الكتابة باللغة العربيّة بَين الواقع وَالطمُوح
سَمر روحي الفيصَل
أ ـ إعداد الكاتب:
نقصد بإعداد الكاتب تدريبه على أسرار حرفة الكتابة وأساليبها، بغية صقل موهبته ومساعدتها على الإنتاج الإبداعي الأصيل. وهذا يعني أن الإعداد لا يخلق الموهبة لدى فاقدها، لأن هذه الموهبة استعداد فطري وليست أمراً مكتسباً. وما الإعداد إلا تعريف الموهوب بطبيعة الكتابة، وتدريبه على أسرارها وأساليبها، وغرس مهاراتها فيه. أي أن الإعداد هو إكساب الكاتب مهارات صناعة الكتابة بعد توافر الموهبة لديه. ومسوّغ الاهتمام بإعداد الكاتب ماهو معروف من أن الموهبة لا تكفي وحدها لإنتاج الكتابة الإبداعية، إضافة إلى أنها قابلة للتفتح والنمو إذا بزغت في بيئة مواتية، وللضمور والموت إذا لم يكن في البيئة ما يساعدها على الحياة. ولهذا السبب تُعنى الأمم بالكشف عن الموهوبين في المدارس الثانوية والجامعات، وتصطنع الأساليب لتدريبهم بغية الإفادة من إنتاجهم، وهي ـ في ذلك ـ تنطلق من أن الموهوب يختلف عن المبدع. فالموهوب هو الذي يملك قدرة عقلية عالية، في حين يتّسم المبدع بالإنجاز الجديد الأصيل، لكنها ترعى الموهوب ليصبح مبدعاً، لأنها تنظر إلى المستقبل في أثناء تعاملها مع الموهوبين في حين تنظر إلى الماضي في أثناء تعاملها مع المبدعين، وكأنها ـ في حال الموهوبين ـ تضع الإعداد والرعاية والتوجيه نصب أعينها كي تتمكن من الإفادة منهم في المستقبل (18). وغير خاف على أحد أن "معهد غوركي للآداب" يؤدي هذه المهمة في الاتحاد السوفييتي. فهو يقبل الموهوبين ويُعدّهم طوال سنوات ليكونوا أعضاء في اتحاد الكتاب السوفييت. وتلجأ أمم أخرى إلى تخصيص أمكنة لممارسة الهوايات والنشاطات يتوافر فيها مشرفون مؤهلون لاكتشاف المواهب ورعايتها وتوجيهها.
تلك حال إعداد الكاتب لدى الأمم الأجنبية، وهي حال نرنو إليها في الوطن العربي، ذلك أن آلاف المواهب وئدت لدينا لفقدان الرعاية والتوجيه، وغالبت مواهب أخرى الصعاب فنجحت في الوصول إلى مستوى إبداعي هزيل أو متوسط أو جيد بحسب قدرتها الذاتية والإمكانات الفردية لمن يحيطون بها. ولا تكفي هنا، الدعوة إلى الاهتمام بالموهبة، ولا حضّ المسؤولين على افتتاح المعاهد القادرة على اكتشاف الموهوبين ورعايتهم وغرس مهارات الكتابة فيهم، لأن القضية ليست قضية افتتاح معاهد لإعداد الكُتّاب، ولا قضية إيمان بأثر الموهوبين في المجتمع العربي، وإنما هي قضية موقفنا من اللغة العربية الفصيحة، وهو موقف ينم عن أننا لا نحترم هذه اللغة وإن كنا نُكثر من التغني اللفظي بها. والميدان التربوي خير مثال على النيات الطيبة التي تكمن وراء تغنينا اللفظي باللغة العربية، وإخفاقنا في ترجمتها إلى سلوك لغوي إيجابي.
