة الحديثة منقولة عن أصل قديم، ضبطت روايته، وصححت قراءته بطريق السماع أو الرواية وفي هذه الحالة تصبح النسخة الحديثية أصلاً، وتعتمد الأخرى أو الأخريات للمقابلة والتصويب والتصحيح(16).
    وهناك أمور يعتني الباحث بها لدراسة نوع المداد ليتضح له قرب عهده أو بعد عهده، فمن الواجب أن تستقصى كل هيئة من هيئات الخط العربي المستعملة، وتميز من غيرها، وتقسم تبعًا لأسلوبها وقدمها، والجهات التي استعملت فيها، بل إنه من الواجب أن يبحث عن كل حرف، وتستقصي كل صورة من صوره المختلفة في الكتب، وأن يعيَّن متى وأين كانت تلك الصورة مستعملة، ولابد من إعداد كتاب المؤلف في تلك الحروف بالصور الشمسية، التي يبين فيها صور تلك الحروف على اختلافها(17)، ومن ثم فإن معرفة نوع الخط الذي كتبت به المخطوطة إن كان شرقيًّا أو مغربيًّا أو إن كان فارسيًّا أو رقعة أو كوفيًّا ضروري لتقدير طبيعة العقبات التي تحول دون قراءة النص بسهولة ولاشك أن ثمة اختلافات بين المغاربة والمشارقة في رسم بعض الحروف فالفاء مثلاً عند المغاربة بنقطة واحدة في الأسفل، أما القاف بنقطة واحدة من أعلى.
    وكذلك فإن الخط الفارسي أوضح من الكوفي وقد عرف بعض المؤلفين بجودة خطوطهم مثل الخطيب البغدادي في حين عرف بعضهم بتعقيد خطهم وصعوبة قراءته مثل الحافظ ابن حجر العسقلاني(18).
    يهتم الباحث بعد دراسة المداد وألوانه وأنواعه في النسخ باطراد ذلك الخط ونظامه في النسخة، فقد تكون النسخة ملفقة فيهبط بقيمتها أو يرفعها(19)، أضف إلى ذلك عنوان الكتاب وغلافه وما يحمله من تمليكات تفيد فائدة كبيرة منها: تحديد تاريخ النسخة إن لم تكن مؤرخة أو ناقصة الآخر، وذلك بالاعتماد على تاريخ هذه التمليكات، ومقاييس أخرى، فنقول: نسخت قبل تاريخ كذا، وإفادة أخرى من ناحية قيمة المخطوط خاصة إن تملكه أحد العلماء المشاهير، ومما يدل على قدم المخطوطة وتقديمها على زميلاتها الإجازة فهي تعزز الثقة بالمخطوطة، وتكون بأولها على غلافها، أو على آخرها(20).
    وفي خلال تصفحه لعقد المقارنة بين النسخ المراد ترتيبها قد يجد في ثنايها ما يدل على قراءة بعض العلماء أو تعليقاتهم(21).
    ثانيًا: علم الناسخ:
    ولعل اعتبار الناسخ سبيلاً لتقديم نسخة على أخرى من الصعوبة بمكان، فقد يكون ذلك الناسخ مغمورًا أو غير ذلك، فلا يتضح ذلك إلا بالنظر في المخطوطة، وملاحظة التعليقات في الحاشية، أو كتابة الكلمات الملبسة في الحاشية بشكل أوضح، أو مراعاة التشكيل إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تدل على كون ذلك الناسخ أحد العلماء، قد يكون مقصدنا في ما سبق من الكلام عن النسخ التي هي بغير خط المؤلف، أما خط المؤلف فقد يكون رديئًا وقد يكون في غاية الدقة والإتقان، يرجع ذلك إلى الخط والنظر في الأصل المخطوط.
    ومن أمثلة الخطوط الجيدة المشهود لكاتبيها بالعلم: الجواليقي، وابن الجوزي.
    ثالثًا: كمال النسخة:
    يظهر لنا هنا مصطلح يسميه علماء التحقيق (الخرم) وهو نقص ورقة أو عدة أوراق في موضع أو غير موضع، فكلما خلت النسخة من ذلك الخرم زادت من رتبتها ومنزلتها بين أخرياتها.
    فعلى الباحث في هذا الحقل أن ينظر إلى أبواب الكتاب وفصوله وأجزائه حتى يستوثق كمال النسخة فيضعها في ترتيبها المناسب لها، يُعْرَف ذلك من نظام اتخذته الكتب القديمة كمنهج في تسلسل صَحِيْفَات الكتاب هو نظام (التعقيبة) وهي الكلمة التي تكتب في أسفل الصفحة اليمنى غالبًا لتدل على بدء الصفحة التي تليها، فبتتبع هذه التعقيبات يمكن الاطمئنان إلى تسلسل الكتاب(22).
    غير أنه لابد أن يشار إلى أنه ليس في كل الحالات يُؤخذ النقص دليلاً على حدوث خروم بالنسخ، بل قد يكون المؤلف ممن ينقح فيحذف أو يزيد، يتجلى ذلك عن رؤية نسخ كتاب ((المقدمة)) لابن خلدون حيث جاءت نسخ كثيرة منه، فمنها ما يتوهم أنه نقص، ومنها ما فيه زيادة. على حين نرى في كتاب مثل: ((مروج الذهب)) للمسعودي إشارة منه إلى أنه أعاد كتابه، وطلب عدم استعمال النسخة القديمة(23).
    يسمي العلماء إعادة كتابه الكتاب مرة تلو أخرى بالإبرازة، وهي بمثابة إحدى طبعات الكتاب الواحد، وفي هذه الحالة يجب على المحقق أن يختار إحدى هذه الإبرازات ولا يمزجها بغيرها، ولوضع لأحدث شيئًا لم يكن موجودًا من قبل؛ لأن وظيفته العلمية هي المحافظة على كل ما يروي بلا استثناء.
    مِنْ ثمَّ فللمحقق أن يؤثر النسخة التي أبرزها المؤلف بنفسه على تلك التي أبرزت بعد وفاته، ويقدم ذات الإسهاب على المختصرة، والمصممة على ذات الخلل فإن اختلفت إبرازتان هما من الأهمية بمكان فالأولى نشرها جميعًا(24).
    وقد فعل دي غويه (De Goeje) في تحقيق كتاب ((أحسن التقاسيم)) للمقدسي الذي ألفه سنة 375هـ والذي يعد أنضح نتاج العصر الإسلامي الأوسط في ميدان وصف الدول والبلدان - كما يرى فَِك- فقد اعتمد دي غويه على نسختين متغايرتين تقدمان صورتين مختلفتين للكتاب، فكثيرًا ما تقدم إحداهما صيغة شعبية على حين تذكر الأخرى صيغة فصيحة مكانها، فاختار دي غوية الصيغة الفصيحة في النص ونبه على الأُخرى في التعليق كما ذكرها في الكشاف لألفاظ الكتاب، ويرى فك أن بعض الكتاب عمد أحيانًا إلى تصحيح عبارات دارجة في النص من تلقاء أنفسهم(25).
    وكذلك فإن مما يدل على الإتقان وجود الدائرة في أواخر السطور أو الفقرات ووسطها نقطة، فإنها علامة على معاوضة النسخة مع الأصل وهو أمر مهم في إثبات ما سقط خلال النسخ أو تحرف أو تصحف(26).
    لاشك أن النسخة الكاملة تعطي لنفسها أحقية نسبية لتقديمها على مثيلاتها النواقص، ولكن ما هي الحلول العملية في إخراج نص كتاب نسخة ناقصة، أو اشتركت في سقط أو حزم، فيتعذر حينئذ إكمال الكتاب، لكن بوسع المحقق أن يجمع النصوص المقتبسة ضمن القسم الناقص في الكتب الأخرى، وينشرها محققة أيضًا إذا كانت من كتب مخطوطة أو مطبوعة دون تحقيق كملحق بالكتاب الذي حققه.
    ولاشك أن هذا العمل يجهد المحقق إذ يقتضي جمع سائر النصوص المقتبسة من مؤلف المخطوطة في الكتب الأخرى ومقابلتها مع النسخ الخطية، وما ليس فيها هو من القسم الساقط إذا كان المؤلف ليس له إلا كتاب واحد، أما إذا كان للمؤلف عدة كتب فإن الأمر يصبح عسيرًا ويحتاج إلى قرائن، إلا إذا ذكرت المصادر التي أوردت الاقتباسات عنه أسماء مؤلفاته التي نقلت عنها(27).
    ترتيب النسخ(28)
    ترتب النسخ المخطوطة للكتاب الواحد من حيث علو الدرجة على النحو التالي:
    الأصول الأساسية:
    أولاً: النسخة التي بخط المؤلف:
