نوازل الصلاة




الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.



فإن من أشرف ما فرض الله على عباده الصلاةَ، تلك العبادة التي فرضها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في السموات العلى لعلو منزلتها، فرضها خمسين، ثم جعلها خمسا، وجعل أجرها أجر خمسين، تلك الشعيرة، عالية المنزلة، عظيمة الفضل، الركن الأعظم بعد الشهادتين، عمود الإسلام، الفاصل بين الكفر والإيمان، تلك العبادة التي من أقامها أقام الدين، ومن هدمها هدم الدين، أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت أفلح ونجح، وإن فسدت خاب وخسر، فحريٌّ بعبادة كتلك أن يحرص عليها المسلم، وأن تجد من أهل العلم الاهتمام الكبير في إيضاحها، وتعليم الناس أحكامها، ولما كان شأنُها شأنَ غيرِها من العبادات، وقع فيها جملة من النوازل والمستجدات، الأمر الذي حمل كثيرًا من أهل العلم على بيان أحكام هذه النوازل، وتلك المستجدات، مما دفعني لجمع أهم تلك النوازل والمستجدات، وبيان أحكامها في هذا المكتوب، مستفيدا من الكتابات السابقة في هذا الشأن؛ راجيا من الله تعالى السداد والتوفيق، وأن ينفع بهذا العمل الإسلام والمسلمين، وكانت تلك النوازل على النحو الآتي:

أولا: ما يتعلق بالطهارة:

حمل قارورة التحليل أو القسطرة أثناء الصلاة:

المتقرِّر شرعا أنه يشترط لصحة الصلاة طهارة البدن والثوب والمكان، وقد قام على ذلك أدلة كثيرة من الشرع الحنيف، كما نصَّ الفقهاء على أن من حمل النجاسة بغير ضرورة أن صلاته تبطل، ففي المبدع : "فلو حمل آجرة باطنها نجس، أو قارورة مسدودة الرأس فيها نجاسة، لم تصح؛ لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها في غير معدنها أشبه حملها في كمه" المبدع 2 / 80، وفي شرح منتهى الإرادات : "أو حمل قارورة باطنها نجس وصلى لم تصح صلاته". شرح منتهى الإرادات 1 / 161.

وعليه فمن كان يحمل قارورة تحليل فإنه لا يجوز له أن يصلي بها، بل عليه جعلها على جانب، ثم يصلي بدونها، بخلاف من يحمل القسطرة لحاجته إليها، ولأنه لا يمكنه الاستغناء عنها، أو يتضرر بنزعها، فإنه في هذه الحال يباح له حملها عملا بقواعد الشرع القاضية برفع الحرج، ودفع المشقة؛ والتي منها أن حراسة النفس أولى وأهم من رعاية شرط في الصلاة، مع اشتراط إغلاق هذه القسطرة بإحكام، بحيث لا يتسرب منها شئ، مع ضرورة التنبُّه إلى أنه متى تيسر نزعها بلا ضرر وجب ذلك، وإلا بطلت صلاته، جاء في شرح منتهى الإرادات :"وإن خُيِّط جُرحٌ أو جُبر عظمٌ من آدميٍّ بخيط نجس، أو عظم نجس فصح الجرح أو العظم لم تجب إزالته -أي: النجس منهما- مع خوف ضرر على نفس، أو عضو، أو حصول مرض؛ لأن حراسة النفس وأطرافها واجب وأهم من رعاية شرط الصلاة". شرح منتهى الإرادات 1 / 161.

ثانيا: ما يتعلق بوقت الصلاة:

الصلاة في البلاد التي يطول فيها الليل أو النهار، أو ينعدم أحدهما:

من المسائل التي تناولتها المجامع الفقهية الصلاة في البلاد التي يطول نهارها أو ليلها، وفي بعض الأحيان ينعدم، واعتبار هذه المسألة نازلة هي باعتبار اشتهارها، وورود السؤال عنها، وإلا فتلك البلدان موجودة على مرِّ الزمان، وحسب قرار المجمع الفقهي، وما صدرت فتوى اللجنة الدائمة، فإن تلك البلاد قسمان:

أولا: بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجرٍ، وغروب شمسٍ، إلا أن نهارها أو ليلها يطول جدًّا، فالواجب على من بها أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعاً؛ لعموم قوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } الإسراء - 78، وقوله تعالى: { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } النساء - 103، ولما ورد في السنة من توقيت للصلوات، وهي كثيرة جدا، كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر مالم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان" أخرجه مسلم.