أين الخطأ التربوي المفضي إلى إهمال إعداد الكاتب؟ يخيل إليَّ أن هناك خطأ في تدريس اللغة العربية، وآخر في فهم علاقة العلوم والفنون باللغة العربية. أما خطأ التدريس فكامن في الاتجاه إلى تزويد الطالب بالمعارف اللغوية والأدبية، وإهمال تدريبه على المهارات الخاصة بالكتابة. وقد نتجت عن ذلك مشكلة "التعبير الإبداعي"، تلك المشكلة التي شغلت المعنيين بتدريس اللغة العربية من معلمين ومدرسين ومؤلفين دون أن يعثروا على حل ناجع لها، حتى إن الدراسات العلمية "أظهرت بجلاء أن أكثر من نصف المعلمين يرون أن درس الإنشاء ثقيل على النفس وممل"(19)، بل إن المعلمين التقوا طلابهم في هذا الأمر، إذ أن الطلاب عدوا "الكتابة من أقل المهارات اللغوية أهمية، وأن أكثر من ثلثهم يشعرون بأن درس الإنشاء ممل وثقيل عليهم"(20)، على الرغم من أن إقرار المعلمين والطلاب معاً بأهمية التعبير في تحصيل المواد الدراسية. والحق أن نتائج هذه الدراسة دقيقة في دلالتها على واقع التعبير الإبداعي لدى المعلمين والطلاب العرب. فهم يشعرون بأنه "ثقيل ممل"، لأنهم لا يملكون المهارات التي يتحلى بها الكاتب، ولا يعرفون الأساليب التي تفضي إليها، ولهذا السبب يهربون من التعبير، وهو فرع غير مقنن، إلى فروع اللغة الأخرى، وهي فروع مقننة سواء أكان الفرع نحواً أم قراءة أم أدباً، إنهم يلجؤون إلى المعارف لأنهم اعتادوا التعامل معها، ويهربون من التعبير لأنه مهارات مركبة متنوعة. وقد سلكتُ المعلمين والطلاب في سلك واحد لأن الخطأ في تدريس اللغة العربية يشملهم جميعاً. فالمعلمون في أثناء إعدادهم التربوي لم يتلقوا شيئاً يعينهم على إعداد الطالب الكاتب، وحين تسنموا أمور تدريس هذه المادة اضطروا إلى تدريس شيء يفتقرون إلى مهاراته، فبدا الأمر "ثقيلاً مملاً"، بالنسبة إليهم، وإلى طلابهم الذين لم يفيدوا منهم.
وليس في المكتبة العربية ما يعين هؤلاء المعلمين والطلاب على تذليل هذه العقبة، فالكتب الاختصاصية بطرائق تدريس اللغة العربية تُفرد صفحات مطولة لتعليم التعبير الإبداعي وتصحيح موضوعاته، لكنها لاتهتم بإعداد الطالب الكاتب، وكأنها تفترض أن المعلم يتقن المهارات الضرورية للتعبير الإبداعي، وأن سلوك الطالب سيتحلى بها إذا التفت المعلم إلى تصحيح الموضوعات. أما الشيء الواجب تصحيحه في هذه الموضوعات فأمر لا تلتفت إليه ولا تُعنى به. كذلك الأمر بالنسبة إلى الكتب التي تصدت لتعليم الكتابة. فهي نادرة في المكتبة العربية، ولو أنعمنا النظر فيها لما خرجنا بشيء يخدم هدفنا. فكتاب "صناعة الكتابة"(12)، يطرح مفهوماً سليماً للكتابة الإبداعية، لكنه يكتفي في أثناء تجسيد هذا المفهوم بمجموعة من المعارف العروضية والبلاغية، وكأنه كتاب في العروض والبلاغة وليس كتاباً في صناعة الكتابة.
إن الخطأ في تدريس اللغة العربية هو المسؤول عن التردي في إعداد الطالب الكاتب والمعلم المربي، وهو نفسه المسؤول عن القصور في الكتب الخاصة بطرائق تعليم اللغة العربية وبصناعة الكتابة الإبداعية. وقد حددنا هذا الخطأ في الاتجاه إلى تزويد الطالب بالمعارف اللغوية والأدبية، وإهمال تدريبه على المهارات الخاصة بالكتابة. ونود هنا تقديم أمثلة توضح هذا الخطأ بغية تلافيه، انطلاقاً من أن هذا التوضيح يشير إلى بعض مهارات الكتابة الإبداعية ويقترح حلاً مقبولاً لمشكلة "التعبير الإبداعي" في المدارس والمعاهد والجامعات، ويسهم في اكتشاف الطالب الموهوب.