    تعد أعلى النصوص هي المخطوطات التي وصلت إلينا حاملة عنوان الكتاب واسم مؤلفه، وجميع مادة الكتاب على آخر صورة رسمها المؤلف وكتبها بنفسه. أو قد يكون أشار بكتابتها أو أملاها، أو أجازها، ويكون في النسخة مع ذلك ما يفيد اطلاعه عليها أو إقراره بها(29).
    وتمتلئ المكتبة العربية بكثير من المخطوطات التي وصلت إلينا بخط مؤلفيها؛ ومن أمثلة ذلك كتاب: ((فض الختام عن التورية والاستخدام)) لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفي سنة 764هـ) وكذلك جزء من كتاب ((الوافي بالوفيات)) للصفدي أيضًا في دار الكتب الظاهرية بدمشق(30)، ومن ذلك أيضًا ((تقريب التهذيب)) لابن حجر العسقلاني(31).
    ثانيًا: النسخة المنقولة عن نسخة المؤلف، أو المقابلة بنسخته:
    ويدخل في هذا الاعتبار النسخ المتلاحقة الأخذ، وهي فروع هذه النسخ، أي: المنسوخة عنها ثم فرع فرعها، والملاحظ أن ذكر سلسلة الأخذ في الكتب الأدبية قليلة على حين تظفر الكتب الدينية واللغوية بنصيب وافر من ذكر السلاسل.
    ومن أمثلته ذلك في بابنا: كتاب ((الوَشْي المرقوم في حل المنظوم)) لضياء الدين بن الأثير، صوَّرها معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت رقم (4364)، فقد أفاد ناسخها في نهاية المخطوط ما يؤيد أنها قوبلت عرضًا بالأصل المقروء على المصنف أيده الله بالموصل الموصولة، منه هذه النسخة حسب الاجتهاد.اهـ(32).
    ومن أبرز الأمثلة على اهتمام العلماء القدامى بهذا الصنف ما رواه الخطيب البغدادي بسنده عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان يقول: كتبت؟ فأقول: نعم، قال -يعني: عروة-: عرضت كتابتك؟ قلت: لا. قال: لم تكتب.
    وعن يحيى بن أبي كثير قال: إذا نسخ الكتاب ولم يعارض، ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميًّا(33).
    ويقول القاضي عياض:
    وأما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينةٌ لابد منها، ولا يحل للمسلم النقي الرواية ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخه تحقق ووثق بمقابلتها بالأصل، وتكون مقابلته لذلك مع الثقة المأمون ما ينظر فيه، فإذا جاء حرف مشكل نظر معه حتى يحقق ذلك.
    وهذا كله على طريق من سامح في السماع، وعلى من يجيز إمساك أصل الشيخ عليه عند السماع، إذ لا فرق بين إمساكه عند السماع أو عند النقل؛ لأنه تقليد لهذا الثقة لما في كتاب الشيخ.
    وأما على مذهب من منع ذلك من أهل التحقيق فلا يصح مقابلته مع أحد غير نفسه، ولا يقلد سواه، ولا يكون بينه وبين كتاب الشيخ واسطة، كما لا يصح ذلك عنده في السماع، فليقابل نسخته من الأصل بنفسه حرفًا حرفًا حتى يكون على ثقة ويقين من معارضتها به ومطابقتها له، ولا ينخدع في الاعتماد على نسخ الثقة العارف دون مقابلة، نعم ولا على نسخ نفسه بيده ما لم يقابل ويصحح، فإن الفكر يذهب، والقلب يسهو...(34).
    ويدخل في مقصودنا بالنسخة المنقولة عن نسخة المؤلف النسخ المكتوبة في حياة المؤلف أو بعد مماته، يعرف بذلك بعبارات يدلنا بها الناسخ مثلاً عبارة: أدام الله توفيقه، أو أمد الله عمره، وأما إن كان قد مات فيكتب مثلاً عن المؤلف (غفر الله له، أو رحمه الله تعالى، أو قدس الله روحه).
