تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: ذكر التقوى ومشتقاتها في سورة مريم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,440

    افتراضي ذكر التقوى ومشتقاتها في سورة مريم



    ذكر التقوى ومشتقاتها في سورة مريم (1)









    كتبه/ محمد خلف

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فسورة مريم من السور المكية بالإجماع كما ذكر ذلك القرطبي رحمه الله، وهي مِن السور التي اهتمت بتقرير وحدانيته سبحانه وبحمده، وتنزيهه عن الصاحبة والولد، وعن سعة رحمته ومنته على عباده؛ لا سيما أصفيائه من خلقه، الأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويليهم عباده الموحدين المهتدين المصطفين.

    وتحدثت أيضًا عن قصة خلق المسيح عيسى عليه السلام، وعن بشريته وعبوديته لربه تعالى، وعن جزاء المتقين وجزاء الظالمين، وعدد آياتها تِسْعُونَ وَثَمَانِ آية، وبالرغم من ذلك فقد كثر ذكر تقوى الله ومشتقاتها في هذه السورة المباركة.

    والتقوى هي أن تجعل بين وبين عقاب الله وقاية بأداء ما افترض واجتناب ما نهى عنه، ولعظم أمر التقوى كان يدعو بها صلى الله عليه وسلم، فيقول: "اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها"، وكلما كان العبد أكثر تقوى لربه سبحانه وبحمده كان أكثر منزلة و قدرًا عند ربه سبحانه وبحمده كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

    وللتقوى فضائل كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، ولكن بها يحصل للعبد الفوز والفلاح، والتوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة، ومن أول الآيات ذكرًا للتقوي في سورة مريم هي قوله سبحانه وبحمده في وصف يحيى بن زكريا عليه السلام: "وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا"، فمدحه بكثرة تقواه عليه السلام بقوله: "وكان تقيًّا"، ولم يقل: "وتقيًّا" قال ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير: "وجيء في وصفه بالتقوى بفعل (كَانَ تَقِيًّا)؛ للدلالة على تمكنه من الوصف".

    فلا يكمل ولا يجمل أحدٌ إلا بتقوى الله تعالى، بل على الحقيقة جميل الصفات مِن الرحمة وطهارة النفس، أثر مِن آثار تقوى الله عز وجل.

    والآية الثانية هي قول مريم عليها السلام لجبريل عليه السلام لما رأته وهي في عزلتها تتعبد لربها، فلما رأته في هيئة بشر معتدل الخلقة، حسن الهيئة خافت على نفسها منه أن يصيبها بسوء، فقالت له: "إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا"، قال ابن عاشور رحمه الله وقولها: "إن كُنتَ تَقيًّا" تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتّقي ربَّه، ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قُصِد لتهييج خشيته، وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التَّقوى مستقرة فيه، وهذا أبلغ وعظٍ وتذكيرٍ وحثّ على العمل بتقواه".

    وفي هذا دليل على ما استقر في نفسها الكريمة عليها السلام مِن أثر التقوى في منع وزجر صاحبها من معصية الله تعالى، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ لذلك فالله سبحانه وبحمده، الغفور الشكور، جعل أهل التقوى مِن ورثة جنة النعيم، فقال سبحانه وبحمده: "تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا"، فأتى بقوله: "تِلْكَ الجَنَّةُ" بِأداةِ البُعْدِ؛ لِعُلُوِّ قَدْرِها وعِظَم أمرها كما ذكره البقاعي رحمه الله.

    وقوله تعالى: "الَّتِي نُورِثُ"، قال البيضاوي رحمه الله: "نُبْقِيها عَلَيْهِمْ مِن ثَمَرَةِ تَقْواهم كَما يُبْقى عَلى الوارِثِ مالُ مُورِثِهِ، والوِراثَةُ أقْوى لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ في التَّمَلُّكِ والِاسْتِحْقاقِ ، مِن حَيْثُ إنَّها لا تَعْقُبُ بِفَسْخٍ ولا اسْتِرْجاعٍ، ولا تَبْطُلُ بِرَدٍّ ولا إسْقاطٍ. وقِيلَ: يُورَّثُ المُتَّقُونَ مِنَ الجَنَّةِ المَساكِنَ الَّتِي كانَتْ لِأهْلِ النّارِ لَوْ أطاعُوا زِيادَةً في كَرامَتِهِمْ".

