تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(169)
الحلقة (183)
صــ 540إلى صــ 546
وهذا خبر من الله - جل وعز - عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - [ ص: 540 ] مكذبهم هو والسماوات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة ، وذلك أن الله - جل ثناؤه - أخبر عن جميعهم ، بطاعتهم إياه ، وإقرارهم له بالعبودية ، عقيب قوله : ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) ، فدل ذلك على صحة ما قلنا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( بديع السماوات والأرض )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( بديع السماوات والأرض ) ، مبدعها .
وإنما هو "مفعل" صرف إلى "فعيل" كما صرف "المؤلم" إلى "أليم" ، و"المسمع" إلى "سميع" . ومعنى"المبدع" : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ، ولذلك سمي المبتدع في الدين "مبتدعا" ، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره . وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا ، ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة ، في مدح هوذة بن علي الحنفي :
يرعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم ، أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
فأيها الغاشي القذاف الأتيعا إن كنت لله التقي الأطوعا
فليس وجه الحق أن تبدعا
يعني : أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه . [ ص: 541 ]
فمعنى الكلام : سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السماوات والأرض ، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة ، وهو بارئها وخالقها ، وموجدها من غير أصل ، ولا مثال احتذاها عليه؟
وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - عباده ، أن مما يشهد له بذلك : المسيح ، الذي أضافوا إلى الله - جل ثناؤه - بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1858 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول : ابتدع خلقها ، ولم يشركه في خلقها أحد .
1859 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول : ابتدعها فخلقها ، ولم يخلق قبلها شيء فيتمثل به .
[ ص: 542 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 117 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وإذا قضى أمرا ) ، وإذا أحكم أمرا وحتمه .
وأصل كل "قضاء أمر" الإحكام ، والفراغ منه ، ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس : "القاضي" بينهم ، لفصله القضاء بين الخصوم ، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به . ومنه قيل للميت : "قد قضى" ، يراد به قد فرغ من الدنيا ، وفصل منها . ومنه قيل : "ما ينقضي عجبي من فلان" ، يراد : ما ينقطع . ومنه قيل : "تقضى النهار" ، إذا انصرم ، ومنه قول الله عز وجل : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ سورة الإسراء : 23 ] أي : فصل الحكم فيه بين عباده ، بأمره إياهم بذلك ، وكذلك قوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) [ سورة الإسراء : 4 ] ، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به ، ففرغنا إليهم منه . ومنه قول أبي ذؤيب :
وعليهما مسرودتان ، قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
[ ص: 543 ]
ويروى :
وتعاورا مسرودتين قضاهما
ويعني بقوله : "قضاهما" ، أحكمهما . ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق
ويروى : "بوائج" . [ ص: 544 ]
وأما قوله : ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، فإنه يعني بذلك : وإذا أحكم أمرا فحتمه ، فإنما يقول لذلك الأمر "كن" ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه : "كن"؟ أفي حال عدمه ، وتلك حال لا يجوز فيها أمره ، إذ كان محالا أن يأمر إلا المأمور ، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر ، ; وكما محال الأمر من غير آمر ، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور ، أم يقول له ذلك في حال وجوده ؟ وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث ، لأنه حادث موجود ، ولا يقال للموجود : "كن موجودا" إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟
قيل : قد تنازع المتأولون في معنى ذلك ، ونحن مخبرون بما قالوا فيه ، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك :
قال بعضهم : ذلك خبر من الله - جل ثناؤه - عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه [ ص: 545 ] قضاؤه ، ومضى فيه أمره ، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين ، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك ، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم ، وكالذي خسف به وبداره الأرض ، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه .
فوجه قائلو هذا القول قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، إلى الخصوص دون العموم .
وقال آخرون : بل الآية عام ظاهرها ، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها . وقال : إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه ، فلما كان ذلك كذلك ، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها ، نظائر التي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : "كوني" ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم .
وقال آخرون : بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم ، فتأويلها الخصوص؛ لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور ، على ما وصفت قبل . قالوا : وإذ كان ذلك كذلك ، فالآية تأويلها : وإذا قضى أمرا من إحياء ميت ، أو إماتة حي ، ونحو ذلك ، فإنما يقول لحي : "كن ميتا ، أو لميت : كن حيا" ، وما أشبه ذلك من الأمر .
وقال آخرون : بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه ، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه ، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة ، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي - . وقالوا : إنما قول الله عز وجل : ( السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل : "قال فلان برأسه" و"قال بيده" ، إذا حرك رأسه ، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا ، وكما قال أبو النجم :
وقالت الأنساع للبطن الحق الحق قدما فآضت كالفنيق المحنق
ولا قول هنالك ، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن . وكما قال عمرو بن حممة الدوسي :
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له : قع
ولا قول هناك ، وإنما معناه : إذا رام طيرانا وقع ، وكما قال الآخر :
امتلأ الحوض وقال : قطني سلا رويدا ، قد ملأت بطني