    ثالثًا: قد تخلو المخطوطات من الحدود السابقة: فيكون ذلك مدعاة للتحقيق وموجبًا للبحث الأمين حتى يؤدَّى النص تأديه مقاربة، وهذا الضرب الثاني من المخطوطات يعد أصولاً ثانوية إن وجد معهما الأصل الأول، وأما إذا عُدم الأصل الأول، فإن أوثق هذه المخطوطات يرتقي إلى مرتبته، ثم يليه ما هو أقل منه وثوقًا(35).
    الأصول الثانوية:
    أولاً: الشروح المتضمنة للمتون ككتاب ((المفصل في النحو)) لجار الله الزمخشري يعد من نسخه الثانوية ما يوجد من متنه في ((شرح ابن يعيش النحوي)) له.
    وفي بابنا كتاب ((شرح الحماسة)) للمرزوقي فقد ضمن متن حماسة أبي تمام برمته.
    ثانيًا: الأصول القديمة المنقولة في أثناء أصول أخرى فقد جرى بعض المؤلفين على أن يضمنوا كتبهم - إن عفوًا وإن عمدًا- كتبًا أخرى أو جمهورًا عظيمًا منها، ومن هؤلاء البغدادي صاحب ((الخزانة)) فقد أورد من صغار الكتب النادرة منها: ((فرحة الأديب)) لأبي محمد الأسود الأعرابي، وكتاب ((اللصوص)) لأبي سعيد السكري، كما تضمن قدرًا صالحًا من كتب النحو وكتب شرح الشواهد النحوية.
    وهذا النوع من الأصول لا يخرج في كتابًا محققًا، وإنما يستعان به في تحقيق النص(36).
    ثالثًا: الاقتباسات:
    جرت عادة المؤلفين قديمًا وحديثًا أن يقتبسوا من كتب أسلافهم وأقرانهم نصوصًا قد لا تتعدى السطر الواحد، وربما تزيد إلى أكثر من ذلك كما أشير إلى ذلك سابقًا، ولكن أفرد هذا القسم بعنوان لأن مقصوده الجمل والعبارات القصيرة؛ ذلك لأن المتقدمين كانوا ينقلون النصوص أحيانًا وتكون لهم الحرية التامة في التصرف فيها وترجمتها بلغتهم أيضًا، إلا إذا حققوا النقل، ونصوا على أن هذا هو لفظ المنقول، فيقولون مثلاً: انتهى بنصه، فتكون مسئوليتهم في ذلك خطيرة إذا حملوا أنفسهم أمانة النقل(37)، وقد ينقلون كلام مصنف ما من كتابٍ له بمعناه، فيكون من الخطورة بمكان عزو هذا اللفظ لذاك المصنف على أنه نصه بلفظه.
    رابعًا: النسخ المطبوعة:
    يقول الأستاذ عبد السلام هارون: والنسخ المطبوعة التي فقدت أصولها أو تعذر الوصول إليها يهدرها كثير من المحققين، على حين يعدها بعضهم أصولا ثانوية في التحقيق، وحجتهم في ذلك أن ما يؤدي بالمطبعة هو عين ما يؤدي بالقلم، ولا يعدو الطبع أن يكون انتساخًا بصورة حديثة. وإني لأذهب إلى هذا الرأي مع تحفظ شديد، وهو أن يتحقق الاطمئنان إلى ناشر المطبوعة والثقة به، فما نشره أمثال المصححين القدماء كالعلامة نصر الهوريني، والشيخ قطة العدوي، وكذا أعلام المستشرقين الثقات (كذا عنده) أمثال: وستنفلد (Ferdinand Wustenfeld) وجاير (Rudolf Geyer) وبيفان (Bevan) ولايل (Charles lyall) جدير بأن يكون أصولاً (ثانوية) كما تعد رواياتهم لأصولهم - إن لم نتمكن من الظفر بتلك الأصول- رواية ينتفع بها في مقابلة النصوص؛ لأنهم منزَّلون بمنزلة الرواة الثقات، وروايتهم منزلة منزلة ما يسميه المحدِّثون بالوجادة.
    وأما الطبعات التي تخرج للتجارة، ولا يقوم عليها محقق أمين فهي نسخ مهدرة بلا ريب، ومن الإخلال بأمانة العلم والأداء أن يعتمد عليها في التحقيق(38).
    اللهم إلا إذا كان على سبيل التعقب عليها، وإبانة زيفها وما فيها من تشويه للتراث الذي تعدت عليه تلك الدار الناشرة أو المحققة له، ولكن لا يشير إلى أنها إحدى الأصول ولا الثانوية، بل يثبت ما جرى فيها من تصحيف وتحريف، فإن كَثُرَ ذلك ضرب عنها صفحًا، فلا يأبه بها.