وغيره من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس، ولم تفرِّق بين طول النهار وقصره، أو طول الليل وقصره، ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لكن من كان يشقُّ عليه الانتظار حتى يؤديها في وقتها، كالطلاب والموظفين والعمال أيام أعمالهم، فله الجمع عملاً بالنصوص الواردة في رفع الحرج عن هذه الأمة، حسب ما ورد في قراري المجمع الفقهي الإسلامي: الثالث في دورته الخامسة المنعقدة في ربيع الآخر من عام 1402هـ، والقرار السادس في دورته التاسعة المنعقدة في رجب من عام 1406هـ.

ثانيا: إن كانت تلك البلاد لا تغيب عنها الشمس، أو يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلاً، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحدِّدوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض، لما ثبت في الصحيحين في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى قال : "يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة .. الحديث".

ولما ثبت في صحيح مسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم حدَّث أصحابه عن المسيح الدجال فقيل له ما لبثه في الأرض قال: "أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم" فقيل: يا رسول الله اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: " لا، اقدروا له " أخرجه مسلم، فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوماً واحداً يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة.

فيجب على المسلمين في البلاد المسؤول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم، معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم، يتمايز فيها الليل من النهار، وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة.

ثالثا: ما يتعلق باستقبال القبلة:

الصلاة في السفينة والطائرة والسيارة:

قد يضطر المسلم في بعض الأحوال أن يصلي في السيارة أو السفينة أو الطائرة، والصلاة في هذه الحال لا تخلو من حالين: فإما أن تكون نافلة، فالصلاة جائزة بكل حال، وسواء قدر على القيام أم لم يقدر، وسواء استقبل القبلة أم لم يستقبلها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قِبَل أي وجهٍ توجَّه، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، أخرجه البخاري ومسلم، لكن إن استطاع أن يبدأ الصلاة متجها إلى القبلة كان أولى، وإلا فحيث كان وجهُهُ صلى.

وإما أن تكون الصلاة فريضة، فهذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان يدرك الصلاة في وقتها إذا وصل، فالواجب أن يؤخِّر الصلاة حتى يصليها إذا وصل في وقتها، محافظا على قيامها وركوعها وسجودها، وإن كان يخشى خروج الوقت، فإن كانت الصلاة تجمع لما بعدها، وكان سيدرك وقت الثانية، فالأولى التأخير والجمع، أما إن خشي خروج الوقت، فهنا يجب عليه أن يصلي حسب حاله، مع التنبه إلى كون الواجب استقبال القبلة عند القدرة، والقيام والركوع والسجود، وما عجز عنه من ذلك سقط عنه، عملا بقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } التغابن-16، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنهما وكان مريضا: "صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب". رواه البخاري، ورواه النسائي بإسناد صحيح وزاد: "فإن لم تستطع فمستلقيا".

رابعا: ما يتعلق بستر العورة:

حمل المصلي لصور ذوات الأرواح في الصلاة:

حمل الصور في الصلاة يأتي في صورتين:

الأولى: حملها بشكل مستتر في جيبه، كالنقود والبطاقة والجواز ونحوه.

الثانية: حملها بشكل ظاهر، كأن تكون في القميص أو الثوب ونحوه.

أما الأولى: فقد اختلف أهل العلم في كراهتها، والصحيح جوازها بغير كراهة للضرورة، كما صدر بذلك فتوى اللجنة الدائمة، وهو ما اختاره جمع كبير من أهل العلم المعاصرين، كالشيخ ابن سعدي رحمه الله، وقد كان السلف رحمهم الله يحملون النقود الإفرنجية، وهي لا تخلو من الصور قطعا.

