بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن من أعظم النعم الالتزام ( الاستقامة ) بشرع الله والتمسك به , والعض عليه بالنواجذ , فمن وفقه الله لذلك فقد وفق لخير عظيم , ومن حُرم من ذلك فقد حُرم من خير عظيم . ويجب على كل إنسان أن يلتزم بدين الله . قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ))
وقال أيضًا : (( واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ))
وقال صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ...))
ولذلك فالانحراف في مفهموم الالتزام أمر خطير , وصد عن دين الله , وما أكثر هذه المفاهيم التي تصد عن الالتزام بالدين , وهذا بعض البسط لصور من هذه المفاهيم الخاطئة : - نقلا من كتاب (( كلمات في الالتزام )) -
(( 1- انحراف مفهوم " التشدد والغلو " عن معناه الشرعي :
فمن الناس من يضن أن التمسك بالسنن, والمحافظة على أوامر الله , وترك ما حرم الله ؛ نوع تشدد وتنطع في الدين , ولذا ترى بعض هؤلاء كثيراً ما يستدل بحديث : ] هلك المتنطعون [ رواه مسلم . في غير محله , وقد يتخذه سبباً لتنفير الآخرين من سلوك طريق الصالحين , والثبات على الالتزام بالدين .
ويجاب عليهم : بأن أهل العلم قد حددوا المعنى الشرعي للغلو والتنطع والتشدد , قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " الغلو : مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء , في حمده أو ذمه , على ما يستحق ونحو ذلك . إذاً الغلو في الدين هو : تجاوز الحد الشرعي بالزيادة , فمن صام النهار ولم يفطر , فقد زاد على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم , ومن قام الليل ولم ينم , فقد زاد على سنته صلى الله عليه وسلم , ومن امتنع عن الزواج , فقد ترك ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما من التزم الفرائض , وحافظ على الأوامر الشرعية , واجتنب النواهي ؛ فليس ذلك من الغلو بحال , بل هو من الدخول في الإسلام كافة الذي أمرنا الله به في كتابه الكريم . والأولى بهؤلاء أن يتقوا الله , ويعترفوا بتقصيرهم لا أن يرموا المتقين بما هم بعيدون عنه!!.
2- انحراف مفهوم" الوسطية" عن المعنى الشرعي :
فإن من الناس من يظن أن ما هو عليه من ظلم لنفسه , وتقصير مع ربه أنه هو " الوسط " وأن ما يقوم به أهل الالتزام والاستقامة هو نوع من التشدد والتنطع .
ويجاب عليهم : أن هذا القول يلزم منه رمى الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كان متشدداً - وحاشاه عن ذلك – ويلزم منه أن الصحابة رضي الله عنهم وهم خير القرون كانوا أهل تشدد وتنطع, والحق أن أصحاب هذه المقالة لو أدركوا ما يقولون ؛ لما قالوا بها , ولقد قرر العلماء الحد الشرعي للوسطية فقالوا : الوسطية في الإسلام : هي لزوم أوامر الشرع , وترك نواهيه بحسب الوسع , وهو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم , وعليه سبيل السلف رضي الله عنهم ... والأولى بأصحاب هذا القول أن يعترفوا بتقصيرهم , وأن يشمروا عن ساعد الجد , ويسلكوا سبيل الهداية ؛ ليكونوا أمة وسطا كما أراد الله , قال تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ...}
3- انحراف مفهوم " الدين يسر " عن المراد الشرعي :
فإن من الناس من يبرر تقصيره وإضاعته لكثير من الواجبات الشرعية بأن : " الدين يسر " . والبعض يتلاعب بالأوامر الشرعية , فيأخذ منها ويدع بحسب هواه ؛ لأن الدين يسر , وتراه يردد قول الله : { وما جعل عليكم في الدين من حرج ...}
ويجاب عليهم : أن السنة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم جرت على وفق اليسر والتيسير : ] ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه ...[ رواه البخاري ومسلم .
إذاً : الضابط لمسألة اختيار الأيسر في العبادات , وكذا في المباحات : هو عدم الوقوع في الإثم , فالذين يعصون الله ويجاهرون بذلك , ويحتجون بيسر الدين , يقال لهم أن أنتم من هذا الحد الشرعي ؟
ولذا الصحيح أن " هذا التيسير هو التيسير الجاري على وفق الشرع لا على وفق الأهواء ؛ إذ لو كان كذلك لما كان ثمة تكليف أصلا , فإن التكليف فيه نوع مشقة "
تكرهها النفوس , وقد قال صلى الله عليه وسلم : ] حفت الجنة بالمكاره ... [ رواه مسلم . ولولا وجود المشقة ؛ لما أمرنا الله بالصبر و المصابرة , ولما خفف علنا بالرخص .
4- التوهم بأن الالتزام سبب للوسوسة !!
فتجد أحدهم يسرد لك الوقائع ويضرب لك الأمثلة المختلفة .. فمرة يقول : فلان التزم فوجده أهله بعد حين يقيس شارعاً طولاً وعرضاً , فلقد اختل عقله بعد تدينه !!
أو يحكي لك فيقول : فلان تدين وصار يلوم نفسه , فوجدوه قد خنق نفسه في بيته وانتحر ليكفر عن سيئاته !!
ولا يشك عاقل أن القصص هذه محض كذب وافتراء على الملتزمين بدين الله .
ويكفي جواباً على هذا الزعم : أن نرى المصابين بالوسوسة هم الذين يقبلون أفواجاً على الملتزمين الصالحين ليجدوا عندهم أسباب الشفاء إما بقراءة القرآن أو بدعوة صالحة .
5- التوهم بأن الالتزام دين جديد لم يكن عند الآباء والأجداد !!
فتجد أحدهم يردد ويقول : إن ما يفعله هؤلاء الملتزمون دين لم يفعله آباؤنا ولا أجدادنا إنا هو دين من عند أنفسهم !
ويجاب على هذا الزعم : بأن الحكم في مثل هذه الأمور يرجع فيه إلى ما ثبت في الكتاب والسنة , وإن قصر الآباء والأجداد أو بعضهم في التمسك ببعض ما شرعه الله فأمرهم إلى الله , أما تطبيق من بعدهم للسنن والفرائض بصورة صحيحة فهذا هو المشروع وهم مأجورون بإذن الله .
6- انحرف مفهوم " ساعة وساعة " عن المراد الشرعي :
فمن الناس من يردد كثيرًا : " ساعة لربك وساعة لنفسك " فيجعل الترويح عن النفس بما حرم الله في الساعة التي يجعلها لنفسه , والصلوات وتلاوة القرآن في الساعة التي يجعلها لربه , ولذلك أصحاب هذه المقالة يرون ما هم عليه من غفلة وتفريط أنها حالة عادية !
ويجاب عليهم : بأن الحياة والأوقات كلها لله , قال تعالى :{ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }
7- انحراف مفهوم قوله تعالى : {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها } عن المراد الشرعي:
فيحتج بعضهم بهذه الآية على تقصيره وتفريطه , وترى أحدهم يقول : أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إنما يطيقه الأنبياء وحدهم , والصحابة رضي الله عنهم كانوا خير القرون , وهم أعلى الناس منزلة بعد الأنبياء , فمن المحال أن نستقيم كما استقاموا !! ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها .. هكذا يقولون !
ويجاب عليهم : بأن هذا القول يلزم منه : تعطيل اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة , وقد قال تعالى :{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا }
قال ابن كثير في تفسيرها : " هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله "
ويلزم من هذه المقولة أيضاً : تعطيل الأمر الشرعي بسلوك سبيل المؤمنين , ومتابعة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين , وقد قال الله تعالى :{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا . وقال صلى الله عليه وسلم : ] ...عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ...[ رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي.
8- انحراف مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : [ ...التقوى ها هنا ...] عن المراد الشرعي :
فالبعض يحتج على تفريطه وتقصيره بأن المهم سلامة القلب ووجود التقوى , وترى أحدهم يستدل بحديث باطل مشهور وهو : ' نية المؤمن خير من عمله ' أو يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم :] إنما الأعمال بالنيات ...[ ويقول : ' المهم النية , والنية طيبة والحمد لله ' !! أو يشير إلى صدره ويقول :' التقوى ها هنا ' كما فعل صلى الله عليه وسلم , وبهذا المفهوم الخاطئ للحديث النبوي يستغني هؤلاء عن التفكير الجاد في العودة إلى الله , والاتلزام بدينه في يوم ما .
