"الإيجار المنتهي بالتمليك المزايا والمساوئ الشرعية"

د. فؤاد بن يحيى الهاشمي


بحث لـ


أ.د. رفيق المصري


منشور في كتابه


"المجموع في الاقتصاد الإسلامي"


قد يريد أحدهم شراء سلعة معمرة (أصل ثابت) بثمن منجم (مقسط) فيدخل مع البائع في عقد بيع بالتقسيط بحيث يدفع الثمن على أقساط معلومة ذات آجال معلومة.
وفي هذا البيع تنتقل ملكية السلعة إلى المشتري بمجرد إبرام العقد.
ويستطيع البائع أن يطلب من المشتري كفالة شخصية، أو ضمانا ماديا (رهنا).
وقد يكون الرهن عبارة عن سلعة أخرى أو تكون السلعة نفسها رهنا، بحيث لا يستطيع المشتري التصرف بالسلعة بيعا أو هبة إلا بعد سداد أقساط البيع كلها وفك الرهن.
لكن البائع قد لا يكتفي بالكفالة أو الرهن: رهن السلعة نفسها أو سلعة أخرى، بل يرغب في المزيد من الضمان بحيث لا تنتقل ملكية السلعة إلى المشتري إلا بعد سداد الأقساط جميعا.
ولأجل ذلك: يلجأ البائع إلى الإيجار المنتهي بالتمليك (التمليك بيعا أو هبة) .
فيلجأ إلى تأجير السلعة بأقساط معلومة، تدفع في آجال معلومة، حتى إذا ما تم تسديد جميع الأقساط، نقل ملكية السلعة إلى المستأجر.
ويلاحظ هنا: أن الإيجار لا ينقل الملكية، بل يبقى فيه صاحبنا مالكاً للسلعة، إلى حين نقل الملكية، الذي يتم هنا بيعا بثمن رمزي (ريال واحد مثلا) أو هبة بدون أي ثمن.
ففي الحالة الأولى: يكون الإيجار منتهيا بالبيع.
وفي الثانية: يكون منتهياً بالهبة.
وفي الحالتين: يكون منتهيا بالتمليك.
إذا صممت العملية هنا على أساس أن مدة الإيجار مساوية لعمر السلعة، وأن أقساط الإيجار مساوية لأقساط البيع، وتمت العملية بدون مشكلات، فإن البيع يتم تحت ستار الإيجار، ويبقى البائع مالكاً للسلعة طيلة مدة الإيجار.
لكن نادرا ما تكون مدة الإيجار مساوية لعمر السلعة، ومن ثم لا تكون أقساط الإيجار مساوية لأقساط البيع.
بل غالبا ما تكون مدة الإيجار أقل من مدة السلعة.
وعندئذ تكون أقساط الإيجار غير مساوية لأقساط البيع.
فأقساط الإيجار "الصوري" هنا أعلى من أقساط الإيجار "الحقيقي" لأنها في حقيقتها أقساط ثمن، لا أقساط أجرة.
ثم إن العملية قد لا تمر كلها من دون مشكلات: فقد يتخلف المستأجر عن سداد بعض الأقساط، وقد يكون هناك شرط جزائي في العقد، بحيث إذا تخلف المستأجر عن سداد أي قسط، استحقت باقي الأقساط فورا.
فهنا إذا استرد البائع السلعة فإنه يظلم المشتري لأن السلعة تكون عندئذ قيمتها في الحقيقة أعلى من قيمة الأقساط المتبقية، أو بعبارة أخرى مقابلة، فإن السلعة التي يستردها البائع هي أكثر من حقه لأن المشتري قد سدد جزءا من ثمنها.
فيقع الخلاف بين الطرفين.
فكيف يتم النظر إلى العملية: هل هي إجارة حقيقية أم هي بيع في صورة إجارة؟ أي إجارة تخفي بيعا (إجارة ساترة للبيع)؟ فحقوق الطرفين تختلف بحسب التكييف الشرعي أو القانوني للعقد، ولاسيما في حال النزاع، للفصل بين الطرفين.
ثم إذا أفلس المشتري، كذلك فإن البائع يسترد السلعة، ويقع هنا ما وقع هناك، وتمت الإشارة إليه آنفا.
بالإضافة إلى أن دائني المشتري: هل يعترفون للمؤجر بأنه مؤجر، مالك للسلعة، أم يقولون له: إنك بائع سلكت طريق الإيجار، على سبيل الاحتيال، ومن ثم فإن السلعة ملك للمشتري، وليست ملكاً لك، وأنت واحد من الدائنين، ليست لك أولوية على السلعة، أو امتياز خاص.
وأعباء الضرائب والرسوم على السلعة (إذا كانت عقارا أو سيارة...)
ونفقات صيانتها وإصلاحها وتأمينها، على من تقع؟
إذا كانت العملية إيجارا حقيقيا فيجب أن تقع على المؤجر، ولكن هذا المؤجر لا يريد تحملها، ويتنصل منها، ويقول للمستأجر: افهم أنا لست مؤجرا أنا مؤجر فقط لأجل الاحتفاظ بالملكية، فتقع عليك كل مخاطر المملوك وتبعة هلاكه ونفقاته.
فأنت تعلم أنك أنت المالك حقيقة، وما أنا إلا بائع متظاهر بالإيجار.
ويمكن تثبيت هذه الأمور في عقد آخري سرِّي بيني وبينك.
كل هذا يقع بسبب أن العملية حيلة، اعترفت بها بعض القوانين الوضعية في العالم.
وهنا قد يقال: إن الباعة أقوى من الشارين، وأكثر جاها ونفوذا ، فسنوا قوانين موافقة لمصالحهم، فكانت ثمة عقود، لا تتوازن فيها الحقوق بين الطرفين، وأن الباعة يغالون في السعي وراء قوة الضمان وانخفاض تكلفته، عند حاجتهم إليه، حتى لو اختل التوازن بين الطرفين، وحتى لو سلكوا طريق التحايل، بإظهار الإجارة، وإضمار البيع.
لا شك أنه لو أجره حقيقة، ثم عند انتهاء الإجارة، باعه بسعر السوق، فهذا جائز لا شيء فيه.
وكذلك لو أعطاه الخيار بالشراء، بسعر السوق، فهذا أيضا لا شيء فيه. لكن لو وعده بسعر متفق عليه منذ الإجارة فهذا مشكل. لأنه ينبئ عن أن العملية ليست على ظاهرها إذ كيف يتحدد سعر البيع اليوم، لسلعة لا يعرف حالها وسعرها إلا عند البيع فعلا؟
ولو وعده بالهبة فإن الهبة هنا لا تؤخذ مأخذ الجد بل ينظر إليها على أنها هبة صورية، لأن صاحب السلعة قد استوفى ثمنها.
ولو وعده بالتمليك التلقائي بعد سداد الأقساط أي بلا بيع ولا هبة، فكيف يحدث هذا التملك، ويتم الانتقال من التأجير إلى التمليك؟