    وصف النسخ المعتمدة في التحقيق(39)
    بعد أن يستقر الباحث على نسخٍ اعتمدها لتكون أصولاً لإخراج النص محققًا - ذلك التحقيق العلمي الفريد- ولا أقصد به الكمال هنا، ولكن الوصول إلى أقرب صورة أرادها المؤلف من ذلك التأليف فعليه بعد مفاضلة النسخ أن يصف تلك المصورات أو النسخ وصفًا دقيقًا يبالغ في الإسهاب حتى يجعل المخطوطة وكأنها نصب عيني القارئ، دالاًّ له على ما وقع فيه من مشقة ونصب ليكون هذا التحقيق النفيس بين يديه دون تعب أو كلال. فيعمد إلى عمل مقدمة التحقيق، يذكر فيها الكتب التي أفاد منها المصنف، بعد ذلك يشرع بإعطاء كل نسخة من النسخ المعتمدة لديه - حال تعددها- رمزًا على أن يكون لهذا الرمز علاقة أو صلة، إما بصاحب النسخة الذي حازها واقتناها لنفسه، كأن يرمز لنسخة البغدادي بالحرف (ب) وإلى نسخة الشنقيطي بالرمز (ش)، ونسخة تيمور بالرمز (م).
    وقد يرمز للنسخة برمز له علاقة أوصلة بمكان وجودها، كأن يرمز لنسخة دار الكتب المصرية بالرمز (ك)، وإلى نسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق بالرمز (ظ)، وهكذا، وقد يعمد المحقق للرمز للمخطوطات برموز يراها هو، ولا علاقة لها ولا صلة بصاحبها أو مكانها، على أن يلتزم ذلك في كل مراحل تحقيق الكتاب ولا يحيد عنه(40).
    يتخذ بعد ذلك سبيله في إبراز البطاقة الشخصية للنسخة فيعرض لوصفها وصفًا تفصيليًّا كما أسلفت فيبرز ما يلي:
    1- مكان النسخة: وأعني بها مكان حفظها في المكتبات العامة أو الخاصة أو المقتنيات الشخصية، يردفها باسم الدولة التابعة لها، ثم المدينة الموجودة بها.
    2- رقم الحفظ: وهو رقم ترتب على أساسه المخطوطات في داخل الخزانات العامة، ويعتبر عماد توثيق المخطوطة، وقد تكون مصورة تصويرًا شمسيًّا فيكتب رقم الميكروفيلم مما يزيد في إثبات مكانها.
    3- عدد الصفحات ومقاسها وسطرتها:
    ويكون بذكر طوال الصفحة وعرضها، ثم ذكر عدد الأسطر ومتوسط عدد الكلمات فيها بنحو تقريبي.
    4- وصف خط النسخة: بألوانه إن تيسر له ذلك، أو يصف اختلاف المداد بأن يكون المداد الآخر باهتًا، فيدلنا حينئذ أن الناسخ اتخذ نوعين من المداد غالبًا ما يكون المداد الآخر لونه أحمر أو أخضر، أما غالب النسخ فيكون بالأسود أو الأزرق.
    ثم يذكر نوع الخطب بأن يكون مشرقي أو مغربي، أو نسخي أو رقعة، ويوضح بعد ذلك اهتمام الناسخ بالتشكيل أو إغفاله، ثم منهجه في المدود إثباتها أم تسهيلها إلى غير ذلك من وصف الخط.
    5- صفحة العنوان: إن أخطر وأدق وصف يكون في صفحة العنوان إذ أحيانًا تحمل بعض النسخ عناوين أخرى لا دخل لها بالعنوان الذي ارتضاه المصنف أن يكون عنوانًا لكتابه، وأحيل الكلام على صفحة العنوان إلى عنوان يأتي قريبًا هو: تحقيق عنوان الكتاب.
    6- اسم الناسخ وتاريخ النسخ: في أغلب المخطوطات التي وصلت إلينا نرى ناسخ الكتاب يختم نسخته بذكر اسمه - وإجازته أو سماعه إن وجد، وتاريخ النسخ، واسم البلد المنسوخ فيها، بل أحيانًا يحدد اليوم والتوقيت في نفس اليوم، فيكتب نهار الجمعة المباركة، أو ضحاها، أو عشاء يوم كذا، أو عصر يوم كذا...إلخ. وهذه تعد دقة تشير من طرف خفي إلى الدقة النسبية لناسخ المخطوطة.
    أما إن كانت بخط المؤلف فيشار إلى أنها بخطه، ويكتب ما ذيله في نهاية نسخته من مكان النسخ وتوقيته.
    7- حال النسخة: والمراد بحال النسخة هنا حالها الفني، فيدقق الوصف بذكر سلامتها، أو وجود عيوب فيها كخرم أو رطوبة أو أكل أرضة، أو أن ناسخها يسهو فيسقط الأسطر أو الصفحات.