ويجاب على هؤلاء : بأنه لا حجة لكم فيما ذهبتم إليه , فإن الأحاديث بمجموعها تدل بمعانيها الصحيحة على خلاف ما زعمتم , ومن ذلك :
أولاً: كيف تستدلون بحديث :] إنما الأعمال بالنيات ...[ على التقصير في الأعمال الشرعية, أو تركها بالكلية !! بينما الحديث ينص على وجود الأعمال , وأن الأجر عليها إذا وجدت مرتبط بالنية , ولذلك قال صلى الله عليه وسلم بعدها: ] وإنما لكل امرئ ما نوى[
ثانياً : من قال بأن ' الإيمان في القلب ولا يلزم النطق به باللسان والعمل به بالجوارح' فقد شابه جهمية المرجئة.
أما أهل السنة والجماعة , فيعتقدون بأن الإيمان : اعتقاد بالجنان, وقول باللسان , وعمل بالأركان , يزيد بالطاعات , وينقص بالعصيان , فهل يجوز للمسلم أن يقول بقول أهل البدع ويخالف سبيل المؤمنين ؟
ثالثاً : قال ابن أبي العز الحنفي ' شارح العقيدة الطحاوية ' ما نصه :' ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب , إذ لو أطاع القلب وانقاد , لأطاعت الجوارح وانقادت , ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة , قال صلى الله عليه وسلم : ] إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب[ فمن صلح قلبه , صلح جسده قطعًا .
9- الاقتناع بشبهة تقسيم الدين إلى ' أوصول وقشور'
فيجعلون أكثر السنن من قبيل القشور التي لا قيمة لها في الدين إلا كقيمة القشر من الثمرة ! وعلى هذا : فالالتزام عندهم شكليات , ومظاهر ليس بالضرورة التمسك بفروعها .
ويجاب على هؤلاء : بأن ' تقسيم الدين إلى قشور ولب ' تقسيم خاطئ , وباطل , فالدين كله لب , وكله نافع للعبد , وكله يقربه لله عزوجل , ويثاب عليه , وكله ينتفع به المرء بزيادة إيمانه , وإخباته لله حتى المسائل المتعلقة باللباس والهيئات , وما أشبهها .. والقشور – كما نعلم – لا ينتفع بها , بل ترمى , وليس في الدين الإسلامي و الشريعة الإسلامية ما هذا شأنه , بل كل الشريعة لب ينتفع به المرء إذا أخلص النية لله , وأحسن في اتباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم , وعلى الذين يرجون هذه المقالة , أن يفكروا في الأمر تفكيرًا جديًا , حتى يعرفوا الحق , ثم عليهم أن يتبعوه , وأن يدعوا مثل هذه التعبيرات ... ' ] مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين : ]3/124[[ .
10- عدم التفريق بين السنة الواجبة والسنة المستحبة :
فإن بعض الناس كثيرًا ما يردد ' هذا العمل سنة لا يضر تركه ' فهؤلاء يفهمون أن كل ما جاء في السنة فهو مما يثاب فاعله , ولا يعاقب تاركه , ومن فعله فقد أحسن لنفسه , ومن تركه فقد فاته أجره فحسب . ولذلك لا يعملون بكثير من السنن الواجبة بسبب هذا الفهم القاصر والجهل المركب .
ويجاب على هؤلاء : أن هناك فرق بين السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم :
فمنها ما هو واجب , كقوله صلى الله عليه وسلم : ] صلوا كما رأيتموني أصلي ...[
ومنها ما هو من قبيل المستحب المندوب إليه : كقوله صلى الله عليه وسلم :] ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة[
ومن السنة ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون أمته : كوجوب التهجد وقيام الليل , وكإباحة الزيادة على أربع نسوة ]في النكاح[ هذا جانب .
والجانب الآخر هو : أين هؤلاء من قوله تعالى :{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } .
وأين هؤلاء من حرص الصحابة على التزام سنته صلى الله عليه وسلم , حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ' لستُ تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ... إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ ' انتهى من كتاب (( كلمات في الالتزام , عادل بن محمد العبد العالي ))
أخوكم / أبو جهاد