كانت سنة 1842 حين احتلت الجنود الفرنسية ، لآخر مرة ، مدينةَ تلمسانَ العظيمةَ التي هي أدنى بلاد الجزائر إلى المغرب ، نقطة فاصلة في تاريخ حياة كثيرة من الأسر التلمسانية التي هاجرت إلى المغرب وتديرته واندمجت في أوساطه العامة التي لم تكن تختلف كثيرًا عن نظيرتها في القطر الشقيق .
وكان هذا الحائكُ (1) العظيمُ النفسِ ، الكبيرُ الهمةِ ، قد شاهد بعين الأسى والأسف سقوطَ وطنه العزيز بين يدي الاستعمار الأجنبي ورأى أن كل ما بُذل من الجهود الصادقة لإنقاذه قد ذهب سدى .
وكأن المقادير أقسمت ( كذا ) لتنفذن أمرها وتنجزن وعيدها في هذه البلاد ، فليس بنافع شيئًا ما قام به الزعماءُ والقادة المخلصون ، ومنهم الأنصار والشبان المتحمسون كحائكنا الشجاع من حملات قوية ضد هجمات الأعداء ، بل إن ذلك لم يزد نارَ الحرب إلا اشتعالاً .
وقد تم النصر للعدو ومكنت قدمه في البلاد ، فلم يبق طمعٌ في خروجه منها .
إذ ذاك شد حائكنا رحالَه وزمَّ ركابَه قاصدًا المغرب حيث السلطة والنفوذ والحكم المطلق لأبناء البلاد من إخوانه المسلمين .
وقصد فاسًا العاصمةَ المغربيةَ الجميلةَ والمدينةَ الأكثرَ شبهًا بتلمسانه المحبوبة من كلتا الناحيتين المادية والأدبية .
ولذلك تخيرها الكثيرُ من أهل بلاده الهاجرين إلى المغرب قبله وبعده .
فلما استقرت به الدار هناك فتح معملاً للحياكة ، كما كان شأنه بتلمسان ، ولم يمض عليه إلا قليل حتى اشتهر بين العملاء بجده واستقامته ، ونجح بالتالي في كسب سوق الحاكة فكانت صنعته هي الممتازة والنافقة في السوق كلها .
وبسط الله له الرزق وبارك له فيه ، فتزوج من إحدى الأسر الصناعية المحترمة وأقر الله عينه بالذرية التي ملأت فراغًا كبيرًا في نفسه وفي بيته . فكان من أسعد الناس حالاً وأحسنهم اغتباطا بنعمة الله ، وذلك مصداق قوله تعالى : ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ).
____________________
(1) الخياط الذي ينسج الثوب .
يتبع بإذن الله ..