المتخرجون من مدرسة رمضان


أ. د. علي بن إبراهيم النملة







لعل اليوم/ السبت/ يوافق احتفال المسلمين بعيد الفطر المبارك، إن لم يكن الاحتفال بالأمس الجمعة، وكان المسلمون قد أمضوا شهرًا كاملًا في مدرسة رمضان؛ حيث الدروس المكثفة/ وموادها: صيام، قيام، قرآن، زكاة، صدقة، تربية النفس، قهر الذات... إلى غير ذلكم من المواد، والحق أن البعض قد تخرج من هذه المدرسة الوحيدة التي يرغب الناس التخرج منها دون تعثر أو إظهار التفوق، وإنما يظهر التفوق عندما تظهر النتائج النهائية وكشوف العلامات، وهذه تتأخر نوعًا ما، والبعض يخرج من مدرسة رمضان وهو يكن في نفسه شيئًا من الرضا عندما يحاسبها، فيجد أنه قد ختم قراءة القرآن الكريم، وتصدق في أكثر من موضع، وحفظ جوارحه كلها من الانزلاق هنا وهناك، واقتصد في أكله، وأكثر من القيام، ومع هذا كله فلم تتعطل مسؤولياته المعتادة؛ كالعمل أو الدراسة، أو البحث عن رزق الله.

ومع هذا الشعور بالرضا إلا أن النفس تتطلع إلى المزيد؛ فالمسلمون بعد الخروج من رمضان المبارك يدعون ربهم ستة أشهر القبول، ثم يدعون ربهم الستة الأخرى أن يبلغهم رمضان القادم؛ ليعملوا بمواده أكثر مما عملوا في رمضان المنصرم، فرمضان المدرسة الوحيدة التي يرتادها المسلمون كل عام، ويتخرجون منها كل عام، ولكنهم يعودون إليها - إن بقُوا - في العام القادم يدرسون المواد ذاتها بشكل مكثف أكثر مما كان عليه.

ورغم أن حفلة التخرج تكون ذات بهجة يفرح فيها الكبير والصغير في يوم عيد يأكل فيه الناس ويشربون، فإنه يشوب هذه البهجة والفرحة شيء من الحزن على وداع هذا الشهر المدرسة؛ ولذا تجد البعض يصر على إتباع هذا الشهر بستة من شوال وكأنه في قرارة نفسه يتمنى أن صام الدهر كله في نهاره، وقام الدهر كله في ليله، ولكنها الحكمة التي تحجم الإنسان عن الغلو في مثل هذه العبادات الموقوفة بأحكامها، والحكمة تجعل لهذا الراغب في الصيام مجالات يواصل بها التردد على هذه المدرسة؛ كالأيام البِيض، وأيام الاثنين والخميس، وصيام يوم عاشوراء من محرم الحرام ويوم قبله أو بعده، وصيام يوم عرفة لغير الحاج، وهكذا يظل الراغب على صلة ودية - غير إلزامية - بالمدرسة الرمضانية.

شيء جميل حقًّا أن تكون مواد مدرسة رمضان تدرس في كل مكان في بلاد المسلمين وغير بلاد المسلمين؛ حيث الأقليات والجاليات المسلمة، والجميل أن مدرسة رمضان في بلاد غير المسلمين واضحة على الوجوه والقسمات، وقَل أن تجد من المسلمين في هذه البلاد من لم ينخرط في المدرسة، ولكن هذا القليل مزعج حقًّا، ليس للمسلمين فحسب، ولكن لغير المسلمين الذين يدركون أن كل مسلم لا بد أن يحضر دروس رمضان، فتراهم يستغربون عندما يجدون فردًا أو أفرادًا قد تخلفوا عن هذه المدرسة، وكان طالب من الطلبة المسلمين يحمل كوبًا من القهوة في نهار رمضان، فيقابله أستاذه غير المسلم ويسأله باستنكار: ما هذا يا فلان؟ فيقول الطالب: لقد أكثرت من شرب الشاي فآثرت أن أشرب القهوة! فيرد أستاذه: ما عن هذا سألت يا هذا؟ ألست مسلمًا؟ فلا يملك الطالب إلا أن يجيب بالإيجاب، ومشروع قطرات من عرق الإحراج يبدأ يأخذ طريقه على جبهته، إذًا لِمَ أنت مفطر ما دمت مسلمًا؟ يسأله أستاذه، فيسقط في يده، ولا يكاد يحرر جوابًا، وكان يظن أن أستاذه سيشجعه على الإفطار وترك الصيام لأولئكم - المحافظين - وتكون النتيجة أن يرمي هذا الشاب كوب القهوة ويعود في اليوم التالي وقد عاهد النفس على الرجوع إلى الله صيامًا وقيامًا وصلاة وتزكية نفس، فيدخل مدرسة رمضان من أوسع أبوابها بعد أن اهتز قليلًا.

وفي هذا دلالة على أن مدرسة رمضان لم تؤثر في المسلمين فحسب، بل إن غيرهم كان لهم نصيب من هذا التأثر، وكم كانت مدرسة رمضان سبيلًا من السبل التي انتهت بالآخرين إلى أن يسجلوا في موادها بداية انطلاقة نحو الهداية والوصول إلى الطريق الصواب، وإن لم يصل الأمر إلى هذا، فكفى أن يحترم الآخرون هذه المدرسة وموادها وأن يتوقعوا من طلبتها الاستقامة والاعتدال والإخلاص مع النفس ومع الآخرين ما داموا قد أخلصوا في هذه المدرسة لله تعالى،ويذكر جيل لا يزال أفراده موجودين أن مديرًا لمشروع من المشروعات الميدانية لم يكن مسلمًا، ويشرف على عاملين مسلمين، علم بقدوم رمضان المبارك وكان الوقت حرًّا، فجمع عماله وتحدث إليهم عن أهمية المشروع، وأنه لا ينبغي أن يعترض العمل به أية عوامل تعيق تقدمه، وما دام رمضان قادمًا فإنه يتوقع أن يعوق رمضان سير العمل؛ ولذا فإنه يدعو إلى إفطار عماله، ولا يملك إجبارهم على الإفطار، ولكنه سيجزل المثوبة للمفطرين مع نهاية عمل كل يوم، فتبادل العاملون النظرات، وأسقط في يد البعض منهم، ولكن البعض الآخر كان مصممًا على الانخراط في المدرسة مهما قلت مثوبة رئيس المشروع.

وبعد استراحة نصف الدوام جمع رئيس المشروع عامليه، وطلب من الصائمين أن يصطفوا عن يمينه، ومن المفطرين أن يصطفوا عن شماله، ولم يكن يتوقع أن يصطف عن شماله أحد، ولكنه وجد بعضًا منهم من أولئكم الذين آثروا مثوبة الرئيس على مثوبة رب الرئيس، وما كان من الرئيس إلا أن شكر الصائمين على إصرارهم على متطلبات دينهم، والتفت إلى المفطرين وطلب منهم مغادرة المشروع مطرودين، مؤكدًا لهم أنهم ما داموا غير مخلصين مع ربهم، فلن يكونوا بعد هذا مخلصين مع أحد من العاملين، وكانت المضاعفة في المكافأة قد ذهبت إلى أولئكم الصائمين، وهذا درس آخر من دروس رمضان تخرج منه أناس، وأخفق فيه آخرون، درس جاء من طريق غير مباشر من أولئكم الذين يتمنون أن يستفيدوا أكثر من مدرسة رمضان، ولكن تحول دون ذلك عوامل خارجية أخرى.

ولعل من مواد مدرسة رمضان تلكم المادة المكثفة المتوقعة في ليلة السابع والعشرين من رمضان حينما يجتمع المسلمون في المساجد والجوامع يترقبون أن يكون لهم نصيب من النجاح في هذه الليلة، وفي الحرمين الشريفين يجتمع أكثر من مليوني مسلم في وقت واحد وبنظام واحد وخلف إمام واحد،مشهد رائع وعجيب لا يملك من يشهده من قريب أو بعيد إلا أن يذرف تلكم الدمعة النادرة التي توحي بقوة العلاقة بمن جمع هؤلاء جميعًا في مكان واحد، تلكم الدمعة التي تتطلع إلى أن يجتمع أكثر من هؤلاء بحيث يصل العدد إلى البليون/ المليار تحت قيادة إمام واحد، فالقادر على جمع هذين المليونين وراء إمام واحد قادر على جمع المليار وراء إمام واحد.


وهنالكم مجموعة أخرى من الدروس والمواد في هذه المدرسة الفريدة، والسعيد من سجل بأكبر قدر من مواد هذه المدرسة وأعطاها حقها من العمل، وترك هم الإجابة، وفوض الأمر للمجيب، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "إنه كان يحمل همَّ الدعاء، ولم يكن يحمل همَّ الإجابة"، جعلنا الله وإياكم من المقبولين، وكان الله في عون الجميع.