*مثال من النحو:
يلتفت المعلمون في أثناء تعليم النحو إلى تزويد الطالب بالمعارف النحوية، فيقولون في درس الفاعل ان "الولد" فاعل في الجملة الآتية: "نام الولد على السرير"، لأنه القائم بالفعل. ويقولون أيضاً ان هذا الفاعل يأتي بعد الفعل، فإذا تقدم عليه أصبح مبتدأ: "الولد نام على السرير"، وما قاله المعلمون صحيح، ضروري لمعارف الطالب النحوية، لكنه غير كاف إذا انطلقنا من أن الهدف من تعليم النحو هو تدريب الطالب على اكتساب مهارات صوغ الجملة العربية. وهذا الاكتساب يحتاج إلى "علم النحو الوظيفي"، الذي يطرح السؤال الآتي: لِمَ قُدّم "الولد" في الجملة الثانية على الفعل؟ لقد قُدّ م "الولد" على الفعل لأن الكاتب أراد تنبيه القارئ على الفاعل. ولو رغب في تنبيه هذا القارئ على المكان لقدّم "على السرير": "على السرير نام الولد"، وهذا التحليل المستند إلى علم النحو الوظيفي يضع أمام الطالب الطرق الممكنة لصوغ الجملة العربية، ويتيح له فرص اختيار أكثرها قدرة على التأثير في القارئ. ولاشك في أن تحليل المستوى التركيبي سيرسخ في الطالب الموهوب قاعدة مهمة، هي "أن لكل تعبير في اللغة وظيفة يؤديها، وأن أي اختلاف في التعبير، على أي مستوى، أكان مستوى لفظياً أم متعلقاً بالتأخير والتقديم في أجزائه أو بالحذف أو بالزيادة، سيؤدي بطبيعة الحال إلى تعديل أو تغير في وظيفته. ودرجة إحاطة الطالب بالعلاقة الوثيقة بين التعبير والوظيفة لها أكبر الأثر في أسلوبه الكتابي أو الخطابي"(22).
*مثال من البلاغة:
النقص الذي أشرنا إليه في المثال السابق هو إهمال تحليل المستوى التركيبي للجملة استناداً إلى علم النحو الوظيفي، وقد يُرَدّ على هذا النقص بأن الدراسات الأسلوبية الحديثة لم تدخل مدارسنا وجامعاتنا بعد، ولا وجه للوم المعلمين إذا أهملوا الإفادة منها في تدريب الطالب على مهارات الكتابة. وهذا الرد مقبول لكنه غير مقنع لسببين: أولهما أننا نسوّغ إهمالنا البحث عن الوسائل الكفيلة بخدمة لغتنا العربية بجهلنا الدراسات اللغوية الحديثة التي قدمت علم النحو الوظيفي وأمثاله. ومسوّغ "الجهل" غير مقنع، ولو سلمنا به لما أمكننا التسليم بجهلنا التراث اللغوي العربي الذي قدم نظرية تفضي إلى علم النحو الوظيفي، هي نظرية النظم لدى عبد القاهر الجرجاني. وثانيهما أن لدينا علماً بين علوم البلاغة العربية، هو علم المعاني، انصرف إلى الجملة وأجزائها، ولاحق قضايا التقديم والتأخير. ومن ثمَّ كان المعلم قادراً على سد النقص في الدرس النحوي التقليدي بالاستعانة بعلم المعاني في تحليل تقديم كلمة على أخرى في الجملة المذكورة في المثال السابق وفي غيرها من الجمل، كقولنا: "يأكل التفاحة"، و"هو يأكل التفاحة"، فتقديم الضمير "هو" (المسند إليه)، في الجملة الثانية ذو غرض بلاغي هو تقوية الحكم وتقريره، لأنك لا تريد من الجملة الثانية أن غيره لا يأكل التفاحة، ولا أن تعرض بإنسان آخر يأكل التفاحة، وإنما تريد أن تقرر في ذهن السامع أنه هو نفسه يأكل التفاحة، وفي ذلك نوع من الإعلام بعد التنبيه كما نص عبد القاهر الجرجاني.