    تحقيق عنوان الكتاب واسم المؤلف وصحة نسبة الكتاب إليه

    تحقيق عنوان الكتاب

    وهناك محاولات للوصول إلى الصواب في أمر كهذا، إذ قد يصل بعض المخطوطات خاليًا من العنوان:
    - إما لفقد الورقة الأولى منها.
    - أو انطماس العنوان.
    وأحيانًا يثبت على النسخة عنوان واضح جلي ولكنه يخالف الواقع:
    أ- إما بداعٍ من دواعي التزييف.
    ب- وإما لجهل قارئ ما وقعت إليه نسخة مجردة من عنوانها فأثبت ما خاله عنوانها(41).
    فيحتاج المحقق في الحالة الأولى إلى إعمال فكره في ذلك بطائفة من المحاولات التحقيقة، لكي يطمئن المحقق إلى صحة عنوان الكتاب، لابد عليه أولاً الرجوع إلى ما ألفه صاحبه من كتب، فربما عرض لذكر هذا المؤلف في خلال مؤلفاته الأخرى، أو عرض لذكره في مقدمة الكتاب، التي بين فيها أسباب تأليفه.
    أو الرجوع إلى الكتب المؤلفة في بابه، وتأخرت عنه، لعلها اقتسبت منه، أو أشارت إليه.
    أو الانتفاع من كتب التراجم التي عقدت له ترجمة منه، أو أشارت إليه.
    أو إلى كتب الفهارس التي وقفت عند مجاميع الكتب في أبوابها، مثل: ((الفهرست)) للنديم، وابن خير الإشبيلي، و((كشف الظنون))، والمؤلفات الأخرى التي عرضت لبعض الكتب من خلال حديثها عن فن من الفنون، مثل: مقدمة ((المخصص)) لابن سيده، ومقدمة ((شرح الشواهد الكبرى)) للعيني، ومقدمة ((شرح شواهد المغني)) للسيوطي، ومقدمة ((خزانة الأدب)) للبغدادي(42)، وإقليد الخزانة للميمني وغير ذلك(43).
    وبحسب خبرة المحقق بأسلوب مؤلف من المؤلفين وأسماء ما ألف من الكتب، يكون الخيط الأول للوصول إلى حقيقة عنوان الكتب.
    ï والانطماس الجزئي لعنوان الكتاب مما يساعد كثيرًا على التحقق من العنوان الكامل متى وضح معه في النسخة اسم المؤلف، فإن تحقيقه موكول إلى معرفة ثبت مصنفات المؤلف وموضوع كل منها متى تيسَّر ذلك.
    ï وأما التزييف المتعمد فيكون بمحو العنوان الأصيل للكتاب وإثبات عنوان لكتاب آخر أجلَّ قدرًا منه ليلقى بذلك رواجًا، أو يكون ذلك مطاوعةً لرغبةِ أحد جُمَّاع الكتب. وقد ينجح المزيف نجاحًا نسبيًا بأن يقارب ما بين خطه ومداده وخط الأصل ومداده فيجوز هذا على من لا يصطنع الحذر والريبة في ذلك، ولا ينجي من ذلك إلا الله تعالى ثم التفطن لمثل هذا الأمر.
    ï وأما التزييف الساذج فمنشؤه الجهل، فيضع أحد الكتاب في صدر الكتب الأغفال عنوانًا يخيل إليه أنه هو العنوان الأصيل(44).

    تحقيق اسم المؤلف
    لا يكفي بعد تحقيق العنوان المضي قُدُمًا في تحقيق وذكر اسم المؤلف المثبت على صفحة العنوان، بل لابد من تحقيق ذلك أيضًا، وقد يصل إلينا مخطوط عليه العنوان ولكنه غفل عن اسم مؤلفه، ويهتدي إلى ذلك بمراجعة كتب الفهارس السالف ذكرها في تحقيق العنوان، تظهر مشكلة أخرى هي أن هناك عدد من المؤلفين يشتركون في اسم عنوان واحد كـ((الأمثال)) لأبي عبيد القاسم ولمؤرج السدوسي وغير ذلك.
    فيرجحه إذن بالنقول الواردة في متنه، وتدلنا مصطلحات العصر على صدق نسبة التأليف إلى ذلك المؤلف، بأن يكون - أولئك المؤلفين- من عصور مختلفة، وقد يعتري التصحيف والتحريف أسماء المؤلفين على صفحة العنوان، فلا يمكن الاكتفاء بمرجع وأحد لإثبات ذلك، وما قيل في تزييف العناوين يقال أيضًا في تزييف أسماء المؤلفين لذلك لم يكن بدأ له يتنبه المحقق لهذا الأمر الدقيق(45).
    من ذلك يتضح أنه لابد من العناء والجهد والمشقة حتى نصل إلى توثيق نسبة الكتاب لمصنفه الصحيح، فكل ما سلف من الحديث عن عنوان الكتاب واسم مؤلفه يدرج هنا في توثيق نسبته إذ إنه أمر متشابك يعرف كما أسلفنا(46).
    ـــــــــ
    (1) ((المحاسن والأضداد)) ص66.
    (2) تعرض الأستاذ عبد السلام هارون لهذه المشكلة وحدد جوانبها وأطرها وبسط القول فيها في ((قطوف أدبية)) له ص88- 89.
    (3) ((فن تحقيق التراث)) إعداد/أ.د محمد الجليند، مقال (.أ.د/حسن الشافعي) ص114.
    (4) ((تعليقه في منهج البحث)) ص55- 56.
    (5) ((فن تحقيق التراث)) إعداد/ أ.د محمد الجليند، مقال (أ.د/حسن الشافعي) ص115.
    (6) ذكر أن منها في مصر (16) مكتبة، وفي الجزائر (5)، وفي فلسطين (6)، ولبنان (3)، وسوريا والعراق والحجاز واليمن (15)، والمغرب الأقصى (10)، وتونس (7)، والولايات المتحدة (285)، وألمانيا والنمسا (145)، والاتحاد السوفياتي (120)، وبريطانيا (76)، وفرنسا (67)، وإيطاليا (48)، وسويسرا (21)، وهولندا (15)، وبلجيكا (13)، واليابان (9)، والدنمارك (6)، واليونان (2)، والهند (3)، وإيران (2)، وفي هذه المكتبات جميعًا نحو 262مليون مجلد. وانظر: ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص30- 31.
    (7) ((تعليقه في منهج البحث وتحقيق المخطوطات)) ص60- 61، ((محاضرات في تحقيق التراث)) أ.د/صلاح رواي ص45.
    (8) ((مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين)) ص65.
    (9) يستدل على أنها منقولة عن بعضها عند تشابهها في التحريف والتصحيف والسقط والإدراج. أما إذا صرح الناسخ اللاحق بنقله عن الناسخ السابق فلا حاجة للمقابلة لمعرفة التشابه، فمن الضرورة تبني المحقق للنسخة الأم واعتمادها في النسخ وعدم اللجوء إلى تلفيق المنسوخ من عدة نسخ مادامت النسخ أو بعضها كاملة. ((تعليقه في منهج البحث وتحقيق المخطوطات)) ص68.
    (10) ((فن تحقيق التراث)) مقال (أ.د/حسن الشافعي) ص117- 118.
    (11) ((مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين)) ص65.
    (12) ((فن تحقيق التراث)) مقال (أ.د/حسن الشافعي) ص118.
    (13) استفيد هذا الموضوع من ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص31- 32، ((مناهج تحقيق التراث)) ص66- 70، ((فن تحقيق التراث)) مقال (أ.د/حسن الشافعي) ص120- 121، ((محاضرات في تحقيق التراث)) أ.د/صلاح رواي ص45.
    (14) لأن بعض النساخ ينقل من النسخ القديمة بقصد أو بغير قصد كل محتوياتها بما فيها تاريخ الشيخ المدونة في النسخة القديمة، وهي حالة تحتاج إلى فطانة المحقق وحذره الشديد. ((فن تحقيق التراث)) مقال (أ.د/حسن الشافعي) ص120.
    (15) ((مناهج تحقيق التراث)) ص66.
    (16) ((منهج تحقيق النصوص)) ص11.
    (17) ((أصول نقد النصوص)) ص82- 83.
    (18) ((تعليقه في منهج البحث وتحقيق المخطوطات)) ص64.
    (19) ((تحقيق النصوص)) ص32.
    (20) ((في المخطوطات العربية)) ص92، 94.
    (21) ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص32.
    (22) السابق نفسه.
    (23) ((دراسات في تطور الحركة الفكرية)) لصالح العلي ص22-23 نقلاً عن تعليقه في ((منهج البحث وتحقيق لمخطوطات)) ص64.
    (24) ((مناهج تحقيق التراث)) ص69- 70.
    (25) ((العربية)) فك ص211 نقلاً عن تعليقه في ((منهج البحث وتحقيق المخطوطات)) ص66.
    (26) ((تعليقه في منهج البحث وتحقيق المخطوطات)) ص66.
    (27) ((تعليقه في منهج البحث وتحقيق المخطوطات)) ص67.
    (28) وأما المصورات من النسخ فهي بمنزلة أصلها ما كانت الصورة واضحة تامة تؤدي أصلها كل الأداء، فمصورة النسخة الأولى هي نسخةٌ أولى، ومصورة الثانية ثانوية أيضًا. ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص26.
    (29) ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص23.
    (30) ((مناهج تحقيق التراث)) ص71.
    (31) نشر عدة نشرات.
    (32) النشرة المشار إليها تحقيق/ يحيى عبد العظيم، ونشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة - سلسلة الذخائر- سنة 2004م.
    (33) رواه الخطيب في ((الكفاية في علم الرواية)) ص350- 351، باب: المقابلة وتصحيح الكتاب، ورواه القاضي عياض في ((الإلماع)) ص143.
    (34) ((الإلماع)) ص142- 143.
    (35) ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص24.
    (36) ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص24.
    (37) السابق نفسه.
    (38) السابق ص25.
    (39) أفيد هذا من كتاب ((محاضرات تحقيق التراث)) ص46- 47، مع إضافات واستطرادات أخرى.
    (40) ((محاضرات في تحقيق التراث)) ص46.
    (41) ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص34.
    (42) ((مناهج تحقيق النصوص)) ص62.
    (43) السابق ص35-36 بتصرف.
    (44) ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص34- 35.
    (45) ((تحقيق النصوص ونشرها)) ص35- 36 بتصرف.
    (46) ((فن تحقيق التراث)) إعداد (أ. محمد السيد الجليند) مقال أد/ حسن الشافعي. ص170 وما بعدها.
    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    المشاركات
    2

