الخطابة في العصر الجاهلي
د. إبراهيم عوض
"الأمثال" جمع "مَثَل"، وهو جملة من القول مقتطعة من كلام أو مرسلة لذاتها تنقل مما وردت فيه إلى مشابهه دون تغيير؛ بغية الاستشهاد بها، وبعض الأمثال قد يكون مسجوعًا متوازنًا، وإن لم يكن هذا شرطًا لا بد منه، وتمتاز هذه الجملة بأنها تلخص الموقف أو الجدال أو التعليق وتحسمه على خير وجه، وبأنها قصيرة لا تتجاوز بضع كلمات، وبأنها من الحيوية والسلاسة وحلاوة الصياغة وبراعة التصوير وتعدُّد الأبعاد بحيث يُكتب لها السيرورة والانتشار على ألسنة الناس، وبأنها لا تخلو في كثير من الأحيان من موعظة أو حكمة.
وقد كتب حنا الفاخوري زاعمًا أن الأمثال الجاهلية، لكونها "كلام الشعب في جميع طبقاتهم، فقد جاءت في أكثرها غير مصقولة؛ كما في قولهم: أول ما أطلع ضبٌّ ذَنَبه"؛ (حنا الفاخوري/ تاريخ الأدب العربي/ 202)، وهذا حكمٌ جزافٌ لا معنى له ولا دليل عليه، وليس في عبارة المَثل الذي أورده ما يدل على ركاكة أو ضعف في الصياغة البتة، بل تجري على فحولة الصياغة العربية، وفي كتب النحو والصرف كلام عن هذا التركيب، يجده القارئ في نهاية باب المبتدأ والخبر؛ إذ يذكر العلماء عدة مواضع يجب فيها حذف الخبر، منها: أن يكون المبتدأ مضافًا إلى مصدر عامل في اسم مفسر لضمير له حال لا يصح ورودها خبرًا، مثل: "أكثر شُربي السويق ملتوتًا"، و"أخطب ما يكون الأمير قائمًا"، والمَثل الذي بين أيدينا يقترب جدًّا من المثال الأخير كما نرى، إلا أن المعمول هنا (وهو "ذنَبه") مفعول لا حال، ولو أردنا أن نصوغ المثل صياغة عادية لقلنا: "أولُ شيء يُطلعه الضبُّ من جحره هو ذنبه"، ومثله قول العقاد في قصيدة "الشاعر الأعمى": "وأظلم ما نال العمى جفن شاعر"، وعلى هذا فكلام الفاخوري مجرد دعوى فارغة من المضمون، وقد أكد د. شوقي ضيف بحق أن "طائفة من هذه الأمثال تدخل في الصياغة الجاهلية البليغة؛ إذ نطق بها بعض بلغائهم وفصحائهم، مِن أمثال: أكثم بن صيفي وعامر بن الظرب، وكان خطباؤهم المفوهون كثيرًا ما يعمِدون إلى حشدها في خطاباتهم"، بل إنني لأزعم، دون أدنى مبالغة فيما أحسب، أن معظم هذه الأمثال هي نموذج للصياغة البليغة الجزلة بعكس ما يهرف به الفاخوري، أما قول الدكتور شوقي ضيف: إن "بعض الأمثال تخالف قواعد النحو والتصريف" فربما يكون كلامنا أدقَّ لو قلنا: إنها قد تخالف ما نعرفه من هذه القواعد؛ إذ كان الواجب أن يجعل علماءُ النحو والصرف تلك الأمثال مصدرًا من المصادر التي اعتمدوا عليها في استخلاص قواعدهم، لا أن يحكِّموا تلك القواعد في مثل هذه النصوص الجاهلية التي يصعب أن يكون قد دخلها تغيير يُذكر، إن كان قد دخلها أي تغيير على الإطلاق، كما قال الأستاذ الدكتور نفسه (د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ 404، 408)، على عكس ما يؤكد ك. أ. فارق (K، A، Fariq) في الصفحة الثالثة والثلاثين من كتابه: "History of Arabic Literature"، إذ يقول: إن النثر الجاهلي كله (بما فيه الأمثال طبعًا)، شأنه شأن الشعر في ذلك العصر، قد دخله تحريف كثير من قِبل الرواة، الذين زيفوه وبدلوه وأضافوا إليه وحذفوا منه وشوهوه، وذلك دون أن يدعم زعمَه هذا بأي برهان، على الأقل فيما يخص الأمثال التي، نظرًا لإيجازها الشديد وكثرة ترديدها واستمرار الاستشهاد بها والحرص التام على استعمالها كما نُطق بها لأول مرة دون أي تحوير، يصعب جدًّا جدًّا أن ينالها شيءٌ من هذا الذي قال، وسوف نتوسع بعض التوسع في معالجة النقطة الخاصة بدعوى مخالفة الأمثال الجاهلية لقواعد النحو والصرف فيما بعد.