    وفي قوله سبحانه وبحمده: "مِن عِبَادِنا" أنه سبحانه وبحمده نسبهم لنفسه الكريمة تشريفًا وتعظيمًا لهم، ووصفهم بالعبودية التي هي أجل وأعظم الصفات، وفيها أيضًا أن ما هم فيه من التقوى والعبودية لله؛ لأن الله تعالى أخلصهم لنفسه ولعبوديته؛ فأخلصوا له واتقوا سخطه؛ فلولاه ما عبدوه ولا اتقوه، فله الفضل وله النعمة، وله الثناء الحسن. والله أعلم.


    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,440

    افتراضي رد: ذكر التقوى ومشتقاتها في سورة مريم



    ذكر التقوى ومشتقاتها في سورة مريم (2)









    كتبه/ محمد خلف

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد تكلمنا في المقال السابق عن آثار التقوى أن أهلها هم ورثة جنة النعيم، فكما أنها سبب لنيل الجنة فهي سبب أيضًا للنجاة من النار، كما قال سبحانه وبحمده: "وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا"، فأخبر سبحانه وبحمده أن جميعَ البشر المتقين والفجار منهم يردون النار، وهو إما بمعنى الدخول للجميع أو المرور مِن على الصراط المنصوب عليها؛ وعلى أي كان المعنى؛ فإن الشاهد أنه لا ينجو إلا المتقين، وأما الظالمين الكافرين فتحبسهم، أو تهوى بهم ذنوبهم في النار على ركبهم وهو إشارة إلى شدة كربهم، كما قال ابن زيد رحمه الله: "الجثيّ: شر الجلوس، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كربٍ ينـزل به" (تفسير الطبري).

    وذكر سبحانه وبحمده أيضًا تكريم المتقين جزاءً لهم على تقواهم؛ فلما أعزوا أمر الله اعزهم الله، وأعلى قدرهم كما قال سبحانه وبحمده: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا"، روى ابن جرير الطبري رحمه الله بسنده عن النعمان بن سعد عن علي في قوله تعالى: "يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا"، قال: "أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقًا، ولكنهم يؤتون بنوق لم يَرَ الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، وأزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة".

    فإذا كان الوفود في الدنيا حينما يوفدون على ملوك الدنيا يحصل لهم ما يحصل مِن كَرَم الضيافة ورجوعهم محملين بالهدايا، وغير ذلك من صور الإكرام؛ فكيف ولله المثل الأعلى وهؤلاء المتقون هم وفد الرحمن المنان سبحانه وبحمده؟! فلا شك أن جزاءهم لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

    وفي قوله تعالى: "إلى الرَّحْمَنِ": لطيفة كما ذكر الألوسي في روح المعاني فقال رحمه الله: "فَكَأنَّهُ قِيلَ هُنا: يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلى رَبِّهِمُ الَّذِي غَمَرَهم مِن قَبْلُ بِرَحْمَتِهِ، وشَمَلَهم بِرَأْفَتِهِ، وحاصِلِهِ: يَوْمَ نَحْشُرُهم إلى مَن عَوَّدَهُمُ الرَّحْمَةَ، وفي ذَلِكَ مِن عَظِيمِ البِشارَةِ ما فِيهِ".

    وذكر سبحانه وبحمده من عظيم فضله ورحمته تيسير ألفاظ وقراءة ومعاني هذا القرآن لمَن أراد أن ينتفع به، وأن يستنير بهداياته، وأن يحيا قلبه به؛ فهو الروح، ومع ذلك فأخبر سبحانه أن المتذكرين حقًّا والمنتفعين به هم أهل التقوى والخشية، فتحصل لهم التذكرة والاستجابة بقدر تقواهم لله تعالى، كما قال تعالى: "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا"، وقال تعالى أيضًا: "وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ "، وقال عز وجل: "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى . سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى".

    ولما كان أهل التقوى هم المتذكرون العاملون؛ بشَّرهم الكريم الشكور سبحانه وبحمده، ولم يحدد لهم نوع البشرى هنا، والأظهر أنها عامة تشمل سعادة الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة في الدارين، وتشمل تكفير السيئات، ويجعل له مخرجًا من كل ضيق، ويرزقه من حيث لا يخطر على باله، ويجعل له فرقانًا وفصلًا يفرق به بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وغير ذلك، ومن تعليم الله لهم ومعيته ومحبته لهم، وغير ذلك من البشريات.


    فهذا نزر يسير لبعض الفوائد في ذكر التقوى ومشتقاتها في هذه السورة المباركة، والله أعلم.

    فاللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •