وعن عبد الله بن عكيم مرفوعًا: «من تعلق شيئًا، وكل إليه» رواه احمد والترمذي.
قوله: (من تعلق)، أي: اعتمد عليه وجعله همه ومبلغ علمه، وصار يعلق رجاءه به وزوال خوفه به.
قوله: (شيئًا) نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع الأشياء، فمن تعلق بالله- سبحانه وتعالى-، وجعل رغبته ورجاءه فيه وخوفه منه، فإن الله تعالى يقول:
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]، أي: كافيه، ولهذا كان من دعاء الرسل وأتباعهم عند المصائب والشدائد: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد واصحابه حين قيل لهم:
{إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم} [آل عمران: 173].
قوله: (وكل إليه)، أي: أسند إليه، وفوض.
* أقسام التعلق بغير الله:
الأول: ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادًا معرضًا عن الله، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقذنا، فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.
الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع الغفلة عن المسبب، وهو الله- عز وجل-، وعدم صرف قلبه إليه، فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر، لأن هذا السبب جعله الله سببًا.
الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقًا مجردًا لكونه سببًا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله، فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله- عز وجل-، فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالًا ولا أصلًا، وعلى هذا لا إثم فيه.
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله.
فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقًا كاملًا، مع الغفلة عن المسبب، وهو، قد وقع في نوع من الشرك، أما إذا اعتقد ان المرتب سبب، والمسبب هو الله- سبحانه وتعالى-، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب، فهذا لا ينافي التوكل.
وقد كان الرسول يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب، وهو الله- عز وجل-.
وجاء في الحديث: (من تعلق)، ولم يقل: من علق، لأن المتعلق بالشيء يتعلق به بقلبه وبنفسه، بحيث ينزل خوفه ورجاءه وأمله به، وليس كذلك من علق.
قوله: (إذا كان المعلق من القرآن...) إلخ.
إذا كان المعلق من القرآن أو الأدعية المباحة والأذكار الواردة، فهذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله، فمنهم من رخص في ذلك لعموم قوله:
{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]، ولم يذكر الوسيلة التي نتوصل بها إلى الاستشفاء بهذا القرآن، فدل على أن كل وسيلة يتوصل بها إلى ذلك فهي جائزة، كما لو كان القرآن دواءًا حسيًّا.
ومنهم من منع ذلك وقال: لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء به، لأن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به، بمعنى أنك تقرأ على المريض به، فلا نتجاوزها، فلو جعلنا الاستشفاء بالقرآن على صفة لم ترد، فمعنى ذلك أننا فعلنا سببًا ليس مشروعًا، وقد نقله المؤلف رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولولا الشعور النفسي بأن تعليق القرآن سبب للشفاء، لكان انتفاء السببية على هذه الصورة أمرًا ظاهرًا، فإن التعليق ليس له علاقة بالمرضى، بخلاف النفث على مكان الألم، فإنه يتأثر بذلك.
ولهذا نقول: الأقرب أن يقال: إنه لا ينبغي أن تعلق الآيات للاستشفاء بها، لا سيما وأن هذا المعلق قد يفعل أشياء تنافي قدسية القرآن، كالغيبة مثلًا، ودخول بيت الخلاء، وأيضًا إذا علق وشعر أن به شفاء استغنى به عن القراءة المشروعة، فمثلًا: علق آية الكرسي على صدره، وقال: ما دام أن آية الكرسي على صدري فلن أقرأها، فيستغني بغير المشروع عن المشروع، وقد يشعر بالاستغناء عن القراءة المشروعة إذا كان القرآن على صدره.
وإن كان صبيًّا، فربما بال ووصلت الرطوبة إلى هذا المعلق، وأيضًا لم يرد عن النبي فيه شيء.
فالأقرب أن يقال: أنه لا يفعل، أما أن يصل إلى درجة التحريم، فأنا أتوقف فيه، لكن إذا تضمن محظورًا، فإنه محرمًا .
إنتهى من القول المفيد شرح كتاب التوحيد للشيخ بن عثيمين رحمه الله .