قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ في مجموع الفتاوى 21 / 355 وما بعدها :
فَإِنْ قِيلَ : الْوُضُوءُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُهُ ؟
قِيلَ : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ طَهُورًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ مَا يَثْبُتُ لِلْمَاءِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا يَرْفَعُهُ ، لَيْسَ تَحْتَهُ نِزَاعٌ عَمَلِيٌّ ، وَإِنَّمَا هُوَ نِزَاعٌ اعْتِبَارِيٌّ لَفْظِيٌّ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ قَالُوا : لَوْ رَفَعَهُ لَمْ يُعِدْ إذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَرْفَعُ الْحَدَثَ إنَّمَا قَالُوا بِرَفْعِهِ رَفْعًا مُؤَقَّتًا إلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمٍ عَمَلِيٍّ شَرْعِيٍّ ، وَلَكِنَّ تَنَازُعَهُمْ يَنْزِعُ إلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ ، وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ هَلْ تَنْخَرِمُ بِالْمُعَارَضَة ِ وَأَنَّ الْمَانِعَ الْمُعَارِضَ لِلْمُقْتَضِي هَلْ يَرْفَعُهُ أَمْ لَا يَرْفَعُهُ اقْتِضَاؤُهُ مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ.
وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ هَيْئَةِ النِّزَاعِ : أَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ يُرَادُ بِهِ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ وَهُوَ مَجْمُوعُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِحَيْثُ إذَا وُجِدَ وُجِدَ الْحُكْمُ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ ؛ فَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْعِلَّةِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ جَبْرُ الْعِلَّةِ وَشُرُوطُهَا وَعَدَمُ الْمَانِعِ . إمَّا لِكَوْنِ عَدَمِ الْمَانِعِ يَسْتَلْزِمُ وَصْفًا ثُبُوتِيًّا عَلَى رَأْيٍ وَإِمَّا لِكَوْنِ الْعَدَمِ قَدْ يَكُونُ جَبْرًا مِنْ الْمُقْتَضِي عَلَى رَأْيٍ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَتَى تَخَصَّصَتْ وَانْتَقَضَتْ فَوُجِدَ الْحُكْمُ بِدُونِهَا دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا ، كَمَا لَوْ عَلَّلَ مُعَلِّلٌ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الْعُذْرِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ لَا يَقْصُرُونَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ خَاصَّةً ، فَالْقَصْرُ دَائِرٌ مَعَ السَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَدَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا دَلِيلٌ عَلَى الْمَدَارِ عَلَيْهِ لِلدَّائِرِ ، وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِمُجَرَّدِ مِلْكِ النِّصَابِ قِيلَ لَهُ : هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ الْحَوْلِ . وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ ...