شمولية الحضارة الإسلامية -1-


الدكتور حمزة الكتاني








الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله



الطيبين، وصحابته الأبرار المقربين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..

أما بعد؛

فالحضارة هي: مزيج تراكمي من الأخلاق والعادات والتشريعات، والإنجازات الفكرية والمادية، التي تتعقد فيما بينها لتنتج لونا خاصا، تتسم به أمة عن غيرها من الأمم.



"وتطلق الآن اصطلاحا على كل ما ينشئه الإنسان في كل ما يتصل بمختلف جوانب نشاطه ونواحيه، عقلا وخُلُقا، مادة وروحا، دنيا ودينا، فهي في إطلاقها وعمومها: قصة الإنسان في كل ما أنجزه على اختلاف العصور وتقلب الأزمان، وما صُوّرت به علائقه بالكون وما وراءه، وهي في تخصيصها بجماعة من الناس أو أمة من الأمم: تراث هذه الأمة أو الجماعة على وجه الخصوص الذي يميزها عن غيرها من الجماعات والأمم. وهي بهذا المعنى الاصطلاحي نظير المدنية"(1).



وقولنا الإسلامية: بمعنى أن هذا المزيج الذي نتحدث عنه هو نتاج التشريع الإلهي السماوي، الذي بعث الله تعالى به نبي الرحمة محمدا صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وبلغه لنا صحابته الكرام رضي الله عنهم. والذي التزمت الأمة الاقتداء به، والاهتداء بهديه منذ نشأتها، وبه كان رقيها، وبالابتعاد عنه كان ضعفها وضياعها.



فهي حضارة ذات منبع إلهي، صاغها كل من اشتملت عليه الدولة الإسلامية منذ تأسيسها، سواء كان عربيا أو غير عربي، مسلما أو غير مسلم. وتتعدى إلى التأثير فيما جاورها من الحضارات التي اقتبست منها بحكم المحاككة والمنافسة، كما هو الحال في الحضارتين الصينية والأوروبية.



ومن هنا يأتي معنى "الشمول" من حيث الجانب الإشعاعي، والتأثيري في الغير، إضافة إلى الشمول من الناحية الإلزامية ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم لكافة البشر، بل وللجن وغيرهم من المخلوقات حسبما تدل له الآيات القرآنية، ومذاهب خاصة الله الصوفية، ومن ناحية ما تضمنته الشريعة الإسلامية وغطته من المسارات والوجهات: حياة، وأخلاقا، ومعاملات، وجنايات، وحكما، وروحا، وتهذيبا، وسلما وحربا.



وهذا الشمول هو الذي جعلها مؤهلة لولوج جميع المجتمعات، ومقارعة جميع الأديان، ومحلا لحل كافة المشاكل التي يعاني منها الناس في القديم والحديث، وهو الأمر الذي يجعل الحضارة الإسلامية في منأى عن العنصرية والإقصائية التي ابتليت بها الحضارات الأخرى.



قال الأستاذ محمد المبارك رحمه الله في "الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية": "إن من حسن الحظ أن الحضارة الإسلامية قد تفوقت في النواحي التي أغفلتها الحضارة الحديثة وأهملتها، ذلك أن جوانب النقص في هذه الحضارة هي نفسها الجوانب الكاملة غير المستثمرة في حضارتنا الإسلامية السابقة، وهي كذلك التي لم تستطع الحضارة الحديثة أن تسبق فيها حضارتنا، بله أن تبلغ مستواها..".



"إن تغيير النفس البشرية وتهذيبها وتوجيهها، وشق الطريق لارتقائها؛ من أبرز وأخص نتائج حضارتنا، إن توسع أفق الحضارة في العالم وشمولها لعدد كبير من الشعوب بتزايد مستمر، وسمو الدوافع المحركة للسير تتقدم في جميع الآفاق من خصائص حضارتنا التي لم تسبق في هذا العصر، هذا مع الملاحظة أن الجوانب التي عنيت بها الحضارة الحديثة وازدهرت فيها؛ لم تكن مغفلة ولا مهملة في الحضارة الإسلامية، بل كانت تأخذ مكانها إلى جانب النواحي الأخرى بانسجام وتناسق".



"فالحضارة الإسلامية أحلت العقل محله، وفسحت المجال أمامه للنظر في ملكوت السماوات والأرض، والتفكير فيما خلق الله فيها، والبحث عن الحقيقة بطريقة تتصل بالواقع المحسوس، وتبدأ منه، وتختلف عن طريقة اليونان الميتافيزيقية الغيبية التي تتجاهل الواقع في كثير من الأحيان"(2).



ففي هذا البحث المختصر، سأحاول – على ضيق من الوقت – تسليط الضوء على شمولية الحضارة الإسلامية من حيث إلزاميتها، ومن حيث الأطياف والمجالات التي غطتها، كحضارة إلهية، قبل أن تكون حضارة إنسانية، وسبق الحضارة الإسلامية في جميع تلك المجالات التشريعية والمعرفية للحضارات الأخرى، واقتباس الحضارة الغربية ومدى تأثرها بها.