أما الحال الثانية: وهي ما إذا ارتدى المسلم ثوبا أو قميصا يحمل صور ذوات أرواح، فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة الآتي: "لا يجوز له أن يصلي في ملابس فيها صور ذوات الأرواح من إنسان أو طيور أو أنعام أو غيرها من ذوات الأرواح، ولا يجوز للمسلم لبسها في غير الصلاة، وتصح صلاة من صلى في ثوب فيه صور، مع الإثم في حقِّ من علم الحكم الشرعي". فتاوى اللجنة الدائمة (6/179)، كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا كان جاهلا فلا شيء عليه، وإن كان عالما فإن صلاته صحيحة مع الإثم على أصح قولي العلماء رحمهم الله، ومن العلماء من يقول: صلاته تبطل؛ لأنه صلى في ثوب محرم عليه".

وبناء عليه فعلى المسلم أن يحتاط لأمر دينه وصلاته، وألا يصلي في هذه الثياب، بل يجتنبها ما استطاع، سواء في الصلاة أم في غيرها، ويتأكَّدُ هذا في الصلاة.

خامسا: ما يتعلق بسترة المصلي:

الصلاة أمام الدفايات:

مما جدَّ في العصر الحديث أن كثيرا من المساجد يوضع بها دفايات كهربائية، فهل يدخل هذا في استقبال النار في الصلاة ؟

من المتقرر عند كثير من أهل العلم كراهة استقبال النار في الصلاة، لما فيه من التشبه بمن يعبد النار، قال ابن قدامة رحمه الله: "ويكره أن يصلي إلى نار" وقال أحمد: "إذا كان التنُّور في قبلته لا يصلي إليه، وكره ابن سيرين ذلك .. وإنما كُره ذلك؛ لأن النار تعبد من دون الله، فالصلاة إليها تُشبه الصلاة لها" أ.هـ، وقال سفيان: "يكره أن يوضع السراج في قبلة المسجد".

وإنما كُرهت الصلاة أمام ما كان نارا بالفعل، ذات جمرٍ ولهبٍ، أما المدفأة فليست من النار، لا بالعرف، ولا باللغة، ومن ثَمَّ فلا يظهر كراهة في استقبالها، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لما سئل عن الصلاة أمام الدفايات، وهل تدخل في الصلاة أمام النار، فأجاب: "اختلف العلماء ورحمهم الله تعالى في الصلاة إلى النار: فمنهم من كرهها، ومنهم من لم يكرهها، والذين كرهوها عللوا ذلك بمشابهة عباد النار، والمعروف أن عبدة النار يعبدون النار ذات اللهب، أما ما ليس لها لهب فإن مقتضى التعليل أن لا تكره الصلاة إليها، ثم إن الناس في حاجة إلى هذه الدفايات في أيام الشتاء للتدفئة، فإن جعلوها خلفهم فاتت الفائدة منها أو قلَّتْ، وإن جعلوها عن أيمانهم أو شمائلهم لم ينتفع بها إلا القليل منهم، وهم الذي يلونها، فلم يبقَ إلا أن تكون أمامهم ليتم انتفاعهم بها، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم أن المكروه تبيحه الحاجة، ثم إن هذه الدفايات في الغالب لا تكون أمام الإمام، وإنما تكون أمام المأمومين وهذا يخفِّف أمرها؛ لأن الإمام هو القدوة؛ ولهذا كانت سترته سترة للمأموم، والله أعلم".

سادسا: ما يتعلق بصلاة الجماعة:

المسألة الأولى: حضور المُدخِّن صلاة الجماعة في المسجد.

المتقرر شرعا أن من أكل ثومًا أو بصلا أو كُرَّاتًا ونحوه، مما له رائحة كريهة أنه منهي عن حضور الجماعة في المسجد، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربَنَّ مسجدنا"، وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك هذا لأن هذا يؤذي، وإيذاء المسلم لا يجوز، وقد قـال الله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } الأحزاب-58.

وهذا مع كون هذه الثمار من المباحات، فالعبد لا يأثم بأكل الثوم أو البصل أو الكرات، ومع ذلك نهى الشارع الحكيم من أَكَل شيئا من هذا أن يقرب المسجد، وعليه فمن شرب الدخان كان أولى بالمنع منه، لكونه أقبح رائحة، مع كون الدخان من حيث أصل الحكم محرَّم في قول أكثر العلماء، لما يترتب عليه من ضرر متحقق لمن يتعاطاه، فقد قال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }النساء - 29، وقال تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } البقرة - 195، وهو من الخبائث أيضا، وقد حرم الله الخبائث بقوله: { وَيُحرِّم عَليْهِم الخَبَائِثَ } الأعراف ? 157، فيكون من شرب الدخان وأتى الجماعة فعل محظورين: الأول تناوُلُ المحرم، والثاني: إيذاءُ المسلمين.

المسألة الثانية: متابعة الإمام عبر وسائل الإعلام الموجودة المرئية والسمعية:

في كثير من الأحيان يسمع المسلم الصلاةَ، وهي منقولة على الهواء مباشرة من أحد المساجد، أو يمكنه رؤية ذلك عن طريق التلفاز، فهل يشرع له أن يصلي جماعة معهم في مثل هذه الأحوال؟

لقد وقع خلاف في هذه المسألة، غير أن الأرجح هو عدم جواز الصلاة على هذا النحو؛ وذلك أن الصلاة عبادة، والعبادات توقيفية، كما قال الله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } الشورى - 21، ولأن الجماعة وردت في الشرع على هيئة معينة، وهي الاجتماع بين الإمام والمأمومين في مكان واحد، وفي زمان واحد، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " لا صلاة لمنفرد خلف الصف " أخرجه ابن حبان، فإذا كان المنفرد خلف الصف لا تصح صلاته، فكيف بمن كان منفرداً عن الصف وعن الجماعة؟!

كما أن هذا يلزم منه تعطيل صلاة الجماعة، ويؤدي إلى أن يصلي الناس في بيوتهم، وماذا لو انقطع التيار الكهربائي؟! إلى غير ذلك من المفاسد، وأما ما نص عليه الفقهاء من جواز صلاة الجماعة في البيوت المجاورة للمسجد والقريبة منه، فإن هذا إنما يكون عند الحاجة، كما إذا امتلأ المسجد، وامتلأت الطرقات، واتصلت الصفوف، فالبيوت التي وصلتها الصفوف لا بأس أن يصلي أصحابها فيها.

المسألة الثالثة: متابعة المأموم للإمام إذا كان يسمعه عن طريق مكبرات الصوت:

في بعض الأحوال يتيسر للشخص أن يكون قريبا جدًّا من المسجد، بحيث يمكنه أن يستمع للإمام وقراءته، وربما رآه ورأى المصلين، وهذا يكثر في الفنادق المحيطة بالحرم المكي أو المدني، فما حكم الائتمام بإمام هذه المساجد في تلك الحال؟

هذه المسألة لا تخلو من صورتين:

الأولى: أن يكون الشخص جارا للمسجد، بيته ملاصقٌ له، وبين بيته، وبين المسجد منفذ، وهذا أمر قد يكون في العصر الحديث في غاية الندرة، لكن جمهور العلماء على صحة متابعة الإمام في هذه الحال، كما أنه لا تشترط الرؤية وإنما يكفي سماع الصوت، واشترط الحنابلة أن تكون هناك رؤية، فلابد أن يرى المصلِّي الإمامَ أو المأمومين، أو بعضَهم، ولو في بعض الصلاة.

والأقرب أن هذا جائز، ولا تشترط الرؤية أيضا، والدليل على ذلك: حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فإنها أتت عائشة رضي الله عنها حين خسفت الشمس، والناس يصلون قياماً، فإذا هي قائمة تصلي. أخرجه البخاري, وما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه أن عائشة رضي الله عنها كانت تصلي في بيتها بصلاة الإمام، وقد كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لها فتحات على المسجد.

الثانية: أن تكون هذه البيوت غير ملاصقة للمسجد، أو ملاصقة للمسجد، وليس بينها وبينه منفذ، فهل يصح لأصحاب هذه البيوت أو الفنادق أن يتابعوا فيها الإمام، وهم يسمعونه أو يرونه من الشرفات مثلا؟

في نحو هذه المسالة سئل شيخ الإسلام رحمه الله، فقد سئل عن الحوانيت المجاورة للجامع من أرباب الأسواق إذا اتصلت بهم الصفوف، فهل تجوز صلاة الجمعة في حوانيتهم؟

فقال رحمه الله:

"أما صلاة الجمعة وغيرها فعلى الناس أن يسدوا الأول فالأول كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف "، فليس لأحد أن يسد الصفوف المؤخرة مع خلو المقدمة، ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطيه، ويدخل لتكميل الصفوف المقدمة، فإن هذا لا حرمة له .. بل إذا امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد، فإذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة، فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، وكذلك من صلى في حانوته والطريق خال لم تصح صلاته، وليس له أن يقعد في الحانوت، وينتظر اتصال الصفوف به، بل عليه أن يذهب إلى المسجد فيسد الأول فالأول.

وقال رحمه الله: "إن اتصلت الصفوف فلا بأس بالصلاة لمن تأخر ولم يمكنه إلا ذلك، وأما إذا تعمد الرجل أن يقعد هناك، ويترك الدخول إلى المسجد كالذين يقعدون في الحوانيت، فهؤلاء مخطئون مخالفون للسنة". مجموع الفتاوى 23 / 409 - 411.

وهذا هو الصحيح في هذه المسألة: أن الصفوف إذا اتصلت فلأصحاب البيوت أو الذين في الفنادق أن يأتموا بهذا الإمام، وهذا بشرط عدم تعمُّد ترك الجماعة، أما إذا لم تتصل، أو اتصلت وقد تعمدوا ترك الجماعة، فإنه لا يصح؛ وذلك أن الجماعة لها هيئة شرعية، والأصل في العبادات التوقيف، وهيئتها الشرعية هي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، بالاجتماع في مكان واحد وزمان واحد، فإذا اتصلت الصفوف فإنها تأخذ حكم هذا المكان، فيصبح المكانان في حكم المكان الواحد، ففي هذه الحال لا بأس أن يصلوا في بيوتهم ويتابعوا الإمام، أما ماعدا ذلك فالصواب أن المتابعة لا تصح، وأما المرأة فيباح لها هذا مطلقا؛ لأنها غير مطالبة بالحضور إلى المسجد أصلا، لكن بشرط اتصال الصفوف، حتى تأخذ هذه الصورة حكم الجماعة.

المسألة الرابعة: تقدم المأمومين على المصلين:

في الآونة الأخيرة أصبح أعداد المصلين في المسجد الحرام أو المسجد النبوي كبيرا جدا، مما استدعى أن يصلي البعض متقدِّما على الإمام، وقد ذهب أبو حنيفة والشافعي في الجديد، وأحمد في المشهور عنه إلى أن صلاة المأموم متقدِّماً على إمامه باطلة بلا عذر، وسواء كانوا معه في نفس الدور أو أعلى أو أسفل، ولا يضرُّ التقدمُ اليسيرُ غيرُ المتعمد، وتصح الصلاة مع العذر على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ إذ الواجبات تسقط بالعجز، وترك التقدم على الإمام غايته أن يكون من الواجبات، وهذا في عموم المساجد.

أما المسجد الحرام، فقد نصَّ الفقهاء على أن التقدم على الإمام إذا كان في الجهة التي هو فيها فالصلاة باطلة، أما إذا كان في غير جهته، فالصلاة صحيحة، قال في كشاف القناع: "إذا استدار الصف حولها -أي الكعبة- فلا بأس بتقدم المأموم إذا كان في الجهة المقابلة للإمام -يعني في غير جهة الإمام- لأنه لا يتحقق تقدُّمُه عليه". ا.هـ، وقال أيضاً: "وقال في المبدع: فإن كان المأموم أقرب في جهته من الإمام في جهته جاز، فإن كان في جهة واحدة بطلت" ا.هـ.

سابعا: ما يتعلق بصلاة الجمعة:

المسألة الأولى: الحديث أثناء خطبة الجمعة من قِبَل القائمين على المسجد:

مما استقر في الشرع الإسلامي الحنيف وجوب استماع خطبة الجمعة، وتحريم الكلام أثناءها، حتى جاء وعيد في الكلام أثناءها، إلا ما كان لمصلحة المسلمين، أو مصلحة الصلاة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت "، وعند أحمد وأبي داود: " ومن لغا فليس له جمعة ".

كما ورد بعض النصوص الدالة على جواز تكلم الإمام مع المأموم أثناء الخطبة، من ذلك حديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه في الاستسقاء، وفيه أن الرجل تكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هلكت الأموال وانقطعت السبل وجاع العيال فادْعُ اللهَ أن يغيثنا" فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.. الحديث "، وكذلك أنكر عمرُ على عثمان رضي الله عنهما تركَ الغسل يوم الجمعة، وغيره.

وعليه فالصحيح أن الحديث بين المصلين لا يجوز، ويجوز مع الإمام، غير أنه لما كانت المصلحة كبيرة في حديث العمال بعضهم لبعض في المساجد الكبار، كالمسجد النبوي والمسجد الحرام، أجاز العلماء هذا الحديث لما يترتب عليه من مصلحة، وبه صدرت فتوى اللجنة الدائمة، فقد أفتوا القائمين بالمسجد الحرام الذين يرتِّبون الناس وينظمونهم ويمنعونهم من الجلوس بالممرات .. إلخ بأن عملهم هذا جائز لعِظَم المصلحة، أما ماعدا ذلك في بقية المساجد فالأصل في ذلك أنهم يستمعون ويتركون عملهم.

المسألة الثانية: العمل أثناء الخطبة كنقلها، أو إصلاح مكبرات الصوت، أو إصلاح أجهزة التسجيل:

الحكم في العمل أثناء الخطبة أخفُّ منه في الحديث والتكلُّم؛ إذ لا يمنعه عمله من أن يستمع إلى الخطبة، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن سليك الغطفاني رضي الله عنه لما دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال لـه الرسول صلى الله عليه وسلم: أصليت ركعتين؟ قال: لا, قال: قم فصل ركعتين". فكونه يصلي ركعتين أثناء الخطبة فهذا عمل.

كما نصَّ الفقهاء على أن من رأى منكراً أثناء الخطبة فله أن يشير إلى صاحب المنكر أن ينتهي عن منكره، وأيضاً أجازوا الشرب أثناء الخطبة، وأن من لحقه نعاسٌ فإن له أن يتحول من مكان إلى مكان، وله أن يستاك إذا احتاج إليه لطرد النعاس.

وبناء عليه فإنه لا بأس بالعمل على إصلاح مكبرات الصوت أثناء الخطبة، أو التسجيل لنقل الخطبة، أو فرش الحصر والفرشات ونحوه من الأعمال.

المسألة الثالثة: ترجمة الخطبة بعد الصلاة لمن لا يتكلم بالعربية:

اختلف أهل العلم في اشتراط كون الخطبة بالعربية أم لا، فذهب المالكية والشافعية إلى اشتراط كونها بالعربية، وذهب الحنفية إلى أنها تصح بكل لغة، وفصَّل الحنابلة في ذلك، فاشترطوا أن تكون بالعربية، إلا مع العجز، فيجوز أن تكون بغير العربية، ولعل الأقرب في هذه المسألة التفصيل الآتي:

ففي الحال التي لا يفهم فيها المستمعون اللغة العربية، فإن الخطبة تكون بلغتهم، عملا بقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } إبراهيم - 4، فإن جاز هذا في أصل الرسالة، ففي فروعها من باب أولى.

وفي الحال التي يفهم فيها المستمعون العربية، مع وجود البعض ممن لا يفهم العربية، فالواجب أن تكون الخطبة بالعربية، وتترجم الخطبة لغير العرب، سواء في أوراق تعطى لهم أثناء الخطبة، أو عن طريق سماعات، أو يقوم أحدهم بترجمتها بعد الصلاة، ولا يضر ذلك إذن؛ حيث الحاجة تقتضيه، إذ المقصود من الخطبة نفع المسلمين، ولا يحصل لهم هذا المقصود إلا بمثل هذا الطريق.

ثامنا: ما يتعلق بالأذان:

المسألة الأولى: الأذان عن طريق المسجل أو الإذاعة ومتابعته:


يأتي في هذا الصدد مسألتان:

الأولى: هل يمكن الاكتفاء بالأذان عن طريق التسجيل أو الإذاعة؟ الصحيح في هذه المسألة أنه لا يكتفى بالأذان عن طريق الإذاعة أو التسجيل في المساجد، وأن المشروع أن يُؤدَّى الأذان بالصيغة الشرعية المعروفة، مع نية المؤذن والنطق الصحيح بألفاظ الأذان، وذلك أن الأذان عبادة، والعبادات توقيفية، فيجب الوقوف فيها عند ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الأذان على النحو المعهود، أما التسجيل أو الإذاعة، فهذا إنما هو حكاية صوت المؤذن، والذي قد يكون متوفِّيًا في كثير من الأحيان، كما أن هذا المسجل يفوِّت كثيراً من سنن الأذان وآدابه وأحكامه؛ كالنية والالتفات يميناً وشمالاً، والطهارة، واستقبال القبلة .. إلخ؛ فلهذا فإن الأذان من هذا المسجل أو الإذاعة غير صحيح، ولا يسقط به فرض الكفاية، ولا يجزئ، ولا تترتب عليه أحكام الأذان.

الثانية: في حال ما إذا أُعلن الأذان عبر الإذاعة، للإعلام بدخول الوقت، كما هو الحال في كثير من بلاد المسلمين، فهل تُشرع متابعته؟ الأذان في هذه الحال إما أن يكون على الهواء مباشرةً من أحد المساجد، فتشرع حينئذ متابعته؛ لأنه متابعةٌ لمؤذِّنٍ بالفعل، ولا بأس بتكرار المتابعة عند سماع أكثر من مؤذن، وفي أكثر من بلد.

وإما أن يكون مُسجَّلا قديما، فلا يشرع على الأرجح متابعته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهذا ليس مؤذِّنا، إنما هو حكاية صوته المحفوظ.

المسألة الثانية: التفات المؤذن أثناء الأذان في مكبرات الصوت:

الثابت من فعل بلال رضي الله عنه مؤذِّنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الالتفات يمينا وشمالا في الأذان، فعن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه رأى بلالا رضي الله عنه يؤذن، قال: "فجعلت أتتبع فاه هاهنا يميناً وشمالاً، حي على الصلاة، حي على الفلاح"رواه مسلم.

لكن هذا الفعل إنما شرع من أجل إيصال الصوت إلى الناس، لمن يؤذن من فوق المنارة، فيسمع من عن يمينه، وعن يساره، أما مع الميكروفون، فإن السماعات توضع بحيث توزع الصوت يمينا وشمالا، فلا يظهر فائدة من التفات المؤذن عن اليمين والشمال، بل إن هذا يؤدي إلى إضعاف الصوت، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " تنبيه: الحكمة من الالتفات يمينا وشمالا إبلاغ المدعوين من على اليمين وعلى الشمال، وبناء على ذلك لا يلتفت من أذَّن بمكبر الصوت؛ لأن الإسماع يكون من السماعات التي في المنارة؛ ولو التفت لضعف الصوت؛ لأنه ينحرف عن الآخذة " الشرح الممتع" (2/ 60).

وقال رحمه الله : " فالذي أرى في مسألة مكبر الصوت الآن أنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، لا في حي على الصلاة، ولا في حي على الفلاح، ويكون الالتفات الآن بالنسبة للسماعات، فينبغي أنه يجعل مثلاً في المنارة سماعة على اليمين وسماعة على الشمال " انتهى من اللقاء المفتوح (155/ 17).





تاسعا: ما يتعلق بالمسجد:

البناء فوق المسجد:

اختلف أهل العلم في البناء فوق المسجد، فمنهم من منعه مطلقا، ومنهم من اعتبره مكروها، لما يقع فيه من جماعٍ ونومٍ وأكلٍ وشربٍ وتغوُّطٍ وتبوُّلٍ ونحوه، كما جاء في كتب الحنفية، قال الحصفكي: "( و ) كره تحريما ( الوطء فوقه , والبول والتغوط ) لأنه مسجد إلى عنان السماء". أهـ، ومنهم من أجازه مطلقا للحاجة ولغير الحاجة، ومن أهل العلم من أجاز البناء أسفله، دون أعلاه.

والأرجح في هذا أنه إذا أُنشئ المسجد مستقلا كان سقفه وما علاه تابعا له، جاريا عليه حكمه، بناء على القاعدة المتقررة شرعا من كون الهواء تابعا للقرار، فلا يجوز بناء سكن أو مستشفى ونحوه عليه، أما إذا كان المسجد طارئا على المسكن، كما ما لو بنى شخص منزلا ذا طوابق، وجعل أحد هذه الطوابق مسجدا، ففي هذه الحال يجوز، ولم يكن ما فوقه تابعا له، وهذا ما صدرت به فتوى اللجنة الدائمة، واختاره الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله.


والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه:د. محمد بن موسى الدالي