أن يكون العقد: عقد بيع مع الاحتفاظ بالملكية لحين استيفاء الثمن (سداد جميع الأقساط) قد يكون أهون وأكثر قبولا من عقد بيع في صورة إيجار.
ولكن مع ذلك فإن الاحتفاظ بالملكية يجب ألا يؤدي بالبائع إلى تحمل تبعاتها: مخاطرها ونفقاتها، ويجب أن يكون ثمة تصريح في العقد بأن الغرض هو مجرد الضمان لا غير.
وأحسن من هذا وأكثر قبولا أن يكون العقد عقد بيع، مع شرط عدم تصرف المشتري بالمبيع (الشرط المانع من التصرف) حتى سداد الثمن كاملا.
فها هنا يتوافر الضمان للبائع، مع عدم تحمله مخاطر المبيع ونفقاته، لأنه غير مالك أصلا.
وهذا جائز عند بعض فقهاء المالكية.
ويجب التميز بين:
بيع إيجاري بين طرفين (كما مر) وتمويل إيجاري يدخله طرف ثالث ممول (بنك مثلا).
ففي الأول يكون الظاهر إيجارا، والحقيقة بيعا
وفي الثاني يكون الظاهر إيجارا وبيعا والحقيقة قرضا بفائدة.
والغرض من كل منهما: أن يحصل الدائن (البائع بالتقسيط) أو المقرض على أقوى ما يمكن له الحصول عليه من ضمان.
وفي الثاني لا تكون السلعة موجودة لدى الممول بل يوكل الممول الزبون بشرائها لتأجيرها إليه بعد ذلك.
والغرض من هذا التوكيل ألا يتحمل الممول أي مسؤولية لأنه ممول لا هو بائع ولا هو مؤجر.
إن على الخبراء الذين يطرحون عقدا للنظر الشرعي فيه أن يعملوا على توضيحه لا على تعقيده.
وعلى الخبراء والفقهاء أن يراعوا في معالجاتهم وأحكامهم أمرين:
الأول: ألا يشوهوا صفاء الإسلام بفقههم وفتاواهم.
والثاني: أنهم مؤتمنون من جمهور الناس فعليهم أن يبتغوا مصلحة هذا الجمهور، لا مصلحة حفنة قليلة منه، وأن يعملوا أنهم في النتيجة إنما هم خلفاء الله، والمؤتمنون على شرعه، وأنهم يوقعون عن رب العالمين (كما ذكر ابن القيم) لا عن أرباب المال والعمل والسياسة والإدارة.
وكثيرا ما نجد أناسا يتظاهرون بأنهم منهمكون في خدمة الإسلام والدعوة إلى الله والقرائن تدل مرة بعد مرة على انهم منهمكون في الدعوة إلى أنفسهم، وخدمة مصالحهم الشخصية.
من أجل تحقيق الرصانة والنزاهة في الفتاوى والأحكام، يجب الفصل بين عضوية هيئات الرقابة الشرعية وعضوية المجامع الفقهية، بحيث لا يجوز الجمع بينهما، حتى تمارس هذه المجامع نوعا من الرقابة المطلوبة على الفتاوى والبحوث الشرعية.
إن عمليات الإجارة المنتهية بالتمليك منتشرة كثيرا في البلدان الغربية، ويعمل البنك الدولي على تشجيع إدخالها في البلدان النامية أيضاً.