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    جزاك الله خيرا
    وغفر الله لنا ولك ولوالدينا
    وجمع الله لوالدتك الاجر والعافية

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    5

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    بسم الله الرحمن الرحيم
    نشكر الأستاذ الفاضل على هذه المعلومات القيمة التي تنير الطريق للباحثين والمحققين الشباب، وإننا بنا حاجة ماسة إلى مثل هذه الدروس، لأننا اليوم نجد كثيرا من الكتب المطبوعة، المحققة تحقيقا تجاريا سقيما بعيدا عن التحقيق العلمي، تملأ الأسواق وبأغلفة زاهية دعائية وبأسعار عالية لا تتفق وقيمتها العلمية، وذلك لأن هؤلاء المحققين لم يهتموا بأصول التحقيق العلمي المعروف.

  4. #4

    Arrow رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    جزاكم الله خيرًا أخي (الحمراني)، ويعلم الله أنَّا نحبُّك في الله، نفعَنا الله بك، وجمَعَنا الله في جنَّته.

    (دِيوانيٌّ)
    إذَا لم يكنْ عَوْنٌ من اللهِ للفَتَى * * * فأوَّلُ ما يَجْنِي عليه اجتهادُهُ

  5. #5

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    نفع الله بكم أبا محمد

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    المشاركات
    976

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    واحيانا يواجه المفهرس مخطوطا يكون مجهولا من ناحية العنوان وذكر اسم المؤلف معا فحينئذ يتطلب جهدا اكبر في الكشف عنه وفي حالة كون المخطوط لم يطبع البتة سيكون الجهد اكبر والعمل اشق وتحقيق مثل تلك النسخة له وسائل وطرق للوصول الى نسبة الكتاب - المخطوط- الى مؤلفه ،جزاك الله خيرا اخي عبد الله البحث هام جدا رغم الايجازوالاختصا ر وقد فكرت ان اقوم بطبعه وتدريسه لم احب التعرف على هذا العلم الجليل علم تحقيق النصوص وفقك الله واياي لكل عمل مبرور.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    حياكم الله فضيلة الشيخ المرشدي..
    لا يخفى على أمثالكم ما لهذا العلم من أهمية كبرى في النهضة والرجوع بأمتنا إلى سابق عهدها من الريادة والسيادة، لكنه يحتاج إلى أشخاص أمناء ذوي علم وخبرة وتمرُّس فيه...
    ولعل الخطوات الاستباقية لأي علم هي أساس نجاحه، فقد تجد كتبا في علم كذا وكذا تعدُّ مداخل لعلم من العلوم، وما كتبته هو تآليف جزازت جمعتها من الكتب المؤلفة، وما شيءٌ أنفع في هذا العلم مثل المراس والخبرة، فكلما استزاد الباحث منها زادت حصيلته في هذا العلم، فلكل خط طابعه الخاص به، وكذا الناسخ والمؤلِّف والمؤلَّف..
    وفق الله الجميع..
    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    واحيانا يواجه المفهرس مخطوطا يكون مجهولا من ناحية العنوان وذكر اسم المؤلف معا فحينئذ يتطلب جهدا اكبر في الكشف عنه وفي حالة كون المخطوط لم يطبع البتة سيكون الجهد اكبر والعمل اشق وتحقيق مثل تلك النسخة له وسائل وطرق للوصول الى نسبة الكتاب - المخطوط- الى مؤلفه ،
    وهذا مثال على ذلك:
    http://majles.alukah.net/showpost.ph...75&postcount=1

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    ينضاف حديثا إلى هذه الخطوات:
    أن يبحث المحقق في البرامج الإلكترونية الخاصة بخزانات المخطوطات ، مثل ما أصدره مركز جمعة الماجد ، وكذلك مركز الملك فيصل .
    وهنا لفتة مهمة وهي أن بعض الباحثين يستنكف عن البحث الإلكتروني لإتمام بحثه عن نسخ الكتاب ، مما يجعله عرضة للاستدراك واللوم .

  10. #10

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    جزاكم الله خيراً أخي الفاضل.

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    6,048

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    وإياكم أخانا الكريم ،،
    يرفع للفائدة والاستزادة ممن منّ الله عليه .
    وآفة العقلِ الهوى ، فمن علا *** على هواه عقله ، فقد نجا
    ابن دريد

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    المشاركات
    368

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    بارك الله فيك

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2013
    المشاركات
    55

    افتراضي رد: العقيق في خطوات ما قبل التحقيق

    من افضل ما كتب في الباب.. ما شاء الله

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •