قرطبة .. أرض الفرسان
القاهرة- دار الإعلام العربية


فتحها سبعمائة فارس من جيوش طارق بن زياد في عام 93هـ
حين تسمع اسم «قرطبة» يقفز إلى ذهنك- لا إراديًّا- صورة مجسمة لمئات الفرسان المسلمين، يمتطون صهوة جيادهم الشامخة، ويرفعون راية الحق فاتحين مدينة ذات تاريخ تليد، أصبحت- وعلى مدى ثلاثة قرون تالية- حاضرة الأندلس الإسلامية، ومركزًا للخلافة، فتحها نحو سبعمائة من فرسان جيوش طارق بن زياد دون مقاومة تذكر، ولم يجد المسلمون عناءً في التعايش السلمي مع أهل البلاد المسيحيين، الذين وجدوا في الإسلام قبلة للحق والعدالة والسماحة.. تعالوا نتعرف على تاريخ هذه المدينة التي سقطت غدرًا من خارطة العالم الإسلامي.
تقع قرطبة في غرب إسبانيا، وتمتد على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير، الذي ينحني مجراه نحو الغرب مؤلفًا أهم طريق طبيعي في إسبانيا الجنوبية، ويعود تاريخ المدينة إلى العصر الروماني، حيث تأسست في عام 152ق.م، وذاعت شهرتها منذ الصراع بين قرطاجنة وروما، حيث اتخذها الرومان عام 169ق.م عاصمة لإسبانيا السفلى.. وظلّت خاضعة للبيزنطيين حتى نجح ملك القوط الغربيين في الاستيلاء عليها عام 568م، ثم أخذت تفقد أهميتها شيئًا فشيئًا حتى فتحها المسلمون عام 93هـ/711م.
الفتح الإسلامي
كان الفتح الإسلامي لمدينة قرطبة هينًا ميسورًا، فقد فتحت أبوابها أمام جيوش المسلمين بقيادة طارق بن زياد دون عناء أو مقاومة تذكر، حيث بعث طارق قائده مغيث الرومي إلى المدينة في سبعمائة فارس، أقبلوا على المدينة ليلًا ونجحوا في ارتقاء سور المدينة، ووثبوا داخلها ليفاجئوا حراسها، ومن ثم تدفقت جيوش المسلمين، وفتحوا المدينة التي أصبحت حاضرة إسبانيا الإسلامية، واستعادت مكانتها القديمة التي سلبتها إياها طليطلة، واستقر بها منذ عهد أيوب بن حبيب اللخمي ولاة الأندلس على مدى ثلاثة قرون حتى سقوط الخلافة.. فكانت المدينة طوال هذه القرون مثالًا للتسامح الإسلامي، حيث احتفظ أهل المدينة الأصليون من النصارى بحريتهم الدينية والمدنية، وفقًا لعهد المصالحة بينهم وبين المسلمين.
عاصمة الخلافة

يعتبر عهد السمح بن مالك الخولاني الذي ولي الأندلس عام 100هـ/719م، بداية التاريخ الحقيقي لقرطبة الإسلامية، فقد عمل على رفعها إلى مصاف الحواضر الكبرى.. واستمرت في الازدهار الذي بلغ أوجه في عام 139هـ/756م، عندما أعلنها عبدالرحمن بن معاوية- المعروف بعبدالرحمن الداخل- عاصمة له، بعد أن سانده مسلمو الأندلس، ونادوا به حاكمًا عليهم. وقد جعلها مهدًا للعلم والثقافة، ومركزًا للفنون والآداب في أوروبا كلها، فقام بدعوة الفقهاء والعلماء، والفلاسفة والشعراء، حتى أصبحت منارة ثقافية عالمية.
وفي عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر، وابنه الحكم المستنصر من بعده، بلغت المدينة مستوى من الرخاء والثراء لم تبلغه حاضرة أخرى من قبل، حتى نافست بغداد عاصمة العباسيين، والقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والقاهرة عاصمة الفاطميين.. وظلت قرطبة تنعم بهذا التفوق حتى سقطت الخلافة الأموية عام 404هـ/1013م، حين ثار جند البربر على الخلافة ودمّروا قصور الخلفاء فيها، وهدموا آثارها، وسلبوا محاسنها.
وقد امتازت فترة حكم المستنصر- الذي تولى مقاليد الحكم في الثالث من رمضان سنة 350هـ- بازدهار العلوم والآداب، فكان يبعث رجالًا بأموال طائلة لاستجلاب نفائس الكتب إلى الأندلس، وأنشأ مكتبة وصلت محتوياتها إلى أربعمائة ألف مجلد.. كما شهد التعليم في عهده نهضة عظيمة، وبَنَى مدرسة لتعليم الفقراء مجانًا، كما أسس جامعة قرطبة أشهر جامعات العالم آنئذ، وكان مركزها المسجد الجامع، وتدرس في حلقاتها كل العلوم، ويختار لها أعظم الأساتذة.
وقد أخرجت قرطبة كثيرًا من العلماء في جميع المجالات، أمثال: ابن عبدالبر، ابن حزم الظاهري، ابن رشد، الزهراوي، الإدريسي، العباس بن فرناس، والقرطبي، وغيرهم.
المسجد الجامع


ويعتبر المسجد الجامع بقرطبة أهم تحفة معمارية أنشئت في عهد عبدالرحمن الداخل، ولا يزال المسجد باقيًا حتى اليوم بكل أروقته الإسلامية ومحاريبه، وقد تحوّل إلى كاتدرائية بعد الاستيلاء على المدينة، بعد إزالة كثير من قباب المسجد وزخارفه الإسلامية. وقد وضع حجر تأسيسه في عهد عبدالرحمن الداخل، وأتمَّ بناءه ابنه هشام الأول.. وكان كل خليفة جديد يضيف للجامع ما يزيد في سعته أو فخامته أو زخرفته، حتى أصبح طوله 330 ذراعًا، وعرضه 230 ذراعًا، وكان يقوم على الخدمة فيه 300 رجل.. وقد احتل المسجد مكانة علمية مرموقة، حتى كان طلاب العلم من الشرق والغرب يفدون إليه للتزود بمختلف العلوم. ولم يهمل الخلفاء الجانب الثقافي الذي أعطى للمدينة مكانتها الحقيقية كعاصمة عالمية، فظهرت فيها المكتبات العامرة بنوادر الكتب والمخطوطات، ويروى أن ابن رشد تناظر يومًا مع أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد: «إذا مات عالم بأشبيلية فأُرِيد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات بقرطبة مطرب فأريد بيع آلاته حملت إلى أشبيلية».
وقد تأثر تصميم الجامع بالمنشآت التي بنيت في أيام العصر الأموي الأول، وبالأخص الجامع الأموي في دمشق، حيث يشترك معه في وجود الحرم المسبوق بالصحن، ووجود مئذنة واحدة في الواجهة، شأن مئذنة العروس في دمشق، ومئذنة جامع القيروان، وقد تم بناء مئذنة جامع قرطبة في عهد هشام بن عبدالرحمن عام 788م.. وفي عهد الخليفة الحكم المستنصر عام (961م) تم إجراء بعض الإضافات الفنية المشابهة للفن الدمشقي، كجدار المحراب، والسقوف المزخرفة، والعقود المفصصة، إضافة إلى العقد الحذوي. واحتوى حرم المسجد تسعة أجنحة باتجاه العمق، والجناح الأوسط هو أكثرها عرضًا.. وتعتبر غابة الأعمدة الموجودة في الصحن أهم ما يميز الجامع، إضافة إلى وجود الشرفات التي تعلو سقوف الجامع في الواجهة الغربية، المتدرجة والمثلثة الأشكال، المشابهة لأسنان المشط, وقد تمت استعارتها من الفن الزخرفي الشرقي لتصبح فيما بعد ملمحًا أساسيًّا من ملامح الفن الأندلسي. أما الجدران الداخلية فأهم ما يميزها المشبكات التي تغطي النوافذ، كما هو سائد في بعض المباني الدمشقية، في حين تحتوي الجدران الخارجية على روائع فنية زخرفية تتمثل في الأعمدة والأقواس المؤطرة، بينما تغطي الفسيفساء المذهبة والأحجار الرقيقة ذات الشكل المربع سقف القبة وإطار المحراب، وكذلك الأبواب المجاورة للمحراب.
وبهذا يمكن القول: إن فن العمارة الإسلامية ولد في عصر بني أمية، ثم نما وترعرع سريعًا بعد أن استفاد المسلمون من فتوحاتهم، ووحدوا كثيرًا من العناصر الفنية في أجزاء دولتهم.
قنطرة الدهر

ومن المعالم المهمة للمدينة أيضًا قنطرة قرطبة على نهر الوادي الكبير، التي عرفت باسم «الجسر» و«قنطرة الدهر»، كان طولها 80 ذراعًا، وعرضها 20 ذراعًا، وارتفاعها 60 ذراعًا، ويذكر الإدريسي أنه كان بأسفلها «رصيف من الأحجار والعمد البديعة، وكان على السد ثلاثة مطاحن، في كل بيت منها أربعة مطاحن مائية».
مدينة الزهراء




بعد أن تعرّضت الدولة الأموية في الأندلس إلى عدد من الثورات، تمكّن أحد أحفاد «الداخل»- وهو عبدالرحمن الثالث الملقب بـ«الناصر»- من إعادة توطيد ملك الأمويين، وإخضاع معظم الأندلس إلى سلطته في قرطبة، وذلك في القرن العاشر الميلادي «الرابع الهجري»، وقد بلغ من قوته أن اتخذ لنفسه لقب خليفة المسلمين.. وقام بنقل حكومته إلى مدينة جديدة على بعد أميال من قرطبة سماها «الزهراء»، استغرق 25 عامًا في بنائها، وظلّت موجودة ما يقرب من 65 عامًا حتى دمرها البربر، والزائر اليوم لمدينة الزهراء لا يجد موقعًا أثريًّا بالمعنى الكامل، إنما لابد أن يلعب الخيال دورًا في تخيل ما أصبح أثرًا بعد عين.