مقدّمة في العلاقة بين اللّغة والشرع 2/2
صلاح عباس فقير
الدلالة المنهجية للعلاقة بين اللغة والشَّرع:
إذن، فإنَّ معاني الشرع تستند في قيامها إلي معاني اللغة العربية، ولهذه الحقيقة دلالة منهجية بارزة عند البحث عن معاني ودلالات الألفاظ والمفاهيم الشرعية المختلفة، فذلك يقتضي أن نقوم بخطوتين أساسيتين:
1- استقراء متكامل لدلالات المفهوم الشرعي المبحوث عنه، كما وردت في معاجم اللغة العربية، ثم القيام بتصنيفها، واستنباط المعنى الأساسي الذي تتضمنه، وهذا المعنى اللغوي سنفترض أنه هو المعنى الذي قصده الشارع ما لم يثبت أنه قد نُقل عن معناه اللغوي إلي معنىً شرعيٍّ خاص، نقلاً كلياً أو نقلاً جزئياً[1]، وذلك يتضح عند القيام بالخطوة الثانية.
2- استقراء متكامل لدلالات المفهوم الشرعي محل البحث كما وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ثم تصنيفها لاستنتاج المعنى الأساسيِّ الذي تتضمنه.
إذن: القاعدة في فهم معاني الألفاظ الشرعية أن نأخذها "على ما هي عليه في اللغة العربية"[2] إلا إذا ورد برهانٌ دالّ على نقل الألفاظ عن معانيها المعروفة عند العرب، وهذا الدليل أو البرهان عند ابن حزم "ينقسم قسمين لا ثالث لهما: إما طبيعة وإما شريعة، فالطبيعة هو ما دلَّ العقل بموجبه على أن اللفظ منقولٌ من موضوعه إلي أحد وجوه النقل... مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ... }آل عمران173 فصح بضرورة العقل أن المراد بذلك بعض الناس... وأما الشَّريعة فهي أن يأتي نصُّ قرآن أو سنة... أو إجماع على وجوه النقل"[3].
المعنى اللغوي للمفهوم الشرعي:
والواقع أننا نلحظ أنَّ جلَّ الباحثين في الدراسات الإسلامية، يمهدون لبحوثهم ببيان المعنى اللغوي، ثم يُعقّبون بالحديث عن المعنى الشرعي أو الاصطلاحي، ولكن قلَّما يتَّخذ هذا البيان صورة البحث العلميِّ المنهجي، الاستقرائيِّ الاستنباطيِّ، فيكتفي الباحث باختيار بعض الدلالات اللغوية للكلمة دونما نظر إلي علاقتها بالدلالات الأخرى أو مدى إسهامها في بيان الدلالة الشرعية، فيكون الأمرُ أشبه ما يكون بالزينة والديكور.
إن الدلالات المعجمية في ذاتها أشبه بمادة خام تحتاج إلي تشكيل، وذلك عن طريق تصنيفها ومحاولة بناء فهمٍ منطقيٍّ متكامل لمجموع دلالاتها. ولنا أن نستهدي في ذلك بما توصَّل إليه اللغويون العرب من حقائق تُشير إلي غنى الدلالات المعجمية للألفاظ العربية وثرائها، وذلك من خلال بحثهم في ظاهرة الاشتقاق حيث وجدوا أنَّ الألفاظ والكلمات التي يجمع بينها أصل ثلاثي واحد، يجمعها كذلك معنى عامٌّ واحد، وهذا هو ما يُسمَّى بالاشتقاق بأقسامه المختلفة العام والكبير والصّغير[4].
ويعتبر "معجم مقاييس اللغة" لأبي الحسين أحمد بن فارس أنموذجاً تطبيقياً موسعاً لهذه الفكرة، ومشروعاً لُغويَّاً رائداً، حيث تناول فيه معاني الجذور الثلاثية للمواد فردّ معظمها إلي أصل واحد مطّرد، وفي تحقيقه للمعجم المذكور يوضح الأستاذ عبد السلام هارون "أنَّ ابن فارس في كتابه هذا... قد بلغ الغاية في الحذق باللغة، وتكنُّه أسرارها وفهم أصولها، إذ يردّ مفرداتِ كل مادة من مواد اللغة إلي أصولها المعنوية المشتركة، فلا يكاد يخطئه التوفيق، وقد انفرد من بين اللغويين بهذا التأليف، لم يسبقه أحد ولم يخلفه أحد"[5].
ويشير توضيح الأستاذ عبد السلام هارون إلى أن مثلَّ هذا الجهد العلمي الاستقرائي الذي يبذل لدراسة اللغة، هو في جوهره عملية استكناه لأسرارها، وهذا الاستكناه قد يمكن أن يتجاوز مرحلة استخراج المعاني الكلية البسيطة، إلي مرحلة استخراج مفاهيم فلسفية أو منطقية متكاملة، ولا يستبعد ذلك، ولعلنا في بحثنا هذا عن معنى الفطرة في اللغة نقدم محاولة مبسطة تدل على إمكان ذلك.
وهذه الإمكانية إنما تستمد مصداقيَّتها في نظرنا من تلك الفكرة التي ترددت أصداؤها لدى كثير من الباحثين المعاصرين، والتي ترى أن لغة الأمة تتضمن رؤيتها للحياة ومنهج تفكيرها، فالحديث عن استكناه أسرار اللغة يدفعنا لملاحظة هذه الفكرة، بل ربما يقودنا كلُّ ذلك إلي التفكير في تلك المسألة الميتافيزيقية التي أثارها الأصوليون واللغويون القُدامى عن أصل اللغة وماهيتها، حيث نرى في هذا السياق أنّ المذهب القائل بأنّ اللغة وحيٌ وإلهامٌ إلهيٌّ[6] يكتسب أهمية خاصة، وذلك في نظرنا لا يتعارض مع الأصل التاريخيِّ الاجتماعيِّ للُّغة، إذ يُمكننا القول بأنّ ذلك الإلهام الإلهيَّ قد تنزّل عبر السِّياق التّاريخيِّ لتطوُّر المجتمع.
[1]– الإحكام في أصول الأحكام ، جـ 1 ص 396 – 397.
[2]- نفسه، جـ1 ص 388.
[3]- الأحكام، جـ 1 ص 397- 398.
[4]- علي عبد الواحد وافي، مدخل إلي علم اللغة، ص 177-185.
[5]- معجم مقاييس اللغة، جـ 1 ص 23، من مقدمة المحقق.
[6]- هذا القول هو مذهب الأشعري وابن فورك ومن اللغويين ينسب كذلك إلى الجاحظ وأبي علي الفارسي ومال إليه إبن جني وإبن فارس في كتابه "الصاحبي"، وفي العصور القديمة عرف عند هيرقليطس اليوناني -وقال به بعض المعاصرين- انظر د. علي عبد الواحد وافي في كتابه "نشأة اللغة عند الإنسان والطفل" ص 30 , د. عبد الصبور شاهين في كتابه "علم اللغة العام" ص 69-70 ، وفخر الدين الرازي في "المحصول" جـ 1، ص 169 إلى 181.