ونبدأ بالجانب اللغوي: وهناك ألفاظ كان الجاهليون يعرفونها ويستعملونها ولا يجدون فيها غرابة، لا في وقعها على الأذن ولا في وقعها على الذهن، ولا تشكل لهم من ثم أية صعوبة في فهم دلالتها، بَيْدَ أن الأمر الآن قد تغير؛ فأضحَتْ تلك الألفاظ لا تستعمل، وآضَتْ بحاجة إلى من يشرح للقراء معانيها؛ إذ اللغة تتطور كما يتطور كل شيء في الحياة، فيموت بعض ألفاظها ولو إلى حين، وتجِدُّ عليها ألفاظ لم تكن معروفة من قبل، أو على الأقل لم تكن شائعة الاستعمال كما هو الحال الآن... وهكذا.
وقد استطعت أن ألتقط بعضًا من تلك الألفاظ التي تحتاج إلى من يشرحها للقارئ العصري، إما لأنها غريبة عليه تمامًا، وإما لأنها، وإن لم تكن غريبة عليه في ذاتها، فهي غريبة عليه بمعناها القديم؛ إذ أصبحت تعني في لغتنا الحالية معنى آخر غير الذي كان لها قبلًا، أو هي غريبة عليه بصيغتها؛ لكونه يعرف لذلك المعنى صيغة أخرى، ومن هذا النوع من الألفاظ "الاحتلاط: الغضب"؛ (أوَّل العي الاحتلاط)، و"القين: الحداد"؛ (إذا سمعت بسُرى القين فإنه مُصبح)، و"الصريح: اللبن الذي ليس فوقه رغوة"؛ (أبدى الصريح عن الرغوة)، و"العِذرة: العُذر"، و"الحقين: الوطب الذي يُحقن باللبن"؛ (أبى الحقين العِذرة)، و"ارجَحَنَّ: مال" و"الشاصي: الرافع رجله"؛ (إذا ارجَحَنَّ شاصيًا فارفع يدا)، و"القِدح: السهم الذي كانوا يستقسمون به؛ أي: يحاولون أن يعرفوا به الغيب، حسبما كانوا يتوهمون"؛ (أبصِرْ وَسْمَ قِدحك)، و"الشِّرْب: نصيب الشخص أو الحيوان من الماء"؛ (آخرها أقلها شِرْبًا)، و"العقي (وجمعه "أعقاء"): ما يخرج من الصبي عند ولادته"؛ (احذر الصبيان لا تصبك بأعقائها)، و"الذِّل (وجمعه "أذلال"): السهولة"؛ (أجرِ الأمور على أذلالها)، و"الحَسُّ: الاستئصال"، و"الأس: الأصل"؛ (ألصق الحس بالأس)، و"السَّلى: مشيمة الحُوار، وهو الجمل الوليد"؛ (انقطع السلى في البطن)، و"الوذم: سيور تربط بها أطراف العراقي، وهي الخشبتان اللتان تكونان على حافَة الدلو يحمل منهما، أو الخشبتان اللتان تصلان بين وسط الرحل والمؤخرة، والمفرد: عرقوة"؛ (أُمِرَّ دون عُبَيدةَ الوذمُ: لم يستشره أحد في الأمر؛ لهوان شأنه)، و"البَعَاع: المتاع والثقل"؛ (ألقى عليه بعاعه: ألقى عليه نفسه من حبه له)، و"الزخاري: النبت عند ارتفاعه"؛ (أخذت الأرض زخاريها: اكتملت وبلغت الغاية)، و"الرطيط: التذمر"؛ (أرطِّي، إن خيرك في الرطيط)، و"العقنقل: المصران"؛ (أعطِ أخاك من عقنقل الضب: أعطه من كل ما معك مهما يكن تافهًا)، و"حظَب يحظُب: سمِن"؛ (اعلُل تحظُبْ)، و"النَّجيث: ما كان خافيًا فظهر"؛ (بدا نجيثُ القوم)، و"الحُذيَّا: العطيَّة"؛ (بين الحذيَّا والخُلسة: إما أن تعطيه مما معك وإما اختلسه منك؛ أي إنه لا فَكاك من أخذه منك ما معك)، و"الطريقة: اللين والضعف"، والعِنْدَأوة: العناد"؛ (تحت طريقته عِنْدَأوة)، و"الثأطة: الطين"؛ (ثأطةٌ مُدَّت بماء: بمعنى "زاد الطينَ بِلة")، و"الجَدْح: الشُّرب"؛ ("جَدْح جوينٍ مِن سويق غيره"، وجوين: اسم شخص، والسويق نوع من الطعام)، و"القذة: الريشة التي تركب على السهم"؛ (حذو القُذة بالقُذة)، و"هراق: أراق"؛ ("خلِّ سبيل من وهَى سقاؤه، ومَن هُريق بالفلاة ماؤه"؛ لأنه لا أمل في صلاحه)، و"اليَلْمَع: السراب"؛ (أخذلُ من يَلْمَع)، و"الدَّبري: الذي يأتي بعد فوات الأوان"؛ (شرُّ الرأي الدَّبري)، و"الحَقْحَقة: السير السريع الشديد"؛ (شر السير الحَقْحَقة)، و"الجِروة: النَّفْس"؛ (ضرب على الأمر الفلاني جِرْوَته: وطَّن نفسه عليه)، و"الهِلْباجة: النَّؤُوم الكسلان، أو الثقيل الجافي"؛ (أعجز من هِلْباجة)، و"غَشَمْشَم: غشُوم"؛ (غشمشم يغشي الشجر: يُفسد كل شيء ولا يبالي، كالثورِ في محل الخزف)، و"القُرَاب: القُرب"؛ (الفرار بقراب أكيس: الفرار قبل التورط في المهلكة أفضل من التمادي في الأمر)، و"القطوف: البطيء المتأني في مِشيته"، و"الوساع: المسرع السابق"؛ (القطوف يبلغ الوساع: قد يلحق المتأني المتعجل)، و"الكِفت والوثيَّة: القِدر الصغيرة والكبيرة"؛ (كِفت إلى وثيَّة: تقال لمن لا يكتفي بتحميل صاحبِه المكروهَ الكبيرَ، بل يُلحق به مكروهًا آخرَ)، و"البِضاع: الجِماع"؛ (كمعلِّمةٍ أمَّها البِضاعَ)، و"جَلَل: صغير"؛ (كل شيء أخطأ الأنفَ جَلَل)، و"اليَهْيَر: السراب"؛ (أكذب مِن اليَهْيَر)، و"لحام: لحوم"؛ (لكن لِحام بشرمة لا تجن)، "بَلِلْت: ابتليت"؛ (ما بلِلْتُ من فلان بأفوَق ناصل: ظهر أنه رجل صعب المِراس، والأفوق الناصل: السهم المكسور)، و"ودَّع نفسه: أراحها، وهو مأخوذ من الدَّعَة لا من التوديع"؛ (مَن لم يَأْسَ على ما فات ودَّع نفسه)، و"العَبَكة: ما يعلق بأصوافِ الغَنم من بعرها"؛ (ما أباليه عَبَكة)، و"مُخْرَنْبِقٌ لِيَنْبَاعِ"؛ أي لاطئٌ بالأرض ينتهز فرصة ليثبَ على عدوه، و"تَعَظْعَظَ: اتَّعَظ"؛ (لا تعِظيني وتَعَظْعَظِي)....
.... وهناك، إلى جانب ما مر، صيغ صرفية وتراكيب نحويَّة لم تعُد تستخدم الآن، مثل استعمال "ليس" في موضع حرف العطف "لا"؛ كما في المثال التالي: "إنما يجزى الفتى ليس الجمل"، وهو استعمال لـ: "ليس" لا يعرفه كثير منا، يضاف إلى استعمالها أداة استثناء؛ كما في قولنا: "قام الطلاب ليس عليًّا"؛ أي: قاموا إلا عليًّا، ومن هذه التراكيب أيضًا حذف خبر "أن" رغم عدم تقدم ما يدل عليه، إلا أنه مفهوم من السياق؛ كما في الشاهد التالي: "أشبه شَرْج شَرْجًا لو أن أُسَيْمرًا"؛ إذ المعنى أن هذا المكان هو فعلًا المكان الذي يسمى "شَرْجًا"، إلا أن الأسيمر (أي شجرات السَّمُر) التي كنت أعبدها فيه ليست موجودة، وتمام الكلام إذًا هو: "أشبه شَرْج شَرْجًا لو أن أُسَيمرًا كنت أعبدها من قبل كانت هناك"، ولعل القارئ قد تنبه إلى تصغير صيغة الجمع في "أسمر"؛ (جمع سمرة")، وتصغير صيغ الجمع كما هي (أي دون ردها إلى صيغة المفرد أولًا) ممنوع بوجه عام في اللغة العربية حسبما هو معروف، اللهم إلا ما نص عليه الصرفيون، وهو جموع تكسير القلة، ومنها صيغة "أفعل" التي بين أيدينا، كذلك يعرف الملمون بالنحو العربي أن هناك مواضع تحذف فيها "كان" واسمها، لكن ليس من بينها "إلا"، التي نلاحظ في الشاهد التالي كيف أن قائل المثل قد حذف بعدها "كان" واسمها مثلما يحذفهما العرب بعد "لو"؛ كما في قول الرسول الكريم مثلًا: ((التمس ولو خاتَمًا من حديد))؛ أي: ادفع أي مهر حتى لو كان هذا المهر مجرد خاتم من حديد لا قيمة له، وكذلك بعد "إن" المكررة؛ كما في مثل قوله عليه السلام: ((الناس مجزيون بأعمالهم: إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر))؛ أي: إن كان العمل المجزيون به خيرًا فالجزاء خير، أو كان هذا العمل شرًّا فالجزاء شرٌّ، ونص المثل هو: "إلا حظيَّة فلا أَلِيَّة"؛ أي "إذا لم يكن أمرك هو الحظوة عند من تريد أن يكرمك فلا تألُ أن تتودَّد له"، ومن الشواهد التي جاءت فيها "كان" واسمها محذوفين قولهم في المثل التالي: "قد قيل ذلك، إنْ حقًّا وإن كذبًا"؛ أي قيل ما قيل، وانتهى الأمر، سواء كان الكلام المقول حقًّا أو كذبًا، كذلك انظر إلى المثل التالي: "أنا غريرك من الأمر"، (ومعناه: "أنا عالم بالأمر علمًا يجعلني أجيبك في أي أمر منه حتى لو كان سؤالك على حين غرة")، كيف أدى التركيب فيه إلى المعنى المقصود رغم أنه لا يدل عليه دلالة مباشرة لا تحوج إلى شرح، وهناك أيضًا المثل التالي بتركيبه الذي لا يقابلنا في فصحانا المعاصرة رغم استمراره في العامية: "أعورُ، عينَكَ والحجَرَ"، فهو يدل على التحذير من خطر يتهدد المخاطب، وهو هنا الحجر الذي يمكن أن يصيب عين الأعور، مع ملاحظة أن كلًّا من المهدِّد (الحجر) والمهدَّد (العين) منصوب كما هو واضح، وهو تركيب لا يستعمل الآن إلا في العامية كما قلت، بل لا أظنه من التراكيب التي تقابلنا في النصوص القديمة كثيرًا، ولا تنسَ أن أداة النداء قد حُذفت كذلك في النص؛ إذ الأصل: "يا أعور"، والمقصود: "أيها الأعور، احذر أن يصيب عينَك الوحيدة الباقية حجر يذهب ببصرها أيضًا، فتصبح أعمى تمامًا".
أما في قولهم: "أحشَفًا وسوءَ كيلة؟" فقد حُذف الفعل وفاعله، وهو استنكار لجمع الشخص بين خَلَّتين سيئتين في تعامله مع الناس بدلًا من الاقتصار على واحدة منهما ليست في ذاتها بالقليلة، ومثله قولهم في مثل آخر: "أغيرة وجبنًا؟"، وهو مثل تقوله الزوجة لرجلها الذي يغار أشد الغيرة عليها، لكنه من الجبن بحيث لا يحاول الدفاع عنها إذا تعرض عِرضه للعدوان، وهناك صيغة صرفية قابلتني في الفعل: "أنجد" من قولهم: "أنجد مَن رأى حضنًا"، (إشارة إلى الوصول إلى الغاية)، وهي صيغة "أفعل" للفعل الماضي المشتق من اسم بلد ما أو مدينة من المدن؛ كقولهم: "أعرق، وأشأم، وأعمن، وأيمن، وأمنى"؛ أي: وصل العراق أو الشام أو عمان أو اليمن أو منى أو شارف الوصول، و"حضن" اسم جبل مشهور في نجد، وثمة صيغة جمعية لا نستخدمها عادة في الموضع الذي جاءت فيه، وهي صيغة "أفعال" في قولهم: "أجناؤها أبناؤها"، (جمع "جان" و"بان" بدلًا من جُنَاتها بُنَاتها)؛ أي إن مَن جنوا عليها (أي هدموها) هم أنفسهم الذين سبق أن بنوها، وهي صيغة جمعية قليلة الاستعمال في هذا الموضع حسبما قلنا؛ كما في "صاحب: أصحاب" و"شاهد: أشهاد"، ولكنها ليست خاطئة كما قد يُفهم من كلام د. شوقي ضيف، الذي علق على هذا المثل قائلًا: إن "القياس" "جُناتها بناتها"؛ لأن "فاعلًا لا يجمع على "أفعال"... "د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ 408"، وفاته أن القرآن نفسه قد استخدم "أشهاد" في موضعين منه (هود/ 18، وغافر/ 51)، ومثلها "أصحاب"، التي تكررت فيه نيفًا وسبعين مرة، وهما جمع "شاهد" و"صاحب" على التوالي، وليس بعد قول الله قول، كذلك ذكر عباس أبو السعود في كتابه: "الفيصل في ألوان الجموع"؛ (دار المعارف/ 1971م/ 40) أنه ورد عن العرب أيضًا "قابس: أقباس" و"جاهل: أجهال"، أما في قولهم: "إذا جاء الحَيْن، حار العَيْن" فنلاحظ تذكير الفعل: "حار" رغم إسناده لمؤنث، وهو استعمال صحيح؛ لأن لفظة "العين"، وإن كانت مؤنثة، فتأنيثها مجازي؛ أي إنها ليست كائنًا حيًّا له عضو أنوثة كالمرأة والدجاجة مثلًا، ومن ثم جاز في لغة الضاد تذكير فعلها.
ومِن التركيبات اللافتة للنظر اكتفاؤهم بالحال فقط من بين أركان الجملة جميعًا؛ كما في المثَلين التاليين: "أضرطًا وأنت الأعلى؟"، "أضرطًا آخر اليوم؟"، أما في قولهم في المثل التالي: "اقلب قلابِ"؛ (أي: اقلب الكلام وعد إلى ما قلته من قبل، وهو مثَل يضرب للرجل تكون منه سقطة فيتداركها بأن يقلبها عن جهتها ويصرفها عن معناها)، فعندنا صيغة "فعالِ" التي تعني "افعل"، مثل "دراك"، "نزال"؛ أي أدرك، وانزل، ومن أسماء الأعلام التي قابلتني في أمثال الجاهليين على هذه الصيغة أيضًا اسم "عَرارِ"، وهو من أسماء الأعلام المؤنثة، وقد ورد في المثل التالي: "باءت عرارِ بكَحْل"؛ أي إن عرارِ وكَحلًا بقرتان متساويتان لا تفضل إحداهما الأخرى، فإذا أخذتَ هذه بدلًا من تلك، أو تلك بدلًا من هذه، لم تخسر شيئًا، ولنلاحظ أن هذا الاسم، رغم مجيئه فاعلًا، قد بُني على الكسر، وهذا إعرابه دائمًا في لغة الحجازيين مهما تغيرت وظيفته في الجملة، ومنه أيضًا ما ورد في الأمثال التالية: "اسقِ رقاشِ؛ إنها سقاية"، (اسم امرأة كريمة)، "القول ما قالت حذامِ"، (اسم امرأة اشتهرت بصحة رأيها)، "أجرأ من خاصي خصافِ"، (اسم فرس خصاه صاحبه؛ كيلا يأخذه منه ملك أعجبه الفرس وأراد أن يستولي عليه)، "روغي جعارِ، وانظري أين المفر"؛ (اسم علم على الضبع)، "أزنى من سجاحِ"، (وهي الكاهنة التميمية المشهورة التي ادعت النبوة عند موت النبي عليه السلام، ثم فاءت إلى الإسلام كرة أخرى، وكان لها مع مُسَيلِمة الكذاب قصة معروفة، هي التي شهرتها بهذا المثل)، "صمِّي صمامِ"، (اسم للداهية، وهو مثل يقال عند استفظاع الداهية؛ تعبيرًا عن الضيق بها والرغبة في انقشاعها)، بَيْدَ أن هذه الصيغة لا تبلغ غرابة صيغة "فُعَّيْلَى" التي تقابلها في الشاهد التالي مرتين: "الأخذ سُرَّيْطَى، والقضاء ضُرَّيْطَى؛ أي هو في الاستدانة لطيف المعشر، لكنه عند الدفع يستحيل شخصًا شكسًا سيئ الذمة، وفي قولهم: "أخذه الله أخذ سَبعة" نراهم يسمون اللبؤة: "سَبعة"، (تأنيث سَبع)، ولا يعرف هذه التسمية إلا الأقلون، ومثلها في هذا مثلًا "رجُلة" (مؤنثة "رجُل") بدلًا من "امرأة".
وفي بعض الأمثال نلاحظ إيراد الحرف "ما" قبل الفعل المتأخر عن شبه الجملة؛ وذلك لتأكيد المعنى، ومثله قولهم: "باليدينِ ما أوردها زائدة"، (و"زائدة" اسم رجل)، "بعين ما أرينك"، "قبلك ما جاء الخبر"، "لك ما أبكي، ولا عبرة بي"، "وبالأشقين ما حل العقاب"، كما أن هناك مثلًا واحدًا على الأقل تكررت فيه "بين" مع اسمين ظاهرين، على خلاف ما يدعي بعض اللُّغويين المتنطسين من أن مثل هذا التكرار لا تجيزه العربية، ثم اتضح لي منذ سنوات غير قليلة أن ذلك غير صحيح؛ إذ وجدت في الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي عشرات الشواهد التي تدل على أنه ليس في هذا التكرار ما يعاب من جهة الأسلوب العربي الأصيل، وإن لم يَرِدْ ذلك التركيب في القرآن؛ إذ القرآن الكريم لا يستوعب، كما هو معروف، كل إمكانات اللغة؛ فهو كتاب سماوي لا معجم لغوي، وعلى أية حال هذا هو المثل المذكور: "بين المطيع وبين المدبر العاصي"؛ أي إنه لا يوثق بموقفه؛ فهو متذبذب بين الطاعة والمعصية، فأيتهما أمكنته جرى في طريقها، ومن التراكيب التي قابلتني هنا أيضًا وأرى أنه ينبغي التلبث عندها قليلًا التركيب الذي عليه المثلان التاليان: "جاري بَيْتَ بَيْتَ"، "وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ"، ببناء الكلمتين على الفتح كما هو واضح، وهو مثل قولهم: "صباحَ مساءَ"، "ليلَ نهارَ"، "أحدَ عشرَ"، وقد أجريت التعبير العامي: "خَبْطَ لَزْقَ" عليه واستعملته في كتاباتي مطعِّمًا الفصحى به على طريقتي في إغناء لغة الكتابة بما أرى استعارته من العامية بعد إجرائه على مقتضيات قواعد النحو والصرف، ويمكن أن نلحق به الكلام في الجملة التالية: "اذهب إلى المكان الفلاني جَرْيَ جَرْيَ"... وهكذا.
يتبع