*مثال من الأدب:
إن شعور المعلمين بثقل التعبير الإبداعي نابع من أنهم يفتقرون إلى المهارات التي تمكنهم من الحكم الكلي على موضوعات الطلاب. والظن أن التعليم الذي تلقاه هؤلاء المعلمون قادهم إلى التوقف عند الألفاظ والجمل، والعزوف عن الحكم على النص. وهم يشعرون في قرارة نفوسهم أن حكمهم على الألفاظ والجمل وحدها لا يقيس قدرة الطالب الكتابية، ولا يعين الموهوب منهم على تغذية موهبته في الكتابة. بيد أنهم لا يملكون غير المعارف التي تؤهلهم للحكم على صحة الألفاظ استناداً إلى قواعد الإملاء والصرف، كما أنهم لا يملكون غير المعارف التي يحكمون بوساطتها على الجملة استناداً إلى قواعد النحو. تلك هي الحدود التي يقفون عندها استناداً إلى ما يملكون. وهذه الحدود تدل على النقص في تدريس اللغة العربية، ذلك النقص الماثل في إهمال "الأسلوبية" التي تُعين المعلم على تقديم حكم شامل على الكتابة الإبداعية التي يقدمها الطالب، سواء أكانت شعراً أم قصة أم مقالة أم مسرحية.... فالمعلم يُدرّس طلابه "الضمير" و"الروابط" في النحو، لكنه يجهل أن الأسلوبية تفيد من الضمير والروابط في الحكم الكلي على النص، كما تفيد من المهارات التي رسختها الأجناس الأدبية في الحكم على النصوص الإبداعية. وقد لاحظ مفيق دوشق بعد دراسته مائة مقالة كتبها طلاب جامعيون في اختصاصات مختلفة أن هناك غموضاً في وظيفة "الفِقَر"، في المقالة، وفي فلسفة وجودها واستعمالها، وفي تقسيم المقالة إلى مقدمة ومتن وخاتمة، إضافة إلى ضعف الترابط المنطقي والسياقي، وتدني القدرة على الإقناع والتأثير.
إن الأمثلة الثلاثة السابقة إشارات موجزة إلى تعديل الخطأ في الاتجاه السائد في تدريس اللغة العربية. غير أن نجاحنا في تلافي هذا الخطأ لا يعني القضاء على الخطأ التربوي المفضي إلى إهمال إعداد الكاتب. ذلك أن هناك خطأ آخر لا يقل أهمية عن سابقه، هو الفهم السائد لعلاقة العلوم والفنون باللغة العربية. وهذا الخطأ نابع من أننا نعتقد أن إعداد الكاتب مهمة مادة اللغة العربية ليس غير، وكل تقصير في هذا الإعداد يُعزى إلى هذه المادة دون غيرها. وقد نتجت عن هذا الاعتقاد مشكلة خطيرة، وهي تنصُّل مدرّسي العلوم والفنون من المسؤولية اللغوية أولاً، ومن إعداد الكاتب ثانياً. ولعل ذلك كله نتيجة بديهية لانصراف الدراسات اللغوية العربية إلى النصوص الأدبية وحدها، وعزوفها عن تحليل استعمال اللغة العربية في الحقول العلمية والفنية. ومن ثم ساد الظن بأن مشكلة "التعبير الإبداعي"، مشكلة خاصة بمادة اللغة العربية وليست عامة شاملة المواد كلها. كيف تنمو مهارات الكتابة الإبداعية لدى الطالب الموهوب وهو يرى الانفصال بين فروع اللغة العربية، والقطيعة بين مادة اللغة العربية والمواد الأخرى؟.. كيف نُدرّس الطالب المنطق في مادة الفلسفة ولا نسمح له باستخدامه في بناء المقالة؟ أليس المنطق ضرورياً لترابط الأفكار وترتيبها؟ ألا يعاني الطالب الموهوب من الخلل في ربط أفكاره بعضها ببعض؟... لابد من أن يُدرّب الطالب على الكتابة في المواد كلها، تجسيداً لوحدة اللغة ووظيفتها، وصوناً للموهبة من أن تضيع في الطريق الطويلة الشائكة المفضية إلى الإبداع.
ب ـ مشكلات الكاتب والكتابة الإبداعية:
أعتقد أن المشكلة الأولى التي تواجه الكاتب في مجتمعنا العربي هي دخوله حقل الكتابة الإبداعية دون إعداد تربوي سليم. فموهبته تدفعه ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ إلى كتابة القصة، فيروح يكتب في هذا الجنس الأدبي دون أن يملك المهارات التي تصقل موهبته وتجعل إنتاجه القصصي إبداعاً أصيلاً. وتراه يلجأ إلى قراءة القصص التي كتبها قاصون عرب وأجانب ليعوض النقص في إعداده التربوي، لكنه يخفق غالباً في أن يفيد من ثقافته القصصية لأنه لا يعرف لهذه الثقافة هدفاً غير الاطلاع على القصص والاستمتاع الجمالي بها. أما البحث عن أسرار القص (من زاوية الرؤية ووحدتي الحدث و الانطباع إلى تفصيلات الإنشاء) فأمر لا يدركه لأنه لم يتلقّ إعداداً يؤهله لهذا الإدراك ويسمح له بتوظيف قراءته في صقل موهبته القصصية. وربما نشر هذا الكاتب قصصه في المجلات والكتب، لكنه يبقى في قرارة نفسه مؤمناً بأنه لا يملك أسرار الصناعة التي شغف بها واتجه إليها، وأزعم أن هذا الأمر سبب من أسباب تدني مستوى الكتابة الإبداعية في مجتمعنا العربي، كما أزعم أن تلافيه ممكن إذا وفرنا للموهبة فرصة الإعداد السليم، واللافت للنظر أننا ندرب الجندي ليقاتل، والطبيب ليداوي، والعامل ليعمل، فلماذا لا ندرب الكاتب ليكتب؟...
يواجه الكاتب العربي مشكلة ثانية، هي معرفته بأن إنتاجه لا يلبي حاجاته المعيشية فيضطر إلى العمل في حرفة أو وظيفة تؤمن له دخلاً يقيه العوز وذل السؤال، ومن ثم تبقى الكتابة هواية يمارسها في أوقات فراغه من عمله اليومي. وهذا الأمر الاقتصادي الصرف يصدق على الكتَّاب المبتدئين في هذه الصناعة وعلى المجودين فيها، ولا بد من أن يؤثر تأثيراً سلبياً في مستوى الكتابة الإبداعية العربية. وأزعم أن القضاء على هذا التأثير السلبي ممكن إذا انطلقنا من أن الثقافة حاجة ضرورية للإنسان، ورحنا نوفر فرص الحياة الكريمة للكتّاب، والتفتنا في أثناء ذلك إلى تنظيم العلاقة بين الكاتب والناشر، وإلى رفع القيود التي تكبل حركة انتشار الكتاب في الوطن العربي.
هناك مشكلة ثالثة يواجهها الكاتب العربي، هي مشكلة العلاقة بالسلطة. وهذه المشكلة شائكة ذات تأثير كبير في مستوى الكتابة الإبداعية. فعِلّة وجود الكاتب هي الكتابة؛ فإذا لم يكتب فقَد علة وجوده. والكتابة الإبداعية منحَازة إلى الإنسان الحر الكريم، عاملة على الدفاع عنه ورفعة شأنه. أما علة وجود السلطة فهي الحكم، فإذا لم تحكم فقدت علة وجودها. والحكم هو تنظيم المجتمع وتنميته وتهيئة أسباب السعادة لأبنائه... ويخيل إليَّ أن الكاتب يلتقي السلطة في الهدف ويختلف عنها في أسلوب الوصول إليه. ومن الخطأ الظن أن الكاتب والسلطة لا يلتقيان، وأن التعارض بينهما أزلي. بيد أن المنطق العلمي شيء مغاير للواقع الملموس. ففي هذا الواقع سلطة تفهم الحكم على أنه السيطرة والسيادة والتميز وقمع المقهور ليزداد رضوخاً وتبعية. وهذا أمر يرفضه الكاتب ويرغب في تغييره بوساطة الكتابة، لكن ذلك يعرّضه لأذى السلطة، فماذا يفعل؟ إذا صمت عن ممارسات السلطة شعر بخيانة الهدف من الكتابة، وإذا عالج هذه الممارسات مُنع من النشر أو سرِّح من عمله أو قيدت حركته أو زج به في السجن. الواضح أن غالبية الكتّاب العرب اكتفت بالكتابة عن السبب دون المسبب، أو راحت تغرق في حيل أسلوبية شكلية تحجب عنها مساءلة الرقيب وأذاه، أو استسلمت للأمر الواقع وشرعت تكتب ما يعزز أيديولوجية السلطة الحاكمة. وقد أثر ذلك في عنصر الصدق ـ وهو جوهر الكتابة الإبداعية ـ وقاد الكتّاب إلى نوع غريب من الحياد جعل القارئ العربي يشك في مصداقية الكاتب والكتابة. "وبما أن لكل أيديولوجيا سلطتها، ولكل سلطة أيديولوجيتها، فإن لكل قطر أدباءه ومفكريه المنسجمين مع الوضع القائم. فلا عجب أن طغت الانتهازية والسوقية والوسطية على الفكر والأدب، مع ما يترتب على ذلك من طغيان المباشرة والتقليدية والامتثال والراهنية"(23)، إضافة إلى جعل الخيال الإبداعي مهيضاً كسير الجناح، هل يكمن حل هذه المشكلة في الديمقراطية؟ أن الديمقراطية لا تُمنح وإنما تكتسب اكتساباً، فماذا فعل الكتّاب العرب لاكتساب هذه الديمقراطية وترسيخها في المجتمع العربي؟...
