الأخ الكريم نضال بارك الله فيك، لا داعي لترهيب الاخوة والمشايخ الأعضاء حفظهم الله من تناول قول الامام ابن القيم رحمه الله في هذه العبارة بالنقد العلمي، فلا أرى أحدا من الذين قاموا بالرد والتعقيب الى هذه اللحظة خرج على حدود الأدب في الكلام على الامام رحمه الله، أو تطاول عليه أو غمطه منزلته وقدره، ولا أرى منهم من قال مقالة منكرة لا تكون في نقاش طلبة العلم المنضبطين، فلماذا أخي الحبيب مسلك الترهيب والغلو في كلام الشيخ رحمه الله وكأنه وحي منزل؟ معلوم أن الامام رحمة الله عليه، على عظم قدره ومنزلته التي طاولت الجوزاء، أخطأ الجادة في مسألة فناء النار، ومذهبه فيها مردود عليه.. فما الضرر اذا ما طرحنا نحن عبارة من عباراته للنقاش العلمي والأخذ والرد، سيما وهي ظاهرة التعلق بهذه المسألة كما لا يخفى؟
لو أننا انتهى بنا النقاش ها هنا الى القول بتخطئة الامام رحمه الله في اطلاقه هذه العبارة، وكان ذلك بحجة وبرهان لا بأهواء وتهاويل وتوهيمات، أيكون في ذلك عدوان على منزلة الرجل رحمه الله؟
أنا أتفق معك فيما أفهم أنه موقفك، من أن الجدل في القضايا الكلامية أمر لا يأمن أكثر الخائضين فيه من الزلل، ولهذا تخوفت من تشعب الكلام في هذا المقام. ولكن أخي الحبيب حين يتعلق الأمر بتنقية ساحة العقيدة من الشوائب والهفوات والزلات - وما من حبر الا وله زلات وزلات مهما علت منزلته وقدره - فالتنبيه للخطأ والتحذير من الموهمات والتوجيه الصحيح لمفاهيم مشتبهات الكلام عنده وعند غيره أمر واجب على من تأهل لذلك!
لذا فلا أوافقك - بارك الله فيك - على قولك "كلام ابن القيم هذا واضح جدا لا يحتاج إلى تأويل ولا شيء ." فلو كان هكذا حقا، لم يسغ لشيخنا الفاضل صاحب الموضوع أن يطرحه للنقاش ابتداءا، ولما وصفه بالكلام الخطير، ولما تتابع الكلام من الاخوة والمشايخ تعقيبا على ذلك بموافقة أكثرهم له على ذلك، وسعيهم في تأوله!
ولو تأملت في العبارة لوجدتها ناقصة في الحقيقة.. فالاقتصار على لفظة (محض) فيها دون بيان واف مربع، مانع لوقوع الشبهة والالتباس انما هو نقص في اكمال مفهوم العبارة! وسبب هذا النقص ما وقع في مذهب الامام رحمه الله من تذبذب في شأن النار - والتي هي وما فيها ومن فيها، التأويل الوحيد لما ينطبق عليه هذا الكلام العام في تلك العبارة كما هو ظاهر. فهو رحمه الله يبدأ فيها بالكلام عن الشر الذي لا يزول وهو دائم بدوام الخالق جل وعلا، ثم يذكر أنه الشر المحض، فيوهم بأن هذا هو مقصوده من وصفه بالمحض، ولم يزد آخر العبارة الأمر الا ايهاما واشتباها، فهو يذيلها رحمه الله بقوله أن هذا هو منتهاه في تلك المسألة التي حارت فيها أذهان العقلاء. فلا أظنه يقصد بما حار فيه الذهن عقيدة أن الشر الذي لا وجه للخير فيه مطلقا هو أمر ممتنع الوقوع في خلق الله، فهذه وان حار فيها الفلاسفة فذلك من فلسهم، أما المسلمون فمجمعون على هذا المعنى ولا يخالف فيه الا زنديق! فلا يبقى الا أن يكون كلامه متجها الى نوع الشر الذي هو دائم أبدا بلا زوال، كما قدم في صدر العبارة! والاشكال يأتي من ادخاله لفطة (محض) في وصفه لجنس الشر الذي يقصده.
وجواب الاشكال بعون الله أن نقول أن هذه العبارة ان كان يقصد رحمه الله باطلاقها، نوع الشر الذي لا يزول بل هو دائم سرمد أبدي، فلا يفنيه شيء ولا ينهيه شيء، وان كان هذا هو مقصده بالشر المحض، كانت العبارة فاسدة ووجب ردها، لأن وجود الشر الدائم الأبدي في خلق الله ليس فيه منافاة لحكمة المولى جل وعلا، ولا يقال أن دخوله في الحكمة والرحمة ليس بالبين كما قال رحمه الله، لأنه فيه ومن ورائه خير من وجوه شتى كما تفضل المشايخ الكرام بالبيان.
وأما ان كان رحمه الله يقصد الشر المحض أي الذي لا خير فيه بوجه من الوجوه، فالعبارة صحيحة، ولكن لا يكون اذا ثمة فائدة من تخصيص ذلك النوع من الشر في وصفه بأنه الدائم السرمدي الذي لا يزول! بل كان ذلك التخصيص نقصا يحتاج الى مزيد بيان، فالشر المحض - بهذا المعنى - ممتنع امتناعا تاما في خلق الله، سواءا كان فانيا أو سرمديا أبديا لا يفنى! هو ممتنع على أي حال!
ثم لو كان هذا هو مراده من تلك العبارة، فما وجه قوله رحمه الله "فهذا ما وصل إليه النظر في هذه المسألة التي تكع فيها عقول العقلاء"؟ أي مسألة يعني بالضبط؟ لا نظن بالامام رحمه الله أنه على جلالة شأنه وعلمه قد أوكع عقله النظر في هذا الأمر الجلي الواضح والذي هو من الأصول المتقررة التي لا تحتاج الى نظر! فلا أظنه كان ينظر في مسألة هل خلق الشر المحض الذي لا خير فيه البتة ولا يراد من ورائه خير قط، هو موافق لحكمة الرب ورحمته أم غير موافق، حتى انتهى به النظر الى ما يقول! فالذي يصف الرب بخلقه شرا لا خير فيه بحال، انما ينسب الشر الى الرب وينسف صفة الحكمة والرحمة والعدل وغيرها، وذلك لا يذهب اليه مسلم، فضلا عن امام هداية كابن القيم رحمه الله! لذا فيبقى أن يقال أنه رحمه الله كان يقصد بلفظة (المحض) ما بينه بسياق الكلام في العبارة من أنه الدائم السرمدي الذي لا يزول، وليس الشر الذي لا يتطرق اليه مظنة الخير بوجه من الوجوه، كما هو المفهوم الأصوب للفظة محض!
هذا ما نتهى اليه نظري الحقير في تلك المسألة، وحاصله أن العبارة يتعين عند نقلها ألا تورد بلا بيان وتوضيح وتفصيل دفعا للالتباس والايهام، ومنعا لاستخدامها على أيدي الزائغين في الانتصار للباطل.. فرحم الله كاتبها وألحقنا معه في الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، والله تعالى أعلى وأعلم..