التداخل بين مسألتي الحجاب والعوراتالحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان ... أما بعد :
وأثره على الخلاف في كشف وجه المرأة
اللهم يا معلم إبراهيم علمني واللهم يا مفهم سليمان فهمني .
اعلم علمني الله وإياك , بأنه يجب على من أراد الوصول للحق في المسائل التي وقع النزاع فيها , تحرير محل النزاع , وذلك بتنقيحه مما يختلط به من غير أصله , وأصل النزاع في موضوعنا هاهنا هو : إباحة السفور , وهو القول بجواز كشف المراة لوجهها دائمًا أمام الأجانب , بدون حاجة أو ضرورة .
يُشكل على البعض تسمية كشف الوجه دائماً بـ ( السفور ) , وذلك لوقوع الخلط بينه وبين التبرج المجمع على تحريمه , والفرق بين معنى السفور ومعنى التبرج هو أن السفور كشف الوجه بدون زينة , وأما التبرج فكشفه وغيره مع التزين .
قال ابن فارس في مقاييس اللغة :
(سفر) السين والفاء والراء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على الانكشاف والجَلاء ... وسَفَرتِ المرأةُ عن وجهها، إذا كشفَتْهُ .انتهى
وجاء في لسان العرب :
وَسَفَرَتِ المرأَة وجهها إِذا كشف النِّقابَ عن وجهها تَسْفِرُ سُفُوراً .... وسَفَرَتِ المرأَةُ نِقابَها تَسْفِرُهُ سُفُوراً فهي سافِرَةٌ جَلَتْه .انتهى
وأما التبرج فهو غير السفور وهو محرم كذلك ولا ينازع في ذلك أحد ومعناه في اللغة غير معنى السفور .
قال ابن فارس في المقاييس :
(برج) الباء والراء والجيم أصلان: أحدهما البُروز والظُّهور .... ومنه التّبرُّج، وهو إظهار المرأةِ مَحاسِنَها .انتهى
جاء في لسان العرب :
التَّبَرُّج : إِظهار المرأَة زينتَها ومحاسنَها للرجال . و تَبَرَّجَتِ المرأَةُ : أَظهرت وَجْهَها . وإِذا أَبدت المرأَة محاسن جيدها ووجهها قيل : تَبَرَّجَتْ .انتهى
وقال أَبو إِسحاق في قوله عز وجل : { غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بزينة } التَّبرُّجُ : إِظهار الزينة وما يُسْتَدعَى به شهوة الرجل .
والتَّبَرُّجُ : إِظهار الزينة للناس الأَجانب . انتهى
ونشأة القول بإباحة كشف الوجه دائمًا في ظني , إنما كانت بسبب الخلط بين مسألة العورات وحكم النظر إليها وبين حقيقة العلة الموجبة لتشريع الحجاب , فاختلطت الأقوال لاشتباه بعضها ببعض .
ولمعرفة الحق والصواب في حكم السفور , لابد من معرفة حقيقة فريضة الحجاب , وعلة تشريعه , وأسباب نزول هذا التشريع , والظروف المحيطة بذلك .
قال أبو الفتح القشيري : بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز وهو أمر تحصّل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا . انتهى من البرهان للزركشي (1/22) .
فلو علمت وفقك الله أن تشريع الحجاب مر بأطوار مختلفة , تدرج فيها الشارع الحكيم مراعاة لحال المجتمع قبل الإسلام , وما فيه من الاختلاط وعدم الستر , حتى كانت بعض النساء يطوفن بالبيت عاريات , ويخرجن سافرات عن زينتهن في درع وخمار , كاشفات عن رؤوسهن ووجوههن في كل وقت وحال , ثم أن الصلاة فرضت على المسلمين في السنة الثانية للهجرة , وكان من شروطها في حق الجنسين ستر العورة , المستفاد من الأمر بأخذ الزينة في المساجد بدلالة التضمّن , وجاءت السنة بإدخال ستر الرأس في حق المرأة , وستر العاتق في حق الرجل , وإن كانا ليسا من العورات , ولذلك نص الفقهاء أنه على المرأة المسلمة ستر جسمها كله إلا الوجه والكفين وعلى خلاف في القدمين , وكان ذلك قبل فرض الحجاب .
ومن هنا نعلم الفارق بين مسألة العورات ومسألة الحجاب , وأن التلازم بينهما منفك في حال دون حال , فالأمر بالحجاب لا يعني بحال تقرير عورات جديدة لم تكن بعورات من قبل , وإنما هو أمرٌ بستر مواطن الفتنة في المرأة , والتي يحصل بسفورها حصول الشهوة والميل لها .
فالعورة في اللغة : سوءة الإنسان وما يستحيا منه , وأصلها من العار .
وقال الجوهري : العَوْرة كل خَلَل يُتَخَوَّف منه من ثَغْرٍ أَو حَرْب , والعَوْرة كل مَكْمَنٍ للسَّتْر , وعَوْرةُ الرجل والمرأَة سوْأَتُهما.
وربنا جل وعز قد وصف ما وجب ستره بالحجاب بالزينة فقال تعالى { ولا يبدين زينتهن } فكيف تكون الزينة عورة يستحيا منها بل وفي منزلة السوأتين ؟!
والفقهاء رحمهم الله , إنما يذكرون ما يجب على المرأة والرجل ستره في الصلاة , ويسمون ذلك باب ستر العورة من باب التغليب والتجويز اللغوي, وإلا ليس كل ما يؤمر المكلف بستره في صلاته هو عورة يحرم كشفه ولو كان خليًا, ومن ذلك الأمر بتغطية العاتق للرجل, فعورة الرجل من السرة إلى الركبة باتفاق الفقهاء , والعاتق ليس بعورة ومع ذلك يؤمر بستره وجوبًا أو استحبابًا , وكذلك شعر المرأة ليس بعورة قبل فرض الحجاب وهي مأمورة بستره في الصلاة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طرداً ولا عكساً .انتهى من رسالته في الحجاب انظر (مجموع الفتاوى 22/115) .
فتعليل من جوّز السفور , بأن وجه المرأة ليس بعورة فلها كشفه في كل وقت , لا يصح لأن العلة في تشريع الحجاب لم تكن ستر العورة , وإنما العلة هي منع الفتنة بها .
ويتضح لك هذا بتتبع آيات الحجاب وسبب نزولها وهي كما يلي :
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } إلى قوله { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ .. الآية }[الأحزاب:53] .
أخرج الإمام البخاري في الصحيح (4871) : حدثنا يحيى بن بكير قال حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه : أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فكان أمهاتي يواظبنني على خدمة النبي صلى الله عليه و سلم فخدمته عشر سنين وتوفي النبي صلى الله عليه و سلم وأنا ابن عشرين سنة فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه و سلم بزينب بنت جحش ... الحديث .
وأخرج أيضاً برقم (4514) : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال أنس بن مالك : أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب لما أهديت زينب بنت جحش رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت معه في البيت صنع طعاما ودعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه - إلى قوله - من وراء الحجاب } . فضرب الحجاب وقام القوم .
فهذه أول الآيات تشريعاً لفريضة الحجاب كما هو نص خادم النبي صلى الله عليه وسلم , ولما كانت هذه الآية مجملة في فريضة الحجاب , تتابع التشريع الإلهي في تفصيل هذه الفريضة على نساء المسلمين فنزلت الآية رقم (59) من سورة الأحزاب , والتي جاءت بالصفة الشرعية لحجاب المرأة المسلمة فقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وقد كان من أسباب نزولها ما أخرجه البخاري برقم (4517) : حدثني زكرياء بن يحيى حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجت سودة بعد ما ضُرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها , فرآها عمر بن الخطاب فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين . قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا قالت : فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال : ( إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ).
فقول عائشة رضي الله عنها : (( خرجت سودة بعد ما ضُرب الحجاب )) نص في أن هذه الآية نزلت بعد الأمر المجمل في قوله تعالى { فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }[الأحزاب:53] فلما كانت حاجة النساء الخروج للبراز ولحاجاتهن الأخرى , ولتعارض هذه الحاجة مع الأمر بالحجاب , ومن قبله الأمر بالقرار في البيوت وعدم التبرج كما في قوله تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } [الأحزاب:33], ولتعرض الفساق لهن لاشتبهاهن بالإماء كما اتفق على ذلك المفسرون , أذن الله جل وعز لهن بالخروج لحاجتهن وبيّن لهن صفة الحجاب الشرعي بقوله تعالى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ }[الأحزاب:59] .
وقد نص ابن عباس رضي الله عنه على هذا المعنى فقال : " أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة " .رواه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة , وصحيفة ابن أبي طلحة احتج بها البخاري في الصحيح وابن أبي حاتم في تفسيره , وقال الإمام أحمد : في مصر صحيفة عن ابن عباس تُشد لها الرحال أو كما قال .
ومن أسباب نزول الأية أيضاً وباتفاق أهل العلم بالتفسير , تمييز الحرائر عن الإماء , ويدل عليه قوله تعالى { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } ويشهد لذلك ما ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان بعد فرض الحجاب ينهى الإماء عن التشبه بالحرائر بلبس الجلباب . (انظر مصنف عبد الرزاق حديث 6240) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ عَلَى النِّسَاءِ لِئَلَّا تُرَى وُجُوهُهُنَّ وَأَيْدِيهِنَّ . وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ : أَتَتَشَبَّهِين َ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لُكَاعُ . فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَمَةِ رَأْسُهَا وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا .انتهى من مجموع الفتاوى (15/372)
والأمر في قوله تعالى { قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ }[الأحزاب:59] صريح في إفادته العموم , ولا سبيل لتخصيص أمهات المؤمنين بهذا التشريع الإلهي الصريح في عمومه , فمن أقر بعموم هذا التشريع , وعلم صفة حجاب أمهات المؤمنين , وأن تغطية الوجه فرض داخل في إدناء الجلباب عليهن , كما حكته عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قائلة : " فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي " فوجب عليه طرد ذلك في صفة حجاب نساء المسلمين , وهذا ما فهمنه نساء المدينة ومدحوا به رضي الله عنهن كما أخرجه أبو دواد في سننه بإسناد صحيح برقم (4103) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : لَمَّا نَزَلَتْ (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ) خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَة .
ومن المعلوم أن حادثة الإفك قد وقعت بعد فرض الحجاب إجمالًا وتفصيلًا من آيتي سورة الأحزاب رقم (53) و(59) وقبل نزول آية سورة النور رقم (31) والتي فيها الرخصة في إبداء ما يظهر من الزينة الظاهرة في قوله تعالى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا }. فيُعلم من ذلك أن من صفة الحجاب لأزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين , قبل نزول سورة النور ستر الوجه قطعاً .
وقد جاء تفسير الإدناء في قوله تعالى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة .
وجاء هذا التفسير لصفة الإدناء عن ثلاثة من كبار أهل العلم قولياً وعملياً وهم : ابن عون وابن سيرين وعبيدة السلماني رحم الله الجميع .
قال ابن جرير الطبري : حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيدة في قوله( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ) فلبسها عندنا ابن عون قال: ولبسها عندنا محمد . قال محمد: ولبسها عندي عبيدة . قال ابن عون بردائه فتقنع به، فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب. اسناده صحيح وهو شاهد جيد لما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وأما قول ابن جرير : اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به .انتهى
المقصود بهذا الاختلاف اختلاف التنوع , لأنه قد جزم رحمه الله بأن المراد من الأية مخالفة الإماء اللاواتي كن يكشفن شعورهن ووجههن .
فقال ابن جرير رحمه الله : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ؛ لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول.انتهى
ولذلك لم يرجح ابن جرير كعادته أحد التفاسير على الأخر , لعدم وجود التعارض الموجب للترجيح , لذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيرين لكيفية الإدناء في الآية , والتفسير الثاني الذي أورده ابن جرير لمعنى الإدناء غير مخالف للأول , وبه يحصل الواجب , فالتقنع هو مرادف للتنقب , و التلثم , والتبرقع , وبه يغطى أكثر الوجه , وهو خلاف السدل الذي يكون بالإرخاء من الأعلى .
والحجة في ذلك , ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة , فأمر الله نساء المؤمنين , أن يدنين عليهن من جلابيبهن. وإدناء الجلباب: أن تقنَع وتشد على جبينها.
فقول ابن عباس رضي الله عنه : (( أن تقنّع )) مطابق لقول ابن علية في التفسير الأول عن عبيدة السلماني : (( فتقنّع به )) عند وصفه لفعل ابن عون .
ويؤكد ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما , في فتوى له حول إحرام المرأة المتقنعة وكيف تصنع بحجابها , وهذه الرواية من طريق الشافعي وهو في مسنده برقم (544) : أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال : تدلى عليها من جلابيبها ولا تضرب به . قلت : وما لا تضرب به ؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة ثم أشار إلى ما على خدها من الجلباب فقال : لا تغطيه فتضرب به على وجهها , فذلك الذي لا يبقى عليها , ولكن تسدله على وجهها كما هو مسدولاً ولا تقلبه ولا تضرب به ولا تعطفه.
قال ابن الأثير في شرحه لمسند الشافعي (3/272) : " وحقيقة قوله (( ولا تضرب به )) : يريد أنها لا تلصق جلبابها ببشرة وجهها , كأن الجلباب قد ضرب الوجه بمباشرته له , ومنه قول الله عز وجل { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } " . انتهى
وقال الحافظ ابن حجر (الفتح 8/490) في تفسير التقنع : قوله فاختمرن أي غطين وجوههن وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع . انتهى
فظهر لك أن التقنع يراد به تغطية أكثر الوجه , وهو منهي عنه في الإحرام للمراة , لأنه من جنس التنقب والتبرقع والتلثم , وإن كان يأتي أيضاً بمعنى تغطية الرأس ولا يلزم منه امتناع تغطية الوجه بطرفه , وأما التحكم بحصره بمعنى غطاء الرأس فقط فهو مردود , بما ثبت من فعل أمهات المؤمنين , ونساء الصحابة رضي الله عنهن , استجابة للأمر في آية الإدناء وتقدم ذكره.
والدليل على صحة ما تقدم من أن التقنع فيه تغطية للوجه , ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن في المعجم الكبير للطبراني (393) : عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : استأذنت لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لهم ، فإذا هو مقنع رأسه ببرد له معافري ، فكشف القناع عن رأسه ، ثم قال : « لعن الله اليهود ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » وأصل الحديث في البخاري (425) , ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم : أنه في مرض موته , كان يطرح خميصة له على وجهه , فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه , فقال وهو كذلك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) . فكشفت رواية الصحيح حقيقة التقنع في رواية أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
قال ابن أبي شيبة في مصنفه (8/563) : ( التّقنّع وما ذكِر فِيهِ ) ثم ذكر بإسناده عن لُقْمَانُ قال لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : يَا بُنَيَّ ، إيَّاكَ وَالتَّقَنُّعَ فَإِنَّهُ مَخْوَفَةٌ بِاللَّيْلِ مَذَلَّةٌ ، أَوْ مَذَمَّةٌ بِالنَّهَارِ.
قال مقيده عفا الله عنه : ومعلوم أن المقصود بالتقنع هنا , تغطية الوجه كالتلثم ونحوه , لأن تغطية الرأس دون الوجه من المروة , وليست بمذمة مطلقاً .
وقال العيني في عمدته في كتاب اللباس : ( باب التقنع ) أي هذا باب في بيان التقنع بفتح التاء المثناة من فوق والقاف وضم النون المشددة وبالعين المهملة وهو تغطية الرأس وأكثر الوجه برداء أو غيره.
وإليك بيان أن التقنع والتبرقع والتلثم والتنقب ألفاظ لمعاني متقاربة موداها متحد كما عند أهل اللغة :
- جاء في المعجم الوسيط :
( تقنع ) تكلف القناعة وتغشى بثوب والمرأة لبست القناع وفي السلاح دخل .
( القناع ) ما تغطي به المرأة رأسها وغشاء القلب والشيب وما يستر به الوجه .
( المقنع ) المغطى بالسلاح والذي على رأسه بيضة الحديد والمستور وجهه.
( البرقع ) قناع النساء.
- وجاء في معجم لغة الفقهاء :
(البرقع) : القناع الذي تغطي به المرأة وجهها.
(القناع) : بكسر القاف ج أقناع وأقنعة وقنع ، ما يستر به الوجه.
(المقنعة) : بكسر فسكون ج مقانع ، القناع = ما تستر به المرأة رأسها وتغطيه.
- جاء في كتاب العين للخليل بن أحمد :
(لثم) : اللَّثْمُ: لَثْمُ فِيْكَ على فِيْ آخَرَ. ومنه اللِّثَامُ: وهو شَدُك الفَمِ بالمِقْنَعَةِ.
- جاء في تاج العروس :
(اللثام) : ككتاب ما على الفم من النقاب , وقيل اللثام رد المرأه قناعها على أنفها , ورد الرجل عمامته على أنفه.
وإليك أقوال بعض المفسرين , وفيها عدم ذكر الخلاف المزعوم في تفسير الإدناء المذكور في قوله تعالى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } , وفيها بيان أن صفتي السدل والتقنع المذكورة عن السلف , لا تضاد بينهما , وإنما هي من التنوع في صفة الحجاب :
قال الثعالبي في جواهر الحسان (3/237) : واختلف فى صورة ادنائه :
فقال ابن عباس وغيره : ذلك ان تلويه المرأة , حتى لا يظهر منها الا عين واحدة تبصر بها .
وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : ذلك ان تلويه على الجبين وتشده , ثم تعطفه على الأنف وان ظهرت عيناها , لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.انتهى
وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِلْبَابِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ ، عِمَادُهَا أَنَّهُ الثَّوْبُ الَّذِي يُسْتَرُ بِهِ الْبَدَنُ ، لَكِنَّهُمْ نَوَّعُوهُ هَاهُنَا ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ الرِّدَاءُ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الْقِنَاعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } قِيلَ : مَعْنَاهُ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا فَوْقَ خِمَارِهَا , وَقِيلَ : تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا إلَّا عَيْنُهَا الْيُسْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تَنْوِيعِهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا السِّتْرَ وَالْحِجَابَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي بَعْدَهُ ، وَهِيَ مِمَّا تُبَيِّنُهُ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْلُبُ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِتَارِ ، فَدَلَّ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْيِيزَهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ اللَّاتِي يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ ، أَوْ بِقِنَاعٍ مُفْرَدٍ ، يَعْتَرِضُهُنَّ الرِّجَالُ فَيَتَكَشَّفْنَ ، وَيُكَلِّمْنَهُ نَّ ؛ فَإِذَا تَجَلْبَبَتْ وَتَسَتَّرَتْ كَانَ ذَلِكَ حِجَابًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَعَرِّضِ بِالْكَلَامِ ، وَالِاعْتِمَادُ بِالْإِذَايَةِ . انتهى
قال الثعلبي في تفسيره عند قوله {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } : أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها ، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن , ليُعلم أنّهنّ حرائر , فلا يُتعرّض لهنَّ ولا يؤذين .انتهى
قال النحاس في معاني القرآن عند قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك إلى آخر الآية } : قال الحسن : تغطي نصف وجهها , وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت علاها بالدرة .
قال محمد بن سيرين : سألت عبيدة عن قوله تعالى {يدنين عليهن من جلابيبهن} ؟ فقال : تغطي حاجبها بالرداء , ثم ترده على أنفها , حتى تغطي رأسها , ووجهها , وإحدى عينيها . انتهى
قال العز بن عبد السلام كما في تفسيره (1/920) : ( جلابيبهن ) الجلباب : الرداء ، أو القناع ، أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها .
وإدناؤه : أن تشد به رأسها , وتلقيه فوق خمارها , حتى لا ترى ثغرة نحرها ، أو تغطي به وجهها , حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى .انتهى
قال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط (7/240) : والجلابيب : الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل .
وقال ابن جبير : المقانع ؛ وقيل : الملاحف ، وقيل : الجلباب : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تستتر به من كساء أو غيره .
وقيل : الجلباب أكبر من الخمار . وقال عكرمة : تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى . وقال أبو عبيدة السلماني ، حين سئل عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ، ثم تديره حتى تضعه على أنفها . وقال السدي : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين . انتهى . وكذا عادة بلاد الأندلس ، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة . وقال الكسائي : يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ، أراد بالإنضمام معنى : الإدناء . وقال ابن عباس ، وقتادة : وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه .
ومن في { مِن جَلَابِيبِهِنَّ } للتبعيض ، و{عَلَيْهِنَّ } شامل لجميع أجسادهن ،أو {عَلَيْهِنَّ } على وجوههن ، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه . انتهى
قال الألوسي في روح المعاني (22/88) : والادناء التقريب , يقال : أدناني أي قربني , وضمن معنى الارخاء أو السدل , ولذا عُدي بعلى , على ما يظهر لي , ولعل نكتة التضمين , الإشارة إلى أن المطلوب : تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل .انتهى
وقال رحمه الله في قوله تعالى { من جلابيبيهن }: ومن للتبعيض , ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد بالبعض , واحداً من الجلابيب , وإدناء ذلك عليهن , أن يلبسنه على البدن كله .
وثانيهما : أن يكون المراد بالبعض , جزأ منه , وإدناء ذلك عليهن , أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه , بجزء من الجلباب , مع إرخاء الباقي على بقية البدن. انتهى
فإذا ظهر لك ما تقدم من تفصيل , وتذكرت أن الرخصة التي جاءت في سورة النور , في إظهار الزينة الظاهرة لم تنزل إلى زمن حادثة الإفك, تيقنت أن ستر الوجه فرض على نساء المؤمنين بعامة بلا خلاف , على الأقل إلى قبل نزول الرخصة في قوله تعالى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .
ثم اعلم أرشدك الله للصواب : أن القول بإباحة السفور , بُني على ثلاث مقدمات خاطئة :
المقدمة الأولى : طرد الإباحة مطلقاً بإبداء كل ما ثبت أنه ليس بعورة, وقد تقدم بيان خطأ ذلك , وأزيد من الحجة على خطأ هذه المقدمة , أن الفقهاء لا يجعلون ثدي المرأة من العورة أمام النساء , وهم مع ذلك يوجبون ستره إلا لحاجة , بل من الفقهاء من يقول : عورة المراة أمام المحارم من السرة إلى الركبة , وهم قطعاً لا يعنون أن لها كشف باقي جسمها أمام محارمها دائماً فتدبر .
المقدمة الثانية : التفريق بين ما شُرع لأمهات المؤمنين , وبين ما شُرع لغيرهن من نساء المؤمنين من فريضة الحجاب , والقول بأن ستر الوجه فرض على أمهات المؤمنين , وسنة ومستحب في غيرهن من نساء المؤمنين , وهذا القول مردود ولا دليل عليه كما تقدم بيانه .
المقدمة الثالثة : اعتقاد أن اختلاف الصحابة في تفسير قوله تعالى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا }[النور:31] موجب للقول بإباحة السفور , إذا ترجح تفسير من فسره بالوجه والكفين .
وهذه المقدمة ظاهرة البطلان , لمن أقر بأن فرض الحجاب على أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين , إلى قبل حادثة الإفك وجوب ستر الوجه , لأن نزول هذه الآية التي في سورة النور وفيها الرخصة بإبداء ما ظهر من الزينة , إنما نزلت بعد حادثة الإفك , والتي أخبر الله عنها في أوائل سورة النور , والرخصة إنما هي استثناء عن الأصل وليس نسخاً له .
والتشريع الإلهي أتى لسد باب الفتنة ومنع حصول الشهوة , والقول بأن آية الرخصة جاءت بإباحة السفور , يعود بالنقض على أصل التشريع وهذا ممتنع , ويردها أيضاً أن عامة الفقهاء والمفسرين قالوا : أن هذه الأية رخصة في إبداء بعض الزينة للحاجة , وفسروا الزينة بالوجه واليدين لظهورهما في الصلاة , فلو كانتا عورة لما جاز كشفهما في الصلاة .
وخالفهم غيرهم وقالوا : إنما الرخصة في إبداء ما لم يمكن تعاهده بالستر كالثياب , لأن الزينة كلها عورة بمعنى مكمن للستر لا أنها بمنزلة السؤاتين.
فالخلاف قريب جدًا , وهو في العلة الموجبة لستر ما أمر الله تعالى بستره من تشريعه للحجاب , فمن قال : إن العلة هي الفتنة ومنع الشهوة , رخص في كشف الوجه للحاجة وعند الآمن من الفتنة .
ومن قال : إن العلة هو ستر العورة مستدلاً بالحديث (( المرأة عورة )) , قال: إن الرخصة فيما يتعذر ستره كالثياب ونحوها .
قال ابن عطية : ويظهر لى بحكم ألفاظ الآية ، بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدى ، وأن تجتهد فى الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر ، بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، " فما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدى إليه الضرورة فى النساء فهو المعفو عنه . انتهى من تفسير القرطبي (12/229)
واعلم رحمك الله بأن الخلاف الواقع بين المفسرين والفقهاء ومن قبلهم الصحابة حول هذه الآية , إنما هو حول تحديد المقصود بالرخصة , وبأي حال كان اختلافهم فإنه لا يصل إلى إباحة السفور وصفته كشف الوجه دائمًا .
فمن تجده يختار أن الزينة الظاهرة هي الوجه واليدان , تجده ينص على أن الأمر في قوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } يشمل وجوب ستر الوجه , مما يدل على أن الرخصة عنده بإبداء الوجه , إنما في مواطن معينة وليس المقصود به سفوراً مطلقاً .
وأقرب مثال على ذلك , صنيع إمام المفسرين ابن جرير رحمه الله وإليك هو ذا : فعند قوله تعالى { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } يقول رحمه الله : " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين: لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن. ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ؛ لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى من قول " . انتهى
مع أنه عند تفسير قوله تعالى { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } اختار رحمه الله قول من فسر الزينة بالوجه واليدين , وعلل ذلك بأن للمرأة أن تكشف وجهها في صلاتها لانه ليس بعورة , لأنه لو كان عورة لبطلت الصلاة حال كشفه , لذلك اختار أن المقصود بالرخصة هما الوجه واليدان , والمقصود ما يظهر منهما عند الحاجة أو ما ظهر بدون قصد .
وهذا صنيع عامة الفقهاء الذين فسروا الزينة بالوجه واليدين كما سيظهر من أقوالهم المبينة لمقصودهم فيما يأتي بإذن الله .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
وكتبه / أبو طارق علي بن عمر النهدي
11/07/1430 هجرية