المشكلة الرابعة التي تواجه الكاتب العربي تتعلق بالمنهجية ومناهج البحث. فهذا الكاتب لم يمر بفترة إعداد وتدريب على قواعد الكتابة، من اختيار الموضوع وتدوين متنه وهوامشه ومصادره ومراجعه وما إلى ذلك من إرشادات ووسائل اصطلح على تسميتها بالمنهجية. ونستطيع القول إن افتقار الكاتب العربي إلى مرحلة الإعداد جعل كتابته تفتقر إلى المنهجية التي تكسبها المستوى العلمي المطلوب. وهكذا بتنا نقرأ بحوثاً ودراسات عربية لا تتوافر فيها الأمانة العلمية، ولا الهدف الواضح المحدد، ولا الاطلاع على الدراسات السابقة، مما جعلها بعيدة عن الإبداع الأصيل، ذلك الإبداع الذي لا يتجاهل ما كتبه السابقون في حقل اختصاص الكاتب، وإنما يستند إليه ليبدأ من حيث انتهوا، ويبني فوق ما أشادوه، معترفاً بما قدموه، محدداً هدفه، متقناً أسلوب الوصول إليه، إن الإبداع ليس خلقاً من عدم، وإنما هو خلق الإضافة الجديدة النافعة الماتعة. وقد أسهم في تدني المستوى العلمي للكتابة الإبداعية العربية أمر آخر افتقر إليه الكاتب العربي، هو ضعف اطلاعه على مناهج البحث، وهو شيء آخر غير المنهجية. إن منهج البحث هو الطريق الواضحة التي يسلكها الكاتب في كتاباته، وهذه الطريق تختلف بحسب العلوم لكنها مرتبطة دائماً بالمنطق وطرق الاستدلال والاستنتاج والتحليل. وسواء أكان منهج البحث وصفياً أم استقرائياً أم تحليلياً تركيبياً أم قياسياً أم استنباطياً أم غير ذلك فإنه مجموعة طرق واضحة ذللها الباحثون الغربيون وقننوا إجراءاتها دون أن يصبحوا عبيداً لها. والمشكلة التي واجهها الكاتب العربي هي انبهاره بهذه المناهج، ووقوفه منها موقف التقديس، ومن ثم رأيناه يجهد في تطبيقها "حرفياً"، دون أن يبحث في تراثه عن مثيلاتها أو يسعى إلى وضعها في سياق الثقافة العربية أو يفيد من مفهوماتها ومعارفها في تشكيل موقفه الخاص. وإن لذلك كله أثراً سلبياً في الكتابة العربية، يتجلى حيناً في "التغريب"، وحيناً في رفض التراث وتوهين إنجازاته.
إن المشكلات السابقة بعض مما يعانيه الكاتب والكتابة الإبداعية العربية. ولاشك في أن هناك كُتاباً لم يتأثروا بها، أو عانوا من بعضها دون بعض، كما أن هناك كتابات إبداعية أصيلة خرقت المحرمات، وتسلحت بمنهجية صارمة، وأحسنت توظيف مناهج البحث الحديثة، وأحيت التراث المنهجي العربي، وعبرت عن قدرتها على تقديم رؤيا يتلامح فيها مصير الأمة العربية.
وبعد:
فقد حاولنا في هذه الدراسة تحديد الدلالة اللغوية والاصطلاحية لكلمة "الكتابة" ثم رحنا نبحث في أقسامها الثلاثة: الكتابة ـ الكتابة الوظيفية ـ الكتابة الإبداعية. فنبهنا على الواقع البائس للخط العربي، وأشرنا إلى ضرورة تعديل الهدف من تعليمه لتتحقق الغاية الأساسية منه، وهي الاتصال اللغوي السليم، كما نبهنا على أهمية الكتابة الوظيفية في حياة الإنسان العربي، ووضحنا ما جره إهمال التدريب عليها. ثم حللنا واقع الكتابة الإبداعية من جانبي الإعداد والمشكلات. وكنا، في أثناء ذلك كله، نجعل الواقع طريقاً إلى الطموح، دون أن نغفل عن التداخل بين جوانب المشكلة اللغوية ـ التربوية التي انصرفنا إليها.
(1) ـ انظر: أساس البلاغة للزمخشري 535، وترتيب القاموس المحيط للزاوي 4/10-11، والمعجم الوسيط 2/ 774 –775، و المعجم المدرسي 894.
(2) ـ الكليات للكفوي 4/117 –119.
(3) ـ المعجم الوسيط 2/ 774 –775. والمعجم المدرسي 894.
(4) ـ المعجم الوسيط 2/ 774 –775.
(5) ـ المعجم الأدبي ـ جبور عبد النور ـ ص 218.
(6) ـ معجم مصطلحات الأدب ـ مجدي وهبة ـ ص 612.
(7) ـ اقترح المؤتمر الثقافي العربي الأول (بيت مري ـ لبنان 1947)، قواعد محددة للإملاء العربي، انظر نصها في ص 120 من :تيسير تعليم اللغة العربية، سجل ندوة الجزائر 1976 ـ اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ـ القاهرة 1977. كما اقترح مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في دورته السادسة والأربعين عام 1980، ضوابط للإملاء انظر نصها في ص 147 ومابعد من: العيد الذهبي لمجمع اللغة العربية ـ د.عدنان الخطيب ـ دار الفكر ـ دمشق 1986.
(8) ـ هما: المرجع في تدريس اللغة العربية ـ د.سامي الدهان ـ مكتبة أطلس ـ دمشق 1962. و: في طرائق تدريس اللغة العربية ـ د. محمود أحمد السيد ـ جامعة دمشق 1981.
(9) ـ الاعتماد هنا على طبعة محب الدين الخطيب ـ المكتبة التجارية ـ القاهرة 1346هـ.
(10) ـ صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي 1/ 54 ـ الطبعة المصورة عن الطبعة الأميرية ـ وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ القاهرة 1963.
(11) ـ بعد فراغ القلقشندي من فنون المكاتبات الديوانية أخذ يخوض في الكتابات التي تصدر عن كُتّاب الديوان خارج الشؤون الرسمية، فذكر المقامات ورسائل الغزو والصيد والمفاخرات وغير ذلك. وقدم لذلك كله بنموذجات دالة عليه. انظر الأجزاء 11 – 12- 13 –14 خصوصاً، وراجع ص 282 ومابعد من: حمزة، د.عبد اللطيف ـ القلقشندي في كتابه صبح الأعشى ـ أعلام العرب 12 ـ وزارة الثقافة ـ القاهرة 1962.
(12) ـ هناك كتب أخرى في هذا الحقل، منها "صناعة الكتاب" لأبي جعفر النحاس، و"كنز الكتاب" لأبي الفتح كُشاجِم.
(13) ـ صبح الأعشى 1/ 150.
(14) ـ انظر: صبح الأعشى 1/167.
(15) ـ انظر: صبح الأعشى 1/177.
(16) ـ في طرائق تدريس اللغة العربية ـ د.محمود أحمد السيد ـ ص 366.
(17) ـ المشاكل المشتركة للأدباء العرب ـ محي الدين صبحي ـ مجلة "شؤون عربية" ـ العدد 59 ـ أيلول/سبتمبر 1989 ـ ص 161.
(18) ـ انظر ص 21 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي ـ تنمية ثقافة الطفل العربي ـ الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية ـ الكويت 1988.
(19) ـ اتجاهات الطلبة والمعلمين نحو الكتابة باللغة العربية في المدارس الثانوية الأردنية ـ د.خلف المخزومي ود.مفيق دوشق ـ مجلة مجمع اللغة العربية الأردني ـ العدد 35ـ تموز / كانون الأول 1988 ـ ص 267.
(20) ـ المرجع السابق ـ ص 269.
(21) ـ للدكتور فيكتور الكك والدكتور أسعد علي ـ بيروت 1972.
(22) ـ تدريس اللغة العربية لأغراض أكاديمية في ضوء الدراسات الأسلوبية الحديثة ـ د.مفيق دوشق ـ مجلة مجمع اللغة العربية الأردني ـ العدد 30 ـ كانون الثاني / حزيران 1986 ـ ص 155.
(23) ـ المشاكل المشتركة للأدباء العرب ـ محي الدين صبحي ـ ص 162