رسالة الإسلام تشمل الثقلين:


لقد تميزت رسالة الإسلام بأنها رسالة للثقلين، ورسالة لكافة الشعوب والمتدينين بكافة الأديان، بخلاف الرسائل الأخرى، فقد كان كل نبي إنما يبعث إلى قومه، فبعث هود عليه السلام إلى قومه، وصالح عليه السلام إلى ثمود، وموسى وعيسى عليهما السلام لبني إسرائيل.



أما رسالة الإسلام فهي عامة، عامة لمن أرسلت إليه، وعامة في مضمونها، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}. [سبأ/ 27]، وقال جل مجده: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}. [الأعراف/ 158]، وقال: {تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للناس نذيرا}. [الفرقان/ 1]، وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}. [سبأ/ 28].



وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري (335)، ومسلم (521) وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصَل، وأحلت لي الغنائم، ولم تُحل لأحد قبلي، وأإعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة". وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (1/ 250) عن ابن عباس مرفوعا: "بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود".



وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم (153) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".



ولذلك فمنذ ازدهار العصر المدني، واظب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله على إرسال رسائل الدعوة ووفودها لمختلف قبائل الجزيرة العربية، ثم منها إلى إمبراطوريات فارس، والرومان، والأقباط، وملوك الغساسنة، والحبشة...إلخ، مبشرا بهذا الدين الحنيف الذي ضم بين جنبيه تلك الحضارة الإسلامية العظيمة.



وما وصل خبر الدعوة إلى الشعوب حتى استنفرت تؤمن بتلك الرسالة الخالدة، وتستنجد جيوش الإسلام ضد طغاتها وجبابرتها، فانتشرت الفتوح شرق الأرض وغربها في سرعة أدهشت العالم، فما تم القرن الهجري الأول حتى امتد الإسلام من الصين شرقا إلى الأندلس غربا، امتداد حكم، وامتداد دين وحضارة وقيم. وصدق الحق تعالى حيث قال: {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}. [النصر/ 1-3].



ومن مقتضى ذلك: هيمنة الإسلام دينا وتشريعا على جميع الأديان، ونسخه لها، فما نص عليه هو المعول، وما أحله هو الحلال، وما حرمه هو الحرام، ذلك أنه نتاج تراكمات حضارية سابقة بقيت في اللاشعور الإنساني، ودين اليسر والانفتاح الذي انقضى عنده الوحي، وضمن الحق تعالى له التجديد أبد الآباد. قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}. [المائدة/ 48]، وقال تعالى أيضا: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. [الحجر/ 9]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما ورد بطرق يصحح بعضها بعضا علي بن أبي طالب عليه السلام مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". ومن موجبات الحفظ والتصحيح، الاستمرار والصلاحية لكل زمان ومكان.



ومنه: أن الشرائع الإلهية واجبة التطبيق على المتدين بالإسلام وعلى غير المتدين به، وهو حكم جمهور الفقهاء، ولذلك فإن ما ورد من تحريم المحرمات وتحليل الحلال، غير مقتصر ذلك في الدولة الإسلامية على المسلمين فحسب، بل يتعدى في الوجوب إلى غير المسلمين، فلا يجوز لهم المجاهرة بما حرم الله تعالى من الزنا، والخمر، والربا، وغير ذلك مما قد لا يكون محرما في شريعتهم الخاصة.



نعم؛ جمهور العلماء على أن أهل الذمة في دولة الإسلام يرجعون فيما شجر بينهم لقاضي ديانتهم، كما فصل ذلك الفقهاء في محله، ومنهم جدنا الخامس شيخ الإسلام جعفر بن إدريس الكتاني رحمه الله في كتابه "أحكام أهل الذمة". ما لم يحدث بينهم تظالم، وما لم يتفقوا على الرجوع لقاضي المسلمين، أو يتعلق الأمر بطرف مسلم. وهذا من انفتاح الإسلام وتسامحه مع غيره من الديانات.



قال شيخ الإسلام جعفر بن إدريس الكتاني رحمه الله: "السلطان يحكم بينهم فيما يحكم فيه والي المظالم...وأما في غير ذلك...فينصب لهم من يحكم بينهم فيها منهم"(3). بخ.



ومما ينبني على شمولية الإسلام من حيث الإلزام: هيمنته ورفعته على الغير، وهو مصداق قول الحق تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا...إلى قوله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}. [المائدة/ 48-50]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله فيما رواه أبو داود في سننه (2912) عن أبي الأسود الدؤلي رضي الله عنه: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، وهو يعتبر قاعدة أساسية من قواعد الإسلام الكلية التي تبنى عليها كثير من الأحكام.



ومن مقتضى شمولية الإسلام للثقلين: وجوب تبليغنا له إليهم، وتعريف الناس بهذا الدين والهدي السماوي الذي ألزمنا الله به، سواء عن طريق الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وعن طريق الحوار والتعريف بمزايا الإسلام وصدقيته وسموه، وسواء عن طريق المناظرة والمقارعة، وإجابة الحجة بالحجة...إلخ، وفي ذلك قال الحق تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}. وقال عز من قائل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين}. [فصلت/ 33].



-يتبع-




-----------------------------------------------------

(1) "الإسلام والحضارة الغربية" بقلم د. محمد محمد حسين. ص6.

(2) انظر "بحوث تحليلية نقدية في الفكر الإسلامي" للعلامة عبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني ص54.

(3) "أحكام أهل الذمة" ص67.